غاز قطاع غزة: بين المصالح الاقليمية والمحاذير السياسية
تمهيد
كشف موقع المونيتور الأمريكي في التاسع من أكتوبر الجاري عن نجاح الجهود المصرية في اقناع إسرائيل بالسماح للسلطة الفلسطينية بالبدء في استخراج الغاز الطبيعي من الحقل الواقع على نحو 36 كيلو متر قبالة سواحل قطاع غزة، مشيراً إلى توصل الجانبان المصري الإسرائيلي إلى اتفاق بعد محادثات ثنائية استمرت لعدة أشهر، على أن يكون عام 2024 موعداً فعلياً لاستخراج الغاز الطبيعي.
يعود تاريخ تلك الاكتشافات لعام 1999، حيث وقعت السلطة الفلسطينية مع الشركة البريطانية “بريتيش غاز” وشركة اتحاد المقاولين CCC المملوكة لمستثمرين فلسطينيين اتفاقاً ترتب عليه بدء عمليات البحث والتنقيب والتي لم تستغرق طويلاً من قبل الشركتين المطورتين. أدى ذلك إلى اكتشافات مهمة عام 2000، حيث تم الإعلان عن حقلي غاز “مارين – مارين 2” بعمق 600 متر تحت سطح البحر.
بسبب القيود الإسرائيلية انسحبت الشركة البريطانية من الاتفاق، وهو ما مهد الطريق للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيغاس” التي أصبحت طرفاً أساسياً بعد توقيع الاتفاق مع الأطراف الفلسطينية الأخرى في فبراير من عام 2021.
منذ ذلك الحين، بدأت المفاوضات المصرية الإسرائيلية، وهو ما تم الإعلان عنه مؤخراً، خاصةً إذا ما علمنا أن تفاصيل الاتفاق بين الأطراف المُختلفة لم يتم الإعلان عنها تفادياً للاتهامات التي وُجهت للسلطة الفلسطينية بعد توقيع الاتفاق السابق مع الشركة البريطانية، والتي كانت تستحوذ على أكثر من 60% من قيمة التعاقد، بينما تستحوذ الشركة الفلسطينية الخاصة على نحو 24%، ويتبقى نحو 16% فقط للسلطة الفلسطينية، وهذا ما يُفسر غياب أي معلومات حول الاتفاق مع الشركة المصرية.
ولعل ما يهم في هذا المقام هو توقيت الإعلان المصري عن إقناع الجانب الإسرائيلي ببدء الخطوات العملية بشأن الاتفاق، فتوقيت الإعلان يأتي بالتزامن مع حوارات المصالحة الفلسطينية في الجزائر، ويسبق توقيع الجانبين الإسرائيلي واللبناني لاتفاق ترسيم الحدود البحرية، وسعي دولة الاحتلال للاستفادة من الظرف التاريخي المهم، أو التحول في النظام الدولي بسبب الحرب في أوكرانيا والطلب الغربي المتزايد على الغاز، وحاجة إسرائيل لتكوين شراكات اقتصادية وأمنية في المنطقة تمكنها من لعب أدوار على حساب الأطراف الإقليمية الأخرى. وتلك المحاور سيتم نقاشها بشيء من التفصيل في ضوء الإعلان عن موافقة إسرائيل للتنقيب المصري عن غاز قطاع غزة.
توقيت الإعلان، والمغزى الاسرائيلي
ثمة الكثير من المتغيرات الدولية التي طرأت مؤخراً بحاجة لتوضيحها قبل التطرق للعمقين المحلي والإقليمي. كانت أحد أهم عوامل استقرار إسرائيل سابقاً الحصانة السياسية والعسكرية الأمريكية التي تتمتع بها، سواء من خلال الدعم السنوي المباشر أو من خلال توجيه النظام السياسي العربي بما يخدم المصالح الأمنية الإسرائيلية. ومؤخراً باتت هذه المعادلة مهدده، حيث يعبر الكاتب الصهيوني شول فيرليتش عن ذلك بشكل صريح في مقاله المنشور بصحيفة هأرتس العبرية بتاريخ 12 أكتوبر الجاري، حيث يتساءل الكاتب عن إمكانية اعتماد إسرائيل على ذاتها بعيداً عن المساعدات الاقتصادية والعسكرية الامريكية، خاصةً وأن المخاطر والمهددات التي ارتبطت بهذه المساعدات الأمريكية لم تعد قائمة، غير أن هذه التساؤلات لها ما يُبررها، لأن التحولات العالمية كان لها تأثير على نفوذ ومصالح الولايات المتحدة، فلا يمكن تجاهل تزايد الصدام الصيني الأمريكي، ومحاولة كل طرف استقطاب تحالفات مختلفة لحماية مصالحه.
كما أن الصراع الدولي الجاري في أوكرانيا بات يوضح عمق الصراع السياسي بين روسيا والولايات المتحدة أو الصين والولايات المتحدة، وهذا من شأنه أن يظهر مزيداً من العجز السياسي الأمريكي، ولعل خير دليل على ذلك قيام ” أوبك بلس” بخفض إنتاجها. وسواء قلنا بأن ذلك نتيجة تحالف سعودي روسي مشترك للضغط على الولايات المتحدة والغرب أو بسبب متغيرات تتعلق بضعف قدرة الولايات المتحدة على ممارسة دورها المعتاد كشرطي للعالم. فولي العهد السعودي عقب أزمة خاشقجي اندفع بصورة صريحة لتوطيد علاقته مع روسيا، وهذا الأمر انعكس على علاقة السعودية مع الولايات المتحدة، وهذا ما دفع الأخيرة قبل ساعات من كتابة هذا المقال إلى الإعلان عن إعادة تقييم علاقاتها مع المملكة العربية السعودية.
ولا شك في أن هذه التحولات المهمة سوف تنعكس على دور إسرائيل في المنطقة. خلال زيارة بايدن الأخيرة للسعودية في شهر يوليو الماضي 2022، بذلت إسرائيل جهوداً كبيرة للترويج لإنشاء “نظام دفاعي مشترك” مع دول الخليج واستثمرت الضغط الأمريكي في ذلك لإنشاء تحالف “ناتو شرق أوسطي” لكن هذا الخيار فشل، لأسباب تتعلق برفض خليجي للفكرة، لأن إسرائيل تريد استثمار حيز الصراع الخليجي مع إيران لتحقيق مصالح خاصة بها، وربما جر المنطقة لمربع الحرب.
لذا يمكن القول أن هذه الخطوة أعطت لإسرائيل تصور واضح عن طبيعة وحدود العلاقات مع الدول الخليجية، ومدى تأثرها بالقوة الأمريكية.
في سياق مختلف، بالرغم من انضمام الجيش الإسرائيلي لقوة سنتكوم التابعة للقيادة المركزية الأمريكية في البحرين ومشاركتها في اجتماعات رؤساء الأركان العرب في مصر برعاية أمريكية، إلا أن تل أبيب لم تنجح في إيجاد مساحة عمل قوية وسليمة لها، لذلك تيقنت أن ضعف الموقف الأمريكي على المستوى الدولي سيتبعه ضعف لموقفها في التعاطي مع مُحيطها، وهذه هي أهم عوامل التحرك الإسرائيلي سواء مع غزة أو لبنان.
من جانب أخر، تحاول إسرائيل إطفاء النار التي تحيط بها لإيجاد بيئة غير مهددة لمستقبلها من خلال أدوات التطبيع الاقتصادي والسياسي، لأنها تعي أن إضعاف روسيا سينعكس بالتأكيد على دور إيران في المنطقة، لذلك هي تحاول الوقوف على الحياد لاسيما عقب قرار روسيا إغلاق الوكالة اليهودية.
لذلك فإن إسرائيل قلقة من الأزمة الحالية التي تضرب الكتلة الغربية، وتحاول وضع أسس لمتغيرات قد تشهدها المنطقة انعكاساً للوضع في العالم الغربي. يُضاف إلى ذلك صعود اليمين في السنوات الأخيرة، وتنامي نبرة العداء للخطاب الصهيوني في الغرب، وارتفاع الخطاب القومي، وتلك كلها مهددات للدعم الغربي والأوروبي الذي اعتادت عليه إسرائيل.
بناءً على كل المعطيات السابقة، ربما تسعى إسرائيل لإنهاء بعض الملفات المهمة، لاسيما ملف الغاز مع لبنان وقطاع غزة، أملاً في ترتيب وضعها قبل مواجهة نتائج الصراع الدولي القائم.
اتفاق الغاز والملف الفلسطيني الداخلي
أيقنت إسرائيل خلال جولات صراعها الأخيرة مع الشعب الفلسطيني ومحيطها أن استفادتها الفعلية من حقول الغاز في المتوسط لن تتم دون إزالة تهديدات المقاومة، لاسيما وأن الأخيرة تمتلك طائرات بدون طيار متفجرة وغيرها من أدوات الاستهداف العسكري المتطورة بصورة متواصلة، وهذا ما يجعلها أكثر تحفزاً لإنجاز الاتفاق مع الجانب اللبناني، حيث يعترف سمير جعجع بفضل تهديدات حزب الله في إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلي.
وإذا كانت إسرائيل ترى أنها بحاجة لمسار سياسي بصبغة اقتصادية يضمن الهدوء في الأراضي الفلسطينية، فإن توقيت الإعلان عن الاتفاق المصري الإسرائيلي بشأن غاز غزة يأتي بالتزامن مع حوارات الجزائر، وهو ما يُمكن أن يُفهم فلسطينياً أنه عقبه جديدة أمام الفرقاء الفلسطينيين، لأن الإعلان عن اتفاق الغاز بين الجانبين المصري الإسرائيلي لم يراعي وجود حكومة فلسطينية شرعية في قطاع غزة. وهنا قد يكون أمام حركة حماس تبني أحد الموقفين، رفض أي خطوة بشأن التنقيب عن غاز غزة قبل تحقيق المصالحة، أو الاندفاع نحو القبول بالشراكة مع حركة فتح في حكومة مشتركة، بغض النظر عن الملفات الأكثر أهمية المتعلقة بإصلاح منظمة التحرير ومجالسها المختلفة، والانتخابات التشريعية والرئاسية.
لهذا فإن المتتبع لتطورات الحوارات الجارية في الجزائر يدرك تماماً أن صيغة الحلول التي نُشرت مُعتادة وإنشائية، ولا تُعبر عن برنامج عمل واضح محدد تاريخياً وبآليات واضحة، وهذا ما يقودنا إلى أن أقصى ما يمكن أن تخرج به حوارات الجزائر، الاتفاق على حكومة مشتركة، وهو مطلب إقليمي قبل أن يكون مطلب فتحاوي، ويمكن البناء عليه في مشاريع غاز قطاع غزة.
فرص نجاح اتفاق غاز غزة
تؤكد جميع المعطيات صعوبة تطبيق مثل هذا الاتفاق المُعلن، إلا إذا كان هناك ثمة مشروع أممي يشبه مشروع الإعمار يمكنه أن يتبني تنفيذ هذا المشروع، لكن على أرض الواقع تقول التجربة الفلسطينية مع الاحتلال إن القنوات المالية دائماً ما تواجه برقابة وعرقلة شديدة من طرف إسرائيل، لذلك يمكن القول أن ترويج الإقليم وإسرائيل لهذا الملف هدفه زيادة الانقسام الفلسطيني، وذلك بالتزامن مع ضعف السلطة الفلسطينية، وحاجتها لمسار جديد يضمن لها الهدوء والاستقرار الاقتصادي، وهذا يصعب تصوره دون وجود الفصائل الفلسطينية ضمن المعادلة، لاسيما حركة حماس.
إذا كان الإقليم جاداً في عملية تنفيذ هذا المشروع، سيكون معنياً بمنح حركة حماس فرصة مناسبة من شأنها أن تخفف من حصار غزة، غير أن المخاوف هنا تكمن في سعي الإقليم للقيام بعملية الاشراف على هذه الثروة وعوائدها المختلفة، حينها لا يُستبعد وجود اشتراطات وقيود أمنية وسياسية تفرضها إسرائيل والاقليم مقابل أموال الغاز، وهذا ما يمكن أن يكون إنجازاً بالنسبة لإسرائيل التي ستضيف شروط أموال الغاز إلى جملة من الشروط السابقة على المقاومة في غزة.
على الجانب الأخر، فالأطراف الإقليمية الأخرى لا تنتظر من الأطراف الفلسطينية أي جديد على مستوى انهاء الانقسام في الجزائر، ولا يُستبعد أن يلعب الإقليم دوراً مُعطلاً أو غير داعم لاي صيغة توافقيه، لأن الملف الفلسطيني يجوب كافة دول المنطقة ثم يعود إلى مصيره المحتوم في القاهرة. لكن تبقى محاولة استفادة الأخيرة اقتصادياً من ملف غاز غزة عاملاً مشجعاً لتطبيق الاتفاق، وإن كانت العقبات السياسية والأمنية أكبر من مستوى الطموحات الاقتصادية.
الموقف والمسار الفلسطيني الأنسب
يحتاج التحرك الفلسطيني في هذا الملف إلى معادلة سياسية يمكن قبولها على المستوى الإقليمي، ودون أن يكون لها تداعياتها الداخلية، خاصةً وأن الموقف الفلسطيني الداخلي المنقسم يتم استغلاله داخلياً وإقليماً، وهذا ما يفرض على فصائل المقاومة توظيف هذا الملف بشكل معاكس لا يرفض الطرح، لكنه يركز على جعله ضمن حقوق الشعب الفلسطيني المكفولة بالقانون الدولي الأكثر وضوحاً من قرارات الشرعية الدولية.
فمنظمة التحرير الفلسطينية هي من سبق لها أن وقعت هذا الاتفاق، وهي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهذا ما ينبغي على الفصائل الفلسطينية التمسك به، مع ضرورة أن التمسك بإصلاح مجالس المنظمة قبل أي خطوة في هذا الشأن.
من شأن هذا الموقف الفصائلي الصحي أن يُعيق أي محاولات أو قيود جديدة سوف تسعى إسرائيل لفرضها، خاصةً وأن هذا المسار من شأنه أن يجنب الفصائل الفلسطينية الانتقادات الداخلية في حال رفضت هذا الطرح، كمحاولة لاتهامها بالمشاركة في حصار غزة، وفي نفس الوقت يقوض من محاولات تجاهل إصلاح منظمة التحرير وتجاهل تجديد الشرعيات التشريعية والرئاسية والاكتفاء بحكومة فلسطينية مشتركة.
إذا كانت العوائد الاقتصادية لغاز قطاع غزة كفيله بإنهاء العديد من الازمات الاقتصادية التي تواجهها السلطة الفلسطينية، فإن على الفصائل الفلسطينية استغلال هذا الأمر كعامل مساند وقوي لتحقيق المصالحة الفلسطينية، وليس العكس.