
تهدئة الـ 60 يوم المحتملة وانحسار الخيارات الفلسطينية
في ظل مُجريات التفاوض على التهدئة في الدوحة والقاهرة، تسعى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة إلى تكثيف الضغط على حكومة الاحتلال للتراجع عن التعنت بخصوص شرط الإبقاء على قوات عسكرية في المحورين المذكورين عبر توجيه الأطراف الإقليمية والدولية، ومزامنة ذلك بتكثيف عملياتها العسكرية النوعية والمركبة، والتي ارتفعت بوتيرة غير مسبوقة لتصل إلى معدل شبه يومي تقريباً في الأسابيع الأخيرة. مما يُشكّل ضغطاً حقيقياً على الجبهة الداخلية ويُربك حسابات حكومة الاحتلال، خاصةً في ظل انحسار خيارات الحسم العسكري وخلو التواجد العسكري من أي دواعٍ أمنية ميدانية أو عملياتية، وهو ما انعكس بشكلٍ جلّي في الارتفاع الكبير في فاتورة الخسائر البشرية في صفوف جنود الاحتلال.
الضغط الميداني وتحريك المشهد التفاوضي
ومع تزايد مؤشرات اقتراب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بُعيد المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، بالتزامن مع ضغطٍ أمريكي مُتزايد بهذا الاتجاه، تسعى المقاومة إلى محاولة الضغط على دولة الاحتلال لانتزاع استحقاقاتٍ في سياق الاتفاق المحتمل، بما يُمهّد لوقف نهائي للحرب وانسحاب كامل لجيش الاحتلال، وذلك عبر تكثيف العمليات المركبة والنوعية ضد قواته وآلياته المتوغلة في محاورٍ عدة شرق القطاع، مما يُسهم في تصاعد الضغط العسكري الميداني على جيش الاحتلال، مما يُتوقع أن يُفضي إلى تأثير ملحوظ في مرونة الموقف التفاوضي الإسرائيلي، وهو ما تبلور في تقديم مقترحاتٍ محسّنة على خرائط الانتشار للمرة الثالثة.
وعلى نحوٍ متصاعد، تركت العمليات المركبة النوعية في استهداف قوات الاحتلال أثراً ملحوظاً في تصاعد الضغط الداخلي على حكومة نتنياهو ليس على المستوى المجتمعي فحسب، بل على المستوى الرسمي أيضاً؛ إذ تتصاعد أصوات المعارضين من داخل المؤسسة العسكرية للعمليات المستمرة في القطاع دون جدوى، خاصةً مع ارتفاع فاتورة الخسائر البشرية في صفوف جنود الاحتلال مؤخراً، وهو ما وسّع أيضاً كتلة المعارضين أوساط المجتمع الإسرائيلي لتشمل معظم عائلات الجنود المشاركين في الحرب، إلى جانب عائلات الأسرى. وهذا دفع المقاومة إلى إعادة توجيه استراتيجيتها نحو توسيع دائرة استهداف قوات الاحتلال بعملياتٍ مركبة ومتزامنة بدلاً من الاعتماد على ملف عائلات الأسرى فقط خلال الفترة الماضية، مما أربك حسابات الخطط العسكرية الإسرائيلية، وانعكس بالفعل على ملف التفاوض.
مراهنة حماس على تنازلاتٍ إضافية
في مقابل المرونة المدروسة التي تبديها حكومة الاحتلال في المشهد التفاوضي، لا يُتوقع أن تُقدم حركة حماس إلى القبول المباشر على المقترحات المعدّلة، لا سيّما خريطة الانتشار الثالثة الأخيرة التي تقترح تقليص مساحة الانتشار إلى منطقة عازلة في شرق رفح لا تتجاوز الـ 2 كيلو متر، نظراً لكونها مرونة جاءت كاستجابة اضطرارية لضغوطٍ مركبة؛ أبرزها استمرار عمليات المقاومة وتصاعد وتيرة الضغط الداخلي والرسمي على حكومة الاحتلال، لا سيّما بعد طرح مخطط التجنيد الذي قُوبل برفضٍ واسع لليمين المتطرف، ما يُهدّد تماسك الائتلاف الحكومي، وهو ما يسعى نتنياهو لتفاديه بأي ثمن في هذه المرحلة الحرجة.
لذا من المتوقع أن قراءة حركة حماس لهذه المُعطيات ستزيد من تمسكها بشروط الانسحاب الكامل أو وفق شروط اتفاق يناير الماضي، وهو ما يضطر دولة الاحتلال إلى تقديم تنازلاتٍ إضافية إزاء تلك الشروط رغبةً في انجاز تفاهمٍ مرحلي يُمهد لحكومة الاحتلال إمكانية التنصل من الضغوط الميدانية والداخلية المتصاعدة، ويفتح لها هامشاً سياسياً لإعادة ترتيب الحسابات أو صياغة خيارات أخرى لتحقيق مكتسبات خلال مفاوضات الحل النهائي.
فيلادلفيا ورفح بوابة التهجير
يبرز فتح معبر رفح كأحد المطالب المحورية لحركة حماس في المفاوضات الجارية، في ظل الربط المتزايد بين التواجد العسكري الإسرائيلي في محيطه ومخططات التهجير القسري، التي عادت إلى الواجهة مجددًا مع طرح الاحتلال لمقترح “المدينة الإنسانية” شرق رفح. لذا تسعى حركة حماس إلى قطع الطريق على الأخيرة عبر التشدد بخصوص خرائط انتشار قواته. ولذلك، يلجأ الاحتلال إلى التمسك بسردية أن محور فيلادلفيا يُشكّل الممر الرئيسي لتهريب السلاح للمقاومة في القطاع عبر الحدود المصرية، وهو ما رفضته قيادة القسام مؤكدةً على أن كل ما تملكه المقاومة من إمكانيات عسكرية هو نتاج تصنيع ذاتي محلي، ومنذ سنوات لا يوجد أي تهريب للسلاح عبر محور فيلادلفيا.
وفي هذا السياق، يُلاحظ أن تصريح قيادة القسام على سردية الاحتلال بخصوص تهريب السلاح عبر الحدود المصرية يرتبط بسياق المشهد التفاوضي الجاري؛ إذ أعاد الاحتلال تفعيل سرديته الأمنية حول محور فيلادلفيا تزامناً مع تصاعد المفاوضات بشأن مستقبل التواجد العسكري الإسرائيلي في محوري فيلادلفيا وموراج لتبرير السيطرة الأمنية على منطقة شرق رفح، التي يتواجد فيها معبر رفح، وهو ما يثير مخاوف فلسطينية متزايدة من احتمال توظيف الاحتلال لهذا الوجود بهدف تنفيذ سيناريو التهجير القسري.
تخوف السلطة من تداعيات اتفاق غزة
وجهت السلطة الفلسطينية انتقاداً رسمياً لأول مرة للسياق التفاوضي لمحادثات وقف إطلاق النار في كونه يُقصيها؛ ومما زاد من استياء قيادة السلطة التجاهل الأمريكي لطلب محمود عباس للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضرورة اشراك السلطة في المفاوضات. كما أعربت عن اعتراضيها الشديد لعدم تضمين أي بنود في الاتفاق تربط التصعيد الجاري في الضفة الغربية بالتهدئة في قطاع غزة، وهو ما يُكرّس الانقسام الجغرافي الفلسطيني بما يتماشى مع مخطط الاحتلال الرامي إلى تقويض المكون الفلسطيني سيادياً وجغرافياً.
وعليه، يُلاحظ أن التجاوب الرسمي للسلطة مع زخم محادثات وقف إطلاق النار وحيثياتها يتمحور حول التخوف الرئيسي من الترابط الزمني ما بين مخرجات تفاهم وقف إطلاق النار في غزة والمساعي الإسرائيلية إلى التصعيد في الضفة الغربية ضمن تفاهمات نتنياهو واليمين المتطرف، لا سيّما إجراءات تصفيتها وتهميشها كما صرّح بن غفير وسموتريتش في عدة مناسبات.
ورُغم توافق موقف قيادة السلطة مع الموقف الفصائلي بشأن شرطي الوقف النهائي للحرب والانسحاب الكامل لجيش الاحتلال من القطاع، فإن طرحها بخصوص بتسلّم إدارة القطاع وسلاح المقاومة يُشكّل موضع تباين مع التوجه الفصائلي، نظراً لتزامن هذا المطلب مع مساعي الاحتلال لاشتراط هذا البند في تفاهم إنهاء الحرب، وهو ما قد يفتح الباب أمام تأزيم المشهد الفلسطيني الداخلي. وفي المقابل، أبدت قيادة السلطة مؤخراً انفتاحاً على أي تفاهمٍ داخلي شامل بخصوص إدارة القطاع، مدركة أن بسط نفوذها في غزة لا يمكن أن يتم دون توافق وطني، بعد أن كانت قد رفضت أي صيغٍ تفاهمية، وهو ما دفعها حينها للتنصل من تفاهم لجنة الإسناد المجتمعي الذي حظي بإجماع فصائلي في القاهرة.وعلى أي حال، رُغم المرونة التي أبدتها حركة حماس بقبولها صيغة التفاهم المرحلي، لا تزال المواقف الإسرائيلية المتشددة، ولا سيما الإصرار على الإبقاء على وجود عسكري في عدة محاور داخل قطاع غزة ورفض الإنهاء الكامل للحرب أو وقف التصعيد في الضفة الغربية، تمثل عقبة حقيقية أمام التوصل إلى اتفاق تهدئة يفتح الطريق أمام مسار سياسي.