
من طهران إلى غزة: كيف يعيد نتنياهو صياغة الأزمات في المنطقة؟
المقدّمة:
مع شنّ سلاح الجو الإسرائيلي الضربة الاستباقية الأولى على أهداف عسكرية ونووية إيرانية في 13 يونيو2025، أشارت تقارير إسرائيلية إلى توجّه المستوى السياسي في تل أبيب نحو تسريع المفاوضات لإنجازاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، انطلاقًا من اعتقاد بأن ذلك يُحقق “النصر المطلق” الذي دأبنتنياهو على تقديمه كعنوان للحسم السياسي والعسكري.
إلّا أنه، ومع تصاعد الرد الإيراني، تراجعت فكرة الحسم العسكري بشكل ملحوظ.
يناقش هذا التقرير التداعيات المحتملة لهذا الاعتداء على الوضع في غزة. وفي أحد محاوره الثلاثة، يستعرض تقديرات الاحتلال لقوة إيران، وارتباط الهجوم بسياسته الرامية إلى التخلص من التهديداتالإقليمية في لبنان وغزة. وفي محورٍ آخر، فيقدّم قراءة في التعاطي الفلسطيني مع هذه التطورات.أما في المحور الثالث،.يتناول التقريرالاستجابة الإقليمية للتهديد الجديد، ومحاولات العديد من الدول إسناد إيرانفي مواجهة الدعم الأمريكي لإسرائيل.
ويخلص التقرير إلى أن فشل الاحتلال في تحقيق الجزء الأكبر من أهدافه، قد يفتح الطريق أمام الفصائلالفلسطينية لإعادة النظر في مواقفها، والتعامل مع الإقليم بوصفه ظهيرًا مؤثرًا في هذه المرحلة.
أولاً: الاحتلال وغزة بعد وقف الحرب على إيران
نفذت حكومة الاحتلال عدوانها على إيران كامتداد لعملياتها العسكرية في غزة ولبنان، بهدف إزالة التهديدالعسكري لأقصى مدى ممكن. فقد بدا الوضع مغريًا في أعقاب إضعاف كل من حزب الله وحركة حماس، وهو ما اعتبرته حكومة اليمين فرصة تاريخية لا يمكن تفويتها، باعتبارها مدخلًا لصياغة واقع إقليمي جديديمنح إسرائيل اليد العليا.
نجاح حكومة نتنياهو لم يعد يُقاس فقط بقدرتها على مواجهة تنظيمات مسلحة أو حركات مقاومة، بل باتيشمل أيضًا التصدي لقوى إقليمية تُهدد أمن الكيان واحتكاره للسلاح النووي في الشرق الأوسط، إضافةً إلى أهدافه المتعلقة بتوسيع مسار التطبيع مع عدد من القوى الإقليمية.
– نتنياهو والفشل في المتاجرة السياسية بـ”الانتصار على إيران”
بعد 12 يومًا من الحرب على إيران، لم تتمكن إسرائيل من تسويق ما تدّعيه من إنجازات عسكرية، إذ لمتُحدث هجماتها الجوية تغييرًا ملموسًا في الواقع الإقليمي، فضلًا عن الخسائر الكبيرة التي تكبدتها. وهوما دفع حكومة نتنياهو وائتلافه إلى البحث عن مخرج إقليمي يمكن تقديمه كـ”ثمار” للحرب، مثل التلويحبسيناريو تطبيع محتمل مع سوريا.
من ناحية أخرى، باتت سياسة نتنياهو معروفة: الانتقال من حرب إلى أخرى. ففي غزة، اتبع سياسة إطالةأمد الحرب بكل الوسائل، حتى تحيّنت اللحظة التي يمكن أن يقدّم فيها إنجازًا داخليًا أو إقليميًا، حيث اعتقدأن “النصر على إيران” قد يكون المخرج من أزمته السياسية والقانونية.
لذلك، ربطت العديد من التحليلات الإسرائيلية بين تطورات الحرب في غزة ومستوى النجاح الذي يمكن أنيحققه الجيش الإسرائيلي في الجبهة الإيرانية. بعبارة أخرى، اعتُبر أداء الجيش في غزة معيارًا يكشف عنفشل أو نجاح نتنياهو في معركته مع إيران.
هذا ما كشفته مؤخرًا القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل، بالتزامن مع حديث الإدارة الأمريكية عنضرورة وقف الحرب كي لا تنكشف ثغرات “التفوق الإسرائيلي”، وبما يُقدَّم من مقترحات بشأن هدنةمؤقتة أو حلول جزئية في غزة. ومع ذلك، أكد المستوى العسكري في إسرائيل البدء في عملية واسعةالنطاق في القطاع، فيما قللت القيادة السياسية من أهمية التصريحات الأمريكية الداعية إلى التهدئة.
يمكن القول إن نتنياهو لا يزال يعتبر استمرار الحرب في غزة “القشة” التي قد تنقذه من مقصلة قانونيةوسياسية تلاحقه.
ولهذا الغرض، لجأ نتنياهو إلى رؤساء جهاز “الموساد” والاستخبارات العسكرية، إلى جانب ممثل عنمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وجميعهم حضروا جلسة محاكمته في 29 يونيو 2025. وقد سعوا إلىإقناع القاضي بحساسية الوضع السياسي والأمني الذي تمر به إسرائيل، في محاولة لتأجيل المحاكمة. واعتبرت العديد من التحليلات هذا التحرك مؤشّرًا خطيرًا لاحتمال إقدام إسرائيل على تصعيد عسكريجديد في إحدى الجبهات خلال الأيام القليلة المقبلة.
– معضلة الضغوط الداخلية
ينعكس الوضع السياسي الذي يواجهه نتنياهو وحكومته على مواقف الرأي العام والمعارضة الإسرائيلية. فقدأظهرت نتائج الضربة الجوية الإسرائيلية الأولى على إيران تحسنًا كبيرًا في شعبية حكومة نتنياهو داخليًا، لا سيما أنها استهدفت العديد من قيادات الحرس الثوري والعلماء، إلى جانب مواقع إيرانية حساسة. وقدسعى نتنياهو إلى توظيف هذه الضربة إعلاميًا، باعتبارها “انتصارًا مفاجئًا” لإسرائيل على حساب إيران.
لكن، مع مرور الوقت واستيعاب إيران لتلك الضربة، وردّها الصاروخي غير المسبوق، تراجعت شعبيةنتنياهو مجددًا، وعادت حكومته إلى المربع الأول. فقد وصلت نسبة المطالبين باستقالة الحكومة بعد وقفإطلاق النار مع إيران إلى نحو ثلثي المستطلعة آراؤهم، ولم يؤيد بقاء نتنياهو في الحكم سوى 24% فقطمن الإسرائيليين.
وفي السياق ذاته، أظهرت استطلاعات الرأي أن 24% فقط من الإسرائيليين يؤيدون استمرار الحرب فيغزة، بينما تطالب الغالبية العظمى بوقفها واستعادة جميع الرهائن. وتربط المعارضة الإسرائيلية، التيتطالب بتنحي نتنياهو، استمرار الحرب في غزة بفشل حكومته في تحقيق الأهداف المعلنة، سواء باستعادةالرهائن أو القضاء على المقاومة.
– الضغوط الأمريكية وتأثيرها داخل إسرائيل
على خلفية تأجيل محاكمة نتنياهو لدواعٍ”أمنية”، وبتزامن مع تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيملف نتنياهو القانوني، اعتبرت المعارضة الإسرائيلية والرأي العام أن هذا التدخل غير مقبول، كونه يُعدّ انتهاكًا لاستقلال القضاء في إسرائيل. خصوصًا أن ترامب كان قد لوّح بالمساعدات المالية السنوية التيتقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل، وهو ما اعتبرته أوساط سياسية إسرائيلية نوعًا من الضغط الأمريكيعلى حكومة نتنياهو لوقف الحرب في غزة.
وبالتوازي مع هذه الضغوط الداخلية والخارجية، تناولت وسائل الإعلام العبرية تصريحات بعض القياداتالعسكرية الإسرائيلية، والتي شددت على ضرورة وقف الحرب في غزة. حيث أشارت إلى أن عملية”عربات جدعون” حققت أهدافها من خلال السيطرة على نحو 75% من مساحة القطاع، وبالتالي فإناستمرار الحرب لم يعد مبررًا. وقد نقلت القناة 13 الإسرائيلية أن استمرار العمليات العسكرية يشكّل تهديدًامباشرًا لحياة الرهائن في القطاع.
وقد أثارت هذه التصريحات جدلًا حادًا بين رئيس أركان الجيش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، إذحاول الأخير تحميل الجيش مسؤولية الإخفاقات في غزة، بينما ردّ رئيس الأركان بأن تلك الإخفاقات تعودبالأساس إلى القرارات السياسية.- زيارة نتنياهو لواشنطن
وفقًا لصحيفة معاريف، فإن زيارة نتنياهو إلى واشنطن ليست مجرد زيارة سياسية روتينية، بل تُعدّ زيارة مركّبة تجمع بين ثلاثة عناصر رئيسية: اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وسعي الإدارة الأمريكيةللسيطرة على سيناريو المواجهة مع إيران، والدفع نحو تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع سوريا.
ومقابل تحقيق هذه الأهداف، ستحاول الإدارة الأمريكية توفير مخرج قانوني لنتنياهو عبر تخليصه منأزمته القضائية. وقد ألمح القاضي أهارون باراك في مقابلة مع صحيفة هآرتس إلى أن العفو عن نتنياهويمكن أن يكون مشروطًا فقط باعتزاله الحياة السياسية.
لكن من المرجّح أن تعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز مكانة نتنياهو سياسيًا أمام الرأي العام الداخلي، بمايسمح له بالبقاء في المشهد السياسي، مقابل تحقيق الولايات المتحدة لأهدافها الإقليمية.
فرص ثانياً: فرص وقف إطلاق النار في غزة في ضوء تداعيات
- المواجهة الايرانية الإسرائيلية
مع توجيه سلاح الجو الإسرائيلي الضربة الاستباقية الأولى على أهداف عسكرية ونووية إيرانية، أشارت تقارير إسرائيلية إلى توجه المستوى السياسي الإسرائيلي إلى الدفع بعجلة المفاوضات نحو إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، على اعتبار أن ذلك يُحقق “النصر المطلق” الذي ما فتئ نتنياهو عن وضعه عنوان الحسم السياسي والعسكري، وهو ما قد يُشكّل مخرجاً من المأزق الداخلي لحكومته الائتلافية، في ظل تصاعد الضغوط الداخلية الإسرائيلية. ولكن سرعان ما تراجع هذا التوجه مع اتساع هوة المواجهة مع إيران، لا سيّما إثر الشعور الإسرائيلي بنشوةٍ تعاظم القوة بعد إحكام السيطرة على كامل المجال الجوي لـ طهران.
ومنذ الإعلان الأمريكي عن وقف إطلاق النار بين تل أبيب وطهران، عاد ملف وقف إطلاق النار في قطاع غزة إلى واجهة التركيز الإقليمي والعالمي من جديد، في إطار مساعي توظيف الزخم المرافق لتداعيات المواجهة مع إيران في اتفاق تهدئة في الحرب تُنهي الحرب، ضمن ضفقة إقليمية شاملة كما أكد ترامب في تصريحاته ذات الصلة. وفي هذا السياق، سنحاول تحليل تداعيات المواجهة الإيرانية الإسرائيلية على فرص التوصل إلى تهدئة في قطاع غزة، من خلال قراءة التحولات في سلوك الفصائل الفلسطينية، واستشراف مسارات التفاعل الإقليمي والدولي مع المشهد التفاوضي الراهن.
- السلوك التفاوضي ما بين التشدّد والمرونة
منذ اندلاع المواجهة العسكرية ما بين طهران وتل أبيب، بدا أن حركة حماس أعادت تقييم أولوياتها التفاوضية، حيث أشارا تقارير لوجود تحول ملحوظ في موقفها التفاوضي، إذ بات أقل مرونة وأكثر تشدداً حيال العديد من الشروط التي كانت قد أبدت مرونة بخصوصها في أوقاتٍ سابقة عن التصعيد الإيراني الإسرائيلي. وفي المقابل، نفت حركة حماس ذلك مؤكدةً على أن شروطها الرئيسية تتمحور حول الوقف النهائي للحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة، وهو ما ليس له علاقة بأي متغيراتٍ إقليمية محيطة.
ورُغم ذلك، تُشير القراءة التحليلية لسلوك حركة حماس بالفعل إلى أنها لم تُبدِ أي تجاوبٍ سريع مع التحول الإسرائيلي في الموقف التفاوضي في خضّم المواجهة مع إيران، ربما انتظاراً لمخرجات المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية، على أمل أن تنعكس في المحصلة على طبيعة شروط اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، لا سيّما في حال فشل حكومة نتنياهو في تحقيق أهداف الحرب الرئيسية، وهو ما يُعد موقفاً طبيعياً يتناسب مع العلاقة الديناميكية ما بين جبهات المواجهة المستمرة منذ السابع من أكتوبر.
ومع انتهاء المواجهة بين طهران وتل أبيب، لوحظ عودة نسبية لحركة حماس إلى خطابٍ أكثر مرونة، تجسّد في التعاطي إيجابياً مع مبادرات استئناف المحادثات حول مقترحات معدّلة لمقترح ويتكوف، كان آخرها؛ المقترح القطري بتاريخ 1 يوليو الجاري. ومع ذلك، لا تزال حركة حماس تبدي قلقاً بشأن مدى جدية دولة الاحتلال في إنهاء الحرب والانسحاب من الاحتلال، لذا تُصر على تضمين التزاماتٍ تُجبر دولة الاحتلال على التوصل إلى اتفاق بشأن هاتين الشرطين.
- مواجهة إيران تُعيد ضبط المشهد التفاوضي
لم تتعامل الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، مع المواجهة العسكرية بين دولة الاحتلال وإيران على أنها حدث منفصل عن جبهة غزة، بل نظرت إليها كامتداد طبيعي لمبدأ “وحدة الساحات” رغم التباعد الجغرافي، وهو ما تجلّى بوضوح في التصريحات الفصائلية التي ربطت بين الجبهتين بشكل مباشر.
ويبدو أن تفاهم وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية، أعاد ترتيب حسابات الأطراف الفلسطينية إزاء المشهد التفاوضي، بما يدفع نحو مرونة لإنجاز اتفاق وقف إطلاق نار خلال الأيام القادمة، لا سيّما بعد استنفاذ كافة الأوراق التصعيدية، بما فيها المواجهة المباشرة بين إيران ودولة الاحتلال. لذا لم يبق سوى التوجه نحو تفاهمٍ في قطاع غزة، عبر التعويل الكامل على ملف الأسرى والعمليات العسكرية المركبة التي شهدت تصاعداً ملحوظاً انعكس على ضغطٍ داخليٍ إسرائيلي.
- تهدئة غزة كمدخل استراتيجي لتوسيع اتفاقيات أبراهام
ثمة مؤشرات متزايدة على أن الادارة الامريكية تسعى إلى توظيف الزخم الناجم عن وقف إطلاق النار مع إيران لتعزيز هيمنة دولة الاحتلال الإقليمية عبر دفع مسار التطبيع العربي – الإسرائيلي باستئناف اتفاقيات أبراهام، وهو ما لن يتم بدون توقيع اتفاق يُنهي حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة، لا سيّما وأن استمرارها يُثير نقمة إقليمية واستياءً دولياً، وفي هذا الإطار يأتي لقاء نتنياهو وترامب المزمع.
ومن جهةٍ أخرى، يشكّل وقف الحرب في غزة مدخلًا ضرورياً لإعادة تأهيل صورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، الذي بات أكثر انتقادًا لحجم الجرائم المرتكبة في القطاع، ويُعدّ إنهاء العدوان شرطاً ضمنياً لتهيئة بيئة سياسية مواتية لأي توسع تطبيعي جديد. لذلك، تسعى واشنطن إلى هندسة تهدئة محسوبة في غزة بما يفتح المجال أمام قطف إسرائيل ثمار حصر النفوذ الإقليمي الإيراني، وهو ما يجعل ملف غزة عنصراً حاسماً في المعادلة الإقليمية المقبلة.
- إدارة عربية في غزة: عزوف تكتيكي أم ترتيب مرحلي
وفي الفترة الأخيرة، لُوحظ عزوف الاطراف العربية عن تبني أي مبادرات او محادثات فصائلية بشأن ادارة قطاع غزة، وهو ما يتزامن مع ازدياد التداعيات الانسانية في قطاع غزة سوءاً، مما بات يُشير إلى احتمال ابقاء المشهد الفلسطيني بُعيد الحرب رهن تفاهمات مرحلية دون أي حلولٍ مستدامة تُعيد ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني بغطاء عربي شامل.
ويتزامن ذلك مع تداول مقترحات اسرائيلية وامريكية بخصوص تشكيل إدارة عربية لقطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب، وهو ما يثير تخوف الأطراف الفلسطينية من التداعيات المحتملة لهذا السيناريو على المكون السياسي الفلسطيني، لا سيّما مع ورود تقارير عن دعم عربي – غامض – لمليشيات مسلحة في غزة، مرتبطة بالتنسيق مع قوات الاحتلال. وقد تشكل البديل الأمني لحركة حماس أو على الأقل توفّر الأرضية لاستمرار الفوضى التي تُفقد أي مكون فلسطيني القدرة على احكام القبضة الامنية والسيطرة الادارية، مما يستدعي بقوة مقترحات لتدخل قوة امنية عربية عاجلة، وهو ما ترمي إليه دولة الاحتلال بعيداً عن أي التزامٍ يُفضي بوجود مكون فلسطيني سواء سلطوي أو حمساوي.
وعلى أي حال، باتت حركة حماس أكثر إدراكاً – من أي وقتٍ مضى – بأن حكومة الاحتلال تمكنت من حسم كافة الجبهات بمعزلٍ عن جبهة غزة، وهو ما مكّنها من ابقاء الأخيرة بعيدة عن التأثر بأي متغيرات أخرى، سوى بالتفاعلات الداخلية الاسرائيلية التي تتأثر بوتيرة المستجدات الميدانية في القطاع، وهو ما تجلّى بوضوح بعد ارتفاع فاتورة الخسائر البشرية في صفوف جنود الاحتلال إثر تكثيف المقاومة للعمليات العسكرية المركبة، مما ولّد نقاشاً داخلياً واسعاً على المستويين السياسي والشعبي حول مدى جدوى استمرار الحرب في قطاع غزة.
ومن ناحية أخرى، رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران لم يتضمّن أي تفاهمات تخص غزة، إلا أنه فتح المجال أمام إعادة ترتيب المشهد التفاوضي على نحوٍ مُتسارع للوصول إلى تهدئة، ولو كانت مؤقتة، في ظل مساعٍ لاستثمار زخم المواجهة الإيرانية في إطار ترتيبات إقليمية واسعة النطاق. وفي المقابل، يبقى التحدي الأكبر في قدرة الأطراف الفلسطينية على استثمار اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة، من خلال توظيف الأدوات المتاحة للخروج من المأزق القائم، لا سيّما في ظل تصاعد المطالب الشعبية داخل القطاع بضرورة “التقاط الأنفاس” عبر هدنة إنسانية عاجلة، ولو مرحلية، وهو ما تحتاج إليه المقاومة في غزة أيضاً كفرصة لإعادة ترتيب الوضع الأمني والإنساني المتفاقمين.
ثالثاً: غزة وحرب إيران وتداعياتها على المشهد الإقليمي
وبينما تنقطع المفاوضات حول وقف النار في غزة، شنَّ الاحتلال هجومًا على إيران، لتبدأ حربٌ أخرىتُلقي بمزيد من المتاعب على القضية الفلسطينية، حيث صارت تواجه أعباء وتداعيات انصراف الاهتمامنحو أزمة جديدة أكثر تهديدًا للأمن الإقليمي، ما يطرح التساؤل عمّا إذا كانت نتائج الحرب تساعد علىحدوث تقدُّم في وقف الحرب في غزة وإنعاش القضية الفلسطينية.
– الفاعلية الإقليمية
ومع تصاعد الهجوم الإسرائيلي على إيران، انصرفت الجهود الإقليمية إلى تطويق الخطرالجديد ومنع سقوط إيران، حيث يسود القلق من تغوّل التحالف الأمريكي–الصهيوني علىالمنطقة بفرض أعباء جديدة على الحكومات، وإقرار واقع نهائي في غزة وفق الخطةالأمريكية.
ويُعدّ نشوب الحرب ما بين إسرائيل وإيران مرحلةً مهمّة لقراءة الحراك الإقليمي نحو بناءالدفاع الذاتي، وقياس مدى حظوة القضية الفلسطينية بالاهتمام في ظل الصراع والسلام فيمنطقة الشرق الأوسط. وهنا، تبرز أهمية دراسة الحراك السياسي تجاه الأمن الإقليميوتأثيره في ترجيح الخيارات السياسية محل التنافس بين الدول.
وخلال أسبوعَي الحرب، ظهرت تطلعات الدول إلى أهمية حفظ التوازن الإقليمي، بعد السماح بتقويضإيران وإخراجها من معادلة التوازن الثلاثية التي تضم أيضًا: تركيا ومصر. وقد اتسقت مواقف منظمةالتعاون الإسلامي والجامعة العربية على تكوين ظهير لمنع انفلات الحرب وتوسعها لتشمل دولًا أخرى، وفي الوقت ذاته، أبقت على القضية الفلسطينية ضمن نطاق المناقشات الموازية في الأمم المتحدة.
في وقت شنّ الهجوم الإسرائيلي في 13 يونيو، تتابع الموقف الإقليمي في إدانة الاعتداء فرادى وجماعات. فمن جهة السعودية، فقد أدانت الضربات الإسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني وكبار القادة العسكريين، ليس بوصفه عدوانًا على السيادة فقط، بل لغموض مسؤولية الأمم المتحدة تجاه وقف العدوان.
ومع تكرار الهجمات الإسرائيلية، سارعت تركيا وبعض الدول الأخرى إلى الحشد لاجتماع منظمة التعاونالإسلامي في اسطنبول، لاتخاذ موقف جماعي من الاعتداء الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا. واضطلعت تركيا و مصر بجانب كبير من الجهد الإسلامي والدولي، وشكّلت إطارًا دبلوماسيًا في مقابل خصوم إيران، ليكون له دور سياسي في اتجاهين: دعم الموقف الإيراني، والدفع باتجاه وقف إطلاق النار في غزة. وفي هذاالصدد، شملت الاتصالات المتبادلة كل دول العالم الإسلامي تقريبًا، إضافة إلى دول أوروبا، وكذلك الصينوروسيا. كما كان للتواصل مع الولايات المتحدة دور في فتح قنوات الوساطة بين أمريكا وإيران، ودعم جهود خفض التصعيد. وعلى الرغم من هشاشة وقف إطلاق النار، شكّل الإعلان عنه لحظة إدراك جماعي لأهمية وقف التصعيد، فخلال فترة وجيزة، تتابع الترحيب من العديد من الدول، التي رأت فيه مقدمة لبحث السلام ومعالجةالمشكلات المتعلقة بازدواجية المعايير.
وخلال هذه المرحلة، سعى الموقف الإقليمي إلى بناء تصور لوقف إطلاق النار في الشرق الأوسط. وقدشكّلت هذه الجزئية نافذة للاهتمام بوضع غزة، خصوصًا بعد تدخل الولايات المتحدة لوقف الحرب بينإيران وإسرائيل. فقد تضمنت بيانات العديد من الدول العربية، ما بين الحربين، انتقالًا سريعًا للحديث عندعم مبادرات وقف العدوان المستمر على القطاع والحل الشامل للقضية الفلسطينية.
– موقع غزة في معادلات الحرب
في الأيام الأولى للحرب بين إسرائيل وإيران، انحسر الاهتمام بأحوال الفلسطينيين في غزةوالضفة الغربية، وصعوبة أوضاعهم في سوريا، لكن مع وقف إطلاق النار، زادت مساحةتناول غزة في الاتصالات ما بين الدول. تبدو هذه النتيجة منطقية، حيث برزت أولوياتالدول في درء محاولة الولايات المتحدة تمديد النفوذ الإسرائيلي على حساب المصالحالإقليمية، حيث كان الاهتمام بالحفاظ على حالة التوازن قائمًا بغضّ النظر عن واقع العلاقةمع إيران. ولذلك، يرتبط التقدُّم في القضية الفلسطينية بتحييد الصراعات الأخرى، ومنعإسرائيل من شنّ حرب جديدة.
كان اجتماع وزراء منظمة التعاون الإسلامي في 16 يونيو في إسطنبول بمثابة بوصلة لإفساح المجال أماممناقشة الوضع في غزة، إلى جانب الحرب ضد إيران، حيث تشاركت الكلمات في التأكيد على المسؤوليةالتاريخية في حماية الشعب الفلسطيني ووقف الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ومعالجة أسبابها الجذرية حتى إقامة الدولة الفلسطينية.
وبجانب تتابع تأكيد كلمات الوزراء على هذه المعاني، تبيّن أن القضية الفلسطينية هي مفتاح تسويةالأزمات في الشرق الأوسط. ومن جهتها، أكد وزير خارجية مصر بدر عبد العاطي على أولوية تسويةالقضية الفلسطينية، ما يتطلب من تطوير التحالف الدولي، ليس فقط لتنفيذ حل الدولتين، بل لتشييد ظهيرعالمي للحقوق الفلسطينية، يتولى إعادة الإعمار وتمكين المجتمع الفلسطيني من أرضه.
ومن جهتها، ارتكز موقف المملكة العربية السعودية في 24 يونيو على الامتناع عن استخدام القوة أوالتلويح بها من طرفَي التصعيد، والالتزام بالتهدئة، في ضوء اتباع الوسائل الدبلوماسية سبيلًا لتسوية الخلافات والنزاعات الإقليمية، انطلاقًا من مبدأ احترام سيادة الدول وترسيخ الأمن، بحيث تكون الأرضيةمهيأة للسلام والازدهار.
وخلال فترة ما بعد الهدنة، اتجهت السياسة السعودية إلى الارتباط بالمشاورات الجماعية الإقليمية، لمواجهةالضغوط الغربية لفتح ملف التطبيع، كتداعٍ لحالة عدم الاستقرار الإقليمي. وبالإضافة إلى مواقف وزارةالخارجية، أثار مقال الأمير تركي الفيصل في موقع ذا ناشيونال اهتمامًا ملموسًا، وتم تداوله بوصفهمؤشرًا على توجهات السياسة الخارجية في السنوات القادمة، إذ يطرح فكرة التوازن في العلاقات علىأساس العدالة ومنع ازدواجية المعايير، سواء باستخدام القوة المفرطة في العدوان على المشروع النوويالإيراني وترك مفاعل ديمونا، أو في ترك الحرب في غزة حتى الإبادة.
قامت أفكار تركي الفيصل (الرابط) على أهمية توازن النظرة، وعبّر عنها بمفهوم العدالة، إذ وصف ماقامت به إسرائيل بأنه عدوان يتطلّب تفعيل شمول معاهدة منع الانتشار النووي لتشمل البرنامج الإسرائيلي، وهي شروط ضرورية للخروج من حالة الفوضى، واحترام حق الشعب الفلسطيني في النضال من أجلالاستقلال، وترك الحرية للشعوب الغربية في التعبير عن مواقفها.
وعلى الرغم من تأخّر أولوية الوضع في غزة نسبيًا أثناء الحرب، فإن تدارك وضعها على جدول الأعمالفي اليوم الثالث من الحرب يعكس حرص الدول الإسلامية على ترابط الملفات، انطلاقًا من أن الجهودالمشتركة لسدّ الفراغات تساعد في تعزيز حيوية المواقف الإسلامية.
ختاماً:، يوضح فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المُعلنة تجاه إيران نتيجتين في غاية الأهمية:
أولًا، استمرار إيران كفاعل إقليمي، ومع تصحيح علاقاتها مع الخليج ومصر وتركيا، يمكن أن تتشكّلخريطة جديدة تؤثّر في تحييد أعباء الضغوط الدولية.
ثانيًا، قدرة الحراك الإقليمي على عولمة الاعتداء الإسرائيلي، وفرض قيدٍ على التدخل الأمريكي.
وفي ضوء هذه النتائج، قد يكون لانعكاساتها على الوضع في غزة والضفة الغربية تأثير سريع، لكنه سيظلمرهونًا بقدرة الأطراف الفلسطينية على استثمار التقارب الإقليمي مع إيران، واتخاذ التمركز الصحيح فيمواجهة هذه الفرصة التاريخية.