
الوصاية الأمريكية على “اسرائيل” في المنظورين الفلسطيني والإقليمي
تتواصل التصريحات الأمريكية التي توحي بممارسة ضغوط على حكومة الاحتلال للالتزام بمخرجات اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار و منع أي محاولات لإفشاله، لا سيّما مع بروز مساعٍ “إسرائيلية” لتثبيت معادلة الخروقات الميدانية المتتالية على نحوٍ يُحاكي نموذج جنوب لبنان، في محاولةٍ لانتزاع استحقاقٍ ميداني يُتيح لقوات الاحتلال الاستمرار في بناء وضعٍ هش. على الجانب الأخر، تتلاقى حركة حماس والوسطاء على إفشال مسار حكومة الاحتلال، لتكون المواقف قريبة من المساعي الأمريكية للانتقال الى مراحل التالية من اتفاق وقف اطلاق النار رغم الخروقات والانتهاكات “الاسرائيلية”.
وفي هذا الإطار، يناقش التقرير، طبيعة الاتصالات الأمريكية ـ الإسرائيلية فيما يتعلق بالالتزام باتفاق شرم الشيخ، كما يتناول قراءة الأطراف الفلسطينية لجدوى الضغوط الأمريكية، وأخيراً، تسعى لرصد ملامح استراتيجية الوسطاء الإقليميين تجاه احتمالات الجدية الأمريكية أو تراخيها.
- إسرائيل والوصاية الأمريكية
باتت زيارات المسؤولين الأمريكيين المكثفة الى “إسرائيل” محل انتقاد كبير ودائم على مستوى وسائل الإعلام والكثير من أقطاب المعارضة، ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية أن نحو 69% من الإسرائيليين يعتقدون أن “إسرائيل” أصبحت تحت الوصاية الأمريكية، حتى على مستوى تجدد العمليات العسكرية على قطاع غزة فيرى 67% من المستطلعة آرائهم أن الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة القرار في ذلك وليس حكومة نتنياهو.
موقف حكومة نتنياهو
لم تكن الانتقادات الداخلية الموجهة لحكومة اليمين الإسرائيلي بشأن التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الإسرائيلية وليدة اللحظة، أو بمعنى أخر لم يكن التدخل محصوراً في خطة ترامب لوقف الحرب على غزة، كما أن الشعور الإسرائيلي بالوصاية الأمريكية لا يقتصر على المعارضة الإسرائيلية فحسب، لأن الجميع، بمن فيهم نتنياهو، يواجهون هذه المشكلة، وقد حاول نتنياهو التعبير عن اعتراضه في 22 أكتوبر 2025 بالقول “نحن لسنا محمية أمريكية، في أسبوع يقولون أن إسرائيل تسيطر على الولايات المتحدة، وفي الأسبوع التالي يقولون أن الولايات المتحدة تسيطر على إسرائيل”، واصفاً ذلك بالهراء.
وبالرغم من دفاع نتنياهو عن موقف حكومته في مواجهة الانتقادات الإعلامية، إلا أنه عاد بعد يومان فقط ليؤكد على أن إسرائيل دولة مستقلة، والولايات المتحدة دولة مستقلة، ونحن نعمل بالتنسيق معها دون أن يكون لها تدخل في قراراتنا. وفي إطار النقاشات الجارية بشأن القوات الدولية في غزة، حاول نتنياهو الدفاع عن موقف حكومته، وسيادة “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية، مؤكداً على أن الحكومة الإسرائيلية هي من تتحكم فقط في أمنها، وأن “إسرائيل” هي من تقرر القوات الدولية وليس الولايات المتحدة.
موقف المعارضة الإسرائيلية
من جانبها تبارك قيادات المعارضة الإسرائيلية التحركات الأمريكية باعتبارها الطريق الوحيد لوقف الحرب واستعادة كافة الرهائن الإسرائيليين، لكنها في الوقت ذاته تُبدي تحفظاً على السلوك الأمريكي وتداعياته السلبية على الوضع السياسي والمؤسستين الأمنية والعسكرية في “إسرائيل”، فمن جانبه يؤيد يائير لبيد تلك التوجهات الأمريكية، لكنه يؤكد على أن تطبيق كافة بنود الاتفاق لا يجب أن يكون تنازلاً عن مسألة السيادة الإسرائيلية، وذلك في إشارة الى التدخل الأمريكي المباشر والقوات الدولية، كما يُبدي بني غانتس دعمه للجهود الأمريكية، لكنه يشدد على أن تبقى المسائل الأمنية الإجرائية بيد المؤسسات الإسرائيلية، وأن لا تضعف الإجراءات أو الترتيبات الأمريكية أو الدولية من قدرات الدفاع والرد الإسرائيلي.
وبشكل عام، تركز تصريحات أقطاب المعارضة على الشق العسكري والأمني، ولا تتطرق إلى الشق السياسي بشكل كبير في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، لكن هذا ما يظهر بشكل واضح في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعلى مستوى الرأي العام الصهيوني، حيث تقول الكاتبة الإسرائيلية كارولينا لاندسمان في صحيفة هآرتس إن من يعتقد أن الوجود الأمريكي الجديد في المنطقة يقتصر على إدارة قطاع غزة عليه إعادة النظر في ذلك، لأن الولايات المتحدة تمارس سيادة فعلية داخل “إسرائيل”، فيما تكتفي حكومة نتنياهو بسيادة رمزية وخطابية على حد وصفها. وهنا تقارن الكاتبة الإسرائيلية بين تصويت الكنيست الإسرائيلي على خطوة ضم الضفة الغربية باعتبارها توسيع للسيادة الإسرائيلية على المزيد من الأراضي الفلسطينية، والمقر العسكري الأمريكي المقام حديثاً في كريات غات من أجل الإشراف على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، معتبرة مسألة ضم الضفة الغربية مجرد مسألة شكلية رمزية لا يتم تطبيقها على أرض الواقع، وهنا تقتبس الكاتبة من تصريحات نائب الرئيس الأمريكي الذي علق على قرار ضم الضفة الغربية بالقول، إذا أراد الناس إجراء تصويت رمزي، فبإمكانهم ذلك.
تعبر الصحف الإسرائيلية عن التدخل الأمريكي بالقول، أن الولايات المتحدة تلعب الدور الأبوي تجاه إسرائيل، وذلك استناداً للكثير من التصريحات الأمريكية، وحضور المستشارين والضباط الأمريكيين لاجتماعات الحكومة الاسرائيلية ومتابعتهم اليومية لتفاصيل القرارات الميدانية والسياسية، وهو ما يعتبره الرأي العام الإسرائيلي انتقاصاً من السيادة الإسرائيلية، ونوعاً جديداً من الوصاية الأمريكية على “إسرائيل”.
لهذا عبرت أحزاب زيهوت، وحركة مسيرة الأمهات، بشكل عملي عن اعتراضهم على الوصاية الأمريكية عبر خروجهم في مسيرات حاشدة في 2 نوفمبر 2025، حيث توجه هؤلاء الى القاعدة العسكرية الأمريكية الجديدة في كريات غات، وقد علق موشيه فيجلين أحد قيادات المستوطنين المتطرفين بالقول، أن دعوة القوات الأجنبية الى المقر اليهودي السيادي تنتهي دائماً بالهلاك، وقد طالب المتظاهرون الحكومة الإسرائيلية بضرورة إعادة السيطرة الكاملة على حدود البلاد، مؤكدين على أنه لن تنتصر دولة لا تسيطر على حدودها.
من الواضح ان النقد الموجه من المعارضة الاسرائيلية الى حكومة نتنياهو ليس ذي أبعاد حزبية، في اطار التنافس الانتخابي، بقدر ما تعبر عن حالة من القلق الاسرائيلي العام تجاه التدخل الأمريكي. أي أن المعارضة الاسرائيلية لا تستخدم مسألة التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الاسرائيلية في إطار الصراع الحزبي، بل تتفق مع حكومة اليمين على خطورة هذا التدخل. في الوقت ذاته لا ترغب في الصدام مع الادارة الامريكية، و تكتفي بتوجيه اعلامها لرفض هذا التدخل دون التعبير الصريح عبر قيادات المعارضة السياسية عن رفضها للموقف الأمريكي.
لا يبدو أن تلك الاتهامات الموجهة من المعارضة الى حكومة اليمين ذات أبعاد حزبية أو متأثرة بالقاعدة الانتخابية، بقدر ما تُعبر عن قلق عام لدى الأقطاب السياسية في إسرائيل، لأن الحكومة الإسرائيلية تعبر من وقت لأخر عن موقفها الرافض للتدخل الأمريكي، و بالموازاة مع ذلك تبرر موقفها لدى الرأي العام والمعارضة الإسرائيلية، بينما هذه الأخيرة تُبدي تخوفها من التدخل الأمريكي بشكل ناعم دون الصدام مع الإدارة الأمريكية، وذلك بهدف الحفاظ على علاقاتها بالرأي العام الإسرائيلي.
2 ) الأطراف الفلسطينية وجدوى الضغط الأمريكي على حكومة الاحتلال
على المستوى الفلسطيني، عاد النقاش حول جدوى الضغط الأمريكي على حكومة الاحتلال في تثبيت وقف إطلاق النار إلى الواجهة مُجدداً، خاصةً مع تداول تصريحات رسمية إسرائيلية حول توجه إسرائيلي لانتزاع استحقاقٍ يتيح لقواتها حرية العمل العسكري داخل قطاع غزة في حال استشعار أي خطر أمني.
ويبرز في هذا السياق ملف تفكيك سلاح المقاومة الذي تحاول الفصائل الفلسطينية تأطيره بتفاهمٍ وطني مُلزم يُبقيه بعيداً عن أي مقترحاتٍ خارجية. وفي المقابل، تتصاعد حالة القلق الفلسطيني على كافة المستويات من احتمال فشل مساعي تثبيت وقف إطلاق النار في ظل استمرار حالة التعنت الإسرائيلي بدعمٍ أمريكي في تداول مقترحاتٍ أكثر تطرفاً حول الملفات الخلافية، ما يُهدد بإفراغ الاتفاق من مضمونه السياسي والأمني.
قراءة حماس للضامن الأمريكي
تُدرك حركة حماس أن الالتزامً الأمريكيً يرتبط مع الوسطاء الإقليميين كضامنين لانفاذ الاتفاق، وهو ما يعني وجود توافق على ممارسة الضغط على حكومة الاحتلال لمنعها من الإقدام على أي خطواتٍ من شأنها تقويض اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار، وهو ما بدا واضحاً من التصريح الأمريكي الأخير حول أحقية دولة الاحتلال في الرد على أي خروقات دون المساس ببنية الاتفاق وسريانه، ما أعطى مؤشراً قوياً على الضمانات الحاسمة التي قُطعت للأطراف الإقليمية وحركة حماس، والتي بموجبها أقدمت الأخيرة على تسليم كافة الأسرى الأحياء للاحتلال، و تبذل مساعي للإيفاء بالتزام استخراج وتسليم جثامين الأسرى الأموات المتبقين.
يؤسس هذا التقييم للتعاطي الإيجابي مع الدور الأمريكي، ما يُضفي جدية غير مسبوقة على الاتفاق الراهن ومفاوضاته القادمة على نحوٍ مغايرٍ عن سابقاتها من تفاهمات التهدئة التي تنصلت حكومة الاحتلال من الالتزام بمخرجاتها. لا تلغي هذه الثقة وجود تخوّفٍ حذرٍ لدى الأطراف الفلسطينية مما اعتبروه ضبابية الالتزام الأمريكي وطابعه المرحلي، وهو ما يظهر جليًا في تصريحات قيادات الحركة بين الحين والآخر.
ورغم ذلك، تجد حماس نفسها مضطرةً إلى التعامل مع الدور الأمريكي وضماناته على الرغم من انحيازه الواضح، إدراكاً منها لعدم امتلاكها أي خياراتٍ بديلة، لا سيّما بعد فقدانها ورقة الضغط الوحيدة بتسليمها كافة أسرى الاحتلال.
تخوفات فلسطينية متزايدة
تتزايد مخاوف الأطراف الفلسطينية بمختلف مستوياتها من مصير اتفاق غزة في ظل التماهي الأمريكي الإسرائيلي بشأن مخططٍ لتشكيل قوة دولية مؤقتة، وهو ما عزّز لدى الفصائل الفلسطينية في مقدمتها حركة حماس شعوراً بعدم ممارسة الطرف الأمريكي ضغوطاً حقيقية على الاحتلال، بقدر ما يوظف ضماناته تكتيكياً لإعادة هندسة المشهد الميداني بما ينسجم مع المخطط الإسرائيلي الاستراتيجي، ويعكس ذلك عدم وجود ضغط أمريكي على حلحلة التعنت الإسرائيلي حول بعض الملفات العرضية، ومن أبزرها رفضه إجلاء مقاتلي المقاومة المتواجدين في مناطق خلف الخطر الأصفر الخاضعة لسيطرة قوات الاحتلال، دون أي ضغط امريكي على الاحتلال للقبول بمقترحات إجلاء المقاتلين.
وتزداد حالة القلق الفلسطيني مع بروز مؤشرات على مساعٍ أمريكية وإسرائيلية مبكرة لاستباق المسار التفاوضي المُرتقب للمرحلة الثانية حول الملفات الخلافية المتبقية، لا سيّما في ظل تداول مقترحاتٍ حول تكوين قوة دولية أو مخططِ اعادةِ اعمارٍ انتقائي يقتصر على مناطق سيطرة الاحتلال خلال عامين لتوطين مليون مواطن غزي. وقد عمّقت هذه الطروحات الشكوك حيال نوايا الدور الأمريكي في ايفاء استحقاقات اتفاق وقف إطلاق النار، وهو ما اعترضت عليه حركة حماس مؤكدةً أنها وافقت على تولي السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة تغليباً للمصلحة الوطنية، وهو ما زالت ترفضه حكومة الاحتلال خوفاً من أي التزامات سياسية بشأن الدولة الفلسطينية مستقبلاً.
وعلى أي حال، يتمحور التخوف الفلسطيني من سعي أمريكي إلى تفريغ الاتفاق من أي مضمون سياسي وأمني والاكتفاء باستحقاقات على المستوى الإنساني، وهو ما بدأت بوادره تظهر بشكل جلي مع تداول مقترحٍ أمريكي لاستئناف عشرات نقاط توزيع المساعدات على طول الخط الأصفر، على خلاف مخرجات الاتفاق التي تنص على تمكين المؤسسات الدولية من تقديم الدعم الإغاثي. كما يُتوقع أن هذا المقترح يحمل في طياته أبعاداً أخرى ترمي إلى التقسيم الوظيفي للقطاع وتثبيت تلك الحدود كأمرٍ واقع تحت الغطاء الإنساني بعيداً عن أي استحقاقٍ سياسي في سياق تثبيت اتفاق غزة واستكمال استحقاقاته.
التعويل على الغطاء الإقليمي والتوافق الفلسطيني
تُدرك الأطراف الفلسطينية أن الضغط الأمريكي لم يعد كافيًا بذاته لضمان إلزام حكومة الاحتلال، نظرًا لتداخله المستمر مع المصالح الإسرائيلية، خصوصًا في الملفات المتعلقة بإدارة قطاع غزة وتفكيك سلاح المقاومة. كما تُدرك حركة حماس أن الوساطة الأمريكية موجّهة أساسًا نحو إعادة تشكيل البيئة السياسية والأمنية في القطاع أكثر من كونها تسعى لحماية الحقوق الفلسطينية، وهو ما تعكسه التصريحات الأمريكية والإسرائيلية المتلاحقة. لذلك ترى الحركة أن أي تراخٍ في الضغط الأمريكي أو انحيازٍ في تفسير بنود الاتفاق سيمنح “إسرائيل” فرصةً لفرض وقائع جديدة على الأرض، سواء عبر تقييد المقاومة ميدانياً أو ربط ملف الإعمار بشروطٍ سياسية تخدم أجندتها.
وفي ظل محدودية الثقة بالضامن الأمريكي، تحاول الأطراف الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، توسيع دائرة الاعتماد على الغطاء الإقليمي، إذ أضحت أكثر تعويلاً على الوسطاء الإقليميين لتفعيل آلية ضغطٍ أكثر إلزاماً، وهو ما تجلّى في التبني الفلسطيني العام للمقترح المصري الأخير كما ورد في البيان الفصائلي الشامل بشأن القبول بقوة سلام مؤقتة بإشراف أممي كبديل عن مقترحات تشكيل القوة الدولية، وهو ما يعكس توجهاً فلسطينياً واضحاً نحو استخدام الغطاء الإقليمي والدولي كأداتي ضغطٍ مكملتين لتفعيل الالتزام الأمريكي وتقييد السلوك الإسرائيلي، بدلاً من التعويل على النوايا الأمريكية وحدها التي تتداخل في كثير من الأحيان مع المصالح الإسرائيلية، لا سيّما حول ملفات إدارة القطاع.
وبالتوازي، تُبدي كافة الأطراف الفلسطينية بمستوييه الفصائلي والرسمي حرصاً أكثر من أي وقتٍ مضى للتوصل إلى تفاهم وطني شامل لتعزيز الأرضية الملائمة لتثبيت مخرجات الاتفاق بما يتوافق مع المصالح الوطنية الفلسطينية، ويقطع الطريق أمام الاحتلال في تمرير مخططات تصفية المكون الفلسطيني. وفي هذا السياق، تُبدي السلطة الفلسطينية مرونة قصوى في التعاطي مع الشروط الأمريكية المفروضة عليها، رغبةً في إنجاح المرحلة الحالية بما يُعزز من تثبيت الاتفاق الحالي بما يُفضي إلى عودتها إلى إدارة القطاع، لا سيّما مع وجود قبول فلسطيني عام على إشراف قيادة السلطة على لجنة التكنوقراط الجاري العمل على تشكيلها كجزءٍ من الترتيبات الإدارية اللاحقة للاتفاق.
وعلى أي حال، تحاول كل من حركة حماس والسلطة الفلسطينية الموازنة بين مسار الاستجابة مع الدور الأمريكي قدر الإمكان دون الاصطدام معه لتعزيز آلية الضغط على دولة الاحتلال للقبول بتثبيت اتفاق مستدام في غزة، بالتوازي مع الحرص على استدعاء الغطائين الاقليمي والدولي عبر كسب الوقت. وقد نجحت هذه المقاربة إلى حد ما في تجاوز الضغوط الإسرائيلية الرامية إلى إبقاء حالة الحرب قائمة عبر الخروقات المتتالية، بحيث باتت فرض حلول إنسانية مطلب المرحلة الراهنة، لا سيما مع الانفتاح الفلسطيني على مقترحات إبعاد حركة حماس عن المشهد الإداري والأمني، واستنفاد الخيارات العسكرية الميدانية لحكومة اليمين المتطرف، إذ بات نتنياهو يواجه ضغوطاً داخلية متزايدة تحدّ من قدرته على المناورة، الأمر الذي أعاد النقاش حول “الوصاية الأميركية” على دولة الاحتلال إلى الواجهة، بعد أن روّج اليمين المتطرف طيلة الحرب لأسطورة الاستقلالية السياسية، قبل أن تتهاوى مؤخراً مع بروز التدخل الأمريكي في توجيه القرار السياسي الإسرائيلي بما يتناقض مع توجهات اليمين المتطرف.
3 ) استراتيجية الوسطاء للتحوط ضد التراخي الأمريكي
تشهد مرحلة ما بعد توقيع اتفاق شرم الشيخ، تغيراً ملحوظاً في تحركات الوسطاء الإقليميين؛ لم يقتصر على متابعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ولكنه اتخذ سياسات من شأنها إرساء الاتفاق على أرض صلبة، يصعب على حكومة الاحتلال الانقلاب على الاتفاق، حيث قامت الاستراتيجية على توثيق العلاقة مع الولايات المتحدة بشكل أساسي، ادراكاً بمدى تأثيرها في المعادلة الأمنية في الشرق الأوسط.
ومع بداية أكتوبر الماضي، وزعت مشروع قرار إنشاء “قوة الاستقرار الدولية” (ISF) على أعضاء مجلس الأمن، واقترحت فيه أن تكون مدة بقاء القوات ما بين سنتين إلى خمس سنوات، وتتمتع بصلاحيات واسعة في إدارة الأمن، وهي تخضع لإشراف مجلس سياسي تحت اسم “مجلس السلام الدولي”، ويتكون من ّ شخصيات دولية.
ووفق المقترح الأمريكي، تنتشر القوات في تزامن مع إنهاء جيش الاحتلال عملياته في غزة وانسحابه التدريجي، حيث تتولّى تأمين الحدود بين غزة وكل من مصر والكيان الإسرائيلي، وضمان نزع السلاح من القطاع، بما يشمل تدمير البُنى التحتية العسكرية والهجومية للتنظيمات المُصنَّفة “إرهابية” ومنع إعادة بنائها، كما تشمل مهامها تدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية التي ستُدخَل الخدمة بعد إخضاعها للتدقيق والموافقة، والتنسيق في شأن الممرّات الإنسانية.
لم يقتصر المقترح الأمريكي على ترتيبات غزة، ولكنه طالب بإصلاحات في السلطة الفلسطينية لتكون مؤهلة لإدارة القطاع، ما يمكن اعتباره تدخلاً استباقياً للتغلغل في الملفات الفلسطينية، بما يمنح مجلس السلام سلطة تقديرية في تقرير مستقبل الوضع الفلسطيني بشكل كُليٍ
رغم ترك المقترح الأمريكي الباب مفتوحاً للمناقشات الإقليمية، فقد مالت الدول الإقليمية لأن تكون أي قوة دولية تحت إشراف أممي، بالإضافة للتنسيق الإقليمي في تأهيل الإدارة الفلسطينية لقطاع غزة
ولدى تصاعد الحديث عن الوصاية الأمريكية على حكومة الاحتلال، بدت السياسة الإقليمية غير واثقة في الالتزام التام بالاتفاق، وذلك بسبب تركيز الولايات المتحدة على ضبط حكومة نتنياهو، ولكنها من جهة أخرى، تتبنى مقترحات لا تضمن الوصول لوحدة القطاع والانحراف الدائم نحو اقتراح تدويل المرحلة الانتقالية.
ولتعزيز ضمانات الاتفاق، تبنى الوسطاء الإقليميين استراتيجية تقوم على تهيئة المناخ لتعدد الفاعلين لكبح انفلات نتنياهو، وذلك من خلال ثلاثة محاور أساسية، تقوم في مجملها على تضافر السياسات لتأمين المراحل التالية للاتفاق والدخول في برنامج التعافي والإعمار واستئناف التفاوض حول مسار الدولة الفلسطينية.
ومن منظور النفوذ الأمريكي على “إسرائيل”، سعت تركيا ومصر لأن تكون الاتصالات الأساسية مع الإدارة الأمريكية باعتبارها ضمن إطار الضامنين وأداة فعالة في التأثير على “إسرائيل”. وخلال هذه الفترة، نشطت الاتصالات ما بين الرئيسين أردوغان وترامب، كما انعقد الحوار الاستراتيجي المصري ـ التركي، وهذه الأطر تعمل على بناء شبكة مصالح أوسع من النطاق الفلسطيني، يقوم في توجهاته على إرساء حزمة من المصالح المترابطة، وذلك من جهتي؛ السعي لهيكلة العلاقات الثنائية على أرضية المصالح المشتركة، واعتبار إطار الضامنين هو أساس المشاورات حول مستقبل القطاع والسلام الإقليمي.
وفي المحور الثاني، سعى الوسطاء الإقليميين لتمديد العزلة الإسرائيلية وحصار حكومة الاحتلال. فبعد استبعاده من اجتماع شرم الشيخ، اتخذ الوسطاء طرقاً للضغط على نتنياهو، كان أهمها، التركيز على القناة الأمريكية للتأثير عليه ومنعه من الانفلات والتهرب من الالتزامات، كما اتخذت سياسات ومواقف تدعم هذه العزلة، من جانب مصر، اتخذت سياسة تصعيدية بشكل يضع نتنياهو أمام بديل الحرب إذا ما فشل اتفاق شرم الشيخ. وعلى مستوى تركيا، كان القرار القضائي في اسطنبول بتطبيق قرار الجنائية ضد نتنياهو ذو دلالة على فرض قيود على تحركات رئيس حكومة الاحتلال على النطاق الأوروبي.
وكان المحور الثالث، جاء الاهتمام العلاقات ما بين الإقليمية في اهتمام مكافئ، بحيث قامت التوجهات المصرية والتركية على تنسيق الدور السياسي، سواء فيما يتعلق بالتنسيق مع الولايات المتحدة أو الفصائل الفلسطينية. فقد ركز الاهتمام المشترك على تمتين الظهير السياسي للاتفاق، ليتحدث الوسطاء الإقليميين بصوت متجانس في مواجهة الأطراف الأخرى.
من وجهة أساسية، تسارع مصر وتركيا والسعودية وباكستان وقطر والإمارات لبناء علاقات استراتيجية، لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية فقط، ولكنها تشمل الجوانب العسكرية والدفاعية. فخلال الفتر التالية لإعلان اتفاق شرم الشيخ، ظهرت كثافة الزيارات بين مسؤولي هذه الدول لأغراض فتح الطريق أمام اتفاقيات ممتدة في المشروعات العسكرية وفي مجال الاستثمار المباشر.
وبتحليل تأشيري، يوضح مضمون الزيارات والاتفاقيات وجود رغبة مشتركة في زيادة الاعتماد المتبادل فيما بين الدول، وهو سلوك في العلاقات الدولية البينية يعكس إدراك مخاطر التهديد المتولدة عن تداعيات الحرب في غزة والعدوان الإسرائيلي ضد إيران ، حيث ترى ضرورة الارتقاء لمستوى التكامل الشامل.
ومن خلال قراءة المسارات المصرية ـ التركية في نطاق بناء الحوار الاستراتيجي وتحويله لمؤسسات، يتضح أنه يعمل على تشكيل بيئة حاضنة للمصالح المشتركة وداعمة للمسارات الخليجية، بحيث تتصرف المنطقة حزمة سياسات متراصة لتعزيز ضمانات أي اتفاق يخص دول الإقليم.
على المستوى الفلسطيني، تسعى مجموعة الدول الإقليمية، لبناء إطار موازن للولايات المتحدة كطريق لإلزام الاحتلال بالاتفاق، فعلى مدى هذه الفترة، انشغلت مجموعة السباعية الإسلامية بتنشيط دورها في الوجود على الساحة الإقليمية ورافعة داعمة للضامنين الإقليميين. وقد اتضح هذا التوجه في اجتماعها باستنبول في نوفمبر الجاري، حيث بدت بوتقة لحشد الإرادة المشتركة استعداداً لتثبيت المرحلة الأولى من من الاتفاق والتمهيد للانتقال للمرحلة التالية.
على أية حال، تعكس هذه الاستراتيجية قلق الوسطاء الإقليميين من انفلات الموقف الأمريكي أو رخاوته في الضغط على “إسرائيل”، ولذلك تسعى لترتيب بدائل أخرى، يمكن الحد من الآثار والتداعيات السلبية لتمرير المقترحات الأمريكية في مجلس الأمن بما يمكنها من قطع الطريق على وحدة قطاع غزة أو غرس بذور تدويل المرحلة الانتقالية.
