
آفاق التقارب الإقليمي مع إيران بعد الحرب الايرانية الاسرائيلي
كان العدوان الإسرائيلي على إيران كاشفًا لطبيعة التهديد العسكري الذي يواجه دول المنطقة. فقد أظهرت انطلاق الطائرات، بدعم ومشاركة أمريكيين، مدى اتساع هذا التهديد الممنهج، الذي لا يستهدف تصفية القضية الفلسطينية فحسب، بل يهدد استقرار المنطقة دولاً وحكومات أيضًا.
منذ اليوم الأول للهجوم، كان وعي الدول العربية والإسلامية واضحًا في إدراك خطورة الموقف والتعامل معه بجدية غير مسبوقة. وقد عكست تحركات هذه الدول خلال الحرب جانبًا مهمًا من التضامن، من أجل الحيلولة دون سقوط إيران في هذه المواجهة تحديدًا في نطاق رؤية ترى أي انتصار اسرائيلي على إيران يفاقم من خطر التهديد العسكري والأمني الاسرائيلي المدعوم من واشنطن على كل المنطقة وليس فقط على مسار تصفية القضية الفلسطينية. كان الهدف الواضح هو أن يصمد الإيرانيون بما يحدّ من التطلعات الأمريكية ويقيد تحركاتها المستقبلية.
بعد وقف إطلاق النار، بدأت ملامح العلاقات الإقليمية بالتشكل. وكانت الملاحظة الأساسية في توجه الدول نحو بناء علاقات هيكلية مع إيران، بحيث تكون أساسًا لتجاوز الخلافات السابقة أو على الأقل التخفيف منها. فعلى سبيل المثال كان الموقف المصري، يبقي التواصل السياسي قائمًا بين القاهرة وطهران، انطلاقًا من هدف مشترك يتمثل في تثبيت وقف إطلاق النار ومناقشة الملف النووي في إطار الأمن الجماعي، وربطه باتفاقية منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وليس التعامل معه باعتباره مشكلة إيرانية محضة مع الدول الغربية.
على أي حال، تعكس السياسة العربية توجهًا يتجاوز النظر إلى إيران باعتبارها مشكلة أمنية أو عسكرية فقط. وقد يدفع هذا التوجه نحو تغيير واسع في نمط العلاقات، يقوم على تحييد الخلافات المذهبية في الحوار السياسي، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها.
شهدت هذه الفترة تراجعًا في مسار الوساطة بشأن حرب غزة، مقابل تنامي تأثير الولايات المتحدة. فلم يعد إطار الوساطة الثلاثية (قطر، مصر، أمريكا) فاعلًا بالقدر نفسه، إذ تعمّدت السياسة الأمريكية التصرف منفردة من دون تنسيق. وقد يوفر هذا النهج ضمانات مؤقتة، لكنه على المستوى الاستراتيجي يهدف إلى استغلال الحرب في غزة لإحداث الفوضى في الإقليم، وخلق فجوة بين الفلسطينيين والدول الإسلامية، لا سيما فيما يتعلق بتأثير الوضع في سوريا على القضية الفلسطينية والأمن في لبنان.
ورغم هذه المشكلات، تحاول تركيا بالتنسيق مع الوسطاء انتزاع اتفاق للتهدئة والتقاط الأنفاس كخيار مرحلي. ولهذا تتحرك هذه الدول في مسارين: الأول دفع الفلسطينيين للتوافق على مبادرات لوقف الحرب حتى لا تنهار قدرة المجتمع أو يفقد غطاءه السياسي، والمستوى الثاني تساهم فيه الرياض والمتمثل بحشد الجهود الأوروبية لضمان تنفيذ التهدئة وتأمين المساعدات الإنسانية.
يبدو سمات الموقف الاقليمي متناقضًا بين مساندة إيران وإدانتها انتهاك السيادة القطرية والذي تمثّل في استهداف طهران لقاعدة العيديد في قطر، لكنه في جوهره يقوم على التمييز بين العمل ضمن التوازن الإقليمي ومنع تقويض إيران، باعتبار أن سقوطها خطوة تمهّد لاختلال التوازن لصالح إسرائيل. أما على مستوى الخليج العربي، فرغم وضوح الطابع الترضوي في الدعوات لوقف الحرب، يمكن تفسير رفض ضرب قطر ضمن تصور يهدف إلى منع تصدير الاحتقان الدولي على حساب الدول الإقليمية. وهو موقف يتسق مع توجّه كل من السعودية والإمارات حيث ترى هذه البلدان بوحدة الأمن الإقليمي لبلدان الخليج العربي غير قابل للتجزئة مهما كانت المبررات لذلك جاء المواقف الخليجية والاقليمية متسقة في ادانة انتهاك السيادة القطرية وهو ما استوعبته طهران من خلال الاتصالات التي أجراها الرئيس الايراني مسعود بازيشكيان مع قادة دول الخليج العربي كمحاولة لطمأنتها حول موقف طهران وعدم رغبة ايران تقويض الامن على جانبي الخليج العربي.
في هذه الفترة، ورغم التباين بين المصالح التركية والإيرانية في سوريا، كانت الحكومة التركية تدرك تمامًا أهمية منع هزيمة إيران. ولذلك، كانت أنقرة واحدة من ركائز دعم الموقف العربي والإسلامي في مواجهة الهجمات الإسرائيلية على المدن والمنشآت الإيرانية. وعلى صعيد آخر، تلعب تركيا دورًا رئيسيًا في إبقاء حركة حماس طرفًا فاعلًا ضمن الساحة الفلسطينية، والتعويض عن محاولات الولايات المتحدة إضعاف مسار الوساطة. وبهذا النهج، تقوم السياسة التركية على الربط بين أمن الإقليم من غزة مرورًا بسوريا والخليج وصولًا إلى إيران.
بعد وقف إطلاق النار، تشهد العلاقات السعودية الإيرانية تطورًا ملحوظًا قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة لأمن الخليج. فلم يقتصر الأمر على تكرار الاتصالات بين البلدين، بل ظهرت رغبة واضحة في تعميق المصالح المشتركة وتخفيف التوتر الأمني في الخليج العربي. يتضح ذلك في لقاءات وزراء الخارجية والتطمينات المتبادلة بخصوص السياسة الدفاعية، على عكس حالة القلق التي كانت سائدة في العام الماضي نتيجة الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران.
تتقدم الدول الثلاث السعودية ومصر وتركيا بمسار سياسي ودبلوماسي لمواجهة تداعيات الهجوم على إيران والمجازر في قطاع غزة، انطلاقًا من قناعة بأن العامل الدولي يحرّض على الفوضى في المنطقة عبر الضغط على الأنظمة واستغلال الفراغ في سوريا. وفي هذا السياق، تبرز ملامح التفاهم بين هذه الدول على ضرورة وقف محاولات إشعال الحروب، وتبني التهدئة والحلول السياسية في غزة كخيار مرحلي لإنقاذ الوضع الإنساني.
ويعكس اتساع دائرة التشاور إمكانية بلورة رؤية سياسية موحدة تجاه التحالف الأمريكي مع حكومة نتنياهو، باعتباره تهديدًا مباشرًا لا يقف عند حدود استهداف الحكومات، بل يتعداه إلى الترويج لفكرة شرق أوسط جديد يقوم على تقسيم بعض الدول أو فرض حكومات موالية عليها. وفي هذه الأجواء، تتقاطع مواقف الدول الثلاث في اعتبار إسرائيل تهديدًا متصاعدًا، خاصة مع الدعم الأمريكي المتزايد والدفع نحو حرب قد تشمل إيران ولبنان وسوريا معًا. ولهذا باتت القواسم المشتركة بينها أكبر من أي وقت مضى، وصار التركيز ينصب على مواجهة التحديات العسكرية العاجلة، فيما لم يعد التطبيع أولوية كما كان.