مؤشر فلسطين

بين الدفاع عن الأقصى ومواجهة قوى التطبيع

عاشت الأراضي الفلسطينية خلال الأيام القليلة الماضية مشهداً استثنائياً جمع بين الأحداث الميدانية، وموجة التطبيع العربي والإقليمي مع الاحتلال الإسرائيلي، ما يدلل على نجاح الاحتلال والإدارة الأميركية في تمرير التطبيع بغض النظر عن تطورات القضية الفلسطينية.

أمام ذلك، تجاهلت الساحة الإقليمية والدولية ما يحصل، لكن هذا التجاهل، لم يخرج القضية الفلسطينية من حسابات تلك الأطراف التي وظفت علاقاتها وأدواتها لمنع المواجهة بين الاحتلال والمقاومة في غزة أثناء مسيرات الأعلام، ما يؤكد على أن مشاريع التطبيع لم تتمكن من إعاقة حالة الزخم التي تحظى بها القضية الفلسطينية.

ميدانياً

تستمر وتيرة الأحداث والاقتحامات المتتالية لجيش الاحتلال في جنين ومخيمها والعديد من مدن الضفة الغربية، وذلك بالتزامن مع تسريبات قادة الاحتلال بتاريخ 17 مايو التي لوحت من جديد إلى أن اغتيال كل من رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة يحيى السنوار، وقائد كتائب القسام الجناح العسكري للحركة محمد الضيف خيار قائم على أجندةِ قادة الاحتلال. 

بالرغم من ذلك، شهدت الأيام القليلة الماضية نحو 12 عملية إطلاقِ نارٍ في جنين ونابلس، فيما جرت عشرات المواجهات مع الاحتلال كان معظمها في بيت لحم والخليل ونابلس وجنين، ما يدل على توسعٍ محدودٍ لدائرة المواجهة في الضفة الغربية.

أيضا في في تاريخ 22 مايو، شكل الاحتلال لواءً عسكرياً عملياتاً تحت مسمى “اللواء المهماتي” من قوات “لواء كفير” الخاصة، لمواجهة التسلل عبر الجدار، خوفاً من تسلل المقاومين من مدن الضفة الغربية إلى الداخل المحتل، وذلك بعد سلسلة من العمليات النوعية التي جرت في تل أبيب وضواحيها، وقتل فيها أكثر من مستوطن.

مقابل ارتفاع سقف التوقعات حول اقتراب المواجهة، إلا أن المقاومة الفلسطينية في غزة كان لها رأي آخر، وفضلت تجاوز الساعات الحرجة، لأسباب عدة، أبرزها تفويت الفرصة على الاحتلال الذي بدا أكثر تحفزاً للمواجهة، كون مسيرة الأعلام تزامنت مع مناورة “عربات النار”، علاوة على توفر الكثير من المؤشرات والأسباب التي تؤكد حكمة قرار المقاومة في غزة.

بالرغم من ذلك، لم تحقق مساعي الاحتلال للسيطرة الأمنية على مدن الضفة الغربية أهدافها، فالأوضاع في الضفة استمرت بالتصاعد والانفجار، وذلك عقب اقتحام المسجد الأقصى في 29 مايو بعد سماح المحكمة الإسرائيلية بذلك.

على مقلب جيش الاحتلال، نفذ في الشهر الماضي، واحدة من أكبر المناورات العسكرية في تاريخ الكيان، إذ نفذ مناورة “عربات النار” بمشاركة أمريكية وقبرصية، لمحاكاة المواجهة الشاملة مع الأطراف المعادية لإسرائيل، سواء كانت المقاومة الفلسطينية أو حزب الله وأطراف إقليمية أخرى. 

في إطار سعيها لتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، جاءت مسيرات رفع الأعلام في المسجد الأقصى كأهم حدث، كونها أعقبت سلسلة العمليات الفردية والتصعيد المتبادل خلال الأسابيع القليلة الماضية، كما أن انفجار الصراع والمواجهة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية كان قاب قوسين أو أدنى خلال الأيام القليلة الماضية، خاصةً وأن الاحتلال يسعى لفرض السيادة الكاملة على المسجد الأقصى.

مقابل ارتفاع سقف التوقعات حول اقتراب المواجهة، إلا أن المقاومة الفلسطينية في غزة كان لها رأي آخر، وفضلت تجاوز الساعات الحرجة، لأسباب عدة، أبرزها تفويت الفرصة على الاحتلال الذي بدا أكثر تحفزاً للمواجهة، لأن مسيرة الأعلام تزامنت مع مناورة “عربات النار”، علاوة على توفر الكثير من المؤشرات والأسباب التي تؤكد حكمة قرار المقاومة في غزة.

سياسياً

 يبدو أن الظروف الراهنة قد ساعدت محمود عباس على التخلص من أي ضغوط متعلقة بالإصلاحات الداخلية، إذ عززت من استفراده بالمؤسسات الوطنية، فتجاهل اللوائح القانونية لمنظمة التحرير، وعيّن حسين الشيخ كأمين سر للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في 26 مايو الماضي. 

قوبلت تلك الخطوة برفض من قيادة الجبهة الديمقراطية، فدعت إلى عقد اجتماع عاجل للجنة التنفيذية لمناقشة هذا الأمر. غير أن التجاهل، وربط السلطات الثلاث (المنظمة – السلطة – فتح) بيد أبو مازن، جعلته يؤجل تأجيل المؤتمر الثامن لحركة فتح الذي كان مُقرراً في النصف الثاني من شهر مايو الماضي، الأمر الذي قوبل برد فعل غاضب من بعض الفتحاويين ونخبهم، وبالرغم من أن مصير عقد المؤتمر الثامن لحركة فتح بات في حكم المجهول، إلا أن ذلك لم يثر اهتمام قيادات الحركة.

على النقيض من هذا الترهل الواضح لمنظمة التحرير، وغياب أي أصوات رافضة لما يحدث لحركة فتح، أعلنت الجبهة الشعبية في 25 مايو نتائج مؤتمرها الثامن، إذ وصلت نسبة التجديد على مستوى مكتبها السياسي إلى نحو 75%، ونحو 53% من أعضاء اللجنة المركزية العامة، بينما وصل التجديد على مستوى أمانة سر اللجنة المركزية العامة إلى 100% من الأعضاء.

 في سياق مختلف أخذت ردود الفعل الإقليمية على جرائم الاحتلال في القدس والضفة الغربية خلال الأيام القليلة الماضية بعداً جديداً، تراجعت فيه أصوات الحكومات والأنظمة السياسية، وظهرت أصوات البرلمانات، فالبرلمان العربي حذر حكومة بنيت في 27 مايو من الإقدام على خطوة مسيرة الأعلام في الأقصى، كذلك مجلس التعاون الخليجي الذي أدان عبر أمينه العام نايف الحجرف، اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك.

كما دعا رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم في 21 مايو، إلى إنشاء صندوق لدعم القوى الفلسطينية الناعمة لتمكينها من الدفاع عن القدس، كما جاءت مبادرة رئيس مجلس الشورى القطري حسن الغانم في 30 مايو في هذا السياق، الذي طالب بتشكيل مكتب لدعم القدس إعلامياً، وكشف الجرائم الإسرائيلية، في الوقت ذاته كان البرلمان العراقي قد جرّم التطبيع مع دولة الاحتلال.

بالتزامن مع غياب الموقف الرسمي الإقليمي المّدين للتصعيد الجاري في الأراضي الفلسطينية، يتم الكشف عن العديد من الصفقات الاقتصادية، واللقاءات الدبلوماسية بين دولة الاحتلال وقوى إقليمية مختلفة، فقد وقع المغرب العربي مع الكيان 13 مذكرة في مجال التكنولوجيا في 23-25 مايو، خلال أعمال منتدى “المغرب -إسرائيل”.

 كما عززت دولة الاحتلال والإمارات العربية المتحدة، العلاقات التجارية بينهما، عبر توقيع اتفاقية تجارة حرة في 1 يونيو الجاري، وقد تم وصف الاتفاقية بالأولى من نوعها بين الاحتلال والدول العربية، لأنها ألغت الجمارك بين الجانبين بنسبة 96%. في السياق ذاته كشفت وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الهرار عن التحضيرات الجارية لتوقيع مذكرة تعاون في مجال الغاز بين الكيان والقاهرة والاتحاد الأوروبي، إذ يأمل الاحتلال أن يتمكن من إيصال الغاز إلى القارة الأوروبية.

بالرغم من تصاعد حدة الأزمات التي تعصف بحكومة بنيت وسط توقعات بانهيارها، وتزايد فرص عودة نتنياهو خلال الأشهر القليلة القادمة، إلا أن ذلك لن يحول دون التقارب الإقليمي الإسرائيلي، إذ تضمنت جولة وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في 24 مايو إلى الأراضي الفلسطينية، لقاءات مع وزير خارجية الاحتلال يائير لبيد، وقد تركز الحوار بينهما على العلاقات الاقتصادية والطاقة والطيران المدني. 

يأتي هذا التقارب التركي الإسرائيلي بالتزامن مع الوساطة التي تقودها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بين المملكة العربية السعودية والجانب الإسرائيلي، إذ تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى إحداث تقدم في هذا الملف قبل زيارة بايدن المرتقبة إلى الأراضي المحتلة.

وضمن ترتيبات زيارة بايدن، وترتيبات التسويات في المنطقة، تسعى إدارة بايدن إلى إحراز أي تقدم في العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحكومة بنيت، وهو ما يُفسر دعوة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في 31 مايو حكومة بنيت إلى الانخراط في مفاوضات جادة مع الجانب الفلسطيني، خاصةً وأن تلك الدعوة سبقت اتصال وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بالرئيس محمود عباس، الذي أكد خلاله، التزام واشنطن بفتح القنصلية الأميركية في القدس.

اقتصادياً

تواصل السلطة الفلسطينية ممارسة المزيد من الضغط الاقتصادي على قطاع غزة، وذلك بعد استثناء واردات غزة من القمح من الإعفاء الجمركي، في حين مُنحت الضفة الغربية إعفاء من دفع ضريبة القيمة المضافة لواردات القمح البالغة 17% من إجمالي سعر السلعة ضمن خطة أعلنت عنها حكومة اشتية لامتصاص آثار تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية التي أثرت على أسعار المواد الغذائية وأهمها الدقيق والحبوب.

كما رفعت السلطة الفلسطينية أسعار الوقود والغاز الطبيعي في السوق الفلسطينية، أكثر من 3% لشهر يونيو2022، لتصل نسبة الزيادة في الأسعار خلال العام الأخير إلى 15%. 

بموازاة ذلك قررت اللجنة الحكومية في غزة، تخفيض قيمة الضرائب المُحصلة من الواردات السلعية القادمة من مصر، لامتصاص موجة ارتفاع الأسعار في أسواق قطاع غزة، في ضوء قيام الجانب المصري برفع أسعار الكثير من صادرات السلع الاستهلاكية.

دفعت هذه الإجراءات المصرية رئيس اللجنة الحكومية في غزة عصام الدعاليس إلى لقاء المسؤولين المصريين، بهدف وضعهم في صورة الوضع الاقتصادي والمعيشي في غزة، وحثهم على تخفيض أسعار السلع الواردة إلى غزة، والعدول عن قرار وقف واردات البناء ومستلزمات الإعمار، لما لهذا القرار من آثار سلبية تعطل سير عملية الإعمار التي تسير ببطء شديد؛ ورغم مرور عام كامل على معركة سيف القدس 2021، إلا أن ما تحقق من إعادة الإعمار لا يتجاوز 20%.

على الجانب الأخر، تواصل سلطات الاحتلال حملة التضييق على العمال الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، من خلال ملاحقة العمال الذين لا يحملون تصاريح سارية المفعول، كما يواصل جيش الاحتلال إغلاق الفتحات في الجدار الفاصل لمنع تسلل العمال، وذلك ضمن إجراءات اتخذتها قيادة الجيش، لمواجهة موجة العمليات الأخيرة التي ضربت العمق الإسرائيلي وأوقعت 19 قتيلا خلال شهرين.

كما تواصل سلطات الاحتلال احتجاز أكثر من 1.5 مليار دولار من أموال المقاصة المستحقة للسلطة الفلسطينية منذ العام 2019، وبسبب هذا الاقتطاع لا تزال نسب صرف الرواتب لموظفي السلطة الفلسطينية عند مستوى 80% للشهر السابع على التوالي.

رأي الخبراء*

يجري تنظيم مسيرات الأعلام منذ عام 1968 ودون أي احتجاج فلسطيني مؤثر، لكن الاحتجاجات الأخيرة شكلت تطوراً إيجابياً، لأن الاحتلال بدأ يحسب حسابات كثيرة لها، وباتت المسيرة بحاجة إلى أكثر من أسبوعين للتدريب والاستعداد الأمني.

ويُعد ذلك تطوراً مهماً، خاصةً وأن المسيرة كانت على طاولة الحكومة وتفكير أجهزة الأمن، وهو ما لم يكن سابقاً؛ بمعنى أن إسرائيل تقيم المسيرة في منطقة محتلة، وليس في عاصمتها، كما تحاول أن توهم العالم.

كما يُعتقد أن الدوافع السياسية الحزبية مهيمنة على القرار الإسرائيلي، بسبب ضعف الائتلاف الحاكم، فالصراع الكلاسيكي بين اليمين واليسار انتهى منذ سنوات، وبات الصراع بين اليمين واليمين، وكلا قطبي اليمين، يسعى لأن يكون أكثر تطرفاً أمام جمهوره، على حساب الشعب الفلسطيني.

لا يمكن تجاهل حالة التآكل في قوة الردع، لأن الوجود الفلسطيني كان سائداً أثناء جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة والشهيد وليد الشريف، وهنا سعى الاحتلال إلى إعادة الاعتبار لحكومة بنيت والمستوى الأمني، وهذا ما جعله أكثر تحفزاً لاقتحام المسجد الأقصى رغم التخوفات من رد المقاومة.

لذا فإن حكومة بنيت تعيش أزمة ثقة في القدس، وهو ما دفعها إلى حشد كل مكوناتها من أجل إثبات قدرتها، وربما كانت مستعدة للدخول في مواجهة عسكرية من أجل هذا الهدف مهما كلفها ذلك.

على النقيض من ذلك، فإن رفع سقف معركة سيف القدس وربطها إقليمياً، ربما كان مبالغاً فلسطينياً، لأن الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين خرجوا من جولة المواجهات الحالية بمكاسب أكبر وأهم خلال الفترة الراهنة، إذ واصل الاحتلال تطبيعه مع الأطراف الإقليمية بهدف تعميق علاقاته ونفوذه مع الإقليم، ساعياً إلى تحقيق اختراق أوسع للساحة الرسمية العربية.

ولعل ما يؤكد نجاح الاحتلال وتحقيقه للكثير من المكاسب في علاقاته الإقليمية، أن الكثير من الأطراف باتت معنية بالتقارب معه، فتركيا -ربما- غير قادرة على دفع ثمن صراعها مع إسرائيل أو دعم القضية الفلسطينية.

والواضح أن زيارة وزير خارجية تركيا، تعكس تحولاً في علاقاتها، من حالة العداء مع إسرائيل إلى حالة وسطية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خصوصاً وأن توقيت الزيارة لم يكن مناسباً فلسطينياً، فزيارة مقر المحرقة تزامن مع ذكرى النكبة.

من جانبها تسعى الإدارة الأمريكية إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وهي بحاجة إلى ضمان موقف إسرائيلي إيجابي من السياسة الأمريكية تجاه الملف الإيراني، وهذا ما يُفسر زيارة بايدن المتوقعة إلى إسرائيل، لكونها تأتي في سياق دعم الائتلاف الحاكم في إسرائيل، مقابل موقف إيجابي من مفاوضاتها مع إيران.

 لذا يبدو أن الدعم الأمريكي لإنجاح موجة التطبيع الحالية واضحاً، وذلك مقابل ضمان نجاح زيارة بايدن إلى المنطقة، لكن رغم تجاوب الإقليم مع مشاريع التطبيع، إلا أن هذا الانهيار العربي لم يؤثر على صعود القضية الفلسطينية كما تأمل إسرائيل.

ختاماً

لم يُقدم الاحتلال على خطوة اقتحام الأقصى الأخيرة “مسيرات الأعلام” إلا بضوء أخضر أمريكي، وهذا ما يتضح بشكل جليّ في السلوك الأمريكي الأخير، فالساعات التي سبقت مسيرات الأعلام شهدت تراجعاً عن فتح القنصلية الأمريكية في القدس، وقد سبق ذلك رفع الإدارة الأمريكية لمنظمة “كاهانا” الإرهابية من قائمة الإرهاب، وهذا ما أعطى دفعة للمستوطنين وشجع حكومة بنيت على دعم خطواتهم في القدس.

في سياق مختلف فإن قرار تعيين حسين الشيخ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لا ينفصل عن ذلك المسار الإسرائيلي الإقليمي، لأنه يرسخ العلاقة مع الاحتلال على حساب القضية الوطنية، كما أن هذا التعيين بمثابة حسم لملف خلافة الرئيس محمود عباس، حيث إن هذا الملف المهم يشغل السلطة الفلسطينية وإسرائيل ودول عربية واقليمية وحتى الولايات المتحدة الأمريكية. 


*  توجه مجموعة الحوار الفلسطيني شكرها إلى الخبراء المشاركين في مؤشر فلسطين: أ. أكرم عطا الله، أ. مازن الجعبري، د. جهاد ملكة.


اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق