قراءة في تاريخ سياسة (الخطوة بخطوة) للسلام في الشرق الأوسط – نقد ميراث هنري كيسنجر
كان مفتاح سياسة وزير الخارجية الأمريكي سابقًا (1973–1977)، ومستشار الأمن القومي الأمريكي (1969–1975) هنري كيسنجر هو التقييم الواقعي لما يمكن وما لا يمكن تحقيقه في ظل ظروف الشرق الأوسط، وربما يكون هذا هو الدرس المستفاد مِن استراتيجية كيسنجر خلال سنوات الحرب العربية – الإسرائيلية؛ فقد كتب (كيسنجر) ذات مرة في كتاب “سنوات البيت الأبيض”: “من الصعب أن يقبل أي زعيم أمريكي حقيقة أنه في بعض النزاعات لا يمكن التوفيق بين المواقف المتعارضة”، وإذا كان هناك أي خلاف بدا وكأنه يُطابق تلك الصيغة، فقد كان ذلك بين العرب و”إسرائيل”.
ولطالما كان هناك دائماً نظرتين أساسيتين لعملية صنع السلام العربي – الإسرائيلي:
النظرية الأولى: أن يتصور المرء حلاً “شاملاً” لمعضلات الصراع، ويفترض أن جميع القضايا مُتداخلة معًا بحيث لا يمكن معالجة أي منها بمعزل عن غيرها، ولا يمكن حل الصراع إلا باتفاق شامل.
النظرية الثانية: تفترض أن النهج المُجزأ وحده يمكن أن يبدأ على نحو معقول في تفكيك العقدة الإقليمية، لكن غالبًا في ظل الظروف القائمة مِن غير المرجح أن تُسفر المطالب الأخلاقية لسلام كامل عن نتائج مفيدة، ومع ذلك، قد يتفق الأعداء على ما يكفي للتوصل إلى اتفاقات جزئية، وهذا ما سمحت به حرب عام (1973).
اعتقد كيسنجر أن نهج “السلام الشامل” للصراع العربي الإسرائيلي هو نهج “ساذج”؛ فقبل سنوات من توليه منصب وزير الخارجية كتب كتابًا بعنوان “عالم مُستعاد” لفهم وشرح إحدى أهم فترات التاريخ وأكثرها دراماتيكية – وهي الفترة التي انتقلت فيها أوروبا من حالة الفوضى السياسية إلى السلام المتوازن الذي استمر تقريبًا مائة عام، فبعد سقوط نابليون اجتمع الدبلوماسيون الأوروبيون في مؤتمر فيينا (1814) بهدف استعادة الاستقرار بعد الثورة الفرنسية والحروب النابليونية وتفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
تأثر كيسنجر بالشخصيات المركزية في مؤتمر فيينا خصوصًا وزير خارجية المملكة المتحدة “فيسكونت كاسلريه” ووزير خارجية النمسا “كليمنس ميترنيخ”، وكان كاسلريه مهتمًا في المقام الأول بالحفاظ على سلطات متوازنة، بينما بنى ميترنيخ دبلوماسيته على فكرة الشرعية – أي إنشاء حكومات يقبلها المواطنون بدون قوة.
تفاوض المُشاركون في “مؤتمر فيينا” بشأن الاتفاقات بشكل منفصل، وأنتجوا نظامًا لحفظ السلام حتى قيام الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك لم يُفكر كيسنجر في الآثار المترتبة على هذا النوع مِن النظام؛ فقد عزز هذا السلام المزعوم المصالح المحافِظة، وأعاد الأنظمة القديمة وأزال الجمهورية والليبرالية.
كان “إنهاء الفوضى” هدف مؤتمر فيينا، كما كان هو هدف كيسنجر أثناء سعيه إلى وقف إطلاق النار ثم التوصل الى اتفاقات مؤقتة أثناء وبعد “حرب أكتوبر”، وكان الواقع سبباً في إضعاف التسوية النهائية؛ حيث لم يتوصل المتحاربون أبدًا إلى حلول وسط، وقد التقى الطرفان (العربي – الإسرائيلي) في الواقع لفترة وجيزة في كانون الأول (ديسمبر) 1973 في “مؤتمر جنيف”، لكن هذا كان بمثابة غطاء حيث سعى كيسنجر الى إبرام اتفاقيات “خطوة بخطوة” وبشكل منفصل بين إسرائيل ومصر، وبين إسرائيل وسوريا.
ومع ذلك، كانت هناك مكونات أخرى في دبلوماسية كيسنجر، حيث سعى لإقناع المحاورين العرب بأن الطريق إلى تحقيق أي من أهدافهم لا يمكن أن يمر إلا عبر واشنطن، وفي النهاية، لم يُقِم توازناً شبيهاً بفيينا بين قوى الشرق الأوسط، ولكنه خفف من نفوذ السوفيت الإقليمي، وهو هدف استراتيجي أمريكي أوسع.
بعد أن تضررت إسرائيل في بداية الحرب (العربية – الإسرائيلية) عام (1973) ومع تمكّنها مِن حصار الجيش الثالث لمصر، أصر كيسنجر على وقف إطلاق النار، ما خلق حالة تشبه توازن للقوى العسكرية، وسمح لمصر بأن تحظى بإنتصار يُمكنها من المُضي قُدمًا، وستكون النتيجة في النهاية اتفاقيات مؤقتة تفاوض عليها كيسنجر: “سيناء 1” (أواخر يناير 1974) و “سيناء 2” (في سبتمبر 1975، ووقعت رسميًا في جنيف).
وكان هذا تطبيقًا عمليًا لسياسة خطوة بخطوة: التي ابتُدأت بفصل المقاتلين، ثم إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم، ثم إنشاء مناطق منزوعة السلاح وعازلة، يليها وضع محطات الإنذار التابعة للأمم المتحدة والأمريكية في أماكن استراتيجية، لتبدأ عمليات الانسحاب الإسرائيلية تدريجيًا، وكان من المقرر إعادة فتح منطقة قناة السويس وإعادة توطينها، واستعادت مصر حقول النفط في سيناء، لذا كُل خطوة جعلت عودة الأطراف المُتحاربة إلى الصراع المسلح أكثر تكلفة.
ثبت أن الاتفاق بين سوريا وإسرائيل خصوصاً هو اتفاق صعب، لكن كيسنجر تنقل ذهابًا وإيابًا في ربيع عام (1974) بين البلدين وحقق نتائج أضعف مِن تلك التي حققها مع مصر، وكان الرئيس السوري حافظ الأسد لا يزال يأمل فرض أولويات القومية العربية في نهاية المطاف على المنطقة بمساعدة السوفييت، ومع ذلك تعرضت موسكو للوهن الدبلوماسي في المنطقة لأنها قطعت العلاقات مع إسرائيل عام (1967) وأيدت دمشق، وعلى الرغم من أن سوريا حققت نجاحات أولية في حرب أكتوبر، إلا أن الإسرائيليين عكسوها ووصلوا إلى مسافة قريبة من العاصمة السورية، حتى أن سوريا احتجزت أسرى حرب إسرائيليين وكانت إسرائيل تعلم أن الاستيلاء على دمشق سيكون مكلفًا للغاية.
أعرب الأسد عن قلقه من أن السادات قد يختار سلامًا منفصلاً مع “الدولة الصهيونية”، تاركًا سوريا وحيدة في المعركة، ولم تكن مخاوف الأسد بلا أساس، لذا دفعته هذه المخاوف إلى تقبُّل جهود كيسنجر في البداية، لكنه صمم على أن يضمن له وزير الخارجية الأمريكية كل ما يريده، كما لو أن المفاوضات لا تعني ضمناً تنازلات من جانبين. على الطرف الآخر في مصر، نشأت رابطة ثقة بين السادات وكيسنجر، لكن “الثقة” ليست الكلمة التي تتبادر إلى الذهن بسهولة عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الرجال الماكرين، لكن يمكن الإشارة للعلاقة القوية بين السادات وكيسنجر التي ظهرت في مقابل العلاقات الصعبة بين كيسنجر والقادة الإسرائيليين مثل غولدا مائير واسحق رابين لـ “عدم مرونتهم”.
لطالما طاردت المحرقة عملية صنع القرار الإسرائيلي وفهم كيسنجر ذلك جيدًا. والجدير بالذكر أن كيسنجر جاء لأول مرة إلى الولايات المتحدة كلاجئ يهودي من النازية. وعلى الرغم من أن كيسنجر كتب في كتاب “سنوات البيت الأبيض” أنه “لم يكن يعرف سوى القليل عن الشرق الأوسط” عندما انضم إلى إدارة نيكسون، إلا أنه زار الدولة اليهودية خمس مرات قبل وبعد حرب الأيام الستة مباشرة.
بالتالي هناك حاجة إلى المزيد من السياق التاريخي، فقد كان لـ «عناد» إسرائيل أسباب غير المحرقة، تعود لعام (1956) متمثلة في أزمة السويس عندما احتلت إسرائيل سيناء، وانسحبت منها تحت الضغط الأمريكي وبضمانات قبلتها القاهرة، أبرزها أن تتمركز قوات الأمم المتحدة بين الجيشين المصري والإسرائيلي على الحدود وخصوصًا عند الطرف الجنوبي لسيناء لضمان تأمين مرور سفن الشحن الإسرائيلي عبر مضيق تيران.
شكّلت سلسلة من التجارب العميقة عقلية اسرائيل، مما جعل تل أبيب أقل قابلية للتوصل لحل شامل ينطوي على أي فُروض غير مرغوب فيها. غير ذلك فإن بذل جهد تدريجي يتيح آفاقاً بديلة وعملية؛ تناسب كلاً من كيسنجر والسادات، حيث كان لدى الأخير أيضًا قلق في كون مؤتمر جنيف العملي (على عكس الاجتماع الاحتفالي) قد يطلق العنان لهجوم بقيادة سوريا بدعم من الاتحاد السوفيتي باسم العروبة، مما يفسد أي تفاوض بينه وبين إسرائيل. علاوة على ذلك، كانت الانتخابات الأمريكية تلوح في الأفق بعد عام من سيناء الثانية، ومن كان يعلم ما قد يجلبه ذلك؟ سياسة خارجية متغيرة أم نهج جديد؟
كانت اتفاقيات كامب ديفيد لعام 1978 نتيجة غير مباشرة لدبلوماسية كيسنجر، فعندما دخل جيمي كارتر البيت الأبيض عام 1977، أراد ترك “خطوة بخطوة” وراءه والسعي إلى حل شامل، ولم توقع إسرائيل ومصر وسوريا معاهدات سلام وكانت الخلافات بينها بعيدة كل البعد عن الحل (كانت إسرائيل ما تزال تسيطر على جزء كبير من سيناء والجولان)، والأهم من ذلك أن كاتر كان حريصًا على مخاطبة الضفة الغربية المحتلة والفلسطينيين وهي “الخطوة التي لم تُتخذ”، على حد تعبير “انديك”، بعد تحركات كيسنجر. في حين أن ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية لم يحققا شيئاً يذكر لإقناع الإسرائيليين بأنهم قد يوافقون على إقامة دولة يهودية. ما يزال الأردن يطالب بالسيادة على الضفة الغربية وكانت الأولوية الفلسطينية لكارتر صريحة على النقيض من كيسنجر، الذي بذل جهوداً كبيرة لإقناع الإسرائيليين بأنه كان إلى جانبهم “عندما ضغط عليهم، كان كارتر أصم” إزاء مخاوفهم.
أساء كارتر فهم السادات. وكان عازمًا على عقد مؤتمر جنيف الجديد برئاسة مشتركة بين موسكو وواشنطن، وكان “غافلاً عن كراهية السادات للاتحاد السوفيتي”، كما يشير انديك، فكان الإنقلاب الهائل لكارتر عودة للسياسة الأمريكية إلى فكرة النهج الشامل، وقاد السادات إلى خطوة دراماتيكية أخرى. بعد لقاء سري في المغرب بين حسن التهامي، ونائبه، ووزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان، رغب رئيس مصر في إبعاد كارتر، وسافر إلى القدس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 لعرض السلام مباشرة على إسرائيل في برلمانها مقابل الأرض – كانت كل سيناء على رأس أولوياته التي احتلتها تل أبيب قبل 10 سنوات- وكان كارتر ملتزمًا جدًا بحل شامل لدرجة أنه فكر في عرقلة رحلة السادات.
سرعان ما واجه السادات تعقيدات مختلفة مع تولي الجناح اليميني لإسرائيل السلطة لأول مرة. وأصبح مناحيم بيغن رئيسً للوزراء، رُحِب بالسادات بحرارة في القدس، لكن رفض التنازلات الإقليمية للإسرائيل، وتوقفت المفاوضات الإسرائيلية المصرية. ثم راهن كارتر ودعا كلا الزعيمين إلى كامب ديفيد، حيث تم أخيراً التوصل لمعاهدة. وافق بيغن على الانسحاب الكامل من سيناء وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية هناك، ولكن فقط تحت ضغط من وفده (موشى دايان، وعيزرا وايزمان، وأرييل شارون).
تم الترحيب بتدخل كارتر – على نحو مبرر – لكن السادات أحبط سعيه السابق لإيجاد حل شامل من خلال رحلته إلى القدس، وكان عرض السادات للسلام وجهاً لوجه مُقنعاً للإسرائيليين بطريقة لم يكن من الممكن أن يُحدثها مؤتمر جنيف. وأُنجزت اتفاقيات كامب ديفيد أخيراً من خلال مفاوضات ثنائية مع وسيط أمريكي. لكنهم نجحوا في حل مشكلة واحدة وهي “سيناء”، في حين تم الالتفاف على القضايا الآخرى بالعموميات والصيغ المراوغة. ومع ذلك، كان النقص خيراً في حد ذاته، أو بعبارة أخرى إن عدم اكتمال العملية كان أمراً جيداً في حد ذاته، فقد أنهت معاهدة السلام عقودًا من الحرب التي أودت بحياة الآلاف من المصريين و”الإسرائيليين”.
لم تكن الجهود المستقبلية، مثل اتفاقيات أوسلو لتتحقق لو لم يُفتح الطريق عبر سياسة “خطوة بخطوة”، اتفاقية أوسلو نفسها كان من المفترض أن تتم عبر خطوات، والنجاح في إحداها يؤدي إلى أخرى. في الآونة الأخيرة، لم تكن اتفاقيات أبراهام -وهي الإنجاز الوحيد لترامب في المنطقة- لتحدث لولا أوسلو، أي قبل ربع قرن من ذلك التاريخ، وبينما كان هناك بعض التقلبات والهفوات بين “أوسلو” و “أبراهام”، كانت صفقة اسحق رابين مع منظمة التحرير الفلسطينية في التسعينيات هي التي فتحت الطريق أمام العلاقات المباشرة وغير المباشرة بين إسرائيل وعدة دول خليجية.
لا يزال مصير الضفة الغربية وقطاع غزة اليوم بدون حل ومن المرجح أن يبقى هكذا، مع أن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية شارف على (90) عامًا ويعاني من مشاكل صحية ويوجد صراع كبير لخلافته، حتى الحكومة الإسرائيلية العنيفة أو المسالمة أو الفاشلة ستتردد في تقديم تنازلات بعيدة المدى دون ضمان أن الطرف الآخر سينفذ بشكل موثوق به الجزء الخاص بالصفقة، مع الأخذ في الاعتبار أن فرص التوصل إلى اتفاق مع حماس المسيطرة على غزة ضئيلة.
هناك ائتلاف حاكم في إسرائيل يمثل مزيج متقلب من اليمين المتشدد والوسطيين و”الحمائم” وفصيل عربي، اجتمعوا معاً في الغالب بسبب معارضة عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة، ورغم أن هذا قد يُمثل تحسنًا فيما يتعلق بتهور نتنياهو الشبيه بترامب، فإن أي خطوة صغيرة تنطوي على حل وسط بشأن الأراضي قد تؤدي إلى تفكك هذا الائتلاف.
في الوقت نفسه، فإن “خطط السلام” الأكثر شيوعًا التي نوقشت هي مخططات شاملة، ليس لأي منها آفاق مواتية بالنظر إلى الواقع الفلسطيني والإسرائيلي، وتاريخياً، أراد اليمينيون ضم الضفة الغربية، لكن هذا -كما أشار اليسار- سيعني دمج السكان الفلسطينيين في دولة واحدة. وأخيراً، ستكون وصفة للحرب الأهلية – ما لم تتخلى إسرائيل تمامًا عن أي تطلع إلى أن تكون دولة يهودية كما جاء في إعلان التأسيس، كما أن حديث المناهضين للصهيونية عن حل الدولة الواحدة “الديمقراطية العلمانية” وفقاً لصيغة منظمة التحرير الفلسطينية القديمة هي وصفة للحروب الأهلية تحت ستار الحل.
دعا معظم “الحمائم” الصهاينة إلى “حل الدولتين” – إسرائيل وفلسطين المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتواجه هذه الفكرة اليوم عقبات هائلة في شكل عدد كبير من سكان المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية وقيادة فلسطينية غير فعالة أو فاسدة أو كليهما.
نقد سياسة الخطوة – خطوة للسلام، إشكاليات إرث كيسنجر
- أولًا: لم يعد الشرق الأوسط الذي عرفه كيسنجر موجودًا في عالمنا اليوم، فقد أقامت إسرائيل علاقات مع العديد من الدول العربية، بما في ذلك مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة، وأصبحت سياسة خطوة بخطوة التي يطرحها كيسنجر لمناقشته للصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ليست ذات صلة، حيث كتب في كتابه “النظام العالمي”: تنظر الدول والقوى الأساسية في الشرق الأوسط إلى النظام الدولي بدرجة أكبر أو أقل من خلال الوعي الإسلامي، كان هذا منظورًا محيرًا لقراءته في عام 2014، بل إنه فقد دقته في أعقاب اتفاقيات إبرهام، ودخول المملكة العربية السعودية التي لم تُقِم علاقات رسمية مع إسرائيل لكن أصبحت شراكتهما سر مكشوف، وأثبت المسار التاريخي أن القادة في المنطقة قد لا يكونون مختلفين اختلافًا جوهريًا عن الآخرين فعندما تتغير المصالح تتغير السياسة لذا أخطأ كيسنجر في عدم التركيز على جميع العوامل التقليدية التي غالبًا ما تشارك في تشكيل المصالح الوطنية ليولي اهتمامًا مفرطًا بالدين والأيديولوجية في الشرق الأوسط وهذه فكرة قد لا تكون مبررة، وهذا لا يعني أن الأيديولوجيا والدين غير مهمّين، ولكن التعامل معهما على أنهما حواجز لا يمكن اختراقها تقريبًا لتحقيق أهداف سياسية معينة هو ارتكاب خطأ إستراتيجي.
- ثانيًا: إحدى الوسائل لصناعة “الموافقة” هي إبتكار شكل مُلائم للغة جديدة تكون المصطلحات الفاصلة فيها ذات معنى فني منفصل عن معانيها الحقيقية، فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا لتحوّل مسمى سياسة “الخطوة – خطوة” إلى “عملية السلام الإبراهيمي” بمعناه الفني المستخدم في وسائل الإعلام وعند طبقة مِن المثقفين نجد أن مقترحات السلام التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية يغيب عنها سؤال: هل يوافق الفلسطينيين على هذا السلام، أو حتى هل يحق لهم المشاركة في تلك المفاوضات؟
منذ أن طرح بيرنارد جوار تزمان مقالته في نيورك تايمز سؤالًا يقول: “هل يرغب الفلسطينون في السلام؟”، كانت الإجابة المنطقية “نعم” دون تعريف إصطلاحي للمقصود بالسلام، فالكل يسعى إلى سلامه الخاص، فالتاريخ يثبت حقيقة أن هتلر قد سعى للسلام عام 1939 ولكن بشروطه الخاصة، ما يعني أن سؤال تزمان كان يعني: هل يرغب الفلسطينيون في الرضوخ لرغبة الولايات المتحدة الأمريكية وللشروط الإسرائيلية؟ هكذا يكون السؤال صحيحًا، ويقدم معنى إصطلاحي واقعي عن أن سياسة ” الخطوة – خطوة” للسلام تعني إنكار حق تقرير المصير للفلسطينيين. - ثالثًا: تجاهلت السياسة الأمريكية التي أقرها كيسنجر المقترحات العربية للسلام بما فيها مقترحات منظمة التحرير الفلسطينية، حتى أن توماس فريدمان عندما كان مراسل للتايمز في القدس نشر مقالًا تحت عنوان “عقدين من مناشدة السلام في الشرق الأوسط” متهمًا الفلسطينيين بعدم الرغبة في أي سلام، لكن الحقيقة أن الولايات المتحدة غير راغبة في سلام حقيقي وعادل والأمثلة كثيرة، في يناير 1976، أيدت مصر وسوريا والأردن اقتراح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي جسّد صيغة للحل مبنية على قرار الأمم المتحدة رقم 242 والذي يمثل ضمان حق كل دولة في أن تعيش بسلام داخل حدود آمنة ومُعترف بها، وقد صادقت منظمة التحرير الفلسطينية على هذا الإقتراح وأيده العالم -عدا إسرائيل- واعترضت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بواسطة حق الفيتو.
حُذف الكثير من مِن التاريخ فجأة لصالح إرث كيسنجر وسياسته المزعومة “خطوة – خطوة” حيث نجد أننا أمام ثنائية رفض إسرائيلية – أمريكية لا تقبل أي مطالب فلسطينية، وتتعامل مع الحضور الفلسطيني بوصفه غير شرعي، وأن مطالب إسرائيل الأمنية التي تهدد وتقيد حياة الفلسطينيين هي مسائل شرعية تمامًا بل بديهية، وأن جلوس الفلسطينيين للموافقة على هذه المطالب يطلق عليه مسمى “عملية سلام”، ويستوجب الثناء مِن الأطراف والقوى الإقليمية العربية والدولية.
لذا هل يمكن أن تصلح سياسة “خطوة بخطوة” مع الضفة الغربية وقطاع غزة اليوم؟
ظهر اسم كيسنجر وفكرة الخطوات «المؤقتة» مرة أخرى في أكثر الكتب مبيعًا في إسرائيل بعنوان “عقدة 67” لميكا غودمان، والعنوان استعارة من رواية أميركية شهيرة “كاتش 22” لجوزيف هيلر، ويرمز إلى وضع معقد لا تسوية له، أما استخدام رقم 67، فلإظهار محورية حرب (1967)، والتي كانت نتيجتها سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان وغزة وسيناء، قبل أن تعيد سيناء لمصر، بعد سنوات، وتنسحب من غزة.
يتساءل ميكا غودمان، دفاعاً عن فلاديمير جابوتينسكي، مؤسس اليمين الصهيوني في عشرينيات القرن هل يجب التعايش على هذه الأرض من أجل السلام بشرط تحقيق الأمن كما يدعو اليسار السائد؟ أم يجب أن يتم الإبقاء على إسرائيل كما يريدها اليمين على أسس قومية أو دينية؟ المجتمع مستقطب لدرجة أنه أياً كان الخيار المتخذ، فالانقسام الداخلي في إسرائيل سيتعمق، لذا يُحضر غودمان طيف سياسة الخطوة بخطوة لكيسنجر، مُشيرًا أن من الأفضل “تقليص” الصراع من خلال إجراءات جزئية بدلاً من السعي لتحقيق سلام شامل، ويعتبر غودمان أنه ليس هناك تسوية ترضي كل الأطراف الاسرائيلية والفلسطينية، وهو ما يدفعه للبحث عن قاسم مشترك يرضي الجميع، بدون ضرورة إضفاء طابع النهائية عليه.
يصر غودمان على توجهه البراغماتي، رغم أنه لا يبدو هناك أفق يُحاور به الفلسطينيين بقدر ما يحاور الإسرائيليين – وهم جمهوره المستهدف – ويقترح خيارات في ضوء تأثره بسياسة كيسنجر كالتالي:
الخيار الأول: سلام جزئي ينطوي على انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية، باستثناء ممر دفاعي على طول وادي نهر الأردن والكتل الاستيطانية اليهودية. وهذا تحديث لـ “خطة ألون” التي اقترحها حزب العمل بعد حرب الأيام الستة عام (1967).
الخيار الثاني: شبه دولة فلسطينية في جزء من الضفة الغربية – حكم ذاتي موسع لكن ليس هُناك سيادة للفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق التي لا تزال تسيطر عليها إسرائيل، وسيصبحون “مقيمين” في إسرائيل أو مواطنين درجة ثانية. قد يجد مراقبو الشرق الأوسط هذا تكرارًا لما اقترحه بيغن في كامب ديفيد لتجنب الخروج من الضفة الغربية.
ولا يتناول أي من الخيارين المستوطنات الإسرائيلية، كما لا يقترح مرحلة ثانية من الخطوات إذا اعتبرت نتائج المرحلة الأولية مُرضية – إلى حد ما – بعد فترة زمنية معينة، وهنا تكمن المشكلة حتى لو تم تبني فكرة “الحل الشامل” في الوقت الحالي، فإذا نجحت الخطوات الأصغر، لا يمكن ضمان استمرارها لتحقيق النجاح، يحتاج أولئك الذين يسيرون على سياسة الخطوة بخطوة إلى بعض الإحساس بأنهم قد يصلون إلى مكان ما في يوم من الأيام – إلى خيارات في مستقبل بعيد.
قدمت الإدارات الأمريكية اللاحقة – بوش ، وأوباما ، وترامب – بمحاولات مشؤومة بهدف التوصل لإتفاقية سلام شاملة، لكن ثبت أن نفور كيسنجر من دبلوماسية الكل أو لا شيء -في ظل غياب الثقة المتبادلة- حقيقة واقعة حيث لم يقترب الطرفين الفلسطيني – الإسرائيلي مِن أي نقاط للحل. وأدى الفشل المتكرر لهذه المفاوضات إلى القضاء على الثقة في عملية السلام وتعريض الأفق السياسي لحل الدولتين للخطر. كما قوض شرعية الولايات المتحدة كوسيط للسلام.
عام 2014، على سبيل المثال، خلال إنطلاق مبادرة أوباما وكيري لحل النزاع، حاول أوباما كسب دعم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من خلال إعلان أن القدس الشرقية ستكون عاصمة فلسطينية مستقبلية – وهو تحول في السياسة الأمريكية لإرضاء الفلسطينيين. لكن عباس تجنب جهود أوباما رغم هذا التنازل بسبب عدم ثقته في الوعود الأمريكية وخيبة الأمل من عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة.
في نهاية المطاف، ليس مِن المستغرب أن يُدرك العديد من الذين ما يزالون يؤمنون برؤية اتفاقيات أوسلو جديدة بعدم جدوى رؤياهم حول مفاوضات سلام شامل في ظل الظروف الحالية نظرًا لعدم ثقة الجانبين في الآخر، وخيبة الأمل من عملية التفاوض نفسها، وانعدام الرغبة الدولية والإقليمية في الإنخراط في أي ضغط على الطرفين. لذا لجئ العديد ممن يعارضون صراحة حل الدولتين، بمن فيهم رئيس الوزراء نفتالي بينيت إلى تبني فطرة “تقليص الصراع”، الذي ابتكره الإسرائيلي سالف الذكر ميكا غودمان.
لا تنوي حكومة بينيت تنفيذ أي تسوية إقليمية مهما كانت صغيرة من شأنها أن تعني عملية قيام دولتين، بالنسبة إلى بينيت يُعد تقليص الصراع وسيلة لتجنب حله وليس تعزيزه؛ لذا فالسياسات الإحتلال الإسرائيلي القانونية والعسكرية والاقتصادية لا تُعيد بناء الثقة مع السلطة الفلسطينية، ولا تعيد ضبط العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية.
ليس لدى القادة الإسرائيليين والفلسطينيين رغبة لأي عملية سلام، سواء كانت تدريجية أو غير ذلك، ولكن بغض النظر عن الظروف السياسية الحالية، تؤكد تجربة هنري كيسنجر الدبلوماسية على ما أكدته السنوات بالفعل وهي: أن المبادرات الدبلوماسية رفيعة المستوى والشاملة من المحتمل ألا تحقق السلام الإسرائيلي الفلسطيني أبدًا وذلك بسبب طبيعة الصراع نفسه، ووحدها فقط الخطوات التدريجية التي يتم تشجيعها في ظل الظروف المناسبة، وعندما يشعر الطرفان أنه ليس لديهما خيار آخر يُمكن أن تقرب الدولتين من الواقع.
ملاحظة/ رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر المجموعة.