أوراق سياسية

“اسرائيل” من حرب الإبادة لخنق الاقتصاد الفلسطيني

بجانب الحرب في غزة، تخطو سلطة الاحتلال نحو المزيد من الحصار على الضفة الغربية والسلطة، حيث تتجه لاستهداف النظام المصرفي الفلسطيني بإعلان وزير مالية حكومة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، عزمه عدم تجديد ضمانات المراسلات البنكية بين بنكي “هبوعليم” و“ديسكونت” والبنوك الفلسطينية عند انتهاء سريانها في 30 نوفمبر 2025. ومع أن القرار لم يُحسَم بصورة نهائية حتى الآن، واقتصر الأمر على تمديدٍ قصير لمدة أسبوعين فقط، فإن غياب أي أفق واضح لاستمرارية هذه الضمانات عمّق حالة الضبابية التي تُلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي الفلسطيني المتأزّم بالفعل من جراء السياسات الإسرائيلية الممنهجة طيلة السنوات الماضية. يتناول التقرير الملامح العامة لسياسة الاحتلال، وجهود الفلسطينيين في البحث عن بدائل لتجاوز الخنق النقدي، وكذلك، يتعرض للمواقف الإقليمية في تخفيف آثار تلك السياسة ودعم الكيانية الفلسطينية.

( 1) إسرائيل وقطع العلاقة المالية مع البنوك الفلسطينية

بعد تلقي البنوك الفلسطينية في 12 نوفمبر 2025 إخطاراً من البنوك الإسرائيلية يفيد بقطع العلاقات المالية بدءً من مطلع ديسمبر الجاري، عادت البنوك الإسرائيلية عبر موافقة وزير المالية في حكومة اليمين الصهيونية إلى تمديد العلاقات المالية لأسبوعين إضافيين، أي أن النظام المالي الفلسطيني سيكون في منتصف الشهر الحالي أمام أزمة مالية غير مسبوقة، وبلا أي حلول واضحة، فكل ما يتم طرحه من حلول يبدو أنه مجرد اجتهادات تغيب عنها الحلول الجذرية التي من شأنها أن تكون طوق نجاة للاقتصاد الفلسطيني.

منذ صعود حكومة اليمين التي يقودها نتنياهو كانت العقوبات المالية أحد أدواتها للضغط على السلطة الفلسطينية، وقد نجحت تلك الضغوط في خلق مواجهة أمنية بين السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة شمال الضفة الغربية في نهاية عام 2024، كما نجحت تلك الضغوط الإسرائيلية في تخلي المؤسسات الرسمية الفلسطينية عن الالتزام المالي أمام أهالي الأسرى والشهداء والجرحى ليتم تحويل ملفهم الى مجرد مسألة إنسانية تحاول السلطة الفلسطينية حلها عبر مؤسسة خاصةً تُدعى تمكين.

لم تكتف الحكومة الإسرائيلية بهذه العقوبات المالية التي تسير بالتزامن مع الإجراءات التي تهدف في نهاية المطاف الى ضم الضفة الغربية، بل تسعى من خلال قطع العلاقة مع البنوك الفلسطينية الى وضع الاقتصاد الفلسطيني عند مستوى الانهيار، وهذا ما سبق وأن حذر منه معهد الأمن القومي الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية الصهيونية التي حذرت من المزيد من خنق السلطة الفلسطينية مالياً خشيةً على عدم تمكنها من القيام بدورها المالي اتجاه مئات الالاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو ما يخلق المزيد من التطرف في الضفة الغربية وفقاً للتوصيات الإسرائيلية.

وهناك توقعات بأن يكون هدف الإجراءات هو محاولة احياء مشروع نتنياهو القديم الذي يقوم على بناء شركة مالية حكومية إسرائيلية تحل محل البنوك الإسرائيلية لتسيير العلاقة مع البنوك الفلسطينية، وبالتالي تتجنب أي عقوبات مالية دولية، كما أن الإبقاء على تلك العلاقة المالية مع الجانب الفلسطيني يُعد مطلباً للعديد من الأطراف الدولية، وخصوصاً القوى الأوروبية التي تدعم الموقف الفلسطيني.

