
بعد استهداف قادة حماس في الدوحة، تشهد المنطقة تحولاتٍ غير مسبوقة في الملف الفلسطيني إثر توقيع اتفاق غزة في إطار مخطط ترامب للسلام، الذي أتاح تبادل الأسرى بين الطرفين، وأنهى حرب الإبادة التي استمرت لنحو عامين، بحيث يتوقف تثبيت هذا الاتفاق على تفاهمات المراحل المتبقية من مفاوضات شرم الشيخ حول العديد من النقاط الخلافية ذات الصلة بالملف السيادي والإداري لقطاع غزة في اليوم التالي للحرب، وهو ما لم يتبلور بعد بسبب التعنت الإسرائيلي حول نزع سلاح المقاومة ورفض عودة السلطة أو بقاء حركة حماس في المشهد الإداري للقطاع، مما يُعقّد جولة التفاوض المرتقبة بُعيد إتمام تنفيذ استحقاقات المرحلة الأولى الخاصة بتبادل الأسرى ودخول المساعدات.
(1) إسرائيل وبقاء حماس في الحكم
يربط اليمين الإسرائيلي نجاح خطة الرئيس الأمريكي ترامب بعدم بقاء حركة حماس في حكم قطاع غزة، وهو ما يلقى دعمًا من الموقف الأمريكي، حسب مقابلة الرئيس الأمريكي مع شبكة CNN، حيث يشتركان في القضاء الكامل على حركة حماس في حال رفضت تسليم السلطة.
وكان هذا التوجه أساس حصول رئيس الحكومة الإسرائيلية على غالبية أصوات وزراء الحكومة الذين وافقوا على الخطة الأمريكية، لكن العديد من وزراء اليمين الديني هددوا بالانسحاب من الحكومة وعدم المصادقة على المراحل التالية للخطة الأمريكية.
غزة بلا حماس
لم يذهب الرئيس الأمريكي ترامب بعيدًا في طرح خطته عن حقيقة الموقف الإسرائيلي؛ فما شملته الخطة الأمريكية من إدارة دولية لقطاع غزة كان محور حديث وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر في أغسطس/آب 2025، أي قبل ظهور الخطة الأمريكية بنحو شهرين، حيث أشار ساعر إلى أن حكومته لن تمرر أي اتفاق إذا ما استمرت حماس في الحكم، موضحًا أن الحركة تحاول فرض شروط لضمان بقائها في حكم غزة، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع لتمنع أي مشاركة لها في مستقبل غزة على حد وصفه.
وهذا ما عاد الرئيس الأمريكي ترامب وأكّد عليه خلال خطابه في الكنيست الإسرائيلي، مؤكدًا ضرورة نزع سلاح حماس، مطالبًا إياها بالتخلي عن السلاح طوعًا أو الاضطرار إلى إجبارها بالقوة على ذلك. وهنا يدعم ترامب التطرف الإسرائيلي الذي فشل في تحقيق النصر المطلق على المقاومة، ويسعى إلى نزع سلاح المقاومة وإبعادها عن الحكم في قطاع غزة.
لذلك كان الرئيس الأمريكي حريصًا على تحذير حركة حماس من عدم الالتزام بتنفيذ جميع بنود الخطة الأمريكية، مع التذكير بإمكانية العودة إلى الإجراءات العسكرية في حال عدم التزامها.
تقوم المقاربة الأمريكية (خطاب ترامب في الكنيست) على السلام كمصلحة لإسرائيل المحتاجة دائمًا إلى الدعم العسكري والسياسي، وقد ارتكز الخطاب على توضيح طبيعة المساعدات التي قدّمتها السياسة الأمريكية في إسناد حكومة نتنياهو في المواجهة مع إيران. وهنا، تحاول الولايات المتحدة وصف إسرائيل كدولة بحاجة إلى رعاية وحماية. لا يعني هذا التخلي عن ضمانات أمن الاحتلال، فكل ما تسعى إليه السياسة الأمريكية هو انتشال إسرائيل من أزمة استمرار الحرب دون عائد واضح، سوى عزلتها الدولية.
وعلى الرغم من تأكيد الرئيس الأمريكي على تطبيق جميع بنود خطته، إلا أن الكثير من التحليلات والتقديرات في إسرائيل تشكّك في إمكانية تحقيق ذلك، حيث تتوقع هذه التقديرات أن فرص حدوث الصدمة واردة. فهذه التحليلات تتحدث عن سيناريو بقاء حماس في الصورة، ويُستدلّ على ذلك من خلال مواقف الوزراء المحسوبين على حزب “عوتسما يهوديت”، فهؤلاء هددوا بالاستقالة من حكومة نتنياهو، كما أن الصهاينة المتدينين لم يهددوا بالاستقالة رسميًا، لكنهم يؤكدون دائمًا أن جميع الخيارات مفتوحة.
وهذا ما يتفق مع الموقف الحقيقي لنتنياهو الذي اضطر أمام الضغوط الأمريكية لتمرير الاتفاق، والاستعانة بالمبعوث والسفير الأمريكي لإقناع وزرائه المتدينين، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن معنيًا بوقف الحرب لأسباب لها علاقة بمستقبله السياسي. وهذا ما حاول ترامب الإشارة إليه؛ فمن جانب هدد بإمكانية العودة إلى الوسائل العسكرية لإبعاد حركة حماس عن الحكم، واضطر إلى الخروج عن النص حينما طلب من الرئيس الإسرائيلي إصدار قرار عفو عن نتنياهو الذي يواجه العديد من قضايا الفساد.
وهنا يحاول ترامب إنقاذ نتنياهو قانونيًا عبر محاولة التدخل في الشؤون الداخلية، ويُبقي على خيار العودة للحرب لإعطاء نتنياهو المزيد من الأمل.
تقديرات إسرائيلية مختلفة لبقاء حماس في غزة
يركز الاتجاه العام الإسرائيلي، بعد بدء اتفاق وقف إطلاق النار، على مناقشات إمكانية تنفيذ كافة المراحل واحتمالات العودة إلى الحرب من جديد.
يميل العديد من المحللين العسكريين الإسرائيليين إلى استبعاد العودة إلى الحرب في غزة حتى لو بقي حكمُ حماس في القطاع، حيث يشير محلل الشؤون العربية في صحيفة يديعوت أحرونوت آفي إيسخاروف إلى انتشار عناصر كتائب القسام والأجهزة الأمنية المختلفة التابعة لحكم حماس في غزة، معتبرًا ذلك واحدًا من أهم الأهداف التي فشلت حكومة نتنياهو في تحقيقها خلال الحرب، لأنها لم تستطع القضاء على المقاومة في غزة، وأن مقاومةَ حماس باتت أمرًا واقعًا وسيكون على إسرائيل التعايش معها مجددًا.
وهذا ما علّق عليه تسيفي هاورز رئيسٌ سابق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، موضحًا أن إطلاق سراح نحو 2000 من الأسرى الفلسطينيين يعني أن حركة حماس سوف تحصل على نسخة جديدة من المقاتلين لتعويض القيادة التي فقدتها خلال الحرب.
من جانبه يربط غيورا أيلاند بين عودة سكان قطاع غزة إلى شمال القطاع وقوة حماس، لأنه يرى في تلك الخطوة المترتبة على اتفاق وقف إطلاق النار مصدرَ قوةٍ لحركة حماس، وأن هذه الأخيرة أصبحت تمتلك أوراق قوة على حد وصفه، وذلك لأن شنَّ إسرائيل لهجوم عسكري جديد أصبح أمرًا غير ممكنٍ في هذه الظروف.
وعليه يعتقد رونين بيرغمان، صحفي إسرائيلي في يديعوت أحرونوت، أن الوصول إلى هذا الاتفاق كان ممكنًا منذ سبعة أشهر سابقة، فإسرائيل لن تبقى لديها أيُّ فرصٍ للبقاء في غزة، وسوف تكون مضطرة للانسحاب الكامل من قطاع غزة لاحقًا بغضِّ النظر عن بقاء حماس من عدمه في حكم القطاع.
وبشكل عام، فمن الواضح أن حالة عدم اليقين بمستقبل قطاع غزة وبقاء حماس في الحكم أو كقوة مقاومة عسكرية تبقى غيرَ واضحةٍ وتحت المراقبة الإسرائيلية؛ فالأهدافُ الإسرائيلية المعلنة تتمثل في عدم بقاء المقاومة والسلاح في قطاع غزة، بينما تستند الانتقاداتُ الموجَّهة للحكومة الإسرائيلية إلى بقاء حكم حماس وسلاحها وانتشار عناصرها المسلحة بعد ساعات قليلة من الانسحاب الإسرائيلي من مناطق مختلفة في قطاع غزة.
لهذا يقول رفيف دروكر، محلل القناة 13 الإسرائيلية، إنه حتى لو بقيت حماس في نصف قطاع غزة فإن هذا الأمر غيرُ مقبولٍ بالنسبة لنتنياهو وحكومته، وهو أمرٌ مرفوضٌ لغالبية الإسرائيليين، وهذا ما يجعل سيناريو عودة الحرب أكثر منطقية وواقعية من تأسيس قوة سلام عبر إدارة دولية لقطاع غزة.
الجدل ما بين مصر والولايات المتحدة حول إدارة مرحلة الفراغ؛ فبينما تميل مصر إلى بقاء الفلسطينيين، تسعى الولايات المتحدة إلى استبعاد الكيانات القائمة وإخلاء القطاع أمام هيمنة لجنة دولية تحت مسمى مجلس السلام.
(2) الدور الإقليمي ومستقبل المقاومة
تشير التداعيات السياسية إلى أن عدوان إسرائيل على قطر شكّل نقطة انقلاب في التعامل مع قطاع غزة، فبعد وقتٍ قليلٍ من ضرب الدوحة، جرت أحداثٌ متسارعة كان من شأنها تسريع التفاهمات حول وقف الحرب.
وفي هذا السياق، كان اجتماع تحالف حل الدولتين وقدرته على نقل الملف إلى الجمعية العامة خطوةً مهمّة نحو انعقاد اجتماع شرم الشيخ في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2025، والانتقال السريع أيضًا إلى الدعوة لانعقاد قمة شرم الشيخ للسلام.
وفي هذا السياق، قدّمت قمة شرم الشيخ إطارين للقضية الفلسطينية؛ كان الأول تأكيدَ وجود تحالفين دوليين بشأن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وهو ما يشير إليه مشهدُ التوقيع على اتفاق شرم الشيخ، حيث تقف مصر وتركيا وقطر في مقابل الولايات المتحدة، وهو منظرٌ يلفت الانتباه إلى إعادة التوازن في التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية.
أمّا الثاني فتمثّل في أن بقاء الفلسطينيين في قطاع غزة تمّ بضمانةٍ دولية، وليس مجرّد تفاهماتٍ شفوية بين قادة الدول.
بالطبع، لا يضمن هذا الاتفاق التوصّلَ إلى وقف إطلاق النار بشكلٍ نهائيّ، لكنه وضع الأزمة على طريق الحل؛ فمن جهة، يشكّل كابحًا ضد تصرّفات إسرائيل، ومن جهةٍ أخرى أقام الأرضية اللازمة لبناء الظهير الإقليمي والدولي للقضية الفلسطينية والمقاومة، حيث باتت في اجتماع شرم الشيخ طرفًا مباشرًا في إمضاء الالتزامات الخاصة بالمرحلة التالية لوقف الحرب.
تبدو هذه النقطة على قدرٍ من الأهمية إذا ما ارتبطت بتطوير موقف فصائل المقاومة من الدول الداعمة. فبعد موافقة حماس على خطة ترامب، انكشفت فرصةٌ كبيرة لفتح قنوات اتصال وبناء الثقة مع العديد من الدول العربية التي أبدت ثقتها بمسؤولية الحركة تجاه المبادرات الدولية.
أوضحت العديد من بيانات الدول — السعودية والإمارات وباكستان وغيرها — ترحيبًا بموافقة حماس على بدء مسار وقف الحرب وقبولها بمشاركة فصائل المقاومة في اجتماع شرم الشيخ، ما يسمح بوجود أرضية لبناء الثقة مع هذه الدول.
وبينما تسعى مبادرة ترامب إلى استبعاد المقاومة من العملية السياسية ونزع سلاحها، كان موقف تركيا ومصر مختلفًا؛ إذ ارتكز على بقاء حماس ضمن الحلول الفلسطينية، سواء عبر المشاركة في الإطار السياسي أو ضمن مشروع حلّ الدولتين.
فقد ركّز الموقف المصري على أن يكون مستقبل حماس وفق تفاهمات الإطار الفلسطيني، وبحيث يكون التعامل مع سلاح المقاومة في إطار عمليةٍ لنقل تبعيّته إلى جهةٍ فلسطينية، وليس مصادرة الحقّ في امتلاكه.
وعلى مستوى الموقف من القوات الدولية، تكامل الموقفان المصري والتركي في أن تكون تحت إشراف مجلس الأمن، وليس «مجلس السلام»، حتى لا تتحوّل الأراضي الفلسطينية إلى منطقة نفوذٍ أمريكية أو تحت وصايتها.
على أيّة حال، لا يمثّل النجاح في تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق نهاية المطاف؛ فهناك الكثير من العُقَد السياسية والعسكرية التي تواجه الأطراف المختلفة.
فبينما تتوافق الأطراف الدولية على وقف الحرب، فإنها تختلف في الترتيبات الانتقالية والمآلات النهائية لعملية السلام.
ووفق الخطة الأمريكية، فإن وضع القطاع تحت وصاية «مجلس السلام» آليةٌ لا تضمن الوصول إلى الدولة الفلسطينية بقدر ما تعمل على تكريس الانفصال بين الأراضي الفلسطينية، كما هي أكثر انشغالًا بدمج إسرائيل إقليميًا استباقًا لتحديد الوضعية السياسية للكيانات الفلسطينية.
وعلى خلاف ذلك، تتبنّى المواقف المصرية والتركية أولوية الطابع الفلسطيني للحلّ السياسي في قطاع غزة، بحيث يدير الفلسطينيون المرحلة الانتقالية بطريقةٍ تضمن الوصول إلى الدولة الفلسطينية.
فقد رأت مصر استمرار حماس ضمن المرحلة الانتقالية تحت ولاية السلطة الفلسطينية.
وبشكلٍ عام، تعمل الوساطة المشتركة (مصر وتركيا وقطر) على تحسين شروط الانتقال بين مراحل ما بعد وقف إطلاق النار؛ كان منها إلزام الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بشروط التهدئة، غير أن انفلات حكومة الاحتلال والتلاعب الأمريكي، لتفهُّم مخاوف المقاومة ودعم العملية الانتقالية، بجانب ربط المضيّ في تنفيذ المبادرة الأمريكية (خطة ترامب) والدولة الفلسطينية بالسلام الإقليمي.
وفي ظلّ صعوبة تجنّب وجود خلافاتٍ في المرحلة القادمة، سوف تتوقّف القدرة على مقاومة الابتزاز الأمريكي باتهام المقاومة بعدم الالتزام بالاتفاق على تماسك مواقف الوسطاء واستجابة حماس لمتطلبات الانتقال عبر مراحل حتى إنهاء الحرب، وخصوصًا ما يتعلّق بالاستفادة من تمسّك الأطراف العربية والإسلامية بتجميد السلاح وبقاء الحركة ضمن الكيانات الفلسطينية، وهو ما يتوقّف على قدرة الفصائل على الاستجابة لمحاولات مصر والدول المؤيّدة للمقاومة لتوحيد الموقف الفلسطيني.
(3) مستقبل حماس في المشهد الفلسطيني
منذ اندلاع حرب الإبادة، تشهد الساحة الفلسطينية نقاشًا متواصلًا على مستويات متعددة حول مستقبل حركة حماس في إدارة قطاع غزة وموقعها في الكيان السياسي الفلسطيني بعد وقف الحرب. وقد ازداد هذا النقاش حدّةً مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وإعلان حركة حماس موافقتها المبدئية على التخلي عن إدارة القطاع، شريطةَ تسليمه إلى إدارة تكنوقراط فلسطينية، مع الرفض القاطع لأيِّ وجودٍ لقوةٍ دوليةٍ مؤقتة، باعتبار أن الملف شأنٌ وطنيّ داخليّ خالص.
وفي هذا السياق، تبدو أهمية مناقشة رؤى الأطراف الفلسطينية المختلفة تجاه مستقبل حركة حماس، سواء من حيث مشاركتها في الإدارة أو تمثيلها السياسي، فضلًا عن مواقف هذه الأطراف من أبرز الملفات ذات الصلة بإدارة قطاع غزة خلال المرحلة المقبلة.
تخلّي حماس عن إدارة غزة
تشير ردودُ الحركة على الخطة الأمريكية إلى أنه، ومع مضيِّ الوقت، صارت الحركة أكثر إدراكًا من أيِّ وقتٍ مضى لتعقيدات المشهد الراهن في ظلّ عاملين: الضغوط الداخلية والإقليمية للدفع نحو إنجاز تفاهمٍ شامل، فضلًا عن الضغط الأمريكي والإسرائيلي غير المسبوق على المستويين الميداني والسياسي. واستجابت الحركة لهذا المناخ المعقّد فقبلت بالتخلّي عن إدارة القطاع.
ويعكس هذا التحوّل مسعى قيادة الحركة إلى تجنيب المقاومة مزيدًا من الاستنزاف الميداني والسياسي، في ظلّ تراجع جدوى استمرار الحرب والحرص على العناصر المتبقية من قوّتها العسكرية والتنظيمية لإعادة بسط نفوذها الأمنيّ مرّةً أخرى، ما قد يمكّنها من الانفتاح على أيّ تفاهماتٍ في سياق مفاوضات شرم الشيخ المستمرّة لتثبيت وقف إطلاق النار أو التوصّل إلى تسويةٍ وطنيةٍ شاملة في الفترة المقبلة.
تتبنّى حركة حماس مقاربةَ إعادة التموضع تجاه مقترحات إقصائها من المشهد، بحيث وافقت على إدارةٍ مدنيةٍ انتقاليةٍ من التكنوقراط تحظى بتوافقٍ وطنيٍّ ودعمٍ إقليميّ، مع الاحتفاظ بتواجدها في المكوّن السياسي الفلسطيني. وبهذا، تتحوّل غزة من مساحةِ حكمٍ مباشر إلى ساحةِ ترتيبٍ سياسيّ مفتوح على تفاهماتٍ جديدة، تعيد رسم معادلة ما بعد الحرب وموقعَ حماس داخلها.
مقاربة البقاء في المشهد الأمني
تسعى حركة حماس، من خلال تحرّكاتٍ ميدانيةٍ منسّقة لعناصر أمن المقاومة وعناصرها الأمنية في مختلف محاور مدينة غزة عقب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، إلى استعادة زمام السيطرة الأمنية وترسيخ حضورها الميداني، ولو مؤقتًا في المرحلة الانتقالية الراهنة، للتغلّب على حالة الفراغ الأمني التي رافقت حرب الإبادة.
وتُقرأ هذه التحرّكات لا بوصفها إجراءاتٍ تنظيميةً فحسب، بل كجزءٍ من مقاربةٍ للبقاء في المشهد الأمني وضمان امتلاك ورقة الوجود الميداني في مواجهة التهميش، وعلى رأسها تفشّي سعي بعض المجموعات المسلحة إلى اختراق المشهد الأمني في غزة.
فمع توقّف العمليات العسكرية، انتقل الصراع من الإطار العسكري إلى إطار الأمن الداخلي؛ إذ يسعى الاحتلال إلى إبقاء القطاع في حالة فوضى منظّمة عبر توجيه الميليشيات المسلحة التي تتبعه لتصفية كوادر المقاومة الذين لم يتمكّن من اغتيالهم طيلة فترة الحرب.
وهذا ما دفع المقاومة إلى توظيف ما تبقّى من إمكاناتها العسكرية للتعامل مع هذه الظاهرة وإجهاض مخطّط الفوضى، في معادلةٍ تجمع بين الحاجة إلى استعادة السيطرة الأمنية وتجنّب الانجرار إلى صدامٍ داخليٍّ واسع، لا سيّما وأنّ استمرار حالة الفلتان الأمني يهدّد قدرة الحركة على إدارة الملفات الإغاثية في المرحلة الانتقالية، ويؤثّر مباشرةً على إتمام تفاهمات أيّ اتفاق مصالحةٍ محتمل خلال الفترة المقبلة.
وبشكلٍ عام، تسعى حماس، من خلال هذا الانفتاح، إلى إعادة التموضع السياسي بطريقةٍ مختلفة، تضمن استمرار حضورها في أيّ ترتيباتٍ تخصّ الكيانَ الفلسطينيّ ما بعد الحرب، دون الظهور في الواجهة الإدارية للقطاع. ويتجلّى ذلك في استعدادها للتفاعل مع مقترحاتٍ تمنح إدارة غزة لهيئةٍ فلسطينيةٍ مستقلة، بشرط أن تبقى خاضعةً للإرادة الوطنية لا لوصايةٍ أجنبيةٍ أو تحكّمٍ إسرائيليّ مباشر.
مقاربة السلطة الفلسطينية (سلطة واحدة وسلاح واحد)
تستند مقاربة السلطة الفلسطينية تجاه مستقبل حركة حماس إلى رؤيةٍ تهدف إلى استعادة وحدة النظام السياسي إداريًا وجغرافيًا تحت مبدأ «سلطة واحدة وسلاح واحد». وترفض القيادة الفلسطينية أيَّ ترتيباتٍ تُفضي إلى تدويل إدارة غزة، باعتبارها مساسًا بمسار حلّ الدولتين.
ورغم الترحيب الأولي بخطة ترامب التي تجاهلت عودة السلطة إلى القطاع، أكدت القيادة استعدادها لقبول مرحلةٍ انتقاليةٍ قصيرة تمهّد لعودتها دون وصايةٍ بديلة أو إدارةٍ موازية. وقد أثار هذا الموقف انتقاداتٍ داخليةً في أوساط فتح، لكون تلك الخطة تُقصيها عن إدارة القطاع بخلاف توجّه السلطة ومخرجات المسار الدولي والاعترافات الغربية الأخيرة.
ورغم إصرار القيادة الفلسطينية على بسط ولايتها على القطاع، فإنها تُدرك أن استعادة غزة تظلّ معقّدةً سياسيًا وأمنيًا بفعل تعقيدات الدور الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا المُعرقِل لعودة السلطة، وهو ما لا يقلّ صلابةً عن رفض بقاء حماس في الحكم؛ إذ أعلن نتنياهو مرارًا رفضه لسيطرة أيٍّ من الطرفين، مقترحًا بدائل تتراوح بين الاحتلال المباشر أو إدارةٍ دوليةٍ للقطاع.
ولذلك، تُبدي قيادةُ السلطة انفتاحًا مشروطًا لدمج حركة حماس في الكيان السياسي الفلسطيني، بشرط إعادة هيكلتها بما يضمن اندماجها داخل منظمة التحرير، وبما يضمن احتكار القرار السيادي بيد سلطةٍ واحدة قادرة على تمثيل الكيان الفلسطيني في أي مسارٍ سياسيٍّ دوليٍّ يقود إلى تسويةٍ نهائية.
نقاش وطني حول إدارة غزة وملف السلاح
ترتبط استجابة حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية لترتيب الأوضاع الداخلية في قطاع غزة بادراكها ضرورةَ تجاوز الترتيبات الأمريكية والإسرائيلية الأحادية التي تستهدف إعادة صياغة المشهد الفلسطيني.
وفي ظلّ التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر فلسطيني شامل في القاهرة، برعايةٍ مصريةٍ وبدعمٍ عربيٍّ واسع، تتوافق الفصائلُ المسلحة — وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي — على إنجازِ تفاهمٍ وطنيٍّ شاملٍ يُعيد ترتيب البيت الفلسطيني عبر دعم تشكيل هيئةٍ إداريةٍ مدنيةٍ لإدارة القطاع، وهو ما أكّد عليه عضوُ المكتب السياسي ومسؤولُ العلاقات الوطنية في حركة حماس حسام بدران.
وفي الاتجاه ذاته، تتزايد قناعةٌ داخل حركة فتح والسلطة الفلسطينية بضرورة إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وإصلاح مؤسساته على قاعدة الشراكة لا التفرّد، استجابةً لضغوطٍ إقليميةٍ ودوليةٍ متناميةٍ تطالب بإعادة هيكلة المشهد الفلسطيني.
وتؤكّد قيادةُ السلطة استعدادها لإطلاق عملية إصلاحٍ شاملةٍ تشمل مؤسسات منظمة التحرير وتوسيع عضويتها لتضمّ حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بعد إعادة هيكلتهما بما يواكب متطلبات «اليوم التالي للحرب»، ويضمن تشكيل قيادةٍ موحّدة لإدارة غزة ضمن الإطار السياسي الفلسطيني العام.
ويعكس هذا التوجّه تحوّل السلطة من نهج الإقصاء إلى نهج الاحتواء، في محاولةٍ لتكريس وحدة القرار الوطني وتعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني الموحّد.
وعلاوةً على ذلك، تُبدي حماس مرونةً سياسيةً تجاه القضايا الخلافية الكبرى، وعلى رأسها ملفُّ السلاح وترتيباتُ الأمن الداخلي؛ إذ أبدت انفتاحًا على مناقشة آلياتٍ وطنيةٍ وعربيةٍ مشتركةٍ تضمن بقاء السلاح في عهدةٍ فلسطينيةٍ منضبطةٍ بعيدًا عن الضغوط الإسرائيلية، مع القبول بتشكيل قوّةِ شرطةٍ وطنيةٍ تحت إشرافٍ فلسطيني–عربيٍّ لتولّي مهامِّ الأمن في غزة.
وتأتي هذه المواقف في إطار محاولةٍ واعية لإفشال المساعي الأمريكية والإسرائيلية الهادفة إلى فرض إدارةٍ أمنيةٍ بديلةٍ أو تجريدِ الفصائل من دورها السياسي والأمني.
وفي ما يتعلّق بملف السلاح؛ فمن اللافت عدمُ ممانعةِ حماس لمناقشة ترتيباتِ وضعِه في سياق نقاشٍ وطنيٍّ شامل، سواء عبر تسليمه إلى جهةٍ فلسطينيةٍ موثوقةٍ أو إدماجه في بُنيةٍ أمنيةٍ وطنية، بما ينسجم مع الطرح العربي القاضي بوضع السلاح تحت إشرافٍ فلسطيني–عربيٍّ مشترك، لا انتزاعِه بالقوة.
ولذلك، تُصرّ حماس على تأجيل بحث ملفَّي السلاح والإدارة إلى مراحل لاحقة، في محاولةٍ للمناورة السياسية بما يدعم بقاءها في المشهد السياسي لا الإداري، بناءً على تفاهماتٍ داخلية.
مفاوضات شرم الشيخ ومحطة إعادة الترتيب الفلسطيني
وعلى أيِّ حالٍ، تبدو مفاوضاتُ شرم الشيخ محطةً مهمّةً في مسار القضية الفلسطينية، بما تحمله من فرصٍ وتحدياتٍ متداخلةٍ في آنٍ واحد؛ فبينما يلوح في الأفق أملٌ واقعيٌّ بتثبيت اتفاقٍ شاملٍ لوقف إطلاق النار، يظلّ جوهرُ الصراع مرتبطًا بقدرةِ الفلسطينيين على تحويل تلك المخرجات المرحلية إلى مكسبٍ وطنيٍّ استراتيجيٍّ يُعيد رسم ملامح المشهد الفلسطيني على أسسِ الشراكة والسيادة الموحّدة.
وفي هذا السياق، تُدرك الفصائل — وفي مقدّمتها حماس والجهاد الإسلامي — أن تثبيت اتفاق غزة لا يمكن أن يُختزل في معادلةٍ أمنيةٍ مؤقّتة، بل يجب أن يكون مدخلًا لترتيبٍ وطنيٍّ شاملٍ يعيد توحيد القرار الفلسطيني ويحصّن مكتسبات المقاومة ضمن رؤيةٍ جامعةٍ توازن بين الواقعية السياسية والثوابت الوطنية في سياق الجهود الدولية الواسعة.
وبشكلٍ عام، يرتبط مستقبلُ حركةِ حماس في المشهد الفلسطيني بطبيعةِ مخرجات المداولات الوطنية ومدى استجابةِ الداعمين لها، حيث تكون أمام خيارين:
فإمّا أن تتعثّر الجهودُ وتبقى غزةُ أسيرةَ تجاذباتٍ داخليةٍ وضغوطٍ خارجيةٍ تُعيد إنتاج الأزمة،
وإمّا أن تنجح الأطرافُ في تأسيس صيغةِ شراكةٍ جديدةٍ تُنهي الانقسام وتؤسّس لحُكمٍ رشيدٍ قائمٍ على التوافق والمسؤولية، فيتحوّل إنهاءُ الحرب إلى نقطةِ انطلاقٍ نحو الوحدة وبناءِ الدولة، والاستفادةِ من مؤشّراتِ اتّساع مساحةِ التوافق الفصائلي ومرونةِ المقاربة الإقليمية، ممّا يمنح نافذةَ أملٍ واقعيةً بأنّ الفلسطينيين اليوم أقربُ من أيِّ وقتٍ مضى إلى استعادةِ زمامِ قرارهم الوطني، إذا تمكّنوا من إدارةِ التحديات الراهنة بشكلٍ يتجاوز الحساباتِ الفصائلية الضيّقة.