مؤتمر فتح الثامن.. حسابات القيادة بعيداً عن نبض الشارع
عقدت حركة فتح منذ انطلاقتها الأولى في 1 يناير من عام 1965 سبعة مؤتمرات؛ كان أولها في العاصمة السورية دمشق عام 1964، أي قبل أشهر قليلة على إعلان الانطلاقة الفعلية عام 1965، وآخرها المؤتمر السابع في رام الله عام 2016، وتاريخياً، لم تلتزم حركة فتح بنظامها الداخلي الذي يحدد المدة الزمنية لعقد المؤتمرات الانتخابية كل خمس سنوات، إضافة إلى إمكانية عقد مؤتمرات استثنائية في حال طلب ثلث أعضاء اللجنة المركزية، أو نصف أعضاء المجلس الثوري، وذلك لأن الالتزام بتلك اللوائح يبقى رهينة الصراعات والحسابات الداخلية التي تفرض نفسها بقوة على قرار الحركة؛ وهذا ما يفسر قلة انعقاد المؤتمرات مقارنة بما يقرب من ستة عقود مرت على نشأة حركة فتح.
إذا كانت المؤتمرات الثلاث الأولى قد عُقدت بشكل شبه مُنتظم في الأعوام 1964- 1968- 1971 على التوالي، فذلك يعود الى تماسك الحركة، وقدرتها على التأثير في محيطها والصراع مع الاحتلال، وعلى النقيض من ذلك، فإن وصول المدة الزمنية بين المؤتمر الرابع، وما تلاه من مؤتمرات لعشر سنوات، يعود إلى تغلغل الصراعات بين كافة أقطاب الحركة بسبب التطورات السياسية المفصلية التي بدأت بانسحاب منظمة التحرير من بيروت عام 1982، مروراً بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وصولاً إلى الانقسام الداخلي الفلسطيني عام 2007، وحدوث المزيد من التشظي والانقسامات.
رغم سيطرة الحسابات والتوازنات الداخلية، إلا أن المؤتمرات السابقة ساهمت بشكل أو بآخر في تحديد نوعية القيادة التي تقود مجلسيها ” المجلس الثوري- اللجنة المركزية”، لكن الدعوة غير الواضحة لعقد المؤتمر الثامن تأتي بناءً على رغبة إقليمية أكثر من الرغبة الداخلية الساعية للتغيير الحقيقي، وهذا ما سيتم توضيحه في المتن.
التحضير الفتحاوي للمؤتمر الثامن
أعلن أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب في 4 نوفمبر 2021 عن بدء التحضير للمؤتمر الثامن، محدداً 21 من مارس 2022 تاريخاً للانعقاد، غير أن الحركة عادت وأجلت عقد المؤتمر إلى النصف الثاني من شهر مايو المُقبل، وخلال الأسابيع القليلة الماضية عُقدت العديد من الاجتماعات الفتحاوية في هذا الشأن، حيث أشار جبريل الرجوب إلى ذلك، موضحاً أن اللجنة التحضيرية ستبدأ أعمالها بالتنسيق مع اللجنة المركزية والمجلس الثوري.
قبل بدء خطواتها العملية، نسقت حركة فتح مع أقاليمها الخارجية في دمشق وبيروت، وذلك خلال زيارة جبريل الرجوب في 9 يناير من العام الجاري 2022، إلا أن التجاهل يبقى سيد الموقف بالنسبة لإقليم غزة!
ومن المعروف أن مؤتمر الحركة يبدأ من القاعدة وصولاً إلى رأس الهرم، حيث تشمل التحضيرات انتخاب أمناء سر المناطق والاقاليم، وهؤلاء يحق لهم ترشيح أنفسهم لعضوية المجلس الثوري، وصولاً لعضوية اللجنة المركزية، لكن تلك الإجراءات لم تتحقق خلافاً للمؤتمرات السابقة.
تبرر حركة فتح تأجيل مؤتمرها الثامن من مارس إلى مايو المُقبل بانشغالها في الانتخابات المحلية، إلا أن التحضير الهرمي المُعتاد لم يتم حتى الآن في قطاع غزة، وهذا أمر يحتاج لأسابيع، كما أن الترتيبات التي حدثت في الأقاليم الأخرى لم تكن مُعتادة، أي أن اختيار أعضاء المؤتمر العام للحركة لم يتم من خلال الانتخابات، لأن اجتماع أمناء سر حركة فتح في الضفة الغربية مع رئيس الحركة محمود عباس في 8 يوليو 2021 يثير مخاوف الأوساط الفتحاوية، ويُبقي على سيناريو تعيين أمناء سر المناطق والأقاليم من خلال التزكية أمراً وارداً وبشدة، وهو ما حدث في الكثير من أقاليم حركة فتح خلال السنوات الماضية.
أمام ضبابية الموقف الفتحاوي الداخلي، شُكلت اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثامن من خمسة أعضاء من اللجنة المركزية برئاسة نائب رئيس حركة فتح محمود العالول، وعضوين سابقين، وعضوين أخرين من المجلس الاستشاري، بالإضافة إلى ثلاث سيدات من كفاءات الحركةـ وهنا يؤكد مصدر فتحاوي أن هناك لجنة خاصة تناقش وتقرّ النظام الداخلي للحركة بهدف تلافي أخطاء المؤتمر السابع.
بالنظر إلى مُجمل هذه التحضيرات فالحقيقة أنها تسير على مستوى القيادة فقط، وهو أمر عكس المألوف، لأن تلك التحضيرات لابد أن يتزامن معها انتخابات الأقاليم، وهو ما لم يحدث حتى الآن، ولم تُبلغ قيادات فتح على مستوى المناطق والأقاليم بأي شيء يتعلق بالانتخابات، وهذا ما أكده لنا قيادي من حركة فتح في قطاع غزة.
توزيع المناصب القيادية قبل عقد المؤتمر!
استبق محمود عباس عقد المؤتمر الثامن بعقد اجتماعٍ هامٍ للجنة المركزية لحركة فتح في 18 يناير 2022، حيث جرى خلاله تسكين قيادات حركة فتح في مناصب جديدة داخل مجالس منظمة التحرير الفلسطينية، وكان تعيين حسين الشيخ عضواً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير خلفاً لصائب عريقات قد خلّف تداعيات ليس على مستوى الشارع والفصائل الفلسطينية فحسب، بل داخل حركة فتح، لأن وصول حسين الشيخ للجنة التنفيذية، وروحي فتوح رئيساً للمجلس الوطني خلفاً لسليم الزعنون، والعديد من القيادات الفتحاوية الأخرى، يُعتبر تخلصاً من الجيل الفتحاوي القديم، وفرض القيادات الجديدة بعيداً عن الصوت الفتحاوي والفلسطيني عموماً، لكن حتى تلك القيادات التي خرجت من الصورة لم تكن ذات تأثير كبير في الشارع الفتحاوي.
وعليه يمكن القول أن الشارع الفتحاوي لم تعد تجمعه أي صلة أو روابط بقيادته، وهذا سلوك فلسطيني تم تكريسه على مستوى السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وخلافاً لتيارات فتح الأخرى المتمثلة في محمد دحلان ومروان البرغوثي وناصر القدوة فإن الجيل الفتحاوي القديم بات خارج الصورة.
لذا فإن الحديث عن مستوى ما من التنافس لم يعد متاحاً داخل الحركة، خاصةً بعد خروج أبو ماهر غنيم وفاروق القدومي، حيث يسعى محمود عباس إلى ترتيب القيادات عبر توزيع المناصب بما يسمح بمرور المؤتمر الثامن دون أي خلافات تُذكر، في هذا السياق يؤكد لنا مصدر فتحاوي أن عقد المؤتمر الثامن لا يهدف إلى تجديد دماء الحركة، بل يسعى إلى التحضير لخليفة محمود عباس، ويرجح المصدر أن الترتيبات الجارية مجرد ترتيبات شكلية أو متعلقة بنوعية الأعضاء والشخصيات التي ستشارك في المؤتمر.
خلال الأسابيع الماضية أشارت العديد من المصادر إلى أن محمود عباس طُلب منه أمريكياً وإسرائيلياً تحديد الشخص الذي سوف يخلفه، وهذا ما طُبق عملياً في اجتماع المجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في فبراير الماضي؛ لهذا يمكن القول أن العُزلة والتجاهل الذي يواجه محمود عباس شخصياً يأتي في سياق تلك الترتيبات التي أفرزت شخصية حسين الشيخ وماجد فرج.
والحقيقة أن إبعاد الشارع الفتحاوي والفلسطيني عموماً عن اختيار قيادته يتلخص في تنفيذ محمود عباس لطلب الرئيس الأمريكي الديمقراطي بايدن الذي وجه رسالة لمحمود عباس طالبه خلالها بتنظيم عملية انتقال القيادة، مع إعطائه مهلة عامين دون الضغط عليه أو مطالبته بإجراء انتخابات تشريعية أو رئاسية خوفاً من وصول حركة حماس.
المآلات المُحتملة
إن تجاهل القاعدة الشعبية للحركة وتعيين الشخصيات القيادية وتوزيع المناصب عليها، يعني أن عقد المؤتمر الثامن بات يأخذ طابعاً شكلياً، ولا تمثل قاعدة فتح أي ثقل أو تأثير حقيقي خلال المرحلة المُقبلة.
وهذا ما توضحه محاولات ترتيب المؤتمر دون أي صراعات، خاصةً وأن محمود عباس كان قد طلب من اللجنة التحضيرية عدم تجاوز أعضاء المؤتمر الـ “1200” عضو، مع الإبقاء على أعضاء الأجهزة الأمنية والمتقاعدين ووزراء حركة فتح السابقين والحاليين، وكذلك أعضاء المجلس الثوري الحاليين والسابقين، وعدم الاتفاق الفتحاوي على تلك المطالب كان أحد أسباب تأجيل المؤتمر.
وتلك المطالب التي يحرص محمود عباس على تمريرها لم تُنفذ بعد ولم يُجرَ التشاور بشأنها، خاصةً مع استثناء الأسرى والأسرى المحررين، كما أن محاولة فرض نوعية الأعضاء المقربين من قيادة فتح الحالية كفيلٌ ببقاء القيادة الحالية وحتى عدم إبقاء أي فرصة لظهور قيادة جديدة أو بديلة عن القيادة الحالية.
أمام محاولات إحكام السيطرة من قبل فريق عباس الحالي، إلا أن إمكانية ظهور شخصيات أو جسم جديد من التيار الفتحاوي العام الذي يقوده محمود عباس الآن هو أمرٌ غير وارد مهما كانت نتائج المؤتمر الثامن، ذلك لأن الحديث عن شخصيات أو قيادات على جانب محمود عباس أو شخصيات معارضة للخطوات والترتيبات الجارية مسألة صعبة الحدوث.
رغم تأجيل المؤتمر من مارس إلى مايو المُقبل، إلا أن قيادة حركة فتح لم تكن تملك الكثير من الوقت للتأجيل، وكافة من تواصلنا معهم من مصادر فتحاوية حول هذه النقطة كانوا قد أكدوا أن التأجيل سوف يكون لأسابيع أو أشهر قليلة، لأن ترتيب قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير ليس مطلباً فلسطينياً، بل إقليمي ودولي، لهذا فإن حديث الفصائل الفلسطينية عن تجديد بُنى منظمة التحرير قد تم إسقاطه، كما أن حديث البعض عن إمكانية لم شمل حركة فتح، أو فصلها عن السلطة الفلسطينية ليس ضمن حسابات فريق محمود عباس الذي يزيد من سيطرته وتفرده بالقرار الفتحاوي.
في الختام
إن ما يحدث من ترتيبات حول المؤتمر الفتحاوي الثامن تتم على مستوى القيادة الفتحاوية فقط، مع تجاهل شبه تام لقواعد حركة فتح، وهذا ما يقلل من فرص أي خلافات، خاصةً وأن سلوك التزكية أو تجاهل الانتخابات بات أمراً اعتيادياً داخل حركة فتح، هذا ليس على مستوى القيادات العليا فقط، بل على مستوى أمناء سر المناطق والأقاليم، بالتالي فإن وجود نفس الشخصيات القيادية وسع الفجوة بين الشارع الفتحاوي والقيادة، وقلّص من فرص ظهور قيادات جديدة.
رغم أهمية الحدث بالنسبة للشارع الفتحاوي، إلا أنه لم يحظَ باهتمام اعلامي فلسطيني، وهذا مؤشر على حالة الإحباط واقتصار المؤتمر على القيادة الفتحاوية التي انفردت بترتيب مجالس منظمة التحرير خلال الأسابيع الماضية بعيداً عن المشاركة الفلسطينية الحقيقية.