وبينما تذهب الحكومة لتقييد التعامل مع السلطة، فإنه من الواضح أن حكومة اليمين وخصوصاً جناحها الأكثر تطرفاً غير معنية ببقاء السلطة الفلسطينية، وهذا ما يتم التأكيد عليه بشكل مُعلن من قيادات عدة داخل حكومة نتنياهو. من جانبها لا تعلق المعارضة الإسرائيلية على تلك المسألة، لأن سموتيرتش والبنوك الإسرائيلية يقدمون مبرراً يبدو منطقياً على المستوى الداخلي الإسرائيلي، لأن البنوك الإسرائيلية تدعى أنها تخشى العقوبات المالية الدولية بسبب تعاملها مع البنوك الفلسطينية التي تسمح بتبييض الأموال وتدعم الإرهاب على حد وصفها، وهذا ما يجعل تلك المسألة المتجددة بعيده عن اهتمامات المعارضة والرأي العام الإسرائيلي.

من الواضح أنّ الحكومة الإسرائيلية لم تتبنّ رؤية وزير المالية بشأن قطع العلاقات المالية مع البنوك الفلسطينية؛ إذ إن التمديد الفني لهذه العلاقة لمدة أسبوعين إضافيين يشير إلى أنّ حكومة نتنياهو لم تحسم قرارها بعد في هذا الملف. ويعزّز ذلك موقف رئيس الحكومة الذي عبّر صراحةً عن رفضه لقطع العلاقة، ما يدل على أنّ الخلاف بين نتنياهو وسموتريتش حول هذا الموضوع يأتي في إطار المساومات والخلافات الداخلية داخل الائتلاف الإسرائيلي.

وتتخذ هذه الخلافات مسارين رئيسيين:
الأول يتعلق بطبيعة العلاقة المالية الإسرائيلية–الفلسطينية، حيث تفيد العديد من التحليلات بأن حكومة نتنياهو قد تلجأ إلى فرض قيود جديدة على المؤسسات الفلسطينية وعلى عدد من الحسابات المصرفية، مقابل الموافقة على تمديد العمل بالترتيبات المالية القائمة. ويشمل ذلك خصوصًا الحسابات التي تشتبه إسرائيل بوجود تعاملات “غير شرعية” فيها، سواء كانت عائدة لمؤسسات أو لأفراد.

وفي المسار الثاني، فعلى المستوى السياسي، يظهر الصراع الداخلي على الصلاحيات، حيث يهدف سموتيرتش من وراء ذلك الى تحقيق مكاسب سياسية من شأنها زيادة نفوذه داخل التيار الحاكم، وهذا ما يفسر تهديده بالانسحاب من الائتلاف في حال تمسك نتنياهو بموقفه الرافض لقطع العلاقات المالية مع الجانب الفلسطيني. وهناك تقدير بأن نتنياهو يواجه أزمة قانونية تهدد حياته السياسية وهو بحاجة ماسة للعفو الرئاسي الذي يسعى اليه ترامب، وفي حال عدم نجاح سيناريو العفو الرئاسي.

فمع بقاء أزمة نتنياهو قائمة، تتقلص فرص استمرار الائتلاف، وهو ما يعزز من اقتراب الانتخابات، وهذا ما يستعد له اليمين الديني وسموتيرتش على وجه الخصوص لانه يعتبر اجراءاته في الضفة الغربية جزءا مهما من انجازاته السياسية ومن شأنها أن تعزز من فرصه السياسية في المرحلة المقبلة، وهذا ما يجعل قوى اليمين أكثر اندفاعاً لتوظيف الوضع الداخلي بما يدعم من فرصها الانتخابية القادمة بغض النظر عن مستقبل نتنياهو السياسي.

رغم التخوف الفلسطيني المستمر من قطع العلاقات المالية، ومدى تأثيرها على الاقتصاد الفلسطيني، إلا أن التأثير في الوقت الراهن هو الأقل من حيث حجم الأضرار التي يمكن أن تقع على الاقتصاد الفلسطيني، لأن العلاقة المالية الإسرائيلية الفلسطينية تسير الآن عند حدها الأدنى، ولم تتسلم السلطة الفلسطينية أموال المقاصة المستحقة من الجانب الإسرائيلي على مدار الأشهر الست الماضية، كما أن الغالبية العظمى من عمال الضفة الغربية باتوا عاطلين عن العمل منذ أحداث السابع من أكتوبر، وهذا ما يقلل فلسطينياً من أهمية تلك التهديدات الإسرائيلية المتكررة في هذا الشأن.

( 2) التفاعل الفلسطيني مع قرار فك الارتباط المصرفي الإسرائيلى مع البنوك الفلسطينية 

وإزاء التصرفات الإسرائيلية، سارت محاولات من الخبراء الاقتصاديين للبحث عن خيارات بديلة لتشغيل النظام المصرفي بمعزلٍ عن أي ارتباطٍ فعلي مع البنوك الإسرائيلية، غير أن الأطراف الفلسطينية تُدرك محدودية جدوى هذه الخيارات في ظلّ تغوّل الاحتلال وقدرته على فرض قيود شاملة على المنظومة المصرفية الفلسطينية. وقد أسهم التحول الفعلي للملف من كونه أزمة محتملة ومتجدّدة على مدى سنوات، دون توقيت حاسم، إلى مسعى إسرائيلي لإضفاء مستوى ، غير مسبوق ، من الجدية على التهديد بالحصار المالي. 

مسعى فلسطيني لتدويل الأزمة

يُلاحظ في الخطاب الفلسطيني العام إزاء التوجّه الإسرائيلي لإلغاء الارتباط المصرفي، والاكتفاء بتمديدات قصيرة مشروطة، التعاملُ مع هذا المسار على كونه يأتي في سياق المسعى العام لحكومة اليمين المتطرف الرامي الى تثبيت ممنهج لمقاربة العزل المالي التدريجي للسلطة الفلسطينية، بما يعمّق من مستوى الجمود السياسي للأخيرة، بما يمنعها من المناورة في الساحة الدولية على حساب دولة الاحتلال. 

من جهتها، نظرت إليه سلطة النقد الفلسطينية باعتباره العنوان الأبرز الذي يتلقى رسائل البنوك الإسرائيلية، إذ استند خطابها على مستويين؛ الأول، الموازنة ما بين طمأنة الجمهور بمتانة الجهاز المصرفي لتجنب حالة هلع مصرفي، وبين رفع مستوى التحذير من خطورة الأزمة عبر تفكيكها بتسليط الضوء على تداعياتها المحتملة في كونها تشكّل تهديداً مباشراً على قنوات التحويل المصرفي الرئيسية. والثاني، يتمثل في السعي إلى نقل الأزمة إلى الأطراف الدولية للضغط على حكومة الاحتلال من أجل الحفاظ على قنوات المراسلة المصرفية ومعالجة تكدّس الشيكل عبر قبول البنوك الإسرائيلية بتسلّم الفائض المتراكم. 

وتحاول سلطة النقد تبني سردية موجهة لكافة شرائح المجتمع تسلط الضوء على تمتع الجهاز المصرفي بمؤشرات قوية على التكيف مع الأزمة الحالية للتحوط ضد أي حالة هلع مصرفي تدفع المودعين إلى سحب ودائعهم على نطاقٍ واسع، وهو ما أعلنت عنه بالفعل باستعدادها لخطة بديلة تتمثل في تفعيل غرفة عمليات مصرفية داخل سلطة النقد، وتوسيع العلاقات مع البنوك المراسِلة الدولية خارج دولة الاحتلال، إلى جانب الاعتماد على منصات الدفع الإلكتروني. 

ورُغم عدم تبلور خطاب سياسي على مستوى عالٍ بصوت مرتفع، تُشير نشرة الاقتصاد الفلسطيني (تشرين الثاني 2025) الصادرة عن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية (ماس) إلى توجه الحكومة الفلسطينية للتعامل مع اقتراب انتهاء صلاحيّة الإعفاء الإسرائيلي كـمحفّز لتسريع خطوات بديلة تعزّز من استقلالية الجهاز المصرفي الفلسطيني مثل مشروع ضبط النقد عبر الحد من المعاملات النقدية كبيرة القيمة وتوسيع نطاق الاقتصاد الرقمي. 

وفي المقابل، يشكّك الكثير من الخبراء الاقتصاديين والمصرفيين في مدى فعالية تلك الخيارات البديلة في ظل الاعتماد شبه الكامل للمنظومة المصرفية الفلسطينية على تفاهمات المراسلة المصرفية مع البنوك الإسرائيلي، وهو ما ينسحب على تسيير المعاملات المالية لأكثر من 60% من التجارة الخارجية الفلسطينية، ما يزيد من التداعيات الخطرة للقطيعة المصرفية ويقلّل من فرص نجاح أي خيارات بديلة في حال تحولت الأزمة إلى واقعٍ فعلي.

انشغال فصائلي في ملف غزة

في الأشهر الأخيرة، لم تظهر أي بيانات فصائلية مركّزة ومباشرة تتناول ملف إلغاء الضمان للمراسلة المصرفية، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، ويعود ذلك إلى التركيز على مساعي تثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومحاولة صياغة تفاهم وطني على ترتيبات سلاح المقاومة وإدارة القطاع وخيارات التعامل مع قرار مجلس الأمن بتشكيل إدارة دولية.  وهذا الانشغال الكثيف بملف غزة جعل خطاب فصائل المقاومة، يميل إلى التعامل مع سياسات العزل المالي للسلطة على اعتبارها تأتي في سياقٍ تراكمي من أدوات الضغط الإسرائيلية، دون الغوص في تفاصيلها أو تشكيل خطاب تفصيلي خاص بفك الارتباط المصرفي.

ورُغم ذلك، يمكن الاستناد في تقييم قراءة كل من حماس والجهاد الإسلامي تجاه فك الارتباط المصرفي على السياق العام لخطابهما السياسي الذي ينطلق من اعتبار اتفاق أوسلو ومنظومته الاقتصادية (اتفاق باريس) هو الإطار الذي نتج عنه ربط الاقتصاد الفلسطيني بالمنظومة المصرفية للاحتلال، وبالتالي تمكين الاحتلال من استخدام أدوات مالية لعزل السلطة والضغط عليها سياسياً. 

التفاعل الشعبي

في الأسابيع الأخيرة، لم يظهر خطاب احتجاجي واسع للمجتمع المدني الفلسطيني يسلّط التركيز على ملف فك الارتباط المصرفي، إلا أنّ ذلك لا يعني غياب التفاعل الشعبي، بل على العكس؛ يمكن رصد تزايدٍ ملحوظ في مؤشرات القلق المكتوم داخل دوائر الأعمال والقطاع الخاص، خاصة في أوساط القطاعات الأكثر ارتباطاً بالتعاملات البنكية والتجارية اليومية عبر الاستيراد من الاحتلال، لا سيّما الوقود، الكهرباء، والمياه، والمواد الغذائية الأساسية والقطاع الدوائي. 

وبالتوازي، يمكن رصد تفاعل شعبي من نوع مختلف، يتمحور حول هاجس الرواتب والاستقرار المالي للأسرة الفلسطينية؛ ففي ظلّ خبرات تراكمية سابقة مع أزمات حجز أموال المقاصة وتأخير الرواتب، تتصاعد المخاوف من أن يقود فك الارتباط المصرفي إلى سيناريوهات أكثر حدّة، ليس بتأخير الرواتب فحسب، بل لتعطّل القدرة على سحب الأجور من البنوك أو تحويلها، وتراجع قيمة المدخرات في حال اهتزّت الثقة بالقطاع المصرفي.

وعلى أيّ حال، يُظهر حجم المخاطر المحتملة لفكّ الارتباط المصرفي أنّ هذا الملف يتجاوز حدود النقاشات السياسية الداخلية، ليطرح حاجةً ملحّة إلى سياساتٍ مؤسسيةٍ مصرفية تُنتج بدائل تقنية وعمليّة تقلّل من هشاشة البنية المصرفية القائمة. وتوحي القراءة الفلسطينية بشكلٍ عام إلى التوقع باستمرار سياسة التدرج في الابتزاز المالي للسلطة الفلسطينية، عبر اعتماد آلية التمديد القصير دون أي أفقٍ لتمديد طويل مدى، ما يفقدها القدرة في المناورة على حساب الاحتلال في الساحة الدولية. وفي هذا السياق، يدرك الاحتلال المخاطر القانونية والاقتصادية والأمنية المحتملة من وراء الغاء الترابط المصرفي الكامل، أي أن الاحتلال يُفضّل إبقاء الأزمة مفتوحة دون حل طويل المدى، بما يراكم الضغوط على الاقتصاد الفلسطيني المتأزّم بالفعل.

ومع احتمال بقاء الأزمة، فإنه على الفلسطينيين البحث عن تحول شامل لا مجرد إدارة تكتيكية للأزمات المتتالية، عبر بحثٍ ممنهج عن خيارات بديلة تخفّف تدريجيًّا من مستوى الارتهان للمنظومة المصرفية الإسرائيلية وتُعزّز مقوّمات الصمود المالي على المدى البعيد.

( 3) فك الحصار عن السلطة الفلسطينية

يتزامن الحصار المالي الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني (29 نوفمبر)، تسير المواقف الإقليمية نحو تثبيت مواقفها في دعم الكيانية السياسية الفلسطينية، وفي هذا السياق، تضطلع أربع دول بدور واضح في توفير مظلة ورافعة دولية للمؤسسات والفصائل الفلسطينية.

وبالإضافة لنشاط المجموعة العربية الإسلامية، انعقدت خلال الأسبوع الماضي اجتماعات ثنائية بين وزراء خارجية، مصر، تركيا، السعودية، باكستان وفلسطين. وهي حالة تعكس انشغالاً جماعياً بالحفاظ على التمثيل الفلسطيني ومن حدوث فراغ في الأراضي المحتلة أو فصل غزة عن الضفة الغربية.

على مستوى تداعيات قرار مجلس الأمن رقم 2803، تتجه المواقف الإقليمية لتضييق الخناق على محاولات الإفلات حكومة نتنياهو من استحقاقات القرار فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية، لتكون سياسة مشتركة بين الدول الإقليمية. على مستوى سياسة مصر؛ فبعد قطع شوط كبير في وقف إطلاق النار حتى الوصول لوضع قطاع غزة تحت رقابة الأمم المتحدة، كان المسار المُكمل لهذا الدور في اتجاه دعم بقاء السلطة الفلسطينية ككيان شرعي وشخصية دولية اعتبارية، بالإضافة لدعم محادثات وحدة الفصائل الفلسطينية.

والإضافة لتعزيز ضمانات وقف النار والمضي نحو إعادة الإعمار، تقوم مصر بدعم السلطة ديبلوماسياً، بحيث تظل الواجهة الشرعية للفلسطينيين حتى يتم إجراء الانتخابات وتقرير المصير الفلسطيني, ومن بين اللقاءات الكثيرة مع مسؤولي الفصائل، استمرت لقاءات مع ممثلي السلطة الوطنية. في 27 نوفمبر 2025، وفي اجتماع وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، مع حسين الشيخ، نائب رئيس دولة فلسطين، دار الحديث عن ثوابت التعامل مع الحل المصيري، حيث يتكرر التأكيد على إقامة الدولة على حدود 67 والقدس الشرقية عاصمة لها. لا يُعد مثل هذه الخطابات مجرد تكرار في الحديث عن الحقوق الفلسطينية، حيث هو في حقيقته نوعاً من ثبات الموقف في مواجهة الرواية الإسرائيلية ـ الأمريكية الساعية دوماً لاقتراح حلول تتجاوز هذه الثوابت.

وفي 28 نوفمبر الماضي، انعقد اجتماع ما بين وزيري خارجية مصر وفلسطين، لمتابعة تطورات الأوضاع في الأراضي المحتلة وجهود وقف التصعيد في قطاع غزة والحد من تدهور الأوضاع الإنسانية والتصدي للتهجير ورفض أي ترتيبات من جانب واحد، بالإضافة لمراعاة الالتزام بقرار مجلس الأمن والتحضير لعملية سياسية شاملة.

وكما نشطت السياسة التركية مع الدول الإقليمية، فقد أصدرت بياناً في 29 نوفمبر، أكدت فيه على دعم الحقوق الفلسطينية. ومع دخول تركيا شريكاً رسمياً في اتفاق شرم الشيخ ومساهمتها في تعديل المبادرة الأمريكية، صارت تتخذ مسارات نحو تحسين الصيغ القانونية والتوافقات الدولية لبرامج عمل ومشاريع سياسية، تؤدي لتطبيق حق تقرير المصير كنظام حُكم فلسطيني مستقل.

وبشكل عام، تعمل السياسة التركية على جانبين؛ يأتي في مقدمتها إسناد الطرف الفلسطيني في مواجهة الضغوط الخارجية، للحد من فلتان حكومة الاحتلال، والمشاركة النشطة في إطار المجموعة الإسلامية للتحضير لدور قيادي في إعادة إعمار الأراضي الفلسطينية وفق خطة جامعة الدول العربية.

في 29 نوفمبر، كشفت تصريحات وزير الخارجية، هاكان فيدان، عن مضي سياسة تركيا في مواصلة إرساء سلام عادل ودائم يضمن حرية الشعب الفلسطيني، وحقهم في النضال المشروع، وهي سياسة تتسق مع الموقف العربي والإسلامي في الاحتفاظ بالحق في المقاومة حتى يتم تكوين ملامح الدولة الفلسطينية 

وعلى نطاق أوسع، تقوم تركيا بدور إضافي، حيث تعمل على تخفيف الضغوط الإسرائيلية على سوريا لتكون أكثر انسجاماً مع متطلبات الأمن الإقليمي وإبقاءها قريبة من المصالح الفلسطينية. في كثير من الاجتماعات، يقف المسؤولون الاتراك إلى جانب السوريين لمواجهة الضغوط الخارجية من واشنطن أو غيرها لأجل المساعدة في رفع العقوبات كونها قيداً على المجتمع السوري.. 

وفي هذا السياق، تلعب السعودية دوراً مهماً في تعويض السلطة الفلسطينية عن الحظر المالي الإسرائيلي والأمريكي. فخلال الحرب على غزة، قدمت الحكومة السعودية الكثير من المساعدات لتغطية وقف عمل منظمة غوث اللاجئين (أونروا)، وهي مساعدات وفرت الحد اللازم لاستمرار الأنشطة على قيد الحياة. ولمواجهة الحظر الإسرائيلي على البنوك الفلسطينية، وفرت السعودية 90 مليون دولار لتسيير المهام داخل الأراضي المحتلة.

من ناحية الاقتصاد السياسي، يمثل الدور السعودي رافعة مهمة وحيوية لبقاء الكيان السياسي للفلسطينيين، ما يمثل مقاومة واضحة للمساعي الأمريكية لتقويض المكتسبات الدولية للقضية الفلسطينية. وهنا، يظهر الدور السعودي عاملاً مهماً في تحقيق حدٍ من التوازن يدعم الوجود الفلسطيني في مواجهة التجاوزات الإسرائيلية. وضح هذا التوجه خلال زيارة ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، للولايات المتحدة، وذلك عندما أرسى موقف سياسته الخارجية على ضمانات الوصول للدولة الفلسطينية قبل البدء في السلام الإقليمي.

على هذه الأرضية تجمع السياسة السعودية ما بين مسارين؛ الاستجابة السريعة للحاجات الفلسطينية اليومية، والاصطفاف مع المواقف الإقليمية الساعية لضمان الاستقرار الإقليمي باعتباره حزمة واحدة.

من الواضح أن هذه السياسات تعمل في إطار نسق وحدة المصير الفلسطيني، حيث تأخذ في اعتبارها أن وقف الحرب في القطاع هو المُكمل الكيانية الفلسطينية وفك الحصار عن السلطة، وهنا، تبدو المعالجة على مستويين؛ المساعدات الإسعافية لرام الله والتمترس وراء بقاء غزة وسكانها ضمن الإطار الفلسطيني، وهي سياسات تعبر عن وعي بعيد المدى، سوف يساهم في التموضع المناسب للأطراف الفلسطينية.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق