أوراق سياسية

حرب غزة السياسة الأمريكية في مرمى الأطراف الإقليمية والفلسطينية

يتلخص الدور الأمريكي في ملف التفاوض حول غزة في السعي نحو التوصل لاتفاق وقف إطلاق نارٍ يتماشى مع الشروط الإسرائيلية الرامية إلى تصفية حركة حماس إدارياً وعسكرياً، وتنفيذ مخطط التهجير عبر التحكم بالملفين السيادي والإغاثي لسكان قطاع غزة، مما يوفر مخرجاً آمناً للاحتلال، ويتجلى هذا التوجه في التحول الأخير الذي تبلور في تعنّت الوفد الأمريكي تجاه التعديلات التي طالبت بها حركة حماس، فضلاً عن غياب أي ضغط فعلي لإدارة ترامب على حكومة نتنياهو لإنجاز اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار. وعلى ثلاثة محاور، يتناول التقرير طُرق تعامل الاحتلال والدول العربية والإسلامية، بالإضافة لحركة حماس مع السياسة الأمريكية، بحيث يعرض لأهم ملامح هذه الأحداث.

أولاً: الموقف الإسرائيلي من الدور الأمريكي 

في تطور غير متوقع، فاجأ المبعوث الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط ويتكوف في 24 يوليو 2025 بإعلان انسحاب الوفد الأمريكي من مفاوضات التهدئة، محملاً حركة حماس مسؤولية الفشل، وملوحاً باللجوء الى خيارات أخرى لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهو تصرف لا يختلف كثيراً عن السلوك الإسرائيلي المعتاد في الجولات السابقة، وهو ما اعتبره الكثير من المراقبين محاولة أمريكية إسرائيلية لزيادة الضغط على حركة حماس من أجل دفعها لتقديم المزيد من التنازلات، وفي الوقت ذاته تخفيف مستوى الضغط الداخلي على نتنياهو وحكومته، لأن الانسحاب الأمريكي التكتيكي انطلق من اتهام حماس بإفشال المفاوضات، وهو ما يقلص من مستوى الانتقادات الداخلية الموجهة للحكومة الإسرائيلية.

انسحاب تكتيكي 

بعد ساعات قليلة على الانسحاب الأمريكي الإسرائيلي، عادت الإدارة الأمريكية للتأكيد على استئناف المفاوضات، خاصةً بعد حرص الوسطاء الإقليميين (قطر ومصر)، وتأكيدهم على أن الجولة التفاوضية الحالية لم تفشل كما يدعي الجانب الأمريكي، وهذا ما تم تأكيده لاحقاً على مستوى الاعلام الإسرائيلي، حيث يؤكد مسؤول إسرائيلي لموقع أكسيوس أن المحادثات لم تنهار، وأن السلوك الأمريكي ما هو إلا خطوة تكتيكية لزيادة الضغط وانتزاع المزيد من التنازلات من حركة حماس.

لهذا تقول صحيفة هاأرتس في 28 يوليو 2025، أن الرئيس الأمريكي بعد إنقاذه لموقف الحكومة الإسرائيلية عاد وأعطى ضوءً أخضراً جديداً لها بشأن خطة ضم مناطق حدودية في قطاع غزة، في محاولة لإبقاء سموتريتش في الحكومة، ووفقاً لهذه الخطة التي تخضع لنقاش الحكومة الصهيونية حالياً، أن إسرائيل سوف تعلن في وقت لاحق أنها تمنح حماس مهلة لعدة أيام للموافقة على وقف إطلاق النار، وإن لم تستجب، ستباشر بعملية ضم مناطق من قطاع غزة، وهو ما يفسر ذلك الانسحاب الأمريكي التكتيكي الساعي للضغط على حماس من جانب، ومن جانب أخر إنقاذ حكومة اليمين القائمة في إسرائيل.

في إطار هذه المقاربة الأمريكية الإسرائيلية الأكثر تفاهماً منذ بدء الحرب على غزة، حرصت الإدارة الأمريكية على إدخال المساعدات الى القطاع، وذلك في إطار هدنة إنسانية من جانب واحد، هدفها هو تخفيف تلك الضغوط الدولية على إسرائيل، وهي خطوة لم تواجه اعتراضات كثيرة داخل حكومة اليمين في إسرائيل، ووفقاً لصحيفة إسرائيل هيوم العبرية، أن نتنياهو أكد على مواصلة العمل مع المؤسسات الدولية لتأمين دخول كميات كبيرة من المساعدات لقطاع غزة.

لهذا يمكن القول أن خطوة الإدارة الأمريكية تلك، لم تكن موجهة لحركة حماس فحسب، بل أنقذت الموقف المعقد للحكومة الإسرائيلية، ووضعت المعارضة الإسرائيلية في موقف غير مسبوق، لأنها كانت تعول دائماً على الدور الأمريكي للضغط على نتنياهو، في الوقت ذاته، حرصت على تخفيف الضغط الدولي على إسرائيل من خلال تطبيق الهدنة الإنسانية وإدخال المساعدات لقطاع غزة.

تناسق الأدوار بين ويتكوف وحكومة نتنياهو 

بررت الحكومة الإسرائيلية انسحاب وفدها من المفاوضات الجارية في الدوحة، في إطار التشاور الداخلي من أجل الوصول الى القرار الأخير، وقد أثنت في ذلك الوقت على مواقف الأطراف الإقليميين ودورهم الإيجابي، ما يعني أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد حرصت وعلى غير عادتها على ألا تظهر إشارات سلبية لسير العملية التفاوضية، وهو ما ينسجم سياسياً مع الدور الأمريكي، فمستوى التطرف الذي ظهر في هذه المرحلة التفاوضية جاء على لسان ترامب ومبعوثة ويتكوف، وهو موقف لا ينسجم مع دور الوسيط، لهذا نفت الإدارة الأمريكية بعض الشكوك التي تحدثت سابقاً عن وجود خلافات بين نتنياهو وترامب، لأن هذا الأخيرة أظهر أن حالة التباين التي تظهر أحياناً تأتي في سياق تبادل الأدوار بين الجانبين.

رد المعارضة الإسرائيلية 

بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي، دعا زعيم المعارضة الإسرائيلية لبيد الى انجاز صفقة شاملة مع قطاع غزة تشمل استعادة كافة الأسرى، والانسحاب من قطاع غزة مع ضرورة إنهاء حكم حماس، والسماح بدخول المساعدات للقطاع، كما علقت المعارضة الإسرائيلية على الخطط العسكرية الجديدة التي تُطرح داخل الحكومة الإسرائيلية الآن باعتبارها محاولات غير مفيدة لإسرائيل، وهدفها إطالة أمد الحرب لحماية نتنياهو من المثول أمام العدالة، وهو موقف يتناقض مع مستوى الانسجام الحاصل في الموقفين الأمريكي والإسرائيلي بشأن التفاهم الحاصل على بقاء حكومة نتنياهو، أو عدم السماح بانهيارها، حتى لو احتاج هذا الأمر الى استمرار حرب الإبادة في غزة.

لهذا لم تعلق قيادات المعارضة والإعلام الإسرائيلي على تلك الخطوة الأمريكية، لكن كان واضحاً أن المفاجأة التي ظهرت على الجانب الفلسطيني والأطراف الإقليميين بشأن الانسحاب الأمريكي من المفاوضات، لم تختلف كثيراً على مستوى المعارضة والاعلام والرأي العام الإسرائيلي، خاصةً وأن بعض المبررات التي قدمها نتنياهو بشأن مطالب حماس المتعلقة بزيادة أعدد الأسرى الفلسطيني لم تراها وسائل الاعلام الإسرائيلية سبباً حقيقاً، أو لم تتعامل معها بجدية، خاصةً وأن التراجع الأمريكي الإسرائيلي السريع عن قرار الانسحاب، أكد للأوساط الإسرائيلية المختلفة حقيقة تلك الخطوة، وما تحاول الإدارة الأمريكية تحقيقه من خلالها، لذلك لم تجد قيادات المعارضة الإسرائيلية والاعلام كذلك فرصة للتعليق أو النقاش المطول للدور الأمريكي.

ثانياً: حركة حماس والدور الأمريكي في ملف التفاوض حول غزة

من المعروف، تماهى الوفد الأمريكي مع استراتيجية التفاوض الإسرائيلية الرامية إلى توقيع تفاهمات مرحلية غير شاملة، تقتصر على الافراج عن الأسرى على دفعاتٍ متتالية، دون اقترانٍ بأي التزاماتٍ سياسية أو ميدانية تجاه قطاع غزة، لا سيّما وأن ملف الأسرى يعد ورقة الضغط الأهم التي تملكها المقاومة لممارسة الضغط على حكومة الاحتلال للتوصل إلى اتفاق تهدئة، لذا فإن تفريغ هذا الملف من مضمونه، بالإفراج عن مزيدٍ من أسرى الاحتلال، يُتيح لحكومة نتنياهو التنصل من أي ضغوطٍ داخلية مصاحبة لهذا الملف سواء على مستوى العمليات الميدانية في غزة أو على مستوى المعارضة وأهالي الأسرى داخلياً. وفي هذا السياق، يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على موقف حركة حماس من الدور الأمريكي في ملف التفاوض وآليات التعامل مع آلياته المتغيرة. 

حماس وتحولات الدور الأمريكي تجاه المسار التفاوضي

شهد الدور الأمريكي في المسار التفاوضي تحولاً تدريجياً وفق التحولات المتسارعة طيلة فترة الحرب، إذ انتقل من دور الضامن والمشرف، إلى التموضع كوسيطٍ، قبل أن ينخرط كمفاوضٍ فعلي إلى جانب الوفد الإسرائيلي مع ازدياد تعقيد المشهد التفاوضي. وقد عكس هذا التحول تدخلاً أمريكياً مباشراً في تفاصيل العملية التفاوضية، تجاوز الدور التقليدي للوساطة، في محاولة اضطرارية للتنصل من استحقاقات اتفاق يناير 2025، الذي لم تُستكمل مراحله المتبقية، عبر طرح مقترح ويتكوف كبديل أمريكي، قبل معاودة الاحتلال استئناف الحرب، في ظل تمسك حركة حماس بمخرجات اتفاق يناير. وقد جاء هذا التوجه في سياق تماهي أمريكي مع أهداف حكومة نتنياهو، سعيًا لإنقاذها من الضغوط الداخلية التي رافقت زخم عمليات تبادل الأسرى خلال اتفاق التهدئة السابق، ولتجنيب دولة الاحتلال أي التزامات لا تنسجم مع شروطها، بتقديم مقترحاتٍ بديلةٍ ومتغيرةٍ باستمرار، وهو ما تجلى بشكلٍ واضح في التعديلات المتلاحقة على مقترح ويتكوف الأول. 

ورُغم اضطرار حركة حماس إلى الموافقة على مقترح ويتكوف، إلا أن الأخير عاد إلى تقديم نسخةٍ معدّلة لمقترحه الأصلي بناءً على تفاهماتٍ جديدة مع الإسرائيليين، وهو ما اعتبرته حركة حماس تهرباً واضحاً وانحيازاً مكشوفاً، إذ جاء التعديل متماهياً مع الرؤية الإسرائيلية الكاملة لمسار التهدئة، من خلال الإبقاء عليه ضمن إطارٍ مرحلي، مع استبعاد أي أفق لتفاهم شامل لاحق. وقد بدا ذلك جلياً من خلال التعديلات التي طالت بنود وقف إطلاق النار أو الإطار الزمني لتبادل الأسرى، فضلًا عن غياب تحديد كمية ونوع المساعدات التي كانت واضحة في المقترح الأول. وفي المقابل، قدّمت حماس ردّها مرفقاً بتعديلات، وهو ما رفضه ويتكوف في مفارقةٍ تُنفي صفة الوسيط عن الطرف الأمريكي، باعتباره طرفاً مفاوضاً منحازاً إلى الطرف الإسرائيلي، بعيداً عن أيّ مساعٍ للتوصل إلى صيغٍ تفاهمية تُنهي الحرب.

التفاوض الأمريكي الحمساوي

خلال عام 2024، اقتصر الدور الأمريكي في ملف التفاوض على الإشراف فحسب، دون أن يتطور إلى تدخل فعلي كوسيط أو طرف مفاوض، وهو ما شهد تحولاً جوهرياً مع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، إذ انطلق مسار التفاوض المباشر مع حركة حماس في الدوحة عبر المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون الرهائن، آدم بوهلر، ضمن سياق الحرب الجارية في مارس 2025، وهو ما انعكس داخلياً على الحكومة الإسرائيلية، التي تزايدت مخاوفها من إمكانية التوصل إلى تفاهم ثنائي بين واشنطن وحركة حماس خارج الإطار الذي تمليه الشروط الإسرائيلية. إلا أن حكومة الاحتلال سرعان ما تمكّنت من إفشال هذه الجولة من المحادثات، من خلال إعادة ضبط المسار التفاوضي على قاعدة شروطها التفاوضية الأساسية.

ورغم مساعي حركة حماس لتحقيق اختراق في الموقف الإسرائيلي، عبر فتح قنوات مباشرة مع الولايات المتحدة، وتقديم بادرة حسن نية عبر تسليم الأسير الإسرائيلي–الأمريكي عيدان ألكسندر، إلا أن موقف حكومة الاحتلال ظل متصلّباً، لا سيّما وأنه يُناقش داخل أروقة الحكومة مخططات بمعزل عن أي مخرجاتٍ محتملة لأي اتفاق تهدئة، تهدف إلى الإبقاء على قواتٍ عسكرية لأطول فترة ممكنة سواء عبر مخطط “المدينة الإنسانية” في شرق رفح، أو عبر ترك الباب مفتوحاً أمام معاودة العمليات العسكرية بنطاقٍ محدود بعد الاتفاق المؤقت الذي يسعى الطرفان الإسرائيلي والأمريكي إلى تمريره. 

تقييم حماس للدور الأمريكي: 

تُشير جميع التصريحات الرسمية لـ حركة حماس إلى عدم ثقتها بحيادية الدور الأمريكي كوسيط تفاوضي، نتيجةً ما تعتبره انحيازاً كاملاً لصالح دولة الاحتلال، وتماهياً مع أهدافها دون ممارسة أي ضغط حقيقي لدفعها نحو تقديم تنازلات. وقد تجسّد هذا الانحياز في جميع المقترحات الأمريكية التي طُرحت منذ بداية الحرب، حيث انصبت على تلبية المطالب الإسرائيلية، دون أن تتضمن أي ضمانات تتعلق بشرطي المقاومة الأساسيين: الوقف النهائي للحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة، أو أي التزامات مستدامة إزاء الوضع الإنساني والسياسي في القطاع. 

ورغم محاولات حركة حماس التجاوب مع مسارات تفاوضية متعددة ومتغيرة طيلة فترة الحرب، في سياق المناورة وتجاوز التعطيل الإسرائيلي المتعمّد، إلا أنها لا تزال تصطدم بالانحياز الأمريكي الكامل لصالح حكومة الاحتلال، وهو ما برز جلّياً مؤخراً، خلال الأسبوع الماضي، بإعلان ويتكوف سحب الوفد الأمريكي من جولات التفاوض في قطر، وهو ما أعقبه تصريح للرئيس ترامب كشف عن النوايا الحقيقية للولايات المتحدة، بما قد ينعكس سلباً على موقف حركة حماس ويدفعها إلى إعادة حساباتها التفاوضية، في ظل تعقّد المشهد وتكشّف أبعاد الدور الأمريكي في ملف التفاوض التي تتقاطع مع المخططات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة. 

وعلى أي حال، تتمحور مقاربة حركة حماس تجاه الدور الأمريكي في ملف التفاوض الجاري، وتحولاته المتسارعة طيلة فترة الحرب، ضمن استراتيجية مزدوجة تجمع ما بين الحذر العميق والتجاوب المرن، دون التنازل عن سقفها التفاوضي المتعلق بشرطي إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة. إذ تدرك حركة حماس أن كلاً من الطرفين الأمريكي والإسرائيلي يسعيان إلى تجاوز هذا الإصرار عبر الدفع نحو توقيع اتفاق مرحلي يخفف من الضغوط على حكومة الاحتلال، مع إبقاء إمكانية استئناف الحرب قائمة. وهو ما يُعقّد المشهد التفاوضي، ويُعمّق الأزمة الإنسانية في ظل استمرار الاحتلال في تنفيذ سياسات التجويع الممنهج تمهيدًا للتهجير القسري.

ثالثاً: حرب غزة في سياسات العربية والإسلامية تجاه أمريكا

على صعيد الحرب في غزة، سعت السياسة العربية والإسلامية إلى احتواء اندفاع الولايات المتحدة في دعم حكومة الاحتلال، ومحاولاتها المستمرة لفصل غزة عن الضفة الغربية. وقد تجلّى ذلك في مواقف عربية وإسلامية مشتركة ومتضامنة تدعو إلى وقف الحرب، وحل الدولتين على أساس حدود عام 1967.

في المقابل، يستمر التحالف بين الولايات المتحدة وحكومة نتنياهو في الدفع نحو مشاريع تجزئة تهدف إلى فصل غزة عن الضفة الغربية، ضمن تصورات تتعلق بالتطبيع الجماعي.

ومنذ طرح إدارة ترامب مقترحًا في فبراير الماضي بوضع غزة تحت إدارة أمريكية، اتخذت الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، مواقف واضحة تهدف إلى تقييد المسار الأمريكي الرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية، من خلال فرض حلول تنهي مستقبل الفلسطينيين، أولًا في غزة، ثم لاحقًا في الضفة الغربية.

وهنا تبرز أهمية متابعة ملامح الحراك السياسي العربي تجاه السياسات الأمريكية، خصوصًا في إطار الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية، لضمان بقاء القضية الفلسطينية ضمن أولويات الأجندة الدولية، ومنع فرض تسويات تُفصّل خارج الإرادة الوطنية الفلسطينية.

مع تبنّي دونالد ترامب لخطاب التهديد والتقريع، تبنّت مجموعة من الدول مواقف متقاربة تؤكد على ضرورة التضامن في مواجهة الغطرسة الأمريكية. واستجابة سريعة لذلك، اتجهت مصر إلى طرح خطط بديلة، تمحورت حول حشد الدول الإسلامية لإطلاق مشروع للإعمار والتوطين، بهدف وقف تمادي الولايات المتحدة في فرض مشاريع التهجير.

وفي هذا السياق، عُقدت قمة عربية استثنائية، أعقبت قمة الدول الإسلامية الثمانية التي انعقدت في القاهرة قبلها بأشهر، وتمحورت أهدافها حول حشد الرأي العام وتقريب المواقف للتصدي للخطط الأمريكية.

ورغم ضعف الحضور في القمة العربية التي عُقدت في بغداد، شكّل اندلاع العدوان الإسرائيلي على إيران محطة مفصلية أعادت الوعي بالمخاطر الأمريكية والإسرائيلية التي تهدد المنطقة بأسرها، حيث انتقل التهديد من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية إلى إطلاق مرحلة جديدة من الغزو الأمريكي، هدفها الرئيس تغيير الأنظمة وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.

تجاوزت الدول خلافاتها مع إيران، وبدأت في تفعيل سياسات للأمن الجماعي تهدف إلى الحدّ من التطلعات الأمريكية. وقد تقاربت المواقف، سواء على مستوى منظمة التعاون الإسلامي أو عبر العلاقات الثنائية، لدعم الموقف الإيراني إقليميًا ودوليًا. وقد شكّلت هذه اللحظة سابقة في مواقف الدول تجاه النظام الإيراني، إذ بدا أن أولوية التعاون لإزالة التهديد المشترك قد تجاوزت الأحقاد والخلافات التاريخية.

وخلال التصدي الجماعي للعدوان على إيران، لم تغفل الحكومات القضية الفلسطينية، التي ظلّت حاضرة في جميع الاجتماعات، حيث جرى تفنيد الرؤية الأمريكية لوقف الحرب، المبنية على فصل قطاع غزة ونزع سلاح المقاومة. ومن خلال مراجعة الجهود الثنائية والجماعية في تلك المرحلة، يتضح أن الاجتماعات ميّزت بوضوح بين مسارين: الأول يتعلق بوقف الحرب وضمانات التهدئة، والثاني يخصّ الشأن الداخلي الفلسطيني وترتيب البيت الفلسطيني، وهو شأن يُفترض أن يكون بيد الفلسطينيين أنفسهم.

وفي هذا السياق، انشغلت بعض الدول الإقليمية بمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار بين الاحتلال وإيران، حيث ركزت على تهدئة أزمات أخرى تزاحم القضية الفلسطينية، سواء تلك المرتبطة بالصراعات المتعددة الأطراف أو بالأمن الإقليمي أو النزاعات الثنائية.

في 30 يوليو، انشغلت محادثات وزير الخارجية المصري مع مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص للشرق الأوسط بالوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وضمان حرية دخول المساعدات الإنسانية، وإطلاق عدد من الرهائن والأسرى. وقد بُنيت الآراء المتبادلة على ضمان التزام الأطراف الثلاثة—مصر، الولايات المتحدة، وقطر—بتكثيف الضغوط على الاحتلال للدخول في تهدئة مؤقتة.

وبتحليل مواقف هذه الدول، تبدو على مسافة واحدة من إدراك حجم التهديد الذي يمثله استمرار الاحتلال في غزة، خصوصًا في ظل ما خلفه من تداعيات كارثية، سواء من خلال اتساع نطاق الانتهاكات الصارخة أو اتباع سياسة التجويع بحق الفلسطينيين في القطاع.

في هذا السياق، يشكل بيان الدول العربية والإسلامية أرضية مناسبة لتحرك جماعي، يستند إلى قرارات الشرعية الدولية، ولا سيما القرار رقم 2334 (2016) الذي يرفض شرعية المستوطنات، ويؤكد وحدة الأراضي الفلسطينية، ويمثل إطارًا قانونيًا للتفاوض بشأن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.

وقد كان عنوان “الاستقرار الإقليمي” القاسم المشترك بين ملفات وقف الحرب بين الاحتلال وإيران واحتواء التهديد الإسرائيلي لسوريا. وشكلت هذه القضايا محور اهتمام لمصر، وتركيا، والسعودية، وعدد من الدول الأخرى، انطلاقًا من أن النجاح في التعامل مع هذه التحديات يشكل دعمًا مضافًا للقضية الفلسطينية. ويمكن في هذا السياق ملاحظة درجة عالية من التنسيق في السياسات الخارجية لتلك الدول.

فخلال العدوان الإسرائيلي على إيران، بدا أن هناك تفهمًا مشتركًا لمخاطر تهديد الأمن الإقليمي، ولم يحدث تنازع على الأدوار، حيث يبدو أن مصر تم تفويضها للقيام بالوساطة، بينما تم التفاهم على اضطلاع السعودية، كممثل إقليمي، بترتيبات تخص الملف السوري، إلى جانب تركيا، بما يشكل إطارًا سياسيًا مشتركًا لتحييد التهديدات في هذه الملفات.

تتلاقى جهود الدول الثلاث على أولوية الأمن الإقليمي، وتنسق في ما بينها لإحلال السلام في سوريا، ليبيا، والسودان، ضمن جهود احتواء مساعي الاحتلال لتوسيع دائرة الحروب خارج الأراضي الفلسطينية.

لكن، وعلى الرغم من هذا التلاقي، لم تتمكن هذه الدول حتى الآن من توفير إطار تنسيقي كافٍ لمواجهة التحديات التي تواجه جهود الوساطة ووقف الحرب في غزة. كما أنها لم تُظهر بعد فاعلية كافية في التصدي للمحاولات الأمريكية للتهرب من مسؤولية كبح جماح الاحتلال، أو في التعامل المشترك مع حالات استهداف سياسي لحكومات مصر، وتركيا، والسعودية، بما يوحي أحيانًا بأن الحرب تستهدف هذه الدول ذاتها، وليس الاحتلال وحده.

ومع تباطؤ التنسيق، شكّل انتقال إسرائيل، بدعم أمريكي، إلى استخدام سلاح التجويع تحديًا جديدًا أمام الدول العربية والإسلامية، في ما بدا كمعركة “عضّ أصابع” أو “اللعب على حافة الهاوية”. فقد أصبح من الضروري إنفاذ المساعدات الإنسانية وحماية السكان. وهنا، يمكن تفسير محدودية تدفق الغذاء بعدة عوامل، أبرزها القلق الأمريكي من تحمّل مسؤولية ارتكاب إبادة جماعية، وتراجع إمكانية فرض التهجير من خلال تشديد الحصار، بالإضافة إلى عدم نجاح الجهود التي حاولت نقل مسؤولية الحصار إلى مصر.

تزامنت هذه التطورات مع انطلاق الحوار الاستراتيجي المصري–الأمريكي، الذي شهد توسعًا في نشاط الدبلوماسية العامة المصرية عبر التواصل المكثف مع أركان الإدارة الأمريكية، حيث التقى وزير الخارجية بعدد من أعضاء الكونغرس ورئيس مجلس النواب، في مسعى لتمديد أجندة الاجتماعات لتشمل قضايا إقليمية، على رأسها الحفاظ على السلام الإقليمي كعنوان للسياسة الخارجية. هذا التوجه يضع غزة في إطار التعامل الدولي والإقليمي، ويُسهم في تسهيل وقف الحرب وإنفاذ المساعدات الإنسانية، تمهيدًا لعودة الحياة الطبيعية إلى القطاع.

ورغم تشتّت الجهود، لم تتمكن الولايات المتحدة من تحويل خططها إلى واقع عملي. ولعل زيارة “ستيف ويتكوف” إلى مسرح العمليات تُعد مؤشرًا على سعي واشنطن لإيجاد مسارات جديدة بديلة لاستمرار الحرب، في مشهد يعكس حالة ارتباك مشابهة لما يجري في سوريا. وهذا ما يعزز الحاجة إلى ارتقاء مستوى التنسيق الجماعي بين الدول العربية والإسلامية، وكذلك مع الكيانات الفلسطينية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق