منظمة التحرير في مواجهة كيانات فلسطينية بديلة..الفرص الممكنة والسيناريوهات المحتملة
مقدّمة:
تبحث العديد من الأطروحات في ديناميات العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والمكوّنات الفصائلية والشعبية الأخرى، وخاصة في ضوء التحديات المتعاظمة التي تواجه القضية الفلسطينية. هذه الورقة البحثية تسعى لفتح نافذة عميقة تطل من خلالها على تطور هذه العلاقة، سواء من ناحية الجهود الرامية لإصلاح المنظمة أو البحث عن بديل يمكنه تقديم وجهة نظر جديدة تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني. إلى جانب التحليل التاريخي، تقدم الورقة أيضًا نظرة مستقبلية قائمة على تقييم عميق لثلاث سيناريوهات محتملة تشكل مسارات مستقبلية للعلاقة بين المنظمة والقوى المعارضة.
ملخّص تنفيذي
استهدفت هذه الورقة البحثية تطور العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والمكوّنات الفصائلية والشعبية الساعية لإصلاح مؤسسات المنظمة، أو إنشاء كيان بديل يتبنّى برنامجاً سياسياً يقود المشروع الوطني، ويُعبّر عن كلّ مكوّنات الشعب الفلسطيني وتطلّعاته.
وفي محاولة لتعزيز الفهم لتلك العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الفلسطينية الأخرى، تناولت الورقة الخلفية التاريخية للصراع الفصائلي والشعبي، وما يستجدّ في المشهد الفلسطيني الراهن. كما تطرقت الورقة لتلك الأسباب التي وقفت عائقاً دون دخول العديد من الفصائل والكيانات السياسية الفلسطينية تحت مظلّة منظمة التحرير، والأدوات التي تستخدمها الأخيرة في مواجهة أي محاولات تهدّد وجود القائمين عليها، أو تسعى لإصلاح مؤسّساتها.
ومن خلال ما توفره الكثير من مُعطيات البيئة السياسية الفلسطينية، استعرضت الورقة ثلاثة سيناريوهات من شأنها أن ترسم مستقبل تلك العلاقة بين منظمة التحرير وقوى المعارضة، وكان سيناريو استمرار الوضع الراهن هو الأكثر ترجيحاً من السيناريوهات الأخرى، لأسباب تتعلق بما تمتلكه منظمة التحرير من إمكانيات داخلية وإقليمية، وحالة الضعف والتفكك التي تبدو عليها قوى المعارضة الفلسطينية.
تمهيد
تسير الحالة الفلسطينية بسائر مكوناتها السياسية نحو المزيد من الصراعات الحزبية والشعبية، وتظهر من وقت إلى آخر كياناتٌ جديدة رافضة لما صنعته الخلافات الحزبية، لكن تلك الكيانات لم تأتِ من خارج البيئة الصراعية، بل خرجت من رحم الانقسام، إن لم تكن سبباً رئيساً في صناعته!
مُخطئ من يعتقد أنّ الانقسام الفلسطيني حالة حزبية ثنائية: فتحاوية حمساوية، فتلك صورة عامة لا تُعبّر إلا عن القشور الخارجية للمشهد الفلسطيني، وإذا أمعنّا النظر قليلاً في الحالة الفلسطينية، سنكتشف عشرات الانقسامات والخلافات الحزبية والمجتمعية والجغرافية التي تقف على النقيض من أيّ محاولات تحت عنوان الوحدة الوطنية.
لم يتعرّف السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني على شعار منظمة التحرير ممثّلاً وحيداً للشعب، إلا من خلال وسائل الإعلام، وتصريحات القيادات الفلسطينية بكلّ ألوانها السياسية، فمؤسسات منظمة التحرير التي تُستحضَر وقت الحاجة، بحكم سيطرة التيار الحاكم في حركة فتح، تعيش المواجهة دون أن تكون حاضرة في الميدان!
في الوقت ذاته، لا تجد فصائل المعارضة أيَّ بارقة أمل للتقارب أو الاتفاق على برنامج سياسي موحّد يخرجها من حالة التيه السياسي، لأنها أدمنت الانقسام، حتى القوى الشعبية منها لا تستطيع الظهور في المشهد بعيداً عن الترتيبات الفصائلية.
في ضوء ذلك، تناقش الورقة تطوّر الصراع بين منظمة التحرير، ومكوّنات الشعب الفلسطيني الفصائلية والمجتمعية، وفق المستجدّات التي تفرض نفسها على المشهد الفلسطيني.
أولاً_ خلفية الصراع الفصائلي والشعبي مع منظمة التحرير
تناقش هذه النقطة مسألتين هامتين، الأولى: تتمحور حول الأسباب التي تدفع الفصائل والقوى الفلسطينية نحو معارضة منظمة التحرير، ومحاولة إنشاء كيانات سياسية منافسة لها أو بديلة عنها، أما الثانية: فتوضح الأسباب التي تحول دون انضمام تلك القوى إلى منظمة التحرير.
منذ الساعات الأولى لولادة منظمة التحرير الفلسطينية في 2 حزيران (يونيو) 1964، ظهرت خلافاتها مع الفصائل الفلسطينية، لأن ممثّلي الفصائل كان لهم موقفٌ سلبيّ من نتائج المؤتمر الوطني الذي حدّد رؤية المنظمة من الصراع، وموقعها السياسي، واعتبروه فوقياً لا يُعبّر عن الجمهور الفلسطيني، خاصةً وأن رئيس منظمة التحرير “أحمد الشقيري” كان يتعرّض لضغوطٍ عربية.
إذا كانت مصر الناصرية قد لعبت الدور الأساس في تشكيل منظمة التحرير، فإن كلّاً من سورية والمملكة العربية السعودية كانت قد اعترضت على قيامها، وهو ما دفع نظام عبد الناصر إلى السعي للحصول على اعتراف عربي بشرعية منظمة التحرير، وقد تحقّق ذلك المسعى خلال مؤتمر القمة العربية الثاني المنعقد في الإسكندرية في 10 أيلول (سبتمبر) 1964.
اعتبرت الفصائل الفلسطينية هذا الأمر تهميشاً لدورها، أو تصديراً لمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني على حسابها، وهذا ما دفع الجناح العسكري لحركة فتح إلى تنفيذ أول عملياته العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي في كانون الثاني (يناير) 1965.
مع هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، ووقوع كلّ الأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي العربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، فقدت منظمة التحرير حاضنتها العربية، ولم تعد قادرة على لعب دورها السياسي أمام الفصائل الموجودة في الساحة الفلسطينية، والعديد من الفصائل الأخرى التي تشكلت في تلك اللحظة التاريخية، وهذا ما دفع رئيسها أحمد الشقيري إلى الاستقالة، وتحويل دفّة المنظمة للفصائل الفلسطينية وأبرزها حركة فتح.
لم يكن هذا التحوّل المهمّ في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية مقتصراً على ابتعاد الشقيري وحلول ياسر عرفات محلّه، لأن الأفكار القومية التي ميّزت ميثاقها في عهد الشقيري أصبحت أفكاراً وطنية فلسطينية، غير أن الخلافات التي شهدتها منظمة التحرير ذات الفكر القومي التي أسّسها الشقيري، ظلت قائمة، وأخذت أبعاداً أخرى بُعيد سيطرة حركة فتح عليها، بعد نهاية حقبة الشقيري.
1- أسباب الخلاف بين منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية
يمكن الحديث عن جملة من الأسباب التي تفسّر الخلافات التي ظهرت مبكراً بين منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية على مُختلف ألوانها السياسية.
أ- غياب الشرعية الديمقراطية “شرعية التمثيل الوطني”:
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية أول كيان سياسي يُمثل الشعب الفلسطيني، بل حلّت بديلاً عن الهيئة العربية العليا لفلسطين التي تشكلت عام 1946 برئاسة الحاج أمين الحسيني، وبقرار من جامعة الدول العربية، وكان لتلك الهيئة مكتب رئيس في القاهرة، والعديد من المكاتب الفرعية في دول عربية عدة، فضلاً عن مكتب تمثيل في الأمم المتحدة.
والأهم أن الانتشار الإقليمي والدولي الواسع للهيئة، قابلَه انتشارٌ واسع أيضاً على مستوى الداخل الفلسطيني، لأن كلّ الأحزاب والفصائل الفلسطينية اعترفت بها، واعتبرتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، على عكس حالة الضعف المحلي التي واجهت منظمة التحرير في مرحلة النشأة.
وهذا ما أظهرته الفصائل والاتحادات الفلسطينية التي عارضت قيام منظمة التحرير منذ بداياتها الأولى، وقد حاولت تلك الكيانات التكتّل في إطار رافض يدعو لانتخابات فلسطينية حرة بعيداً عن كيان المنظمة، وقد ورد ذلك في بيان مشترك عام 1964 ضمّ كلّاً من “حركة القوميين العرب – جبهة التحرير الفلسطينية – اتحاد طلاب فلسطين، والشباب العربي الفلسطيني في لبنان”.
عملت حركة فتح على تشكيل جبهات ضغط على أحمد الشقيري، بسبب أساليبه في إدارة منظمة التحرير، ولعل تشكيلها لتكتل تنظيمي فلسطيني من خارج منظمة التحرير، والعمل على مخاطبة العديد من النظم العربية، كان أحد الأسباب التي دفعت الشقيري إلى الاستقالة، خاصةً أن نتائج حرب 1967 عزلت منظمة التحرير عن حاضنتها الإقليمية.
في هذا السياق كانت الجبهة الشعبية قد أيدت مبادرة فصائلية طالبت بعزل أحمد الشقيري، وقد وصفت المنظمة وكيانها بالهيكل الفارغ الذي تسيطر عليه الدكتاتورية الفردية والاستخفاف بالجماهير والدجل السياسي.
لم تفارق أزمة الشرعية الديمقراطية منظمة التحرير الفلسطينية على مدار تاريخها، ورغم انضمام العديد من الفصائل إلى المنظمة، إلا أن الخلاف على الشرعية ظل حاضراً بين الجبهة الشعبية، وحركة فتح الفصيل الأكبر داخل المنظمة. لهذا لم تشارك الجبهة الشعبية في أعمال المؤتمر الأول لحركة المقاومة الفلسطينية الذي دعت إليه حركة فتح في القاهرة 1968، وذلك بحجة عدم التساوي في التمثيل الفصائلي أو الأوزان الحقيقية للفصائل داخل منظمة التحرير، خاصةً أن الجبهة الشعبية في تلك الفترة كانت تقود العمل الفدائي المقاوم ضد الاحتلال، وهذا ما وضع الآلية الداخلية لمنظمة التحرير أمام مواجهة جبهة رفض من قبل الجبهة الشعبية، بسبب السيطرة شبه المُطلقة لحركة فتح.
بمعنى آخر، إذا كان اعتراض حركة فتح على وجود أحمد الشقيري على رأس منظمة التحرير قبل عام 1967 بسبب استفراده بالمنظمة وقراراتها، فقد دخلت حركة فتح في خلافات مشابهة مع الجبهة الشعبية وفصائل يسارية أخرى للسبب نفسه.
استمرّت إشكالية هيمنة الفصيل الواحد على قرار منظمة التحرير الفلسطينية خلال سبعينيات القرن الماضي، وهو ما استدعى تشكيل ما تُعرف بـ جبهة الرفض الفلسطينية، وضمّت: “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الجبهة الشعبية القيادة العامة، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير العربية”، وقد وصل الأمر إلى تشكيل تلك الفصائل لعضويتها، والإعلان عن تشكيل كيان موازٍ برئاسة القيادي أحمد اليماني “أبو ماهر”.
حقّق ذلك الكيان الذي قاده اليماني نجاحاً نسبياً بعد الحصول على دعم إقليمي، وخصوصاً من العراق وليبيا، غير أنه لم يدُم طويلاً بسبب المتغيرات الإقليمية الناتجة عن اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1979، وما أعقبه من تقارب إقليمي بين العديد من الدول العربية، وخروج منظمة التحرير من لبنان، ما شكّل ضغطاً إقليمياً على جبهة الرفض ودفعها إلى حلّ نفسها عام 1982.
لم تكن إشكالية الشرعية التي عانت منها منظمة التحرير الفلسطينية مُقتصرة على الصراع بين فتح والفصائل الأخرى، لأن ثمة صراعات داخل حركة فتح طفت على السطح خلال حقبة الثمانينيات، ولعل أبرز تلك الخلافات التي ظهرت آنذاك تمرّد أبو الزعيم “عطا الله محمد عطا الله” عام 1986.
ويُعتبر أبو الزعيم أحد قادة جيش التحرير التابع لمنظمة التحرير في المملكة الأردنية، ويأتي هذا التمرد في سياق الحركة التصحيحية، خاصةً أن المنظمة افتقدت في ذلك الوقت حضورها القوي داخل التجمعات الفلسطينية بسبب أزمة الشرعية، وتجدّد الخلافات الداخلية، فضلاً عن مواقفها السياسية من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وعلاقاتها الإقليمية.
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي تركّز الخلاف الفصائلي داخل منظمة التحرير على البرنامج السياسي للمنظمة، وذلك على حساب الإشكالية المتعلقة بالتمثيل الفصائلي، والشرعية الديمقراطية، ولعل تأجيل الخلاف على إصلاح مجالس منظمة التحرير وتجديد شرعيتها الديمقراطية يعود إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وما أعقبها من مؤتمر مدريد، وصولاً إلى اتفاق أوسلو 1993.
لقد أضعف اتفاق أوسلو كلّ المكونات السياسية للشعب الفلسطيني، وحوّل منظمة التحرير إلى أشبه بدائرة تتبع للسلطة الفلسطينية تُستدعى وقت الضرورة، لهذا حاولت الفصائل مراراً إصلاح مجالس المنظمة، وقد توصّلت إلى صيغة مناسبة لإصلاح برامج منظمة التحرير وهياكلها ومجالسها في القاهرة عام 2005، وقد أعقب ذلك سلسلة من اللقاءات الفصائلية، أبرزها اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في بيروت 2020، وتفاهمات الجزائر التي أمكن التوصل إليها في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2022 .
ولا شك في أن الفشل في تطبيق تلك التفاهمات يعود إلى أسباب تتعلق بالتمثيل الفصائلي، وتخوّف حركة فتح والعديد من الأحزاب الصغيرة من دخول فصائل فلسطينية جديدة “حركتي حماس والجهاد الإسلامي”، فضلاً عن الهوّة الواسعة في المواقف السياسية بين حركة فتح والعديد من الفصائل الأخرى وخصوصاً فصائل المقاومة.
ب- الخلاف على البرنامج السياسي
العمل العسكري المقاوم يُعدّ العنصر الأبرز الذي من شأنه أن يضفي الكثير من الشرعية الوطنية على أيّ مؤسسة أو كيان فلسطيني، وهذا ما ظهر جلياً على الهيئة العربية العليا لفلسطين عام 1946. فمنذ الأيام الأولى لنشأتها قامت بتشكيل مجموعات عسكرية بمساعدة عدد من الدول العربية، وأخذت تتلقّى تدريباتها العسكرية، وهذا ما أكسبها الكثير من الدعم الشعبي الفلسطيني الداخلي.
يأتي ذلك على عكس الظروف التي واجهتها منظمة التحرير الفلسطينية، فالمراحل الأولى لنشأتها شهدت على وقوع ما تُعرف بالنكسة الفلسطينية عام 1967، وذلك بعد وقوع كلّ الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما جعلها عرضة لانتقادات الفصائل الفلسطينية، أو بتعبير آخر، لم تقبل الفصائل الفلسطينية آنذاك أيّ موقف من منظمة التحرير سوى تبنّي برنامج المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
لهذا ربطت حركة فتح انضمامها إلى منظمة التحرير عام 1967 بشرط تبني هذه الأخيرة الثورة المسلحة شعاراً سياسياً لها، وقد أكّدت حركة فتح ذلك حينما غيّرت ميثاق منظمة التحرير عام 1968 مؤكّدةً على النهج الثوري.
بالتزامن مع رفض حركة فتح لموقف منظمة التحرير السياسي، كان موقف فصائل اليسار هو الأكثر اعتراضاً، فقد اعتبرت الجبهة الشعبية وفصائل يسارية أخرى موقف المنظمة بعيداً عن الشعب الفلسطيني ومقاومته، التي ظهرت بشكل واضح في الأراضي الفلسطينية بعد هزيمة 1967.
في هذه الأثناء لم يتغيّر الكثير في موقف منظمة التحرير من الاحتلال الإسرائيلي، بُعيد سيطرة حركة فتح على قرارها السياسي، وهو ما استدعى تشكيل جبهة رفض وطنية فلسطينية، رافضةٍ للحلول السلمية بزعامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1974، وقد كان تشكيل هذه الجبهة ردّاً على ما عُرف حينذاك بـ “برنامج النقاط العشر”، الذي تبنّته منظمة التحرير الفلسطينية، والذي منح غطاءً شرعياً لوجود الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.
في السياق ذاته أُسّست جبهة الإنقاذ في العاصمة السورية دمشق عام 1985، وذلك ردّاً على عودة علاقات منظمة التحرير بالأطراف العربية التي وقّعت اتفاق كامب ديفيد مع إسرائيل، وقد اتُّهمت بالاستسلام، فقد وجّهت الجبهة الشعبية الاتهامات لمنظمة التحرير ووصفتها بالانحراف عن القرار الفلسطيني، ودعت لإجراء عملية تصحيح، وهو ما قُوبل بتفاعل إيجابي من قِبل قيادة منظمة التحرير حينذاك، لأن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كان لها تأثيرها القوي داخل المنظمة، وقد ظهرت اعتراضات الجبهة الشعبية على مواقف كلّ فصائل المنظمة باستثناء حركة فتح، وهو ما أجبر الأخيرة على التفاوض مع الجبهة الشعبية في تونس، وموسكو، وبراغ على التوالي عام 1986 .
أمام ضغط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، نجحت حركة فتح في الالتفاف عليها، بجمع الفصائل المعارضة لبرنامج المنظمة السياسي، وجرى توقيع الاتفاق الخماسي في الجزائر عام 1987 دون مشاركة الجبهة الشعبية، ولم يعد التوافق الفصائلي داخل منظمة التحرير إلا بعد اتفاق تونس عام 1991 بعد حلّ جبهة الإنقاذ.
ج- ظهور قوى الممانعة الفلسطينية 1993
ردّاً على مسار أوسلو شهد مقر الجبهة الشعبية القيادة العامة في دمشق اجتماع 10 من الفصائل تحت عنوان تحالف قوى الممانعة الفلسطينية “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حركة حماس، الجهاد الإسلامي، الجبهة الشعبية_ القيادة العامة، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، منظمة الصاعقة، الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، حركة فتح الانتفاضة، جبهة التحرير الفلسطينية_ أبو نضال”.
الملاحظ على هذا التحالف حالة التنوع الإيديولوجي للفصائل ما بين اليسار والوطني والإسلامي، غير أن تأثير هؤلاء على مسار منظمة التحرير السياسي لم يصل إلى المستوى المطلوب، وهو ما دفع العديد منها إلى الخروج التدريجي من هذا التكتل، والتوجه نحو العمل المقاوم الذي عاد إلى الساحة الفلسطينية مجدداً بعد فشل اتفاقيات السلام، وبدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، كما أن خروج حركة حماس من سورية عام 2011 حصر هذا التحالف بين الجبهة الشعبية_ القيادة العامة، وتنظيم فتح الانتفاضة، وبات دور هذا التحالف مقتصراً على إصدار البيانات في المناسبات الفلسطينية المختلفة.
لم تتوقف الفصائل الفلسطينية عن معارضة ذلك المسار السياسي لمنظمة التحرير، فقد رفضت العديد منها استمرار المفاوضات مع إسرائيل، وأصبحت غزة بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007 مُحرّضاً مهمّاً في مواجهة مواقف منظمة التحرير التي انخرطت في عملية السلام، وتخلّت عن دورها التاريخي لذلك الكيان الوليد: “السلطة الفلسطينية”.
في هذا الإطار حاولت حركة حماس تشكيل تكتل فلسطيني معارض، بالمشاركة مع قوى اليسار، يرفض السلوك السياسي لمنظمة التحرير، ويقدّم الكثير من المبادرات والحلول لإصلاحها، وليس الانقلاب عليها، فقد شهد عام 2010 أولى تلك المحاولات، وقد تركّز الاجتماع الفصائلي آنذاك على دعوة السلطة الفلسطينية إلى الانسحاب من اتفاق أوسلو، لكن تلك المحاولة لم تحقّق أهدافها، لأنها جاءت بعد وقوع الانقسام بسنوات قليلة، كما أنها جاءت كردّة فعل على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2009.
2- الأسباب التي حالت دون دخول فصائل جديدة إلى منظمة التحرير
يمكن الحديث عن أربعة من الأسباب الرئيسية التي حالت دون انضمام فصائل فلسطينية جديدة إلى منظمة التحرير، أولها: سياسي يتعلق بالفجوة الواسعة بين مواقف فصائل المقاومة من العلاقة مع إسرائيل، وحركة فتح التي تهيمن على قرارات المنظمة.
والثاني: مرتبط بعلاقات منظمة التحرير مع المجتمع الدولي، فهنالك العديد من القوى الدولية تصنّف حركتي حماس والجهاد الإسلامي كـ جماعات إرهابية.
أما السبب الثالث: فهو مصلحي، إذ تخشى فصائل المنظمة من انضمام فصائل جديدة كـ حركة حماس التي تحظى بشعبية كبيرة داخل الشارع الفلسطيني، وهو ما يُعطيها القدرة على منافسة حركة فتح، فضلاً عن تخوّف الفصائل الصغيرة من الحضور الحمساوي الذي سيهدّد امتيازات تلك الفصائل داخل المنظمة، خاصةً أن تلك الفصائل الصغيرة أشبه “بنُخب الصالونات” التي لا تحظى بأيّ تأييد في الشارع الفلسطيني، والبعض من هذه الفصائل عُرفت من خلال ظهور قياداتها التاريخية في وسائل الإعلام!
لهذا دائماً ما يُفسَّر الهجوم المتكرّر لعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والأمين العام لجبهة النضال الشعبي أحمد مجدلاني على حركة حماس في هذا السياق، فالغالبية العُظمى من الشعب الفلسطيني تجهل أيّ أعضاء أو قيادات يمثلون هذا الفصيل، والجميع يعرفون مجدلاني فقط. في هذا السياق يقول عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية معتصم حمادة، إنّه يفضل بقاء حزبه داخل منظمة التحرير خوفاً من تحمّل خسائر تتعلق بالامتيازات التي يحصل عليها داخل منظمة التحرير، معتقداً أن الهيمنة والتفرد الفتحاوي على منظمة التحرير ليس أكثر خطورة من الانضمام إلى أيّ كيان تقوده حماس ذات الشعبية الكبيرة.
أما السبب الرابع والأهم: فيكمن في أن إصلاح منظمة التحرير بات يمثّل واحداً من أهمّ ملفّات الانقسام الفلسطيني، وكلُّ حوارات المصالحة تضمّنت ذلك، غير أن حركة فتح تواجه تلك الضغوط بوضع اتفاقيات أوسلو، والعديد من قرارات الشرعية الدولية، عقبةً أمام انضمام حركة حماس أو أيّ فصائل فلسطينية أخرى.
لعل التناقض المهمّ في إصرار حركة فتح وبعض فصائل المنظمة الصغيرة على اعتراف حركة حماس باتفاقيات أوسلو وما تبعها من قرارات “الشرعية الدولية”، كـشرطٍ لانضمامها إلى منظمة التحرير، يكمن في أن بعض الفصائل التي تحظى بعضوية داخل منظمة التحرير لا تعترف بالاتفاقيات السياسية التي وقّعتها منظمة التحرير مع إسرائيل، لكن حركة فتح تعتبره شرطاً لانضمام حركة حماس إلى منظمة التحرير!
في سياق متصل، فإن ميثاق منظمة التحرير لا يُلزم كلّ فصائل المنظمة بالتوقيع على الاتفاقيات السياسية، أو الموافقة عليها، لأن منظمة التحرير مُشّكلة من هيكليات تضمّ العديد من المجالس، والدوائر والاتحادات، والفصائل، وغيرها.
لهذا حينما فازت حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، أصبح لديها 76 عضواً في المجلس الوطني الذي يُمثل أكبر وأهمّ مؤسّسة في منظمة التحرير الفلسطينية، لأن المجلس التشريعي الفلسطيني الذي أنشأته السلطة الفلسطينية يتبع للمجلس الوطني، وحسب قانون منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، فإنّ أعضاء المجلس التشريعي هم أعضاء في المجلس الوطني. لكن ظروف الانقسام الفلسطيني، وما ترتّب عليها من تطورات خلال أكثر من عقد ونصف من الزمان، حالت دون انضمام أعضاء جدد من الفصائل الفلسطينية إلى منظمة التحرير.
ففي اجتماعات الفصائل الفلسطينية الأخيرة التي انتهت بإعلان الجزائر في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 وصل عدد الحاضرين من الفصائل إلى 14 فصيلاً، خلافاً لبعض الفصائل الصغيرة الأخرى التي جرى تجاهلها أو استبعادها، وهذا أكبر من عدد فصائل منظمة التحرير الذي يصل إلى 10 أعضاء، إضافة إلى عضوية الجبهة الشعبية التي جُمِّدت بسبب خلافاتها مع حركة فتح.
ثانياً_ محاولات إنشاء كيان بديل أو منافس لمنظمة التحرير الفلسطينية
عملياً لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية ذلك الكيان السياسي المؤثّر أو من يقوم على صناعة القرار الفلسطيني، فقد وصل الأمر في 8 شباط (فبراير) 2022 إلى تعديل رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير محمود عباس القانون الأساسي، وإصدار قانون يقضي بجعل منظمة التحرير ومؤسّساتها ودوائرها ضمن دوائر “دولة فلسطين”، وهو ما اعتبره الكثيرون تجاوزاً خطيراً لمكانة منظمة التحرير السياسية والقانونية، فهي المؤسسة الفلسطينية المُعترف بها دولياً، والسلطة الفلسطينية وكلّ المؤسسات السياسية الفلسطينية تابعه لها، وليس العكس.
قوبل ذلك القرار بردّة فعل فلسطينية غاضبة، وهو ما دفع محمود عباس إلى التراجع عنه، لكن اللحظة التاريخية المصاحبة لهذا القرار من شأنها أن تُفصح عن الأسباب التي دفعت محمود عباس للإقدام على هذه الخطوة.
في 11 شباط (فبراير) 2022، أي بعد ذلك القرار بأيامٍ قليلة، اجتمع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي يُعتبر مؤسسة وسيطة بين اللجنة التنفيذية للمنظمة، والمجلس الوطني الذي يُعتبر بمثابة برلمان المنظمة والشعب الفلسطيني عموماً.
ترتّب على اجتماع المجلس المركزي العديد من القرارات والترتيبات، أو ما سُمّيت إعلامياً بالمحاصصة الفتحاوية على مرحلة ما بعد محمود عباس، فقد انتُخِب روحي فتوح رئيساً للمجلس الوطني، ليكون رئيساً مؤقتاً للسلطة الفلسطينية في حال غياب عباس، وانتُخب حسين الشيخ عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ليكون مرشّحاً بقوة لخلافة عباس، إضافة إلى العديد من القرارات المشابهة المتعلقة بتنصيب العديد من الشخصيات الفتحاوية للمقاعد الشاغرة والمهمّة.
ولا شكّ في أن تلك الترتيبات تمثّل تجاوزاً غير مسبوق للقانون الأساسي وكلّ لوائح منظمة التحرير، وتجاوزاً لإرادة كلّ مجالسها وأعضائها من الفصائل والمؤسسات المختلفة، وهذا ما يُفسّر صدور تلك التعديلات القانونية عن رئيس السلطة الفلسطينية، ثم التراجع عنها بعد انقضاء جلسات المجلس المركزي، التي رتّبت أوضاع المنظمة وفق الرؤية الضيقة للسلطة الفلسطينية، وقيادة حركة فتح.
في هذه الأثناء تحركت فصائل المعارضة الفلسطينية، وأصدرت بياناً مشتركاً في 10 شباط (فبراير) 2022 بين “حركة حماس – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الجهاد الإسلامي”، وقد جاء البيان ردّاً على اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودعا إلى تشكيل مجلس وطني انتقالي، بهدف التخلّص من تفرّد حركة فتح وتيارها العام، الذي يقوده محمود عباس، بالقرار الفلسطيني. يُذكر أن إجراءات محمود عباس على مستوى منظمة التحرير سبقتها إجراءات أخرى على مستوى المصالحة الفلسطينية، فقرار إلغاء الانتخابات التشريعية والتنفيذية سبق الإجراءات المتعلّقة بمنظمة التحرير بأشهر قليلة.
في هذا السياق يمكن الحديث عن ثلاثة تكتلات فلسطينية ظهرت مؤخراً في المشهد الفلسطيني، وباتت قيادة فتح ومنظمة التحرير تعتبرها منافساً أو كيانات سياسية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية.
1- المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج:
يُعدّ المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج واحداً من الكيانات الفلسطينية المهمّة التي ظهرت مؤخراً لتمثّل نصف الشعب الفلسطيني في الخارج، وبعيداً عن المشهد الفلسطيني الداخلي، وهذا ما يُفسّر اعتماد المؤتمر الشعبي على الشخصيات والنُّخب الفلسطينية في الخارج، وبدعم فصائلي محدود يقتصر على بعض الفصائل المعارضة لمنظمة التحرير كـ حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
لم يُطرح المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج في لقائه الأول بولاية إسطنبول التركية في 25 شباط (فبراير) 2017 بديلاً، أو لا يُقدم نفسه كمنافس أو معارض لمنظمة التحرير الفلسطينية، بل يسعى إلى الاستفادة من الطاقات الفلسطينية في الخارج. لهذا كان التواصل الفصائلي مع المؤتمر بشكل شخصي ودون أيّ ترتيبات مُعلنة، فضلاً عن أن غالبية الفصائل المعارضة لاتفاق أوسلو، والمناوئة لمحمود عباس حضرت المؤتمر الأول، والمؤتمر الثاني في شباط (فبراير) 2022 .
لكن ضعف البُعد السياسي في نشاطات المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، والتركيز على الاستفادة من الطاقات والخبرات الفلسطينية، وتعزيز فعالية الجاليات الفلسطينية في الخارج عبر التنسيق مع المؤسسات الفلسطينية المُختلفة، يقلّل من أهمية الانتقادات الموجهة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، خاصةً أن غياب الأخيرة على مستوى الخارج كانت دافعاً ومُحفّزاً لولادة المؤتمر الشعبي.
ولعلّ ما يميّز المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، أنه عابر للفصائل الفلسطينية، وهذا تحوّلٌ مهمّ في تاريخ العمل السياسي الفلسطيني، لأن الفصائل الفلسطينية عادةً ما كانت تتصدّر العمل السياسي الفلسطيني. ولعل التحوّل هنا أن النُّخب والشخصيات الفلسطينية أصبح لها حضور، أو قدرة على التأثير في العمل السياسي الفلسطيني، خاصةً أن فكرة المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج ليست مجرد فكرة عابرة، بل عمل تراكمي ومتطور في ساحات خارجية حاضنة للجاليات الفلسطينية.
2- الجبهة الوطنية الفلسطينية:
انطلاقا من البيان الثلاثي المشترك بين “حماس، الجبهة الشعبية، والجهاد الإسلامي”، في 10 شباط (فبراير) 2022، بدأت الترتيبات بين تلك الفصائل في محاولة لإنشاء كيان سياسي فلسطيني يُعبّر عن أكبر قدر ممكن من الشعب الفلسطيني، ويتبنّى برنامجاً سياسياً رافضاً لأيّ اتفاقيات مع إسرائيل، وداعياً إلى إنهاء حالة الانقسام السائدة في المجتمع الفلسطيني، عبر إعادة إصلاح مؤسسات منظمة التحرير، وإعادة ذلك المسار الديمقراطي الذي توقف مع إلغاء محمود عباس للانتخابات في أيار (مايو) عام 2021.
بناءً على تلك الرؤية الثلاثية جرى التواصل بين قيادات تلك الفصائل والتوافق المبدئي على فكرة ذلك الجسم السياسي الجديد: “الجبهة الوطنية الفلسطينية”، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة والمهمة في اجتماعات بيروت بتاريخ 24 حزيران (يونيو) 2022، التي جمعت الأطراف المذكورة إضافةً إلى الجبهة الشعبية القيادة العامة، وقد قدّمت كلٌّ من حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تصوّرات شاملة حول الجبهة الوطنية الفلسطينية، غير أن الوصول إلى الصيغة النهائية لم يحدث، ولم يُعلَن عن ذلك الجسم السياسي الجديد.
ولعلّ ما أجّل الإعلان عن الجبهة الوطنية الفلسطينية، أنّ حركة حماس أرادت لها أن تكون إطاراً فلسطينياً جامعاً للفصائل، ولكلّ القوى الوطنية الفلسطينية بما فيها المؤسسات، كالمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، والمؤسّسات الفلسطينية والمستقلّين على المستويين الداخلي والخارجي، وهو جسم يشبه إلى حدٍّ كبير تلك البنية التي تقوم عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ما تم التوافق عليه قبل الذهاب إلى بيروت، بينما جاءت ورقة الجبهة الشعبية بطرح مُختلف يحصر تلك الجبهة تحت عنوان المقاومة فقط، بعيداً عن الرؤية السياسية التي تقدّمها حركة حماس.
رغم أن الجبهة الشعبية أكثر الفصائل الفلسطينية معارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن ما قدّمته في بيروت فُسِّر على أنه تراجع لا يُعبّر عن موقفها المُعلن، وهذا ما سيُفسَّر لاحقاً. لكن بشكلٍ عام لم تتبنَّ الفصائل الأربعة أيّ موقف رافض لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولم تطرح كياناً بديلاً عنها، وهو ما جاء في تصريحات عضو المكتب السياسي لحركة حماس، السيد خليل الحيّة في 28 تموز (يوليو) 2022، موضحاً أن منظمة التحرير هي البيت الفلسطيني الجامع، مطالباً بإعادة صياغتها وفقاً لبرنامج وطني يمثل الفلسطينيين في الداخل والخارج.
ولا يختلف موقف حماس المُعلن مع موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من منظمة التحرير، وقد عبّرت قيادتها في 21 حزيران (يونيو)، أي قبل اجتماعات بيروت بإيام قليلة، عن عدم سماحها بوجود كيان بديل لمنظمة التحرير، وطالبت بضرورة إصلاحها، والعودة إلى المسار الديمقراطي لإنهاء حالة الانقسام.
لكن بشكل عام يمكن فهم محاولات تشكيل “جبهة وطنية فلسطينية”، في إطار الضغط الفصائلي على حركة فتح لدفعها نحو التراجع عن التفرّد بمنظمة التحرير الفلسطينية، والعودة إلى مسار المصالحة، أو محاولة لتشكيل كيان سياسي بديل أو منافس لمنظمة التحرير حتى وإن كانت الفصائل لم تُعلن ذلك صراحةً، لأن تلك المحاولات مستمرّة ولم تتوقف عند اجتماعات بيروت.
3- “المؤتمر الشعبي الفلسطيني_ 14 مليون”:
في محاولة غير مسبوقة نجحت العديد من المؤسسات الحقوقية والصحفية، والعديد من الشخصيات المستقلة في تشكيل جسم سياسي فلسطيني جديد رافضاً لحالة التفرّد بمؤسسات منظمة التحرير، وداعياً إلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.
لم يكن “المؤتمر الشعبي الفلسطيني_ 14 مليون” محلَّ ترحيب أو مشاركة فصائلية فاعلة، ورغم تنظيم القائمين عليه 16 جلسة متزامنة في قطاع غزة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، ومناطق مختلفة على مستوى الشتات الفلسطيني، إلا أن المشاركة الفصائلية كانت ضعيفة وبشكل شخصي. وأغلب الظن أن الفصائل الفلسطينية لم تكن مضطرّة للتعليق على عقد هذا المؤتمر، ولا أن تتبنّى موقفاً سياسياً تجاهه خلال أولى جلساته في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، لولا ردّة فعل السلطة الفلسطينية العنيفة، والسلوك القمعي الذي واجهت به المجتمعين في رام الله، كما أدان المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية ظهور هذا الكيان، واعتبره خطوة نحو تعزيز الانقسام الفلسطيني وتكريسه، ولا يخدم المصلحة الوطنية والتوافق الوطني والمواجهة الموحدة للمخطط الإسرائيلي.
الفصائل الفلسطينية المختلفة حرصت على إدانة السلوك العنيف الذي واجهت به أجهزة السلطة الفلسطينية المجتمعين في رام الله، دون أن تُعلن موقفاً رافضاً أو داعماً لهذا الجسم السياسي الوليد.
لكن حسب شخصيات فصائلية، ومطّلعين، فإنّ منظمي اللقاء الأول لهذا المؤتمر هم شخصيات غير حزبية، وأغلبهم منتمون إلى النقابات الحقوقية “صلاح عبد العاطي، عمر عساف، رشيد شاهين، عماد البرغوثي” وغيرهم من الشخصيات القريبة من القيادي الفتحاوي “محمد دحلان”، وهذا ما يُفسّر حالة التجاهل الفصائلي، خاصةً أن القائمين على المؤتمر لم ينسقوا مع الفصائل أو المؤسسات الفلسطينية المشابهة كـ المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج.
يُضاف إلى ذلك، حضور شخصيات من الجهاد الإسلامي في رام الله “طارق عز الدين”، وخضر حبيب في غزة، وهذا ما دفع البعض إلى الإشارة لوجود دعم إيراني غير مُعلن، لكن بشكل عام أكد الحاضرون الذين يصل عددهم إلى 1000 شخصية أنهم في طريقهم لانتخاب 81 عضواً كمجلس وطني فلسطيني جديد.
ثالثاً_ ردة فعل منظمة التحرير وحركة فتح على تلك المحاولات
تستخدم حركة فتح التي تسيطر على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أساليب مختلفة لمواجهة أيّ محاولات فصائلية أو شعبية ساعية لتشكيل أي كيان يُمكن أن يشكل ضغطاً أو تهديداً لمنظمة التحرير، وتتنوع تلك الأساليب بين السياسي في العلاقة مع الفصائل، وتوظيف الظروف السياسية، والعلاقة مع الإقليم، وصولاً إلى استخدام الأدوات الأمنية، وهذا ما سيتمّ توضيحه في النقاط التالية:
1- توظيف الوضع السياسي والقانوني لمنظمة التحرير
عند متابعة الخطاب السياسي لكلّ الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً التي تقف في صفوف المعارضة، سنلاحظ أن ثمة حالة إجماع على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الرسمي والوحيد، وأن كل المحاولات الرامية لتشكيل كيانات أخرى تنطلق من رفض الوضع السياسي القائم، وتقدم مقترحات أو حلول لإصلاح مؤسسات منظمة التحرير، وتحقيق المصالحة الفلسطينية.
كما يحرص خطاب فصائل المعارضة على تبديد أيّ اتهامات توجّه له في هذا الشأن، وبالرغم من حالة الضعف والترهل التي تبدو عليها منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن هذا لا ينتقص من أهميتها بالنسبة للإقليم، فالأنظمة العربية كانت قد ساهمت بشكل فعّال في ظهورها في منتصف ستينيات القرن الماضي، بالتالي لن تسمح بسهولة لأيّ طرف فلسطيني بتغيير ذلك الواقع، خاصةً أنّ اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل عبر المشاركة في مؤتمر مدريد، والتوقيع على اتفاقيات أوسلو لم يكن بمعزل عن الأنظمة العربية التي لعبت دوراً رئيساً في دفع قيادة المنظمة نحو هذا الاتجاه
لذا حينما بدأت بوادر التقارب تلوح في الأفق بين حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “غرفة المقاومة المشتركة، التحالفات الانتخابية على مستوى النقابات والجامعات”، تحرّك الإقليم لمنع أيّ تحالف فصائلي خارج إطار منظمة التحرير.
في هذا السياق أشارت مصادر مطلعة إلى أن محور اللقاء الذي جمع قيادة الجبهة الشعبية بالمخابرات المصرية في القاهرة 21 أيلول (سبتمبر) 2021 تركّز على رفض الجانب المصري لأيّ تحالف فصائلي فلسطيني خارج منظمة التحرير، وهذا ما أّكدته عدّة مصادر فلسطينية بعد فشل اجتماعات بيروت في 24 حزيران (يونيو) 2022 الرامية إلى تشكيل جبهة وطنية فلسطينية.
لذلك، فإن حرص خطاب فصائل المعارضة على نفي الاتهامات التي توجّه إليها من قِبل قيادة منظمة التحرير حول مساعيها الرامية إلى تشكيل كيان بديل عن المنظمة ليس موجّهاً إلى الداخل الفلسطيني فحسب، بل هو موجّه إلى الإقليم الذي يُعيق ظهور أيّ كيان سياسي فلسطيني جديد.
2- استغلال العلاقات الإقليمية
يُشكّل إقناع الدولة المضيفة لاجتماع المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج واحداً من أبرز العقبات التي واجهت المُنظّمين، ولم تفلح المحالات في إقناع الحكومة اللبنانية باستضافة الظهور الأول للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج عام 2017، وقد كان عقد المؤتمر في تركيا هو الخيار البديل.
وبالرغم من موافقة الحكومة التركية على عقد جلسات الإعلان عن ظهور المؤتمر الشعبي، إلا أن عقد النسخة الثانية من المؤتمر عام 2022 كانت قاب قوسين أو أدنى من الفشل، وحسب مصادر قريبة من المؤتمر الشعبي، إن الحكومة التركية كانت ترفض استضافة فعاليات المؤتمر عام 2022 بطلب من السلطة الفلسطينية، خاصةً أن تركيا كانت قد بدأت في إجراء بعض التعديلات على سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، وهذا ما ظهر في إعلان التطبيع الكامل مع إسرائيل.
في هذا السياق جاءت استضافة أنقرة لقيادة السلطة الفلسطينية، بعد التبادل الديبلوماسي الكامل مع إسرائيل، وهنا أرادت تركيا أن تقلّل من التداعيات السلبية للتطبيع على القضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته ترغب في أن تكون على مسافة واحدة من الفصائل الفلسطينية.
من جانبٍ آخر، تستغلّ قيادة السلطة الفلسطينية تطوّر علاقاتها مع تركيا لمنع أيّ محاولات فصائلية أو شعبية، وحسب مصادر قريبة من المؤتمر الشعبي أن حركة حماس كانت قد لعبت دوراً مهمّاً في إقناع تركيا باستضافة المؤتمر.
3- استخدام ملفّ المصالحة الوطنية
تدرك حركة فتح أن الضغوط التي تُمارس ضد تفرّدها بالقرار السياسي الفلسطيني هدفها الأول هو المشاركة، وإصلاح مؤسسات منظمة التحرير، وأنّ كلّ أطياف الشعب الفلسطيني من فصائل ونُخب مجتمعية مُختلفة يهمّها الوصول إلى المصالحة الفلسطينية، لهذا دائماً ما تستخدم النُّخب السياسية الفلسطينية مصطلح “إدارة الانقسام” الفلسطيني.
يُعدّ استخدام مصطلح إدارة الانقسام بمثابة اتهام لطرفي الانقسام، وتحميلهما المسؤولية عن الوضع الفلسطيني القائم، حتى قيادة الفصائل، وخصوصاً قيادة حماس لا تفوّت أيّ دعوة توجّه لها من أيّ طرف تحت عنوان المصالحة الوطنية، وذلك بهدف تحقيق هدف سياسي خاص بالحركة يقوم على الانفتاح على الإقليم، وفي الوقت ذاته لا تُريد أن تمنح الفرصة لأيّ طرف يمكن أن يتهمها بتعطيل المصالحة الفلسطينية.
لذلك يلاحظ أنه خلال العامين 2021 – 2022، حدثت عدة جولات وتفاهمات فصائلية بين فتح وحماس، في تركيا، ثم لقاءات فصائلية مختلفة في القاهرة، وصولاً إلى إعلان الجزائر الذي تبنّاه مؤتمر القمة العربية في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022. ولعل من شأن تلك اللقاءات في هذه الأوقات المتقاربة زمنياً، تفويت أيّ تقارب أو تحالفات بين الفصائل الفلسطينية خارج إطار منظمة التحرير، وهي سياسة تتبعها حركة فتح في مواجهة الضغوط الفصائلية.
وقد استغلّت قيادة المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية ذلك بشكل صريح، حينما اتهمت القائمين على “المؤتمر الشعبي الفلسطيني 14 مليون” بالخروج على المصالحة الفلسطينية وما تحقّق في إعلان الجزائر.
4- اختراق صفوف المعارضة
حرصت قيادة السلطة الفلسطينية على توجيه التهنئة والتواصل بشكل مباشر مع نائب الأمين العام للجبهة الشعبية “جميل مزهر”، بعد عقد الجبهة الشعبية لمؤتمرها الثامن في حزيران (يونيو) 2022، ورغم توجّه الأخير إلى لبنان لوضع اللمسات الأخيرة على الجبهة الوطنية الفلسطينية، إلا أن عدم التوافق مع حركة حماس حال دون ذلك، غير أن الأشهر القليلة التي أعقبت فشل اتفاق لبنان كشفت عن تحوّلات مهمّة على مستوى فصائل المعارضة الفلسطينية.
ولعلّ أهم المؤشرات التي توضح ذلك عدم مشاركة قيادات الفصائل بفاعلية في اللقاء الأخير الذي ترتّب عليه إعلان الجزائر، فكلّ الفصائل الفلسطينية باستثناء فتح وحماس تحرص في العادة على حضور لقاءات كهذا، غير أن الصورة القادمة من الجزائر حينذاك أوضحت أن حماس أبدت اهتماماً كبيراً باللقاء، فشارك رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، على عكس الفصائل الأخرى، ومنها الجبهة الشعبية التي شاركت بتمثيل أقل من نائب الأمين العام “جميل مزهر”، ويُفهم من ذلك أن ثمة تحوّلاً في موقف الجبهة الشعبية، أو تقارباً مع حركة فتح ظهر جلياً في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 بصدور بيان مشترك عن “حركة فتح، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، والجهاد الإسلامي”، وتحت عنوان القيادة الوطنية الموحدة في محافظة جنين شمال الضفة الغربية، وأشار البيان إلى العديد من الخطوات التي ستُتّبَع على المستوى الشعبي خلال التصعيد في محافظتي نابلس وجنين.
ويلاحظ هنا أن البيان قد جمع حركة فتح بالجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، واستبعد حركة حماس من مشهد المقاومة في الضفة الغربية، وتلك خطوة مهمّة حقّقتها حركة فتح على حساب فصائل المعارضة، لتشتيت مواقفها.
في هذا الإطار لعب ممثل حركة فتح عزام الأحمد دوراً مهمّاً خلال زيارته إلى بيروت، بالتزامن مع اجتماعات الفصائل في حزيران (يونيو) 2022، فقد جمعه لقاء بطلال ناجي الأمين العام للجبهة الشعبية القيادة العامة، أحد الفصائل التي كانت تتشاور حينذاك على إنشاء الجبهة الوطنية الفلسطينية، وقد استبقت حركة فتح تلك الخطوات بمنح فصائل اليسار 6 مقاعد من أصل 15 مقعداً مجموع مقاعد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهي خطوة يُمكن تفسيرها في سياق مساعي حركة فتح لإفشال أيّ خطوات أو محاولات فصائلية ضد منظمة التحرير الفلسطينية.
5- ممارسة الضغط الأمني
حالت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية دون عقد جلسات “المؤتمر الشعبي الفلسطيني 14 مليون” في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، ورغم حصول الجهات المستقلة القائمة المنسقة للمؤتمر على ترخيص رسمي من بلدية رام الله، إلا أنها لم تتمكن من عقد الجلسات، وكذلك المؤتمرات الصحفية التي كانت مقرّرة.
في الوقت ذاته تعرض منسق المؤتمر في رام الله السيد عمر عساف للاعتقال من قِبل الأجهزة الأمنية، ولم تلتفت هذه الأخيرة لسيل الانتقادات الشعبية والفصائلية والحقوقية والصحفية، واقتحمت المؤتمر الصحفي الذي كان مقرّراً في اليوم التالي من أجل الإعلان عن الأعضاء الـ 81 الذين انتُخبوا ممثلين للمؤتمر الشعبي.
يدعم سلوك السلطة الفلسطينية الأمني تلك الإدانات والاتهامات الموجهة من أعضاء المجلس الوطني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، معتبرين هذه الفعاليات تعزيزاً للانقسام، والتفافاً على شرعية منظمة التحرير الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وهو موقف مُعتاد من قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لمواجهة أي محاولات فصائلية أو مجتمعية.
رابعاً_ السيناريوهات المُفترضة
بناءً على كلّ المعطيات السابقة، يمكن تصوّر المرحلة المُقبلة من خلال السيناريوهات التالية:
1- سيناريو ولادة كيانٍ سياسي فلسطيني منافس أو بديل عن منظمة التحرير
يفترض هذا السيناريو نجاح تلك المساعي الفصائلية والشعبية المعارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتفاق على برنامج عمل لمؤسسة سياسية فلسطينية تتبنى مشروعاً وطني يُعبّر عن الغالبية العُظمى من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، على أن يكون لهذا المشروع القدرة على جذب أكبر عدد ممكن من الفصائل والنقابات والاتحادات وغيرها من المكوّنات السياسية والاجتماعية الفلسطينية.
أ- شروط تحقُّق السيناريو
– مشاركة أكبر عدد ممكن من الفصائل الفلسطينية المؤثرة: “حماس والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، وغيرها من الفصائل الأخرى، وقوى المجتمع المدني في الداخل والخارج”.
– ألا يكون البرنامج السياسي منحصراً في رؤية فصائل المقاومة الفلسطينية أو فكرها، أو لا تكون المقاومة ضد الاحتلال هي العنوان الرئيس، لإعطاء الفرصة للتجمّعات الفلسطينية في مختلف المناطق للدخول ضمن هذا الكيان الواسع الذي يُعبّر عنهم.
– يحتاج هذا الكيان إلى بيئة داخلية فلسطينية مناسبة، ومستعدّة، ولديها قبول للتفاعل مع كيانات وطنية كهذا تُعبر عنها.
– يحتاج أيضاً إلى دعم عربي إقليمي، أو على الأقل قبول الدول العربية والإقليمية الأكثر قدرة على التأثير في القضية الفلسطينية، وعدم تعطيلها لتلك المساعي.
ب- احتمالية السيناريو
من خلال المُعطيات المتوفرة فإن الوزن النسبي لهذا السيناريو ضعيف جدّاً، لعدّة أسباب هي:
– رغم توافق الفصائل المبدئي “حماس والجبهتين الشعبية والقيادة العامة، إضافةً إلى الجهاد الإسلامي”، على تشكيل جبهة وطنية فلسطينية، إلا أنهم لم يتقدموا أيّ خطوة في هذا الاتجاه بعد فشل اجتماعات بيروت في 24 حزيران (يونيو) 2022، وكلّ طرف من الأطراف يحمّل الآخر مسؤولية الفشل.
– تقول التجربة التاريخية الفلسطينية إنّ أيّ حركات أو فعاليات من هذا النوع لا يمكن أن تتجاوز العمل الفصائلي، لأن كلّ المحاولات التاريخية كانت فصائلية، لكن الواضح أن الانقسام الفلسطيني لا ينحصر بين فتح وحماس، فهو يمتدّ ويشمل فصائل المعارضة أيضاً.
– واضح أنّ البيئة الداخلية الفلسطينية غير مستعدة للتفاعل مع كيانات كهذا، فـ المؤتمر الشعبي الفلسطيني 2022 لم يحظَ بدعم فصائلي أو شعبي، ولولا تدخّل أجهزة السلطة الفلسطينية بالقوة لمرّت الفعالية دون أيّ صدى إعلامي، لأن كلّ إدانات الفصائل وُجّهت لسلوك أجهزة الأمن، والجميع تجاهلوا أهمية هذا العمل السياسية والوطنية.
– كما أن الإقليم غير مستعدّ لاحتضان كيانات سياسية جديدة أو بديلة عن منظمة التحرير أو دعمها، لأن الأخيرة جزءٌ من الإقليم، وهي الكيان السياسي الوحيد المُعترف به دولياً، وهذا ما تتفهّمه كلّ الفصائل الفلسطينية، وتركز عليه في خطابها السياسي، خاصةً أن أجندات الفصائل وعلاقاتها الخارجية تلعب دوراً مؤثراً في قراراتها.
– إضافةً إلى أن معارضة منظمة التحرير ليست ظاهرة دائمة في البيئة السياسية الفلسطينية، بل أقرب ما تكون إلى ردّة فعل مؤقتة سرعان ما تنتهي إذا ما نجحت بعض فصائل المعارضة في تحقيق مصالح حزبية.
2- سيناريو استيعاب منظمة التحرير الفلسطينية لقوى المعارضة
يفترض هذا السيناريو نجاح إعلان الجزائر 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 في تطبيق ما حصل التوافق عليه بشأن المصالحة الفلسطينية، والذي يُفترض أن تبدأ أولى الخطوات بتشكيل حكومة فلسطينية خلال عام، ثمّ العودة إلى المسار الديمقراطي، على كلّ المؤسسات السياسية الفلسطينية، وبضمنها مؤسسات منظمة التحرير، ومن شأن ذلك إدخال عدّة فصائل فلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير على اعتبارها ممثلاً لكلّ الشعب الفلسطيني.
أ- شروط تحقٌّق السيناريو
– يحتاج هذا السناريو إلى ضغط إقليمي، وقرار دولي يتجاوز قدرات الأطراف الفلسطينية، ويُعدّ تبنّي القمة العربية في الجزائر لملفّ المصالحة سابقة تاريخية، أعطت المطلعين على الشأن الفلسطيني شيئاً من الأمل في تحقيق إنجاز فلسطيني داخلي.
– يمثّل إصلاح مؤسسات منظمة التحرير عبر إعادة الشرعية السياسية لها، عاملاً مهماً إن لم يكن الأساس في إنهاء الانقسام، ومن شأن تحقيق ذلك إنهاء خلافاتها مع الفصائل، لأن هذه الأخيرة ستكون ضمن إطار منظمة التحرير.
– لا يشمل الضغط الإقليمي والقرار الدولي الموافقة على تحقيق وحدة فلسطينية شكلية، أو مؤقتة، بل يحتاج إلى مواقف دولية أكثر انفتاحاً على المكونات الفلسطينية، خاصةً أن العديد من الفصائل الفلسطينية موضوعة على قوائم الإرهاب الأمريكية، وهذا الموقف الدولي مرتبط بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ب- احتمالية السيناريو
الوزن النسبي لهذا السيناريو يُعتبر الأضعفَ على الإطلاق، للأسباب التالية:
– إن دخول فصائل المعارضة إلى منظمة التحرير يتجاوز قدرات القيادة الفلسطينية، ويحتاج إلى تغيير فكري وإيديولوجي على مستوى منظمة التحرير، وكذلك على مستوى فصائل المعارضة، لأن الخلافات ليست شكلية أو مجرّد حضور ووزن سياسي داخل المنظمة، بل ثمّة هوّة واسعة بين الأطراف على صعيد العلاقة مع إسرائيل، ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني.
– ربط العديد من الأطراف الاقليمية الدولية تنازل قوى المقاومة الفلسطينية عن برامجها السياسية كشرط لتحقيق المصالحة، والدخول كشريك في منظمة التحرير، يخدم الأجندة الضيّقة لحركة فتح وفصائل منظمة التحرير الصغيرة، وهؤلاء يبرّرون تفرّدهم بمنظمة التحرير بتلك الضغوط الإقليمية والدولية التي تواجه المنظمة، وهذا المعنى دائماً يكون حاضراً في خطابات محمود عباس، الذي يعبّر عن تمسكه بالشرعية الدولية، ويطالب الفصائل بالعمل على ذلك لتحقيق المصالحة الوطنية.
3- سيناريو فشل الفصائل والنُّخب الفلسطينية في تشكيل كيان سياسي “استمرار الوضع الحالي”
يفترض هذا السيناريو فشل كلّ المساعي الفصائلية والشعبية في تشكيل كيان بديل أو مواز لمنظمة التحرير الفلسطينية، خاصةً أن كلّ المحاولات السابقة كانت تنجح بشكل مؤقت لتوفر ظروف إقليمية وداخلية مساعدة، بينما الوضع السياسي الحالي لا يوفر ذلك.
حتى نجاح تلك الكيانات لم يتطور إلى مستوى كيان فلسطيني جامع، بل انحصرت تلك المحاولات في بعض الفصائل ذات التوجهات اليسارية، ولم تلقَ تفاعلاً فلسطينياً وإقليمياً كبيراً معها، كما أنها لم تؤثر بشكل كبير على حضور منظمة التحرير إقليمياً وداخلياً.
أ- شروط تحقّق السيناريو
يُعبّر هذا السيناريو عن الواقع الفلسطيني الحالي، وحسب ما يتوفر من مُعطيات كنا قد ذكرناها في المتن، فإنّ تغيير الوضع الراهن على مستوى العلاقة بين منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية لا يُعتبر مجالاً للتفكير حتى على مستوى النخب الفلسطينية المختلفة. لأن التغيير يحتاج إلى تحولات جذرية تتعارض مع مصلحة الأطراف المتحكمة في القرار السياسي الفلسطيني، والأطراف الإقليمية، والدولية، وهذا يتجاوز قدرة المكونات الفلسطينية الأخرى الساعية للتغيير.
ب- احتمالية السيناريو
– تسعى حركة فتح لإطالة أمد هذا السيناريو عبر الخطوات التالية:
– إجراءات وترتيبات حركة فتح على مستوى مجالس منظمة التحرير كخطوة استباقية لما بعد مرحلة محمود عباس، وهو ما سيطيل من أمد الصراع بين فصائل المعارضة ومنظمة التحرير، ويحافظ على استمرار الوضع الحالي.
– تواجه حركة فتح والسلطة الفلسطينية أيّ محاولات للتغيير بكلّ الوسائل الممكنة، وتعتبر أي تغيير على الوضع الحالي نهاية للتيار المسيطر على حركة فتح والسلطة الفلسطينية.
– تبقى محاولات فصائل المعارضة، والنُّخب الشعبية محدودة، كما أنها غير قادرة على تنظيم نفسها، لارتباط كلّ طرف بمصالح داخلية وإقليمية مختلفة.
ختاماً:
تبقى مطالب إصلاح منظمة التحرير، ومحاولات تعديل مسارها السياسي، أو ظهور كيانات منافسة أو بديلة لها، قائمة، وتتجدّد بأوجه مختلفة وفقاً للعديد من المتغيرات، وأبرزها: الانقسام الفلسطيني الداخلي، وتطور العلاقة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبالرغم من استمرار حالة الرفض الفصائلي، والشعبي، لسلوك منظمة التحرير، إلا أن مستوى التأثير آخذٌ في التراجع، أو لم تستطع النخب الفصائلية والشعبية الفلسطينية في الوقت الراهن الضغط على المنظمة ودفعها نحو الاستجابة لتلك المطالب المشروعة، والسبب يكمن في أن الرفض التاريخي الذي بدأ مع نشأة منظمة التحرير استفاد من حالة الانقسام الإقليمي، وخروج المعارضة والرفض الفصائلي من داخل جسم منظمة التحرير، لأن اليسار الفلسطيني الذي وقف في خانة المعارضة كان يعارض من داخل منظمة التحرير، على عكس هذه المرحلة، فعضوية الجبهة الشعبية في منظمة التحرير مُجمّدة، وفصائل التيار الإسلامي “حماس والجهاد الإسلامي” ليست أعضاء، حتى محاولات القوى الشعبية التي تتبع لمؤسسات مجتمع مدني وشخصيات سياسية تعمل من خارج منظمة التحرير، وهذا ما يضعف قدرتها على التأثير.
إضافة إلى ذلك فإن الجغرافيا التي تتحرك منها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، خاصةً بعد انتقالها من تونس إلى العمل من داخل الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية منحتها ميزة إضافية، قلّلت من تأثير الإقليم، والتأثير الفصائلي والشعبي.
لذلك يمكن القول إنّ الحالة الصراعية القائمة بين منظمة التحرير الفلسطينية، وقوى المعارضة الفلسطينية، سوف تبقى على المديين القريب والمتوسط في إطار السيناريو الثالث: “استمرار الوضع القائم”.