عملية معبر العوجا وجدلية الأمن في سيناء
أحدثت عملية معبر العوجا التي قام بها المجنّد المصري محمد صلاح في صبيحة يوم الرابع من حزيران ٢٠٢٣ العديد من الصدمات المتعددة الأبعاد داخل الحكومة الإسرائيلية ومنظومتها الأمنية، والحكومة المصرية على السواء. خاصة في ظل العلاقات، التعاون الأمني غير المسبوق بين الجانبين منذ عام ٢٠١٣. لكنها شكّلت صدمات متعددة الأوجه لقيادات إسرائيل ومصر، ولردود الفعل الدولية والإقليمية، بسبب توقيتها ومكانها.
جددت تلك العملية الدعوات داخل الكيان العبري الحديث عن الوضع الأمني الإسرائيلي على الحدود المصرية والتطبيع مع دولة الجوار، وخلصوا إلى أن المسألة الفلسطينية هي العائق في تطوير أي مسار أمني أو اقتصادي، ولعل أهم تلك المعوقات هو وضع الفلسطينيين في قطاع غزة وتطلعاتهم حول إقامة دولتهم. لذا أُعيد طرح فكرة توسيع قطاع غزة وضم الأراضي من سيناء كدولة بديلة. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن آراء الخبراء الإسرائيليين الذين يقترحون ضم الأراضي من سيناء لتوسيع قطاع غزة ليست على نطاق واسع داخل المؤسسة السياسية أو العسكرية الإسرائيلية، ومقترحاتهم محل نقاش وجدل كبير.
كما أن الجانب الرسمي المصري لا يتعاطى مع تلك الطروحات حتى الآن، ولا يناقشها حتى على مستوى المحللين السياسيين. رغم بعض المؤشرات على أرض الواقع فيما يخص تهجير منطقتي رفح والشيخ زويد بحجج أمنية يقلل بعض المحللين والسياسيين، خاصة بعد طرح مشروع صفقة القرن وعمل منطقة صناعية ومطار في العريش من أجل حلول اقتصادية لسكان غزة.
علاوة على ذلك ، فإن أي محاولة لنقل السيطرة على قطاع غزة إلى مصر دون موافقة الفلسطينيين من شأنه أن ينتهك حقهم في تقرير المصير ولن ينهي الصراع -تماما- كما لم تُنهِه اتفاقيات التسوية ” أوسلوا ” من قبل ذلك. وحتى يومنا هذا لم يطرح على الجانب الفلسطيني أي مشروعات حتى لو اقتصادية خارج قطاع غزة الحالي بإستثناء تعمير غزة بإدارة مصرية في ٢٠٢٢.
تكمن أهمية العملية في كيفية تعاطي الطرفين المصري والإسرائيلي مع الحدث، وما سينعكس على علاقاتهما ومستقبل التنسيق الأمني بينهما، فيما يخص سيناء والترتيبات الأمنية فيها، ومنطقة النقب داخل فلسطين المحتلة، والاتفاقيات أي “الصفقات” لحل المسألة الفلسطينية. وفقاً للسيناريوهات الإسرائيلية حول ترتيبات ضم الضفة الغربية، وتسليم قطاع غزة إمّا بالضم للإدارة المصرية أو بالتوسيع مع أجزاء من الأراضي في سيناء تحت إدارة فلسطينية وفقاً للتصورات الأمريكية الراعي الرئيسي للحلول السياسية بشأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
تداعيات عملية معبر العوجة
من المتوقع أن تستمر ارتدادات عملية معبر العوجة الحدودي حتى فترات طويلة، لِما شكلته من صدمات متتالية تدفع الجانب الإسرائيلي لإعادة الكثير من حساباته، سواء فيما يتعلق بمنظومته الأمنية في المجمل أو في وضعيتها الحدودية مع مصر على وجه الخصوص، وعلى الرغم من المحاولات المستميتة التي يعمل عليها الطرفين في تل أبيب والقاهرة للحيلولة دونه بشتى الوسائل.
رغم العلاقات الأمنية الوثيقة بين الطرفين، والتزام الجانب المصري بما ترتّب عليه في اتفاقية كامب ديفيد، وتقيّده بتقسيم تلك الاتفاقية سيناءَ إلى ثلاث مناطق، فضلاً عن منطقة رابعة داخل حدود فلسطين، ومن ثمّ الاكتفاء بأعداد محدودة من القوات منصوص عليها وعلى طبيعتها وعلى تسليحها في الاتفاقية، بما يحوّل سيناء إلى عمق استراتيجي لدولة الكيان الصهيوني، فإنّ “إسرائيل”، التي أكّدت بهذه الاتفاقية أنّ مصر طرف محتمل العداء في أيّ وقت، لم تكتفِ بذلك وإنّما عزّزت أدوات الرقابة الأمنية من مناطيد وطائرات ومجسّات وأبراج مراقبة، ليكون حديثها الآن عن الأسباب التي لم تكشف بها هذه الأدوات سير الجندي، والتحقيقات والعقوبات المترتبة على ذلك.
ستعيد عملية العوجا مستويات التنسيق الأمني على الحدود بين البلدين من حيث التكثيف الأمني الإسرائيلي ومستوى تسليح الجنود وحجم الموضوعات على طول الشريط الحدودي، فضلًا عن التكتيكات الأمنية الخاصة كتقليل فترات بقاء المجنّدين في الأماكن ذاتها، وتحقيق أكبر قدر من التمشيط والتنسيق فيما بين الوحدات، هذا بجانب الضغط لتعزيز التنسيق مع الجانب المصري فيما يتعلق بتبادل المعلومات وسرعة نقلها وفرض قيود مشددة على حركة الجنود المصريين ومتابعة سلوكياتهم وخلفياتهم الأيديولوجية وما إلى غير ذلك من الإجراءات الحازمة لمنع تكرار هذا السيناريو.
اللافت في عملية الجندي المصري في منطقة معبر العوجا أنها جاءت في خضّم مناورة كبرى يجريها جيش الاحتلال تحت عنوان “اللكمة القاضية”، بمشاركة جميع أذرعه الجوية والبرية والبحرية والاستخبارية والتقنية، لتأتي هذه العملية وتصيبه في مقتل، ولسان حال الحدث أنه يمثل إعلانًا مسبقًا عن فشل مناورته العسكرية التي تحاكي حربًا إسرائيلية متعددة الجبهات، في جميع المحاور، وفي ذات التوقيت.
ربّما ما ضاعف من صدمة الاحتلال أنها كشفت خاصرته الضعيفة، وعدم قدرته على حماية الحدود الفاصلة مع سيناء المصرية، والتي تمتد لمسافة تُقدّر بنحو مئتين وخمسين كيلومترًا، فتركيز جيش الاحتلال على تصاعد المقاومة في الضفة، ومضاعفة حماية ثكناته ومستوطناته قرب الحدود مع غزة جنوبًا ولبنان شمالًا، كشف ضعف تركيزه في حماية الحدود الفاصلة مع الجانبين المصري والأردني، وهي نقاط ضعف بدت واضحة في منظومة أمن الاحتلال.
أهم ما يمكن أن تحدثه عملية معبر العوجة المحدودة هو التسريع في تنفيذ الأطروحات الإسرائيلية بخصوص حلول المسألة الفلسطينية وخاصة قطاع غزة والمقاومة التي تمثلان تحديات عسكرية وأمنية لدولة الاحتلال.
دولة غزة- سيناء أطروحات إسرائيلية
بدأت الأوساط السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال منذ فترة تتحدث عما أسمته البحث عن دافع سياسي، يتمثل في حشد مصر لهذا الحل، وتحويل القطاع إلى كيان سياحي واقتصادي متطور، ربما قد يجلب الأمل في حل سياسي مع الفلسطينيين، دون أن يضمن توقف المقاومة نهائياً.
هذا المقترح ليس جديداً بل أنه قد طُرِح سابقاً بمسميات إعلامية متنوعة، عُرِفت قبل سنوات بـ” صفقة القرن” فيما عُرِفت لدى الأوسط الأمنية الإسرائيلية بدولة “سيناءـ غزة؛ Sinia-Gaze State
أحد أبرز المدافعين عن هذه الأطروحة هو الجنرال الإسرائيلي المتقاعد جيورا إيلاند ، الذي جادل بأن قطاع غزة مكتظ بالسكان بحيث لا يمكن أن يكون دولة مستقلة قابلة للحياة، وأن ضم الأراضي من سيناء سيوفر حلاً من شأنه تعزيز الاستقرار الإقليمي والحماية.
اقترح آيلاند خطة تتضمن ضم 160 كيلومترًا مربعًا من الأراضي من سيناء ، لاستخدامها في بناء ميناء بحري ومطار ومنطقة صناعية لدعم اقتصاد غزة. ويقول إن هذه الخطة ستعزز أمن إسرائيل من خلال تخفيف الضغط على الحدود الجنوبية الإسرائيلية وتقليل احتمالية الاشتباكات مع حماس في غزة
ومع ذلك، يجادل العديد من منتقدي هذا الاقتراح بأنه غير واقعي وغير مجدٍ من الناحية السياسية، لأنه سيتطلب من مصر التنازل عن أراضيها والتنازل عن سيادتها. يجادل آخرون بأن الاقتراح من شأنه أن يديم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ويرسخ الانقسام بين غزة والضفة الغربية، مما يجعل تحقيق اتفاق سلام نهائي أكثر صعوبة.
ذكر الجنرال إيتان بن إلياهو، القائد الأسبق لسلاح الجو الإسرائيلي في مقال له بصحيفة يديعوت احرنوت” أن الواقع القائم في غزة منذ سنوات طويلة أوجد إسرائيل في طريق يحتوي في داخلها واقع دولة غزة مشيراً إلى أن “خطوة واحدة فقط هي التي تفصل الوضع الحالي في قطاع غزة عن التحول إلى دولة”، حيث تبلغ مساحة القطاع 362 كم2، يقطنها حوالي مليوني نسمة، ومعدل مواليده مرتفع للغاية، وصحيح أنه في ظل هذه الظروف الكثيفة سيكون صعباً وغير واقعي إقامة دولة مزدهرة، لكن من ناحية أخرى فإن هناك بعض البيانات التي تعزز من إمكانية قيام دولة في غزة”
وأوضح بن الياهو “أنّ القطاع مفتوح على البحر، وبتجفيف المناطق البحرية أمام الساحل في المناطق البرية سيكون ممكناً إنشاء مطار، ولن تتداخل حركة المرور من وإلى غزة وإسرائيل مع الطرق الجوية، وسيخدم ميناء تجاري سيتم إنشاؤه على شواطئ قطاع غزة حركة البضائع إلى سيناء، وما وراء البحر الأحمر”
وأضاف من أجل تسريع العملية للدولة في قطاع غزة، فلا تكفي الظروف الجغرافية، ولكن الدافع السياسي والترتيبات الاقتصادية مهمة للغاية، خاصة وأن مصر تبدو لاعباً رئيسياً، وتحت الضغط والأمل في الهدوء سترغب مصر هي أيضاً في توسيع دورها وتمكينها من الإسراع به، بزيادة مساحة قطاع غزة على حساب أراضي سيناء”.
وأشار إلى أنّ “توسيع مصر لحدود قطاع غزة جنوباً قد يصل لأطراف مدينة العريش، ومن الممكن أن نذهب لأبعد من ذلك مع رؤية دولة غزة، حيث يوجد بين العريش وبورسعيد امتداد للساحل، قد تكون بنية تحتية مثالية لإنشاء مشروع عالمي لمركز مالي، وتجارة حرة وترفيه، وغير ذلك، مثل إمارة دبي، ومثل هذا المركز، سيكون له ميزة كونه يقع على ساحل البحر المتوسط وأقرب إلى العالم الغربي، وسيخلق مئات آلاف الوظائف، لتكون مصادر رزق للمصريين والغزيين، ومصدر دخل للحكومة المصرية”.
وختم بالقول إنه “لن يتم بناء مشروع ضخم بهذا الحجم إلّا بمساعدة الحكومات التي ستنشأ فيها الرغبة والرؤية من أجل اقتصاد أفضل، والمستقبل السياسي في الشرق الأوسط، وبمساعدة أموال الدول المانحة التي سيكون دافعها الأعمال التجارية، صحيح أنّ هذه رؤية بعيدة، وتحقيقها مشكوك فيه، لكن ميزتها أنها تخلق واقعًاً دون الحاجة إلى اتفاق، وتتضمن في داخلها أفقاً قد يوقظ المنطقة على أفكار جديدة”.
تكشف هذه الرؤية السياسية الإسرائيلية تجاه غزة، وهي ليست الأولى من نوعها، عن رغبة بالوصول إلى عدة أهداف بخطوة واحدة، أولها تعزيز دور مصر في غزة، وثانيها تجاوز الحل السياسي مع الفلسطينيين. والاحتلال لديه أسباب وجيهة للترحيب بدور مصر، وزيادة دورها القائم فعلياً في غزة، وتعزيزه بما يتجاوز العلاقات الأمنية، والوساطات بين حماس وإسرائيل، من خلال الصفقات الاقتصادية والشراكة بإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، دون أن تضمن للاحتلال هدوءاً أمنياً على الحدود الشرقية لقطاع غزة.
إيهود عيلام المؤرخ العسكري في مجلة “يسرائيل ديفينس” للعلوم العسكرية ذكر أنّ “إسرائيل تريد استبدال حِكم حماس في قطاع غزة بطرف آخر فلسطيني، أو جهة عربية أخرى، تكون أكثر اعتدالاً، مثل مصر، ويبدو أنها مناسبة لهذا الموقع لأن لها حدودًا مع القطاع، وحكمته في السابق، ولدى سكانهما علاقات وثيقة، والقاهرة تحافظ على اتصالاتها مع قادة الفصائل في غزة، لكنها غارقة في مشاكلها الاقتصادية، وأصبح الوضع فيها حادًا للغاية في الآونة الأخيرة بسبب حرب أوكرانيا، وارتفاع معدلات الفقر بين مواطنيها، وعدم قدرتها لتحمل مسؤولية مليوني فلسطيني فقير في غزة”.
تكشف هذه الرؤية الإسرائيلية تجاه مزيد من التدخل المصري في غزة عن فشل إسرائيلي في التعامل مع المقاومة المتصاعدة فيها، في ظل عدم وجود استراتيجية بديلة عن ذلك، فإمّا إسقاط حماس، غير المتاح حالياً، أو الانفصال عن غزة، ولا خيار ثالث باعتبار الدور المصري هو الخطة المثالية الوحيدة للوضع الكارثي الذي يعيشه الاحتلال بسبب القطّاع.
هل تكفي الحلول الاقتصادية لإجبار مصر على قبول ذلك المشروع؟ وهل مصر تُعتبر ضامناً لوقف سلام المقاومة أو السيطرة عليه في قطاع غزة؟ ربما تداعيات عملية معبر عوجا والتفاهمات الأمنية الجديدة بين القاهرة وتل أبيب للسيطرة علي التواجد الأمني والعسكري في كل سيناء في المرحلة القادمة ستعمل بعض من الإجابة بخصوص الطرح الإسرائيلي حول “دولة غزة الجديدة” كحل إقليمي دولي يناسب الجميع ماعدا الفلسطينيين.