مقالات رأي

تكبيل القضية الفلسطينية بالتصنيف الأمريكي بالإرهاب

على الرغم من توقف إطلاق النار، يستمر الوضع في حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل قطاع غزة وإمكانية بدء مشوار الوصول إلى إقامة الدولة. وفي ظل حالة التباطؤ، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بتصنيف ثلاثة فروع لجماعة الإخوان المسلمين، على خلفية تأييدها لعملية السابع من أكتوبر، لتظهر تعقيدات جديدة نتيجة احتمال التوسع الأمريكي في التوظيف السياسي لتصنيف الإرهاب، بما يفضي إلى تعطيل مسار وقف الحرب عبر إدراج حماس ومنظمة التحرير على قوائم الإرهاب،  ومن ثم استبعادهما من أي عملية سياسية لاحقة.

ومنذ بداية العام الجاري، حاولت السياسة الأمريكية فرض حلول أحادية مقابل وقف الحرب، اتسمت هذه الحلول بتمكين الاحتلال من تشكيل الحل النهائي، ودعم الدور الأمريكي بوصفه رقيبًا على الوضع في غزة. وانتهت محاولات ترامب بطرح مبادرة تُقصي أي ميزة للفلسطينيين، ليجري تعديلها لاحقًا في اتفاق شرم الشيخ وفي قرار مجلس الأمن ٢٨٠٣ ، بما يجعلها ضامنة لحق الفلسطينيين في الوصول إلى الدولة.

بعد هذه الجهود، تطلّ علينا إدارة ترامب بصيغة مستعجلة لتصنيف المقاومة ومنظمة التحرير كمنظمات إرهابية، ما يشير إلى أن الصيغ الأخيرة لقرار مجلس الأمن رقم 2803 لم تكن مُرضية للإدارة الأمريكية، التي أرادت اللعب بطريقة أخرى من خارج مرجعيات والأدبيات الدولية لحلّ القضية الفلسطينية، انطلاقًا من قناعة مفادها أن التصنيف بالإرهاب قد يلقى قبولًا من بعض الأطراف الإقليمية، ويمنح الاحتلال فرصة للتنصل من التزاماته تجاه الاتفاقيات الدولية.

حاليًا، ومع التسارع الأمريكي في مسار التصنيف، من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تعطيل اتفاق غزة واستبعاد الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس كطرف فيه بغض النظر عمّا يقال في بعض القنوات الدبلوماسية، وقد يمتد هذا الاستبعاد إلى السلطة الفلسطينية أيضًا، لا سيما مع تهميش دورها في مراحل تنفيذ الاتفاق، وهو ما يُفرغ المشهد من القوى الفلسطينية الرئيسية، ويُطيح بدورها في أي عملية سياسية.

يتلاقى هذا التوجه مع مضمون الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب في 23 نوفمبر، والذي استهدف الجماعة في دول الطوق كمرحلة أولى، باعتبارها مصدر إسناد مهم، وتشكل قلب الجماعة في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يمثل حرمانًا من الروابط القريبة التي يمكن الاعتماد عليها في مراحل مختلفة.

بشكل عام، تسير هذه المحاولات باتجاه تغيير أطراف مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وهو ما يتجلى في تعظيم المكوّن الأجنبي في رقابة المرحلة التالية، سواء عبر التحكم في مجلس السلام أو قوات الاستقرار. غير أن الهدف النهائي يبقى واضحًا، ويتمثل في إضعاف الدور الفلسطيني وعزله إقليميًا. وتبدو هذه النقطة في صلب الاهتمام الأمريكي، بوصفها الطريق للاستفراد بالحل النهائي.

ومع استمرار انفلات الاحتلال وخرقه لوقف النار، تتزايد الفرصة الأمريكية لتحقيق أهدافها، ولا سيما في الشق المتعلق بتمكين الأطراف المعادية للحق الفلسطيني، بحيث تكون أداة لاستمرار الوضع الهش، واستنزاف المجتمع الفلسطيني، وإبقاء حالة الحرب قائمة، بما يعطل إعادة الإعمار ويمنع التقاط الأنفاس.

ومع الدور الفاعل في ترتيب وقف إطلاق النار وخطوات تنفيذه، تسير السياسة الأمريكية في تصنيف جماعة الإخوان بدرجة عالية من الجدية، على خلاف المرات السابقة، إذ تتحرك على مسارين: المسار التنفيذي والمسار التشريعي. ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وضعت وزارة الخارجية موضوع التصنيف ضمن أولوياتها، كما اتخذت ولايتا تكساس وفلوريدا قرارًا بتصنيف فروع الجماعة في الولايات المتحدة، ما يعزز استمرار عمل الكونغرس بغرفتيه لإنجاز التشريعات اللازمة. وعلى المستوى الأوروبي، تتواصل متابعة مواقف الدول في هذا السياق، إذ لم تتوقف الأمور عند النمسا وبريطانيا، بل هناك مناقشات جارية في فرنسا أيضًا. ومع وضوح الموقف الأمريكي، يمكن أن تتأثر أوروبا بالرياح القادمة عبر الأطلسي.

ليست المشكلة فقط في انعكاسات تصنيف الجماعة على القضية الفلسطينية، إذ أفردت السياسة الأمريكية مساحة خاصة بالمنظمات الفلسطينية عندما ربطت بين منظمة التحرير الفلسطينية وجماعة الإخوان المسلمين والمشاركين في السابع من أكتوبر، باعتبارهم حركات خاضعة للتصنيف كمنظمات إرهابية. وتترتب على هذه النقطة انعكاسات مباشرة لا تقتصر على حظر هذه المنظمات، بل تمتد إلى مصادرة أي حق في العمل الجماعي، بما يقطع الطريق أمام أي محاولة لترتيب البيت الفلسطيني، ويصادر مستقبل أي كيان وطني فلسطيني.

ما يمكن الإشارة إليه هو أن الأوليغارشية المتنفذة في الغرب بدأت تسير في طريق المفاصلة الحضارية، إذ باتت تضيق بقضايا الحريات والدين التي تسمح بنشاط المسلمين أو الإسلاميين. وقد يتبع مرونة في تطبيق هذه السياسات في المناطق الهادئة، لكنه يتشدد في المناطق القريبة من “إسرائيل”.

كيان الاحتلال

في هذا السياق، وجدت حكومة نتنياهو في قرار ترامب فرصة لاستكمال أهدافها من الحرب، ولا سيما في الحفاظ على إئتلافها الحكومي المتطرف، الذي يتطلع إلى مزيد من تدمير الكيانية والمجتمع الفلسطيني. وتركّز حكومة الاحتلال على إحداث تغيير حاسم في المعادلة الديموغرافية بما يضمن ألا يشكل تهديدًا في المستقبل القريب، كما تعمل على إذابة الكينونة الوطنية الفلسطينية وتجريدها من أي تأثير في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وتنظر إلى الوضع القائم بوصفه فرصة تاريخية ستعمل على استثمارها بكل السبل.

ومع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية، تظل فرصة اليمين المتطرف قائمة، سواء بوصفه دائرة نفوذ أو شريكًا في الحكومة، وفي الوقت ذاته لا تبدو المعارضة أقل عدوانية؛ إذ يتبنى الفريقان مواقف تحول دون امتلاك الفصائل الفلسطينية لأي إمكانية لتهديد الوضع المتشكلّ بعد الحرب، ويُعد التصنيف الأمريكي فرصة واضحة للتمادي في سياسات الاستبعاد أو التقويض.

على المستوى الإقليمي، ما زالت التحركات متماسكة في مواجهة محاولات الإخلال بالاتفاق في قطاع غزة أو تفكيك القوى الفلسطينية. فهناك اتصالات مستمرة بين وزراء خارجية الدول الضامنة والولايات المتحدة للمضي قدمًا نحو المرحلة الثانية، وعدم الغرق في دهاليز التصنيف بالإرهاب، إذ تبقى الأولوية لمعالجة تداعيات الحرب، وحماية الكيان الفلسطيني، والإبقاء عليه طرفًا فاعلًا في مواجهة محاولات “إسرائيل” إلغاءه، رغم الدعم الأمريكي المفتوح لها. ويمكن الإشارة هنا إلى نتيجتين: الأولى، قدرة الأطراف الإقليمية على إيجاد أرضية تفاوض مع الولايات المتحدة، أفضت إلى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار وبدء مرحلته الأولى؛ والتالياً، أن مرحلة الحرب كشفت عن مستوى من التضامن بين الدول الإسلامية والحالة الفلسطينية على اساس يتعدّى الالتزام الإخلاقي أو الديني إلى الشعور بالتهديد والمصير المشترك وإدراك أن المصلحة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من المصلحة العربية والإقليمية، وهي نقطة مهمة صالحة للبناء عليها في المستقبل.

ومع مضي الولايات المتحدة في تصنيف جماعة الإخوان المسلمين، ستتشكل بيئة لملاحقة فروعها في بعض الدول، بما يفرض حزمة من القيود على تحركاتها، ولا سيما ما يتعلق بمتابعة التنظيم الدولي. غير أن اهتمام الدول الإقليمية بنجاح الاتفاق قد يشكل أرضية مشتركة لتجنب أضرار الوصف بالإرهاب، ويفتح طريقًا للاندماج في المؤسسات الوطنية. ويتطلب ذلك مرونة في معالجة النقاط العالقة، مثل قضية السلاح وغيرها، والانتقال إلى أولوية تحسين شروط العمل الجماعي، سواء عبر الإسهام في تماسك الحاضنة الفلسطينية، أو المشاركة في صياغة مفهوم الوطنية الفلسطينية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق