
من الحرب إلى التهدئة اتفاق شرم الشيخ ومسارات الأمن والسياسةفي غزة
منذ توقيع اتفاق شرم الشيخ في 13 أكتوبر 2025 لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، برزت تحديات الاتفاق مبكرًا في ظل اتهامات إسرائيلية لحركة حماس بعدم الالتزام ببند استخراج وتسليم باقي جثامين أسرى الاحتلال، وهو ما سرعان ما تَبلور ميدانيًا بسلسلة من الخروقات تمثّلت في استهدافات جوية ومدفعية عديدة شكّلت تهديدًا مباشرًا لاستمرارية الاتفاق، خصوصًا فيما يتعلق بدور الضامنين واستجابة طرفَي الحرب. ويتناول هذا التقرير سياسة جميع الأطراف تجاه الالتزام بالاتفاق وتدخلاتها ضد الخروقات.
(1) الضامنون… ركيزة الاتفاق
جاء توقيع اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار في غزة وتحقيق السلام الإقليمي في سياق متغيرات كثيرة، أهمها تقارب مواقف الضامنين الإقليميين في مواجهة خطة ترامب، حيث انصبّ اهتمامهم على التوصل إلى حل متوازن يضمن تقوية الكيان الفلسطيني وتأهيله لاستلام الدولة.
وفي هذا السياق، شكّل الانعقاد المتتالي لاجتماع شرم الشيخ في 6 أكتوبر ثم قمة 13 أكتوبر مؤشرًا مهمًا على وضوح الرؤية لمسار الحل السياسي، خصوصًا بعد اجتماعات نيويورك للتحالف الدولي بقيادة الرياض و باريس والقمة الإسلامية ـ الأمريكية . فقد أرست هذه الاجتماعات أرضية صلبة لاتفاق وقف الحرب بأفق سياسي محتمل، بحيث أصبحت الأطراف الفلسطينية و”الإسرائيلية” أمام وضع دولي ضاغط لضبط الحرب في القطاع وتوجيه الحكومة الإسرائيلية للالتزام به.
ومع دخول تركيا طرفًا في الاتفاق، ازدادت القوة السياسية للوسطاء، إذ وجد الطرف الفلسطيني نفسه مستنداً إلى حلفاء طبيعيين للقضية الفلسطينية. فوجود مصر وتركيا معًا يعمل تلقائيًا على توحيد المواقف الإسلامية، وفي الوقت ذاته على إثراء المقترحات الكفيلة بكبح حكومة نتنياهو وتقليل الفجوة التفاوضية مع الولايات المتحدة.
وقد ظهرت آثار هذه السياسات في مختلف مراحل مبادرات وقف الحرب؛ إذ وقف البلدان على أرضية واحدة في مواجهة انفلات نتنياهو والحد من التمادي الأمريكي في دعمه، وبالتوازي كانا قريبين من الأطراف الفلسطينية وداعمين لجهود الوصول إلى موقف سياسي موحّد ينظر إلى مستقبل الدولة الفلسطينية. وفي اتصال هاتفي، بحث وزيرا خارجية البلدين بدر عبد العاطي و هاكان فيدان سبل التنفيذ الكامل لبنود الاتفاق بما يضمن وقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية إلى القطاع، مؤكدَين أهمية التنسيق القائم بين مصر وتركيا في متابعة مراحل الاتفاق بالتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين.
وبينما شكّل البلدان قاطرة الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، كانت الدول العربية والإسلامية ظهيرًا داعمًا لهذه الجهود، وهو ما ظهر في المشاركة الواسعة في “قمة شرم الشيخ” وتوافق المواقف على أولوية الدولة الفلسطينية وفق رؤية مغايرة للمنظور الأمريكي المنحاز لأولوية دمج “إسرائيل” على حساب الملفات السياسية الجوهرية.
وتشهد مرحلة ما بعد اتفاق شرم الشيخ تطورات مهمة تعكس وجود رغبة مشتركة في الالتزام بتنفيذه من جانب الضامنين. فعلى مستوى الولايات المتحدة، يبدو أن التنفيذ يقترب من الانتقال إلى المرحلة الثانية، كما أن الضامنين: مصر وتركيا وقطر، مدعومون بمظلّة الدول الإسلامية في الالتزام بالمراحل التالية ودعم الكيانية الفلسطينية.
وفي هذا الإطار، نشطت الأطراف الضامنة للتحوّط ضد سيناريو انهيار الاتفاق، وسعت إلى تكثيف تحركاتها لتثبيته وانتزاع ضمانات تحول دون تمادي الاحتلال في خلق واقعٍ ميداني معقّد يحاكي هشاشة اتفاق لبنان، الذي انتهى إلى اضطراب ميداني دون التزامات سياسية واضحة.
وخلال هذه الفترة، تحوّل الضامنون إلى ما يشبه “خلية أزمة” في تواصلهم مع طرفَي التفاوض. فمن جهة الضامنين الإقليميين، كان التواصل مع الفلسطينيين مكثفًا لتطويق أي خلاف بين الفصائل. وعلى مستوى الدور المصري، برزت القاهرة عمليًا عبر التواصل مع الطرفين لتعزيز تنفيذ الاتفاق وتذليل عقباته. وعلى الصعيد الفلسطيني، دعت مصر الفصائل إلى القاهرة للتوافق على موقف موحد، وقد حظيت هذه الجهود بقبول واسع، لتتقارب المواقف تجاه الوحدة الوطنية واستثمار الاتفاق. أما في التواصل مع إسرائيل، فقد هدفت زيارة وفد المخابرات المصرية إلى تثبيت التزام حكومة نتنياهو بالاتفاق، خصوصًا في الجوانب الأمنية وإدخال المساعدات.
وكحال أي نزاع آخر، واجه الاتفاق اختبارًا سريعًا بوقوع انفلات أمني داخل القطاع وتوسع الخروقات الإسرائيلية. فبعد اشتباكات رفح في 19 أكتوبر، سارع الضامنون إلى احتواء الموقف ومنع التصعيد. وقد نجحت مصر في تثبيت موقف حماس بنزع الغطاء عن المُخترقين، بينما وجّه ترامب ووزير الدفاع الأمريكي تحذيرات مباشرة لنتنياهو بشأن تجاوزاته.
كما واجه الاتفاق اختبارًا آخر بتصويت الكنيست على قرار ضم الضفة الغربية، في محاولة من اليمين المتطرف لخلق ساحة صراع جديدة. غير أن الولايات المتحدة هذه المرة عارضت القرار بوضوح، وصرّح مسؤولون أمريكيون بأنه “لن يكون”، بما يعكس وضع حكومة نتنياهو تحت الضغط وتركيز الأولوية على مسار غزة. وبالتوازي، أصدرت 26 دولة إسلامية بيانًا مشتركًا يرفض القرار ويعدّه مخالفًا لقرار مجلس الأمن 2334 ومنسجمًا مع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 22 أكتوبر 2025 بشأن الالتزامات القانونية المفروضة على إسرائيل، بما في ذلك حظر استخدام التجويع كوسيلة حرب. وهكذا وُلد قرار الكنيست ميتًا في سابقة من التوافق الدولي على أولوية الحل السياسي.
(2) الأطراف الفلسطينية وتثبيت اتفاق شرم الشيخ
في هذا السياق، يمكن تسليط الضوء على الدور الفلسطيني في تثبيت وقف إطلاق النار، عبر الاستجابة لسياسة الضامنين في تعزيز حالة التوافق الوطني حول الملفات المرتبطة بإدارة قطاع غزة وأمنه، بعيدًا عن أي مقترحات تُقصي الفلسطينيين من إدارة شؤونهم. كما يمكن تقديم قراءة تُسهم في تفكيك هشاشة الاتفاق وفرص تثبيته خلال الفترة المقبلة.
حضور متنامٍ للسلطة الفلسطينية
شهدت الفترة التي أعقبت الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة جهودًا غير مسبوقة باتجاه قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، خلافًا للمقترحات السابقة التي كانت تستثنيها طوال عامَي الحرب، وذلك مدفوعًا بسياق دولي وإقليمي مواتٍ يسعى لفرض التهدئة وتفعيل مسار السلام وفق حل الدولتين. وقد تزايد حضور السلطة باعتبارها بديلًا مطروحًا لحركة حماس أمنيًا وإداريًا في التصورات الإقليمية والدولية الجديدة ضمن مساعي تثبيت اتفاق غزة.
وفي هذا الإطار، عُقد لقاء في القاهرة بين رئيس المخابرات العامة المصرية، حسن رشاد، ونائب رئيس السلطة، حسين الشيخ، بحضور رئيس المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، جرى خلاله التوافق على مراكمة خطوات دبلوماسية لتنفيذ مخرجات اتفاق وقف إطلاق النار. وشمل ذلك مناقشة ترتيبات أمنية لدعم استقرار القطاع، تمهيدًا لتثبيت الاتفاق وتهيئة الظروف لتمكين السلطة من العودة إلى إدارة غزة. وقد طُرح مقترحٌ لتولّي الحرس الرئاسي إدارة معبر رفح بمشاركة الاتحاد الأوروبي، ونشر قوة أمنية قوامها ألف عنصر فلسطيني كمرحلة أولى، بعد التوافق مع حركة حماس على صيغة أمنية مشتركة في إطار محادثات القاهرة الجارية.
وبالتوازي، عُقد لقاء ثنائي بين وفدَي حركتَي حماس وقيادة السلطة الفلسطينية في القاهرة، في إطار التحضير لحوار وطني شامل تسعى مصر من خلاله إلى ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني في ملفات السيادة الإدارية والأمنية، للحيلولة دون فرض صيغ أمريكية وإسرائيلية تهدف إلى إقصاء الفلسطينيين عن إدارة القطاع. وتبعًا لذلك، تتزايد المؤشرات على وجود إجماع فصائلي مبدئي حول ضرورة إنهاء الانقسام، والدفع نحو تفاهم وطني شامل يسهم في تثبيت وقف إطلاق النار، وتجاوز التحديات، ومنع أي مخرجات تتعارض مع الحقوق الفلسطينية.
نزع السلاح… العقبة الأكبر أمام تثبيت الاتفاق
يُعدّ بند نزع سلاح حركة حماس والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة في خطة ترامب العقبة الأكثر تعقيدًا أمام مساعي الأطراف الفلسطينية لتثبيت اتفاق غزة، في ظل الإصرار الأمريكي و”الإسرائيلي” على ربطه بالانسحاب من محاور انتشار قوات الاحتلال في القطاع خلال المراحل اللاحقة من الاتفاق. ويقابل ذلك تحفظات فصائلية عميقة تسعى إلى تأجيل ملف السلاح وإدارة القطاع إلى حين عقد نقاش وطني يُعزّز الموقف التفاوضي الفلسطيني. وتحاول حركة حماس دعم هذا التوجّه عبر كسب مزيد من الوقت لتثبيت تفاهمات وطنية بدعم إقليمي يضمن بقاء السلاح بيد طرف فلسطيني أو عربي، بعيدًا عن مقترح تسليمه للاحتلال.
وبالتوازي مع المسار السياسي، تؤكد تقارير متعددة — رغم موجة الانتقادات الداخلية والدولية — استمرار التحركات الميدانية المنسّقة لأجهزة الأمن في غزة، ضمن مقاربة واضحة من منظور حركة حماس تقوم على منع أي فراغ أمني وإحباط محاولات إشاعة الفوضى التي قد تُستخدم ذريعة لفرض قوات دولية على القطاع. وتعتقد الحركة أن هذه الجهود تمثّل عقبة مباشرة أمام محاولات الاحتلال إعادة هندسة المشهد الأمني، في ظل تنامي قبضتها الأمنية في مناطق انتشارها عبر ملاحقة المجموعات المتهمة بالارتباط بالاحتلال، وكذلك ضمن مساعيها لإنهاء مسار الانفلات الأمني الذي سعت إسرائيل إلى تكريسه طوال فترة الحرب.
في المقابل، تتصاعد احتمالات اصطدام موقف حماس بجوهر المرحلة الثانية من الاتفاق، إذا ما استمرّ الإصرار الأمريكي والإسرائيلي على نزع السلاح بشكل كامل كشرط مسبق لإتمام اتفاق وقف إطلاق النار. فالحركة تسعى لبسط سيطرتها الأمنية داخل القطاع، بما يمكّنها من المناورة للبقاء في المشهد الأمني المستقبلي، أو على الأقل ضمان حق الشراكة في صياغته خلال المرحلة المقبلة.
فرص تعزيز التوافق الوطني
شكّل البيان الفصائلي الصادر في القاهرة بشأن التوافق الفلسطيني تحولًا مهمًا في المشهد الداخلي، إذ أظهر إدراكًا لدى مختلف الفصائل — وإن بدا متأخرًا — بخطورة المرحلة الراهنة وما تتطلبه من صياغة توافق وطني عاجل بوصفه خيارًا لا بديل عنه لتجاوز التحديات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية سياسيًا وديموغرافيًا لصالح مخططات إدارة غير فلسطينية. وقد استدعى ذلك التحرّك سريعًا لبلورة توافق داخلي برعاية مصرية، ليشكّل رافعة للموقف التفاوضي الفلسطيني في الملفات السيادية ضمن مفاوضات شرم الشيخ المستمرة.
ورغم هذا التقدّم، لا يزال التحدي الأكبر يتمثل في قدرة الفصائل، على اختلاف توجهاتها، على الدفع بمسار دبلوماسي يفضي إلى الاندماج في حلّ أممي مُلزم لحكومة الاحتلال ذات التوجه اليميني المتطرف، والتي باتت تفرض “فيتو” على أي حلول تعزّز الكيانية الفلسطينية. ويزيد من تعقيد المرحلة المقبلة الحاجة إلى ضغوط إقليمية تُلزم الإدارة الأمريكية بأداء دور فعّال يضغط على حكومة الاحتلال للقبول بشريك فلسطيني مستقل، وفق مخرجات البيان الفصائلي الأخير، بما يتيح تثبيت اتفاق غزة تمهيدًا لمسارٍ سياسي أوسع يُعيد إطلاق جهود الإعمار وترميم المكونين السياسي والإداري الفلسطيني.
الموقف الفلسطيني من قرار ضمّ الضفة
يرتكز الموقف الفلسطيني الراهن، على اختلاف مكوناته، على مسارين متوازيين: تثبيت وقف إطلاق النار، وكبح مسار ضمّ الضفة الغربية الذي عاد إلى واجهة النقاش الإسرائيلي بعد تمرير مشروع قرار الضم في الكنيست قبل تعليقه حتى إشعارٍ آخر بفعل الضغط الأمريكي. ورغم تركيز اللقاء الفصائلي الشامل في القاهرة على تثبيت اتفاق غزة، أكد بيانه الختامي رفض الضم والتهجير في غزة والضفة والقدس، مستعيدًا خطابًا سياسيًا موحدًا يستحضر الترابط بين الجغرافيا الفلسطينية ضمن مقاربة شاملة غابت طويلًا خلال سنوات الانقسام وحرب الإبادة.
ويعكس تزامن الرد الفلسطيني الرسمي والفصائلي على مشروع الضم مع جهود ترتيب البيت الداخلي تحولًا نوعيًا في مقاربة المرحلة الراهنة، إذ أصبح الموقف الفلسطيني أكثر شمولًا في مواجهة مخططات الضم والتهجير. ويُتوقع ترجمة هذا التحول عبر تنسيقٍ متزايد بين الأطراف الفلسطينية خلال الفترة المقبلة، مدعومًا بإسناد إقليمي ودولي، للحد من قدرة الاحتلال على فرض وقائع ميدانية جديدة. كما يبرز إدراكٌ متنامٍ بضرورة تفعيل منظمة التحرير ومؤسسات السلطة لتولي زمام إدارة المرحلة، بما يكرّس الكيانية الفلسطينية ويحميها من أي محاولات لتجاوزها في ترتيبات ما بعد الحرب، خصوصًا مع الزخم المتصاعد للاعترافات الدولية الأخيرة.
وعلى الرغم من أن مسار تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار جمع مختلف الأطراف الفلسطينية على طاولة واحدة في القاهرة بعد انقطاع طويل، فإن حلّ الخلافات بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية لم يصل بعد إلى صيغة نهائية. فحركة حماس تسعى لضمان بقاء القدرة الدفاعية ضمن أي ترتيبات مقبلة، في حين تسعى السلطة إلى استعادة غزة إلى مظلتها الإدارية وبسط نفوذها الأمني كشرط رئيسي للمضي قدمًا في تنفيذ بقية تفاهمات تثبيت اتفاق غزة.
ويضع هذا التوتر الكامن التوافقَ الفصائلي أمام اختبار صعب في المدى المنظور، في ظل واقع دقيق تتقاطع فيه الحسابات الإقليمية والدولية مع التوازنات الداخلية. وعليه، فإن تثبيت الاتفاق ليس مهمة تفاوضية فحسب، بل هو اختبار لقدرة الفلسطينيين على بناء مشروع سياسي جامع يتجاوز الثنائية التقليدية. فاستدامة التهدئة مرهونة بقدرة الفلسطينيين على بناء شراكة وطنية شاملة بدل الإقصاء، بما قد يضطّر الأطراف الأمريكية و”الإسرائيلية” للتعاطي الجدّى مع مخرجات فلسطينية موحدة. أما في حال عجز حماس والفصائل عن رسم تسوية داخلية تُبقي الجميع مشاركًا في كيانٍ إداري مستقل ضمن ترتيبات “اليوم التالي للحرب”، مع تقديم تنازلات متبادلة، فإن ذلك قد يُفاقم هشاشة الاتفاق ويُعرّضه للانهيار في أي لحظة.
( 3) اتفاق وقف إطلاق النار في ضوء التحولات الداخلية الإسرائيلية
يحتاج تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة إلى جملة من المتطلبات الأساسية، تبدأ بضرورة الحضور الأمريكي النشط القائم على الضغط السياسي والاقتصادي المتواصل على إسرائيل، إلى جانب توفير الرقابة الدولية ومنع تل أبيب من تعطيل تنفيذ بنود الاتفاق، إضافة إلى سرعة إدخال المساعدات وإلزام إسرائيل بالانسحاب المرحلي.
وأمام هذه المتطلبات، تبرز العديد من الصعوبات والممارسات الإسرائيلية التي تهدد نجاح الاتفاق. ولا تتوقف هذه الصعوبات عند حدود تعطيل إدخال المساعدات أو عدم الالتزام الكامل بوقف إطلاق النار، فهذه الخروقات اليومية تعبّر عن الموقف المستقبلي للحكومة الإسرائيلية التي تحاول إفشال المرحلة الأولى من الاتفاق، بهدف منع الوصول إلى المرحلتين الثانية والثالثة.
الحصار الدبلوماسي لنتنياهو
وجد رئيس حكومة اليمين في إسرائيل نفسه محاصرًا بسلسلة من الزيارات الدبلوماسية الأمريكية، في الوقت الذي يواجه فيه ضغوطًا متزايدة من شركائه المتطرفين داخل الائتلاف. فمن جهة، تؤكد إدارة ترامب أهمية المضي قدمًا في تنفيذ بنود الاتفاق، وتشارك عمليًا في مراقبة السلوك الإسرائيلي اليومي، وهو ما أشارت إليه صحيفة نيويورك تايمز التي تحدثت عن “انقلاب في الثقة” بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، حيث باتت واشنطن تتحقق بنفسها مما يجري في غزة، في مرحلة وصفتها الصحيفة بأنها غير مسبوقة في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية.
وتأتي هذه الضغوط بالتزامن مع قرار ترامب، الذي طلب من البنتاغون تشغيل طائرات استطلاع وأجهزة استشعار جوية في سماء غزة، بهدف التحقق من عدم انتهاك الجيش الإسرائيلي لبنود الاتفاق، وفقًا للصحيفة ذاتها. وقد اعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية هذا الإجراء منعًا أمريكيًا لإسرائيل من تطبيق “نموذج جنوب لبنان” في غزة.
وفي المقابل، تتصاعد الضغوط الداخلية على نتنياهو، بدءًا من رفض قيادات اليمين الديني الاستمرار في الاتفاق أو الانتقال إلى مراحله التالية، وصولًا إلى انسحاب حزب “شاس” الحريدي من الائتلاف، وهو ما يشكّل تهديدًا مباشرًا للحكومة وقد يعجّل بالذهاب إلى انتخابات مبكرة. وتظهر آثار هذه الضغوط بوضوح على سلوك الحكومة الإسرائيلية خلال هذه المرحلة.
العودة للحرب رهينة التطورات الداخلية
في ظل هذه المعطيات، لا يتوقف كلٌّ من نتنياهو ووزير خارجيته كاتس عن التهديد بالعودة إلى الحرب. وتُعدّ هذه التهديدات، في نظر الإعلام الإسرائيلي، ذات طابع سياسي أكثر منها أمني أو عسكري، إذ تستخدم حكومة نتنياهو تعطّل تسليم الجثامين أداةً للضغط على المقاومة، ومحاولة إظهارها بمظهر المعرقل للاتفاق.
وفي الوقت ذاته، تتخذ الحكومة الإسرائيلية من هذا الملف وسيلة لتعزيز شعبيتها قبل الانتخابات التشريعية المقررة منتصف عام 2026، خصوصًا أن التلويح بالاستقالات أو تنفيذها داخل الائتلاف الحاكم، يدفع باتجاه انتخابات مبكرة. وهذا ما يحاول نتنياهو توظيف الاتفاق لمواجهته أو استثماره سياسيًا في الداخل، إذ تُظهر نتائج استطلاع رأي أجرته القناة 12 العبرية أن شعبية الائتلاف لا تتجاوز 51 مقعدًا في الكنيست، مقابل 59 مقعدًا للمعارضة، وهو ما يسعى نتنياهو لتجاوزه عبر التهديد المتكرر بالعودة إلى الحرب.
