تقدير الموقف
أخر الأخبار

التصعيد وفرص المواجهة.. تقدير موقف

مُلخص

تسارع وتيرة المواجهات في القدس، واتساع رقعة الأحداث إلى مناطق الضفة الغربية؛ بجانب التهديدات المتبادلة بين قوى المقاومة في قطاع غزة مع قادة الاحتلال، تربّع حكومة “نفتالي بينت” اليمينية المرتكزة على ائتلاف حزبي ضعيف قابل للتفكك في أي لحظة ، تهيئ الظروف لانفجار الأوضاع إلى مستويات شبيهة بأحداث هبّة القدس العام الماضي، ومعركة سيف القدس بين المقاومة الفلسطينية في غزة ودولة الاحتلال؛ وربما استكمال أهداف العدوان  الاسرائيلي التي ظلت ناقصة إبّان عدوان شهر مايو/آيار الماضي، خاصةً وأن نجاح عناصر من المقاومة الفلسطينية في ضرب العمق “الإسرائيلي” عبر العمليات الفردية خلق مزيد من الأعباء الأمنية التي عززت بدورها مستوى الانقسامات السياسية الصهيونية، وعززت كذلك فرص الحكومة لتحصيل غطاء شعبي “إسرائيلي” لأي مواجهة مع المقاومة في غزة يقدّر بإمكانية وقوع خسائر في صفوف قوات الاحتلال كان يتفاداها قادة الاحتلال بسبب حساسية الجبهة الداخلية الصهيونية للخسائر خصوصاً في الأرواح. 

ولا شك أن الخيارات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمتلكها أطراف الصراع يتقلص مستوى تأثيرها مع استمرار مستويات عالية من التصعيد، وهذا ما يجعل المشهد السياسي الفلسطيني مفتوحاً على عدة سيناريوهات، في ضوء احتمالات لجوء حكومة الاحتلال إلى سياسة الهروب إلى الأمام لتجنب إسقاطها في “الكنيست الإسرائيلي” ولأن أى عدوان تقوده الحكومة الإسرائيلية يمنحها رصيد شعبي وازن في حال الذهاب لانتخابات مبكرة. وهنا سنحاول في تقدير الموقف هذا قياس الأوزان النسبية لكافة السيناريوهات، وصولاً لأكثرها ترجيحاً.

مؤشرات الأحداث وأسباب نشوئها

سبقت موجة العمليات الفردية داخل مدن الكيان وما ترتب عليها من إعلان حكومة الاحتلال عن عملية “كاسر الأمواج” حديث جماعات الهيكل المتطرفة عن القرابين، وهو ما فتح الطريق نحو التصعيد في القدس. 

مقابل إجراءات الاحتلال القمعية في مدن الضفة الغربية، وخصوصاً في مدينة جنين والسعي لعقابها بشكل جماعي بسبب احتضانها لمنفذي عمليات ديزنكوف والعفولة، اتسعت رقعة الأحداث؛ في هذه الأثناء وجهت فصائل المقاومة في غزة جملة من التهديدات، حتى وصل الأمر إلى استهداف مستوطنات غلاف غزة بصواريخ قصيرة المدى، وهو ما استدعى رد محدود من قبل الاحتلال.

في ذروة الأحداث يطرح المشهد الفلسطيني الكثير من التساؤلات أبرزها: هل يدفع المشهد السياسي الداخلي الإسرائيلي وخسارة الائتلاف الحاكم لأغلبيته البرلمانية نحو المزيد من التصعيد؟ هل يفضي تصعيد الأحداث في القدس إلي مواجهة مع غزة؟ وهل بالضرورة تثبيت المعادلة التي فرضتها المقاومة -إذا ما استدعي الأمر- على أن يتم عنصر المبادأة من غزة؟

ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد أن التصعيد ليس في مصلحة حكومة بنيت كونها تعاني من خسارة الأغلبية البرلمانية، وهذا ما ينعكس على سلوكها السياسي، ومنعها لجماعات الهيكل ومسيرات الاعلام من اقتحام المسجد الأقصى يعبر عن خشيتها من التصعيد، ويكلفها المزيد من الأثمان السياسية في مواجهة المعارضة والمجتمع الصهيوني.

من جانبها ترى المقاومة الفلسطينية أن اقتراب المستوطنين من المسجد الأقصى وتقديم القرابين بمثابة استفزاز لمشاعر المسلمين، وهو ما يتطلب تدخل فوري، وهذا ما أظهرته حركة حماس في بيان شديد اللهجة حيال هذا الأمر، علاوة على ذلك ترى المقاومة أن المعادلة التي حققتها في معركة سيف القدس العام المنصرم باتت عرضة للتهديد، لأن الاعتداء على المسجد الأقصى والمقدسات يعني الحرب، وهو ما يجعل خياراتها بهذا الاتجاه واضحة بين البعد الأيديولوجي وقواعد الاشتباك، مما يزيد من فرص التصعيد.

التصعيد وخيارات الفصائل الفلسطينية

إذا كانت الحكومة الصهيونية غير معنيّة بالتصعيد، فإن قوى المقاومة الفلسطينية تدرك خطورته في هذه المرحلة، غير أنها ترغب باستمرار الأحداث وتدفقها في كافة الساحات بعيداً عن مواجهة مباشرة مع غزة يمكن أن تحرف الأنظار.

رغم استمرار تخوّف الاحتلال من العمليات الفردية، ومحاولة قمع كل أشكال المقاومة في الضفة الغربية، إلا أن فصائل المقاومة ما تزال قادرة على تثبيت المعادلة التي آسست لها المقاومة في معركة  سيف القدس، وهذا ما يظهر في سلوك الاحتلال في الأقصى، لكن فشل التئام الحكومة ومحاولات نتنياهو جر غزة للحرب، وفك الائتلاف الحكومي الحالي يجعل الجولة الحالية مفتوحة على كل الاحتمالات.

تحديات الاحتلال في حالة التصعيد الحالية

يُعد الكابوس الأكبر لحكومة “نفتالي بنيت” الآن هو المحافظة على بقاء الحكومة الحالية التي تعاني من خسارة الأغلبية البرلمانية، وإذا ما ذهبت نحو المزيد من التصعيد أو الحرب على غزة، فإن فرص انسحاب القائمة العربية من الائتلاف الحكومي سيعمّق من أزمتها الداخلية، خاصةً وأن الأعضاء العرب كانوا قد هددوا بذلك خلال تصاعد الأحداث في الأقصى.

وعليه ثمة تحديين ماثلين الآن أمام حكومة بنيت، الأول: الفشل في وقف التهديدات في مناطق فلسطينية مختلفة، أو اتساع رقعة المقاومة وعدم قدرة المنظومة الأمنية الصهيونية على السيطرة وإعادة حالة الهدوء الأمني.

الثاني: تعمق الأزمة السياسية الداخلية وعدم قدرة النظم السياسي “الإسرائيلي” على حماية البنية السياسية والحزبية الصهيونية القائمة، فالائتلاف الحكومي الضعيف يُعبر عن طبيعة البنية الحزبية والسياسية الهشة التي تُميز به النظام السياسي خلال السنوات الأخيرة.

يُضاف إلى ذلك حاجة الاحتلال إلى الهدوء من أجل المضي قُدماً في مشروع التطبيع العربي والإقليمي، وكذلك استثمار الأزمة الروسية الأوكرانية، خاصةً وأن المرجو من منطقة الشرق الأوسط سد فجوة الطاقة التي ظهرت مع بدء الصراع الروسي الأوكراني.

خيارات الاحتلال تجاه التصعيد الحاصل

ثمة خيار أمني يهدف إلى منع تسلل المقاومين من الضفة الغربية إلى مدن الداخل، وقد أعلن جيش الاحتلال عن ذلك تحت مسمى عملية “كاسر الأمواج”، لكن يُمكن أن يأتي ذلك بنتائج عكسية، لأن الفصل الكامل للضفة الغربية يتعارض مع محاولات الربط السياسي والاقتصادي بين مدن الاحتلال والضفة الغربية، كما أنه يفاقم من الأزمة الاقتصادية في المجتمع الفلسطيني، وهذا على عكس مساعي الاحتلال في التعامل مع قطاع غزة، فإدخال أكثر من 20 ألف عامل من غزة إلى مدن الداخل يأتي في سياق التخلص من المقاومة بالوسائل الاقتصادية.

وفي سياق آخر، فإن تنامي المقاومة في الضفة الغربية يدفع باتجاه إضعاف السلطة الفلسطينية، وهذه الأخيرة تُعاني من أزمة اقتصادية تقوض من تحركها وقدرتها الأمنية؛ بينما خيار السماح للجماعات المتطرفة بممارسة طقوسها في الأقصى، ومحاولة تحسين صورة الحكومة أمام المجتمع الصهيوني، من شأنه أن يقرب المواجهة مع جبهة غزة، وهذا ما سيظهر خلال الساعات القليلة القادمة.

فرص قوى المقاومة الفلسطينية في التعامل مع الأحداث

في ظل المؤشرات التي تُنذر بفشل الائتلاف الحكومي والانشغال الداخلي لدى الأحزاب السياسية، يمكن للمقاومة الفلسطينية استثمار ذلك الموقف عبر تعزيز نشاطاتها، حينها سيكون المجتمع الصهيوني أمام خيار البقاء على حكومة بنيت الضعيفة، أو الذهاب نحو تفكيكها واضعاف البنية السياسية والمجتمعية الصهيونية. 

لا شك في أن اتساع رقعة المقاومة شعبياً بالأساس يمثل الخيار الأفضل، على اعتبار أن الاشتباك مع الاحتلال هي العلاقة الطبيعية، بل في علاقاتها مع الفاعلين الآخرين و الأطراف الإقليميين.

من ناحية أخرى فإن خشية الاحتلال من مواجهة غزة تقيد سلوكه القمعي في القدس والضفة الغربية، وهذا ما يضعف قدرته على الردع، وهذا ما يفتح الباب أمام تنامي المقاومة في مناطق فلسطينية مختلفة.

التهديد المحتمل في ظل الأحداث الجارية

يبقى خيار العمل العسكري على غزة وارد بشدة، ويمكن لبنيت استخدام هذا الخيار للهروب من الأزمة الداخلية، وفي نفس الوقت احتواء المشهد الأمني في القدس والضفة الغربية، لأن التجربة تقول إن التركيز على غزة يعني انكفاء الانتفاضة في القدس والضفة الغربية.

إذا ما ذهبت الحكومة الإسرائيلية إلى هذا الخيار، فإن التركيز الصهيوني يمكن أن ينصب على محاولة إنهاء معادلة سيف القدس التي ربطت بين غزة والقدس، وذلك لأن أزمات غزة الاقتصادية وعدم تنفيذ مخططات الاعمار، وتحول الإقليم نحو المزيد من التطبيع مع “إسرائيل” كلها معطيات ليست في مصلحة المقاومة الفلسطينية.

السيناريوهات

بناءً على المعطيات السابقة، فإن المشهد الصراعي يشير إلى العديد من السيناريوهات يمكن تناولها بشيء من التفصيل على النحو التالي:

أولاً: استمرار الوضع الحالي

يُبقي استمرار الوضع الحالي كافة الخيارات مفتوحة لطرفي الصراع، لكنه يصب في مصلحة المقاومة نسبياً، كونه يعمق من أزمات الحكومة الصهيونية على المستويين الداخلي والعلاقة مع الأطراف الفلسطينية. في نفس الوقت يمثل خيار المضطر بالنسبة للحكومة الصهيونية الساعية من أجل الحفاظ على بقائها مع تفعيل أدواتها القمعية والاقتصادية في التعامل مع الجانب الفلسطيني.

معززات السيناريو

  • أن طرفي الصراع غير معنيين بالدخول في مواجهة مباشرة على جبهة غزة.
  • مراهنة الاحتلال على أدواته القمعية والاقتصادية من أجل استعادة السيطرة على الأوضاع.

معيقات السيناريو 

  • ضعف حكومة بنيت وعدم قدرتها على مواجهة ضغوط الجماعات الدينية المتطرفة في القدس.
  • اتساع رقعة المقاومة في الأراضي الفلسطينية، وتعزز فرص الدخول في مواجهة مع قطاع غزة.

ثانياً: سيناريو استعادة الهدوء 

تسعى الحكومة الصهيونية إلى استعادة الهدوء للحفاظ على بقائها، وتمرير مشاريعها المختلفة، خاصةً وأن أقطاب اليمين داخل الائتلاف الحكومي الحالي مهتمين بتحقيق نجاحات على مستوى تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، وفتح المزيد من العلاقات الإقليمية، مما ينعكس على حظوظهم السياسية خلال الانتخابات المُقبلة. في الوقت ذاته فإن نهاية الأعياد اليهودية من شأنها التخفيف من مستوى التصعيد في القدس، كما أن فصائل المقاومة معنية بإعادة الإعمار وتحسين الوضع الاقتصادي.

معززات السيناريو

  • جهود الوساطة المصرية، وما تمتلكه القاهرة من نفوذ وأدوات اقتصادية تمكنها من الضغط على الفصائل الفلسطينية.
  • حفاظ المقاومة الفلسطينية على معادلة الردع مع الاحتلال، وهذا ما يظهر في سلوك حكومة بنيت في تعاملها مع الجماعات المتطرفة في القدس.

معيقات السيناريو

  • عدم قدرة الائتلاف الحكومي على مواجهة الضغوط الداخلية.
  • استمرار العمليات الفردية والمواجهات في مناطق فلسطينية مختلفة.

ثالثاً: سيناريو المواجهة الواسعة

في ظل تصاعد الأحداث يصبح من الصعب على الأطراف استعادة السيطرة، فالساعات الماضية شهدت  دخول جبهة غزة، كما أن الوضع الحرج لحكومة بنيت يجعلها تفكر في هذا السيناريو كمخرج، خاصةً وان إعطاءها الفرصة للمتطرفين في اقتحام الأقصى يمكن أن يفوت الفرصة، ويحول دون نجاح محاولات نتنياهو، أو يجعل شخصيات اليمين الحالية قادرة على المنافسة في أي انتخابات مقبلة.

في الوقت ذاته يهم المقاومة الفلسطينية الحفاظ على معادلة الردع القائمة، كما أن بعض التسهيلات الاقتصادية في غزة، وانفتاح قوى المقاومة على الإقليم لم تكن إلا بفضل قدرتها على المواجهة.

معززات السيناريو

  • تحفز الجماعات الدينية المتطرفة لاقتحام المسجد الأقصى وممارسة الطقوس الدينية المختلفة، خاصةً وأن الأجهزة الأمنية الصهيونية تتواطأ مع الاقتحامات.
  • شعور الاحتلال بنقص السيادة على القدس، وإذا كانت الاقتحامات للمسجد الأقصى تمثل عنصراً ضاغطاً على الحكومة الحالية، إلا أن المجتمع الصهيوني عموماً لا يعارض الاقتحامات الدينية وغير الدينية للمسجد الأقصى.
  • عدم وقوف المقاومة مكتوفة الأيدي أمام محاولات اقتحام المسجد الأقصى، حيث أن الفصائل الفلسطينية تعلن بشكل واضح عن دخول المواجهة في حال سمحت الحكومة الإسرائيلية بذلك، كما أن الاستعداد الصهيوني للمواجهة مع غزة عبر عنه وزير الحرب غانتس خلال لقاءه الخميس الماضي برؤساء مجالس غلاف غزة.
  • عدم امتلاك طرفي الصراع الكثير من الوسائل القادرة على إعاقة المواجهة، وعلى العكس تماماً فإن المقاومة الشعبية والفردية تتجاوز مستوى الفصائل في أحيان كثيرة، كما أن الحكومة الصهيونية لا تستطيع منع المتطرفين والمتدينين عموماً من الاقتحامات، لأنها بحاجة لهم خلال المرحلة المقبلة.

معيقات السيناريو

تبقى فرص نجاح الجهود الدبلوماسية عند حدها الأدنى في ظل تصاعد حدة الصراع، ولا تتوقف المقاومة عند بعض التسهيلات الاقتصادية كثيراً إذا ما استمرت عمليات اقتحام المسجد الأقصى؛ لكن توسع العمل المقاوم في الضفة الغربية والداخل والقدس، يمثل خياراً مناسباً لفصائل المقاومة في غزة، ويقلل من تحفزها نحو المواجهة.

السيناريو المرجح: يبقى السيناريو الثالث الأكثر ترجيحاً، فهناك رغبة لدى القوى الفلسطينية ببقاء الساحات الفلسطينية مشتعلة، والعمل على إضعاف قوة الردع الإسرائيلي تجاهها.

من ناحية أخرى تتجاوز العمليات الفردية قدرات الفصائل والجهات الأمنية والاستخبارية الصهيونية، وإذا كانت الفصائل الفلسطينية لا تتبنى تلك العمليات، إلا أنها تصبح هدفاً للقمع الإسرائيلي في الضفة الغربية، فضلاً عن أن الاحتلال يستغل تصاعد الأحداث ويحاول ملاحقة أي بؤر المقاومة الفلسطينية في القدس والضفة الغربية.

الخلاصة

يمثل المشهد الراهن فرصة حقيقية بالنسبة لقوى المقاومة، لأن تدفق العمل الفلسطيني المقاوم في الساحات المختلفة يتعارض مع معادلة الهدوء مقابل الحلول الاقتصادية التي يطرحها الاحتلال والأطراف الدولية المختلفة.

كما أن تنامي فاعلية العمل المقاوم في الضفة الغربية من شأنه أن يمنع الاحتلال من الاستفراد ب غزة أو القدس، حيث يتعزز ذلك الفعل مع استمرار مستوى التصعيد، ومن شأن ذلك تعطيل مخططات الاحتلال لتقويض رؤيته الأمنية القائمة على التنسيق الأمني، وهذا ما يعزز من انتشار فكر المقاومة في عموم الجغرافيا الفلسطينية.

أخيراً، فإن سيناريو المواجهة المُرجح يفرض نفسه على طرفي الصراع، حتى وإن كانت حكومة بنيت وقوى المقاومة في غزة يتجنبون الدخول في المواجهة، إلا أن سيولة الأحداث كفيلة بإعادة تشكيل المشهد الصراع في المحتدم في فلسطين.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق