
مؤتمر فلسطين الدولي “من الإبادة الجماعية إلى بناء الدولة الفلسطينية”
انعقد في إسطنبول بتاريخ 6 أيلول مؤتمر دولي بعنوان “من الإبادة الجماعية إلى بناء الدولة الفلسطينية”، شارك فيه نخبة من الأكاديميين والمفكرين وقادة الرأي من فلسطين وتركيا وإيران ومصر والسعودية وروسيا وعدد من الدول الأوروبية. ونُظّم المؤتمر بالشراكة بين مجموعة الحوار الفلسطيني ومنصة “خارجي” الإعلامية ومركز العلاقات الدولية والدبلوماسية (MID)، حيث تطرّق إلى مجموعة من القضايا المحورية، أبرزها الإبادة الجماعية الممنهجة التي ترتكبها دولة الاحتلال في قطاع غزة، وتحديات بناء الدولة الفلسطينية ومسألة الاعتراف الدولي بها، إضافة إلى مسؤوليات المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية.
استهل المؤتمر أعماله بكلمة افتتاحية لمنسقه تونتش أكّوش، رئيس تحرير منصة “خارجي”، مشيرًا إلى أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة حرجة تجمع بين أكبر مأساة في تاريخ هذا الشعب وبين التحركات الجادة نحو الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، مؤكدًا أن المؤتمر يعالج القضية الفلسطينية باعتبارها إحدى أكثر قضايا العالم إلحاحًا من مختلف الزوايا، ومشدّدًا على دور الإعلام في إيصال صوت الفلسطينيين للعالم وضرورة استثمار قوة النشر الإلكتروني لتوسيع دائرة الوعي والدفع نحو الحل.
كما ألقى صادق أبو عامر، رئيس “مجموعة الحوار الفلسطيني”، كلمة أمام المؤتمر، مشيرًا إلى أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية يمثل جريمة إبادة جماعية وتطهيرًا عرقيًا ضمن استراتيجية إسرائيلية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية وحرمان الشعب من حقه في إقامة دولته المستقلة. وقال أبو عامر: “نحن واثقون بأن الإبادة لن تمحو الهوية الوطنية، ولن تسكت الصوت الفلسطيني، وأن التضحيات الهائلة التي يقدمها الشعب ستُمهّد الطريق نحو الدولة الفلسطينية المستقلة.”
وشدد على أن التحدي الأكبر اليوم يتمثل في الانتقال من موقع ردّ الفعل إلى موقع صياغة المبادرة السياسية، مشيرًا إلى أن الحرب كشفت حدود النظام الدولي وانحياز مراكز القرار الكبرى، لكنها أبرزت أيضًا تضامنًا شعبيًا عالميًا غير مسبوق يجب تحويله إلى أداة ضغط منظمة لإعادة الاعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني.
وأوضح أن المؤتمر ينطلق من فلسفة تقوم على توحيد الجهود العربية والأقليمية والأوروبية لوقف الحرب وتعبئة الأدوات الدبلوماسية والقانونية والإنسانية، بما يضمن حماية المدنيين وفتح مسار سياسي فاعل يقود إلى الاستقلال. كما حذّر من إعادة إنتاج المظالم التاريخية التي جعلت الفلسطينيين يدفعون ثمن صراعات القوى الدولية منذ تفكك الدولة العثمانية وقرار التقسيم عام 1947. وختم أبو عامر بالتأكيد على أن انعقاد المؤتمر بمشاركة شخصيات من أوروبا والمنطقة يبعث رسالة واضحة بأن فلسطين ما زالت قضية ضمير عالمي، داعيًا إلى تبني توصيات عملية لدعم الاعتراف بدولة فلسطين، وإنهاء الإفلات من العقاب، وتعزيز العمل الحقوقي والقانوني على المستوى الدولي.
من جانبه، تناول محمد رقيب أوغلو، من مركز العلاقات الدولية والدبلوماسية، النقطة المفصلية التي وصل إليها الصراع، مبرزًا أن الجرائم الموثقة في غزة اعترفت بها مؤسسات دولية بوصفها إبادة جماعية. وأكد أن المرحلة التالية يجب أن تركز على الانتقال من توصيف الجريمة إلى تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية، داعيًا إلى معركة وعي ومعرفة إلى جانب المعركة الميدانية، ومشدّدًا على ضرورة تفكيك منظومة القوة العسكرية والفكرية التي يستند إليها الاحتلال.
الندوة الفلسطينية: الإبادة في الخطاب السياسي وبناء الدولة
افتتح الندوة مديرها، آ.يوسف فخر الدين (باحث مقيم في فرنسا)، بالقول: “نجتمع هنا بينما يتعرض الشعب الفلسطيني لحرب إبادة إسرائيلية في قطاع غزة، في ظروف أقسى من أن توصف بأنها غير إنسانية. ويتعرض الفلسطينيون في الضفة الغربية للعنف العسكري الإسرائيلي، وتوسع الاستيطان، وعنف المستوطنين، مع إعلان وزير المالية الإسرائيلي نية حكومته ضم ٨٠٪ من الضفة الغربية.”
وأشار فخر الدين إلى أنه “في هذا الوقت، فقد العمل الوطني الفلسطيني خاصية المراجعة، حيث فقد القدرة على النظر في أعماله ونتائجها، وتحديد الإيجابي منها والسلبي لتعزيز النوع الأول ومعالجة النوع الثاني، بما في ذلك الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه ولو على مبدأ: خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف. بينما تحوّل الانقسام الفلسطيني لمصلحة بعض القطاعات منه، واشتد بحيث صار الاتهام هو سيد الموقف، ما سرّع التفكك الوطني وأضعف القدرة على مواجهة المبادرة. كما تعرض التمثيل الوطني الفلسطيني للإضعاف في المفاوضات حول وضع غزة ومصيرها، وهو ما يمكن اعتباره تراجعًا عن مكتسب التمثيل الوطني الذي تحقق بتضحيات هائلة على مدار مائة عام من الكفاح الوطني.”
ولفت إلى أن هناك “أهمية قصوى للحوار فلسطينياً على كل المستويات: أولًا لوقف حالة الاستنزاف، ثانيًا لإنهاء حالة التخندق، وثالثًا للاتفاق على المشروع الوطني وعلى سبل إنهاء حرب الإبادة واستعادة المبادرة.”
وقدّم مدير الندوة المشاركين بالقول: “في ندوتنا نقدم استجابة أربعة من المثقفين الجادين المسؤولين لتقديم أطروحات ومبادرات وتحليل الوساطات، بنواها على جهد نقدي. الورقة الأولى آ.خليل شاهين (نائب رئيس مركز مسارات في رام الله)، تتناول سبل استعادة الإرادة، تصحيح التمثيل، وإعادة البناء وتنظيم القدرات. كما هناك مداخلة آ.سمير الزبن (كاتب سياسي وروائي مقيم في السويد)، الذي سيتحدث عن الخطاب السياسي الفلسطيني، وضعف تنظيم الفعل السياسي، وأهمية الحوار لبناء مستقبل فلسطيني. وسيقدم د. حسام الدجني (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمّة في غزة ) تقييمًا للوساطتين المصرية والقطرية بشكل منهجي، مستخلصًا نتائج لتحسين جدواها. وأخيرًا، سيعرض آ.محمد شحادة (عضو المجلس الأوربي ) الموقف الأوروبي، مبيّنًا التناقض بين الروايات المتنافسة حول غزة.”
وفي نطاق جدلية الإبادة والبناء الوطني الفلسطيني، عرض خليل شاهين (نائب مدير مركز مسارات للدراسات في رام الله) تأثير تسارع الإبادة وجرائم الحرب على الكيان الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وتراجع القدرة على التدخل لوقف هذه الجرائم. ورأى أن القضية الأساسية تكمن في القدرة على الاستجابة لتعويض المجتمع الفلسطيني عن فقده للحياة والمؤسسات والتقدم نحو المشروع الوطني تحت مظلة الحماية من الإبادة مستقبلاً.
وأشار خليل شاهين إلى أن التحديات التي تواجه الفلسطينيين لا تقتصر على حرب الإبادة، بل تشمل أيضًا استهداف المؤسسات الوطنية؛ فكما تنهار مؤسسات أوسلو في غزة، هناك تطلعات لدى الحكومة اليمينية الإسرائيلية لتقويض الحكم الذاتي في الضفة الغربية، عبر جعلها سلطة محدودة قابلة للانهيار، أملاً في تنفيذ أهدافها بإنهاء الشعب الفلسطيني وقضيته، خصوصًا مع غياب رؤية للدعم السياسي والاقتصادي المستمر للقضية الفلسطينية لمواجهة خطط الاحتلال.
وأكد شاهين أن مواجهة هذه التحديات تتطلب أولوية توفير الوحدة الفلسطينية والتحدث بصوت واحد كسياسة مشتركة تؤدي إلى بناء وإنتاج المؤسسات والبرنامج السياسي، والتآلف تحت منظمة التحرير الفلسطينية، بما يتيح حوكمة إطار فلسطيني يعبر عن المصالح الوطنية وفق قاعدتي الحوار والرؤية المشتركة، والتواصل مع الإقليم العربي والعالم. وهذه الأرضية تشكل الشرط اللازم لإنضاج المشروع الوطني وتجاوز آثار الإبادة، كما تمنح ثقة العالم بأن الفلسطينيين قادرون على اكتساب ثقة الاتحاد الأوروبي وروسيا والدول الأخرى.
واستعرض خليل شاهين تداعيات الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، معتبرًا أنه خطوة مهمة في مواجهة إبادة إسرائيل وإعادة بناء الدولة، ودوليًا يمثل الاعتراف أداة لتحقيق العدالة، خصوصًا مع اتساع الرأي العام المناهض لإسرائيل وتصاعد دور المنظمات غير الحكومية، ما يضع إسرائيل أمام حالة من الضغط والرفض العالمي، ويجبر حكومتها على التعامل مع الملفات بواقعية.
وركّز سمير الزبن (كاتب سياسي وروائي) على الخطاب السياسي والمصطلحات، وضعف مرونة المؤسسات الفلسطينية اللازمة لحماية حقوق الشعب، بما في ذلك حق الحياة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية. وأشار إلى ضرورة مراجعة السياسة الحالية. وفيما يتعلق بالهيكلة الفلسطينية،
وأشار الزبن إلى الحاجة لإعادة بناء الوضع الفلسطيني وإزالة الاحتلال، الأمر الذي يستدعي مراجعة السياسة الحالية للاستفادة من التغير العالمي، ومراعاة العلاقة بين غزة والضفة الغربية، وتنظيم العلاقة بين القوى الفلسطينية وربط المستقبل الفلسطيني بما يحدث في الإقليم، وهو ما يتطلب حوارًا مستمرًا.
أما حسام الدجني فقد تناول آثار الوساطة على الإبادة، مؤكدًا أن وساطة تركيا غير مباشرة وتواجه رفض إسرائيل والولايات المتحدة، لكنها تظل مؤثرة على مجريات الأحداث، إلى جانب الإطار السعودي-الفرنسي الذي يحد من الانفراد الأمريكي بملف فلسطين والحرب. ورغم فاعلية هذه المتغيرات، ركّز على الوساطة الرسمية، المتمثلة في مصر وقطر والولايات المتحدة، وهي صيغة لم تكن موجودة في الحروب السابقة منذ 2021. وأوضح أن التحدي الأساسي للوساطة هو وقف الحرب، وأن تقييم دور مصر وقطر والولايات المتحدة يرتبط بنجاحها في وقف الإبادة والتهجير القسري ووقف المجاعة، بينما استمرار الحرب والهدم يعكس عيبًا هيكليًا في الوساطة يتمثل في تحيز الولايات المتحدة لإسرائيل والتلاعب بمسودات التفاوض، رغم ترابط مصالح مصر الاستراتيجية مع فلسطين وغزة.
وفي سياق المناقشة الأوروبية، تناول محمد شحادة الموقف الأوروبي من الحدث الفلسطيني، خصوصًا المواقف الرسمية والشعبية تجاه الداعمين في الخارج، وكيفية وصف الإبادة في غزة. وأوضح أن الرواية عن ارتكاب إسرائيل لمذابح أخذت بالانتشار بعد شهور من بداية الأزمة، ما جعل الروايات تتنافس على العقل الأوروبي، حتى استقر الرأي على وصف ما يحدث في غزة بالإبادة، مع توضيح أن الخيارات أمام الفلسطينيين تتلخص في الموت أو التهجير أو التجويع.
وأشار محمد شحادة إلى التناقض في المواقف الأوروبية، حيث بدا الرسميون غير مكترثين بما يحدث، على خلاف القوانين الإنسانية، كما كافحت الحكومات المتعاطفة مع الإبادة لتقييد الاحتجاجات، مما جعل القوانين الأوروبية أداة للسيطرة على المحتجين، وأبعدت المسؤولية عن إسرائيل.
واختتم فخر الدين الجلسة بالقول: “لطالما شكّل المثقفون الفلسطينيون قوة رأي، قوةً تفعل في السياسة بدافع التأثير لا بدافع التنافس على السلطة السياسية”. وطلب من خليل شاهين عرض مسودة توصيات الندوة.
الندوة الإقليمية: القضية الفلسطينية كشأن عربي وإقليمي
انعقدت الندوة الثانية من المؤتمر تحت عنوان “القضية الفلسطينية شأن عربي وإقليمي”، وأدارها الدكتور خيري عمر، بمشاركة أربعة مفكرين من السعودية وتركيا ومصر وإيران. وتركزت المناقشات حول الإبادة الجارية في قطاع غزة ومستقبل الدولة الفلسطينية، عبر استعراض سياسات هذه الدول وأدوارها الإقليمية.
افتتح الدكتور خيري عمر النقاش بالتأكيد على أن “الوقت قد حان لتطوير نهج جديد في التعامل مع أزمات المنطقة”، مشدداً على أن إعادة بناء المفاهيم والسياسات كفيلة بإنتاج حلول مختلفة للصراعات. وأشار إلى أن الأزمات البنيوية التي يشهدها النظام الدولي تتيح فرصة لإعادة صياغة موقع العالم الإسلامي في النظام العالمي، بما يسمح بالتغلب على العداوات التقليدية وبحث نماذج بديلة للتعاون الإقليمي.
وفي المحور التركي، أكد الدكتور محمد أوزجان (جامعة الدفاع الوطني – تركيا) أن جوهر المشكلة في المنطقة إسرائيلي لا فلسطيني، مشيراً إلى أن هذا التوصيف يساهم في بلورة سياسات أكثر فاعلية للتعامل مع القضية الفلسطينية. وأوضح أن أنقرة توظف علاقاتها مع إسرائيل كورقة ضغط لدعم إقامة الدولة الفلسطينية، بالتوازي مع دعمها للوساطات التي تقوم بها قطر ومصر. وشدد أوزجان على أن ما يجري في غزة أصبح القضية المركزية للعالم الإسلامي وللإنسانية جمعاء، مضيفاً أن “المسألة الإسرائيلية لم تعد موضوعاً للنقاش، بل أصبحت واقعاً مباشراً يتمثل في سياسات عدوانية وتوسعية واضحة”. كما اعتبر أن تنامي الاعتراف الدولي بدولة فلسطين يمثل تطوراً محورياً، لكنه أكد أن “القضية الحقيقية تكمن في تطوير سياسات عملية تمكّن الفلسطينيين من الصمود على أرضهم ومواصلة وجودهم”. واختتم بالتأكيد على أن تركيا حافظت على مكانتها كإحدى أكثر الدول حزماً في مواجهة السياسات الإسرائيلية، وأن رد فعلها اليوم يُعدّ من بين الأقوى في تاريخ مواقفها تجاه القضية الفلسطينية.
أما من الجانب السعودي، فقد قدّم الدكتور خليل الخليل (عضو سابق بمجلس الشورى) عرضاً من منظور “القوة الحضارية”، مستنداً إلى الدور التاريخي للمملكة في دعم القضية الفلسطينية عبر المبادرات والوساطات، وفي مقدمتها المبادرة العربية عام 2002. وأكد أن المملكة لعبت دوراً محورياً في تعبئة الموقف الدولي ضد العدوان على غزة، سواء عبر القمة العربية ـ الإسلامية أو من خلال الجهود الدبلوماسية اللاحقة، فضلاً عن التنسيق الوثيق مع تركيا وإيران ومصر لضمان أرضية مشتركة تردع إسرائيل وتدعم الأمن الإقليمي. وفي كلمته، شدّد على أن القضية الفلسطينية قضية عالمية لن ينساها العالم العربي فحسب، بل الإنسانية والتاريخ أيضاً، مشيراً إلى أن سياسات إسرائيل في الضفة الغربية وغزة تشكّل جرحاً مشتركاً لا يقتصر على الفلسطينيين، وإنما يمتد إلى المنطقة بأكملها. ورغم أن إسرائيل قد ترى نفسها منتصرة اليوم، أضاف الخليل، إلا أنها تزداد عزلة على الساحة الدولية وداخل نفسها يوماً بعد يوم، ليختم بالتأكيد على أن وجود الشعب الفلسطيني لا يمكن محوه، وأن هذه الأمة المناضلة من أجل العدالة والقدس عصيّة على الهزيمة.
وفي المحور الإيراني، قدّم الدكتور حميد عظيمي (رئيس مركز مرصاد للدراسات الاستراتيجية) عرضاً يوضح أن سياسة طهران تقوم على المقاومة حتى التحرير الكامل ورفض حل الدولتين، معتبراً أن دعم إيران للمقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية يشكّل أداة رئيسية في رؤيتها للقضية الفلسطينية. وأكد عظيمي أن الاعتراف بدولة فلسطين ليس أكثر من أداة، فالأهم هو وجود الشعب والأرض، مشدداً على أن قيام دولة فلسطينية حقيقية يتطلب بناء حضور مؤسسي فاعل لا يقتصر على الأراضي المحتلة فحسب، بل يمتد أيضاً إلى الشتات الفلسطيني. وفي معرض حديثه عن الواقع القائم، أشار إلى أن ما يجري في الضفة الغربية اليوم يعكس بنية هشة بلا جيش، عاجزة عن حماية شعبها أو ممارسة المقاومة، مقتصرة على إدارة الشؤون الداخلية فقط. ورغم تباعد الموقف الإيراني عن بعض التوافقات الإقليمية، دعا عظيمي إلى إطار للحوار بين دول المنطقة لمواجهة العدوان الإسرائيلي وتعزيز قضايا الأمن الجماعي، لافتاً إلى أن قضايا استراتيجية مثل تدفق الطاقة من أذربيجان إلى إسرائيل يمكن أن تُدار كورقة ضغط إقليمية، وهنا يمكن لتركيا أن تمارس دوراً محورياً.
أما فيما يتعلق بالدور المصري، فقد أشار المتحدثون إلى جهود الوساطة المصرية المتواصلة في قطاع غزة، سواء لتخفيف الضغوط الإنسانية أو لدعم المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني، بما يساهم في الحد من التصعيد الإقليمي.
وفي خلاصة الجلسة، شدّد الدكتور خيري عمر على أن تفاعل الدول الأربع مع تطورات العدوان على غزة يعكس تسارع استجابة عربية وإسلامية نحو دعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والبحث عن ضمانات لوقف إطلاق النار. كما دعا إلى تجاوز الخلافات التقليدية بين هذه الدول لصالح بناء أرضية سياسية مشتركة تكون بمثابة ظهير للقضية الفلسطينية، وتعزز فرص الشعب الفلسطيني في مواجهة الإبادة ونيل حقه في الدولة المستقلة.
الندوة الدولية: تضامن عالمي وضغوط على “إسرائيل”
عُقدت الندوة الدولية ضمن أعمال المؤتمر برئاسة البروفسور حسن أونال (جامعة باشكنت)، الذي شدّد في مداخلته على أن «العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب لم يعد خاضعاً لهيمنة الغرب»، مؤكداً أن «الموارد المخصصة لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة وأوروبا سوف تتناقص تدريجياً»، وأن «الضغط الشعبي في الغرب يضعف دعم النخبة السياسية لإسرائيل»، محذراً في الوقت نفسه من أن «سياسة إسرائيل في إعلان الجميع أعداء ليست مستدامة».
تركّزت أعمال الندوة على دور المجتمع الدولي، ولا سيما القوى الكبرى مثل أوروبا وروسيا، في وقف الإبادة ودعم بناء الدولة الفلسطينية. وقد شدّد المتحدثون على أن التحولات الجارية في النظام الدولي وتصاعد الضغوط الشعبية العالمية تفتح الباب أمام بلورة مقاربات جديدة أكثر فاعلية.
من جانبها، أكدت البروفيسورة كاليبسونيكولائيدس (معهد الجامعة الأوروبية) عبر الاتصال المرئي على ضرورة أن يكون لأوروبا دور أكثر فاعلية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، مشيرة إلى أن انعقاد مؤتمر فلسطين الدولي قبيل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة يحمل أهمية لتوحيد الرؤى الأوروبية. وأوضحت أن الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، أرسل تحياته إلى المؤتمر الدولي حول فلسطين، معربة عن دعم أوروبا للجهود الرامية إلى حل الصراع، مؤكدة أن «أوروبا لا ينبغي أن تبقى على الهامش»، وأن عليها ممارسة دور أكثر نشاطًا وفاعلية لتحقيق التوازن الدولي ودعم حقوق الشعب الفلسطيني.
وأشارت إلى أن انضمام دول أوروبية جديدة إلى صفوف المعترفين بدولة فلسطين يُعدّ تطوراً مؤثراً في موازين القوى داخل مجلس الأمن، لكنها شددت على أن الاعترافات الرمزية «لا تكفي ما لم تتبعها سياسات أكثر حزماً تجاه انتهاكات إسرائيل».
أما الدكتور هـ. آ. هيلير (المعهد الملكي للخدمات المتحدة – بريطانيا) فقد تناول الفجوة بين الشارع الغربي وصناع القرار، مشيراً إلى أن «الرأي العام في أوروبا يعارض بشكل واضح ما تفعله إسرائيل في غزة؛ ولكن هذا الرد لم ينعكس بعد بشكل كامل في السياسات والممارسات الحكومية». وأضاف أن «المملكة المتحدة والعديد من الدول الأوروبية تستعد للاعتراف بدولة فلسطين؛ ولكن هذه الخطوة ليست مكافأة أو عقاباً، بل هي اعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير»، مؤكداً أن «قضية غزة قضية محورية للغاية بحيث لا يمكن تجاهلها في الدراسات الأمنية الأوروبية والإقليمية على حد سواء».
وفي السياق الألماني، أشار ستيفان أوسنكوبف (معهد شيلر) إلى أن الانتقال نحو نظام متعدد الأقطاب يفتح آفاقاً جديدة لحل القضية الفلسطينية، لكنه انتقد موقف برلين قائلاً: «لقد قدّم بلدي ألمانيا أداءً سيئًا جدًا في امتحان فلسطين، بتفضيلها الاصطفاف إلى جانب حكومة نتنياهو». وأوضح أن «المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في ألمانيا تخضع لرقابة مشددة، ويتم قمع وسائل الإعلام المستقلة والصحفيين»، معتبراً أن الحل العادل يتطلب «تعاون مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي ودول الجنوب العالمي لعزل إسرائيل على الساحة الدولية».
كما قدّم الأكاديمي والدبلوماسي الروسي ألكسندر سوتنيتشينكو (رئيس البيت الروسي في أنقرة) قراءة تاريخية شبّه فيها حصار غزة بحصار لينينغراد، مؤكداً أن «السلاح الرئيسي المستخدم هو سلاح التجويع». ورأى أن «اليوتوبيا الليبرالية قد انهارت؛ والآن أصبح كل فاعل يهتم فقط بأمنه ومصالحه الخاصة»، محذراً من أن الجرائم الجماعية التي لا تُسجّل في الذاكرة العالمية تبقى بلا عقاب، وهو ما يعمّق عزلة إسرائيل الأخلاقية.
أما السياسية الألمانية Żaklin Nastic (عضو البوندستاغ)، فقد شددت على المسؤولية التاريخية والأخلاقية لألمانيا، قائلة: «بعد أوشفيتز، أقسمت ألمانيا ’لن يتكرر هذا أبداً!‘؛ وهذا ليس مجرد وعد، بل هو مسؤولية تاريخية وأخلاقية»، معتبرة أن هذا الوعد يُنتهك اليوم عبر التواطؤ في الإبادة من خلال شحنات السلاح والدعم السياسي لإسرائيل. وأضافت متسائلة: «بينما نقول: لن يتكرر هذا أبداً!، نتساءل: ولكن لمن؟».
وفي ختام الجلسة، أعاد البروفسور حسن أونال التأكيد على أن تراجع الهيمنة الغربية سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف الدعم غير المشروط لإسرائيل، مضيفاً أن سياستها القائمة على معاداة الجميع لن تكون قادرة على الاستمرار طويلاً.
أبرز المخرجات والتوصيات :
اختُتم المؤتمر الدولي في إسطنبول بالتوافق على أن بناء الدولة الفلسطينية يتطلب مسارًا مزدوجًا يجمع بين المصالحة الفلسطينية الداخلية وتحقيق وحدة الصف الوطني بدعم إقليمي، وبين تصعيد الضغط الدبلوماسي الدولي على إسرائيل لضمان وقف عدوانها والامتثال للشرعية الدولية. وأكد المشاركون على ضرورة إنهاء الحرب الإسرائيلية والانسحاب الفوري من قطاع غزة، وفتح مسارات لإدخال المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار القطاع، إلى جانب إعادة بناء التمثيل الوطني الفلسطيني على أساس الشراكة الجامعة لجميع القوى والفصائل وإنهاء الانقسام الداخلي وتعزيز دور المجتمع المدني ضمن برنامج سياسي توافقي. كما تم التأكيد على تشكيل قيادة فلسطينية موحّدة لإدارة التفاوض حول إنهاء الحرب، وإطلاق مرحلة انتقالية تُبلور رؤية وطنية متكاملة تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة، مع اغتنام الزخم والدعم الدولي لتعزيز الاعتراف بدولة فلسطين، وصولًا إلى إجراء انتخابات عامة فور توقف الحرب لترسيخ الشرعية الوطنية وتعزيز وحدة الصف، بما يوجه رسالة أمل واضحة بنقل القضية الفلسطينية من حقبة الإبادة والحصار إلى مرحلة البناء السياسي واستعادة السيادة الوطنية.
ختامًا نقدم توصيات الندوة الفلسطينية
- إعطاء الأولوية على المستويات الفلسطينية والإقليمية والدولية لإجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار.
- العمل على إعادة ترتيب التمثيل الوطني الفلسطيني بمشاركة الجميع، وإنهاء الانقسام، عبر إصلاح منظمة التحرير، على أساس برنامج سياسي توافقي، وإجراء الانتخابات بعد وقف العدوان.
- إلى حين استكمال إصلاح منظمة التحرير، ينبغي المسارعة إلى إنتاج وفد موحّد يمثل الشعب الفلسطيني في مفاوضات وقف الحرب. وأن يعمل الفلسطينيون على بلورة رؤية وطنية لكيفية التعامل مع المرحلة الانتقالية، التي تشمل بعد وقف الحرب الاتفاق على هياكل إدارة الحكم.
- المسارعة في بناء تحالف دولي متعدد الأقطاب داعم لحقوق الشعب الفلسطيني، يقوم على توسيع الاعتراف بالدولة الفلسطينية عبر التفاعل مع المبادرة السعودية ـ الفرنسية، مع المطالبة بأن يرافق الاعتراف بالدولة الفلسطينية استراتيجية لإنهاء الاحتلال والاستيطان، وتحديد إجراءات عقابية لإسرائيل إن لم تتجاوب معها.
- تعزيز التشابك والتنسيق مع الحراكات التضامنية في العالم، ومع دول الإقليم والعالم المتضامنة مع الشعب الفلسطيني.