ورغم ادعاء نتنياهو رفضه خطوة تصويت الكنيست على ضمّ الضفة الغربية ـ والتي تزامنت مع زيارة جي دي فانس، نائب الرئيس الأمريكي، إلى تل أبيب ووصفه تلك المناورة بأنها “غبية ومزعجة” ـ فإن ذلك زاد من حالة انعدام الثقة بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية. ويعود ذلك إلى أن نوابًا من الائتلاف الحاكم، وعلى رأسهم أعضاء من الليكود، صوّتوا لصالح مشروع قرار الضمّ، خلافًا لما يدعيه نتنياهو، ما اعتبرته الصحافة العبرية انقلابًا داخل معسكر اليمين.
وبحسب تقارير إسرائيلية، فإن نتنياهو مرّر هذه الخطوة لأسباب سياسية داخلية، مع حرصه إعلاميًا على إظهارها وكأنها تجاوزٌ من قِبل اليمين المتشدد والمعارضة لإمكانات ائتلافه داخل الكنيست، بهدف تجنب الصدام مع الإدارة الأمريكية، خصوصًا أن الأخيرة انتقدت الخطوة وعدّتها إجراءً معطّلًا لمسار التطبيع الذي تسعى واشنطن إلى تعزيزه مع أطراف عربية.
استخدام الحرب لتجاوز التحقيق الداخلي
أظهرت هذه التطورات الداخلية مستوى متزايدًا من الضغوط على الائتلاف الحاكم، ما دفعه إلى تغيير اسم الحرب من “السيوف الحديدية” إلى “حرب الانبعاث”. وقد اعتبرت تحليلات إسرائيلية ذلك مؤشرًا على انتقال الصراع من بعده الميداني في غزة إلى بعدٍ رمزي ـ سياسي موجّه للداخل الإسرائيلي، في محاولة من نتنياهو لصياغة رواية وطنية تُجنّبه المثول أمام مزيد من التحقيقات الداخلية، خصوصًا مع تصاعد الدعوات لفتح تحقيق شامل في إخفاقات 7 أكتوبر.
وفي ظل استمرار الضغط الأمريكي لتنفيذ المراحل كافة من الاتفاق، يتخوّف نتنياهو من تنامي هذا الضغط بوتيرة تصاعدية، في ظل تنسيق أمريكي ـ إقليمي متزايد يأخذ طابعًا أمنيًا وسياسيًا. وتشمل هذه الجهود تنفيذ بنود الاتفاق بما فيها إعادة إعمار غزة بمبلغ يتراوح بين 60 و70 مليار دولار، بمساهمات عربية مشروطة بنزع سلاح المقاومة وتحقيق الاستقرار، بما يقود في نهاية المطاف إلى استئناف مسار التطبيع مع إسرائيل.
ويحاول نتنياهو وائتلافه إفشال هذا المسار عبر السعي للعودة إلى التطبيع دون تحقيق الاستقرار في غزة والضفة، وهو ما يتضح في تصريحات سموتريتش التي هاجم فيها السعودية مؤخرًا.
وعليه، يبدو أن التهديد الإسرائيلي بالتصعيد أو إفشال الاتفاق بين حين وآخر يحمل أبعادًا سياسية يمكن قراءتها في سياق المناورة الانتخابية الداخلية، لا في سياق قرار عسكري مستعجل. فالموقف الأمريكي يظل المحدّد الحاسم، وغياب موافقة واشنطن يجعل خيار تخريب الاتفاق والعودة للحرب أمرًا مستبعدًا في المدى القريب.
وعلى ضوء ما سبق، تكشف التطورات الجارية عن مشهدين رئيسيين؛ يتمثل الأول في تلاقي الدول الضامنة على أهمية وقف الحرب، أما الثاني فيتجلى في تراجع تحفظات الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على مسار الاتفاق. ويُظهر ذلك أن القضية الفلسطينية تقف أمام منعطف مهم، في ظل حكومة نتنياهو وما تسببت به من تعميق عزلة “إسرائيل” الدولية.
