
ديناميكية التعامل مع مرحلة ما بعد استئناف العدوان
تشهد الحالة الفلسطينية الراهنة تعقيداً غير مسبوق على مستوى الحلول الممكنة لإنهاء حرب الإبادة الجارية ضمن شروط وقف الحرب والانسحاب الكامل وإعادة الإعمار، التي تُصر حركة حماس على تضمينها في أي اتفاقٍ محتمل. في حين تسعى دولة الاحتلال إلى إفشال هذا المسار من خلال تثبيت معادلة جديدة تتمثل بزيادة الضغط العسكري عبر توسيع نطاق القصف الجوي والمدفعي لدفع حركة حماس لتقديم تنازلات بخصوص ملف الأسرى لحصره، رغبةً في بلورة اتفاق تبادلٍ فقط دون أي التزامات مرحلية تقضي بتنفيذ شروط المقاومة السياسية أو الميدانية.
وفي موازاة التصعيد العسكري، تُظهر مؤشرات ميدانية واضحة مساع إسرائيلية لتنفيذ مخطط التهجير بصيغة غير معلنة، من خلال تفتيت الجغرافيا الغزّية لخلق بيئة طاردة، وهو ما يتوافق مع التصريحات الأمريكية التي ما زالت تؤكد على مخطط ترامب للتهجير ضمن مشروع “ريفيرا غزة”، وهو ما ظهر جليّاً في خطة يسرائيل كاتس الرامية إلى تقسيم القطاع إلى خمسة محاور أمنية، ومن أبرزها موراج “فيلادلفيا 2”.
وإزاء تتابع ضغوط العدوان والتراخي الدولي، وفي محاولة لاحتواء التداعيات المختلفة بتوفير الحد اللازم من الدعم للطرف الفلسطيني، وتطوير الوساطة استدعت القاهرة دور طرف دولي يمكن التأثير على الموقف الأمريكي، ويستعرض هذا التقرير اتجاهات التحرك المصري والأردني في ضوء التحديات المتتالية.
أولاً: الأطراف الفلسطينية والتفاوض حول وقف الحرب
ينعكس التصعيد الميداني الجاري على الوضع الفلسطيني العام على كافة المستويات؛ إذ تتفاقم الأزمة الإنسانية بشكلٍ عميق في ظل استمرار منع دخول المساعدات، عدا عن تشظي الوضع الداخلي الفلسطيني في ظل تنامي الخلافات الداخلية بين مكوناته السياسية على خلفية استئناف الحرب واستمرار حالة الجمود في المفاوضات، خاصةً وأن تنفيذ التفاهمات الفصائلية يتوقف على اتفاقٍ مستدام لوقف إطلاق النار. وفي هذا السياق، يسعى التقرير إلى تسليط الضوء على مواقف الأطراف الفلسطينية حول مقترحات الحل النهائي في غزة في ظل التطورات عسكرية متسارعة فاقمت من حالة انسداد الأفق وانحسار اتجاهات الحل.
تعنت إسرائيلي يُعقّد المسار التفاوضي (سلاح المقاومة عقدة تفاوضية)
رُغم إبداء حركة حماس مرونة عالية بخصوص عدد الأسرى الإسرائيليين، وفق ما طلبته دولة الاحتلال رسمياً عبر الوسطاء بزيادة عدد الاسرى سواء الأحياء أو القتلى، وتقليص الفاصل الزمني بين دفعات التبادل، إلا أن مسار المفاوضات حول المقترح المصري لم يُحدث أي تقدمٍ يُذكر بسبب التعنت الإسرائيلي بخصوص شرطي الوقف الكامل للحرب ونزع سلاح المقاومة، وهما ما شملهما المقترح الإسرائيلي الجديد الذي يشترط وقف إطلاق نار مستدام مقابل سلاح حماس وإدارة غزة في سياق مفاوضات مرحلية.
وفي المقابل، تُدرك حركة حماس المساعي الإسرائيلية الرامية إلى نزع ورقة الأسرى تدريجياً من المقاومة باتفاقٍ تبادل مرحلي لعدد كبير من الأسرى دون أي ضمانات لوقف نهائي للحرب. فيما تُظهر حركة حماس أيضاً إدراكاً لأي مبادراتٍ التفافية قد تقود مستقبلاً لنزع أو تحجيم سلاح المقاومة، وبالأخص في ظل تزايد احتمالات فشل الاحتلال في تضمين اتفاق التهدئة لشرط نزع سلاح المقاومة أو ابعاد قادة حماس العسكريين من قطاع غزة، بحيث يُتوقع ألا تتوقف المساعي الإسرائيلية لفرض وقائع جديدة في مرحلة ما بعد الحرب تربط ملف الإعمار بترتيبات سياسية أو ضمانات أمنية تُبعد المقاومة عن المشهد أو تبتزها لتجريدها من سلاحها، وهو ما رفضته قيادة الحركة مؤكدةً على ترحيبها بخطة الإعمار العربية القائمة على إدارة توافقٍ وطني.
وعلى أية حال، يُلاحظ من التصريحات الفصائلية وجود توافق فصائلي عام على رفض التوجه إلى هدن مؤقتة أو مرحلية والتمسك بمسارٍ تفاوضي يقود إلى هدنةٍ نهائية شاملة ومستدامة، تشمل ضمانات جدية تحول دون استئناف العدوان مرة أخرى ودون تضمينها لأي شرطٍ بخصوص نزع أو تحجيم سلاح المقاومة. وتسعى حركة حماس إلى فرض هذا المسار عبر إبداء مرونة إيجابية لدفع عجلة التفاوض، مع توظيف ورقة الأسرى لتوجيه الرأي العام الاسرائيلي للضغط على موقف الحكومة الاسرائيلية الساعي إلى تعطيل مفاوضات وقف الحرب عبر فرض شروطٍ غير واقعية.
نقاشات متجددة حول إدارة القطاع
عاد الجدل بشأن مستقبل إدارة قطاع غزة إلى الواجهة بقوة في أعقاب استئناف الحرب، وسط أجواء من الإحباط الشعبي والانقسام السياسي، بحيث توالت مبادرات رسمية ومستقلة تسعى إلى استبعاد حركة حماس من المشهد الإداري للقطاع، محمّلة إياها مسؤولية انفجار الوضع مجدداً في مارس 2025. ويبرز في هذا السياق تغير لافت في خطاب السلطة الفلسطينية، التي شددت في أكثر من مناسبة على أن أي تفاهمات تُقصيها عن إدارة غزة بعد الحرب تُعد غير مقبولة، مشيرة إلى أنها الجهة الشرعية الوحيدة المؤهلة لتولي هذا الدور، وهو ما تزامن مع تقارير تُشير لوجود جهود أوروبية لإعادة السلطة إلى القطاع.
وفي المقابل، تتمسك حركة حماس بمخرجات التفاهمات الفصائلية المُتفق عليها في القاهرة بخصوص لجنة الاسناد المجتمعي، كصيغة توافقية لإدارة المرحلة الانتقالية بعد تثبيت اتفاق وقف اطلاق نار نهائي، وهو ما جرى التأكيد عليه مجدداً في المحادثات الفصائلية ، تمهيداً للتوافق الوطني على تشكيل حكومة وحدة تتولى إعادة إعمار القطاع وترتيب المشهد السياسي الفلسطيني في الفترة المقبلة، دون اشتراط تفكيك الجناح العسكري لحركة حماس أو نزع سلاح المقاومة، وهو ما يُعد عقبة يفرضها الطرفان الاسرائيلي والامريكي كشرطٍ مسبق لإعادة الإعمار.
الموقف الشعبي الفلسطيني:
تتنامى حالة الإحباط لدى الأوساط الشعبية الفلسطينية، في ظل تعقّد المشهد الفلسطيني، بانسداد أفق الحلول الممكنة، ولا سيّما مع فشل الأطراف الفاعلة في صياغة أي صيغ توافقية تُنهي الحرب الجارية، وهو ما نتج عنه انقسام ملحوظ في آراء المكونات الشعبية والنخبوية حول اتجاهين متضادين؛ إحداهما يُقدم مقترحات تُخرج مسار الحلول من الطرف الفلسطيني إلى أطراف خارجية لانعدام الثقة بالمكونات الفصائلية، في مقابل توجهات شعبية رافضة لأي محاولات تدويل أو “تعريب” حل القضية في غزة، على حساب الحقوق الوطنية.
أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “الرأي العام الفلسطيني” (ومقرها رام الله) في مطلع أبريل 2025، أن 68.4% من المشاركين يشترطون عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بتنفيذ إصلاحات سياسية شاملة في بنية النظام السياسي، بما في ذلك تجديد شرعية المؤسسات من خلال انتخابات ديمقراطية.
ورغم ما قد يُثار حول دقة هذه الاستطلاعات، إلا أن تفاقم أزمة الثقة بين الشارع الفلسطيني ومؤسسات السلطة لم يعد أمرًا يمكن تجاهله. إذ ترى شريحة واسعة من الفلسطينيين أن السلطة تُعاني من ضعفٍ وعجزٍ واضحين عن القيام بواجباتها، بصفتها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، في ظل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، وتصاعد اعتداءات جيشه ومستوطنيه في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية.
ويأتي ذلك في إطار سياسة إسرائيلية متعمدة لإظهار السلطة بمظهر العاجز، بما يمهّد لمسار قد يؤدي إلى تفكيكها وخلق فراغ أمني وسياسي في الضفة الغربية يخدم تطلعات اليمين الصهيوني المتطرف.
وعلى أية حال، منذ استئناف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مارس 2025، تبلورت مواقف فلسطينية متباينة إزاء اتجاهات الحل النهائي، تعكس تعقيدات الواقع السياسي والإنساني، وتراوحت ما بين تمسك حركة حماس بمخرجات التفاهمات الفصائلية، وباتفاق وقف إطلاق نارٍ يضمن الشروط الاساسية التي تنادي بها المقاومة، وبين طموح السلطة الفلسطينية لاستعادة حضورها المباشر في المشهد الغزّي دون المرور بصيغة إدارة انتقالية توافقية، مدفوعة بدعم إقليمي ودولي متزايد لإعادة تمكينها. وفي مقابل ذلك، برز توجه شعبي ونخبوي مستقل محدود يميل نحو صياغة مبادرات جديدة تقترح إخراج إدارة الملفات ذات الصلة بالوضع الراهن إلى أطراف عربية بعيداً عن الثنائية الحزبية “فتح وحماس”، وهو ما يُقابله تيار شعبي آخر يرفض أي حلولٍ على حساب الكيانية السياسية الفلسطينية.
ويتضح من هذا المشهد أن استمرار الانقسام هو الثغرة الأخطر في الموقف الفلسطيني، إذ يسهم في إضعاف أي مبادرة وطنية أو إقليمية، ويُسهل على الاحتلال الإسرائيلي فرض حلول جزئية أو مقايضات مؤقتة وفق شروطه مستغلاً الأزمة الإنسانية المتفاقمة وحالة الإحباط الشعبي. وفي المقابل يُلاحظ أن القدرة العسكرية للمقاومة باتت في وضع منهك لا يقوى على الهجوم أو الدفاع، سوى الحفاظ على ورقة الأسرى، وتوظيفها بشكلٍ فعّال إعلامياً وسياسياً من أجل تحقيق مكاسب استراتيجية تُنهي الحرب. وهنا تبرز الحاجة الملحة لتحركٍ فلسطيني موحد شامل لتعزيز الكيانية الفلسطينية لفرض حلولٍ تُناسب المصالح الوطنية بعيداً عن أي خلافاتٍ داخلية تترجم لصالح الاحتلال، إذ لا يمكن لأي مبادرة إقليمية أن تُثمر في ظل حالة الانقسام الفلسطيني الراهنة.
ثانياً: إسرائيل واتجاهات الحل النهائي في غزة
خلال الأيام الأولى التي أعقبت أحداث السابع من أكتوبر 2023 هددت القيادات اليمينية في إسرائيل بتهجير سكان قطاع، لكن تلك التهديدات سرعان ما تراجعت إعلامياً، مقابل تعزيزها على الأرض في قطاع غزة، خاصةً وأن الجيش الإسرائيلي مهتماً باستمرار حرب الإبادة والقضاء على كافة مقومات الحياة في غزة بغض النظر عما يتم طرحه من مبادرات وحلول إقليمية ودولية.
بعد استئناف الإبادة في غزة في 18 مارس 2025، أصبحت حكومة نتنياهو أكثر تحللاً من تلك الضغوط الداخلية المتعلقة بالميزانية السنوية، فضلاً عن خروج الجبهة اللبنانية من الصراع وتراجع الوجود الإيراني من المنطقة، وضعف قدرات المقاومة في غزة، فضلاً عن انتقال الإدارة الأمريكية من مرحلة الاعتراف التقليدي أو الشكلي المتعلق بالدولة الفلسطينية، دون أي إجراءات عملية تعزز من ذلك، إلى مرحلة الخطاب الرافض تماماً لوجود كيانية سياسية فلسطينية، وتبني مخططاً إسرائيلياً يقوم على تهجير سكان قطاع غزة.
رؤية نتنياهو لمستقبل غزة
خلال زيارته إلى الولايات المتحدة في 7 إبريل 2025، أكد نتنياهو على أن حكومته تسعى لتمكين سكان غزة من الخروج إلى بلدان أخرى، وقد جاءت تلك التصريحات بعد تصريحات سابقة أشار فيها رئيس وزراء الاحتلال إلى أن الدولة الفلسطينية انتهت بعد السابع من أكتوبر، متهماً الجانب المصري بتحويل قطاع غزة إلى سجن كبير.
لهذا فإن مقترح ترامب بشأن تهجير سكان قطاع غزة، بات ركيزة أساسية في الخطاب السياسي الإسرائيلي، حيث يقول رئيس الحكومة الإسرائيلية في 30 مارس 2025 أن جيشه يعمل على تصعيد حرب الإبادة في غزة لتنفيذ مقترح ترامب بشأن تهجير سكان القطاع، وهو ما أثنى عليه الرئيس الأمريكي خلال استقباله لنتنياهو معتبراً قطاع غزة مصيدة للموت على حد وصفه.
شيطنة المقاومة كتبرير للإبادة والتهجير
لم يكن السلوك الإسرائيلي في غزة والمستند إعلامياً على جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة الداعمة لإسرائيل في الغرب، والتي لعبت دوراً مؤثراً في الضغط على المقاومة في غزة وشيطنتها، بهدف التغطية على حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزة، بعيدة عن تصريحات ترامب، حيث يتبنى هذا الأخير خلال لقاءه بنتنياهو دعاية مطابقة لتلك الدعاية الإسرائيلية التي تشيطن المقاومة وتبرر الإبادة الجماعية في غزة، حيث يدعي أنه قابل 10 رهائن أُفرج عنهم من قطاع غزة، وتحدثوا عن فظائع ارتكبتها حماس بحقهم.
إليك النص بعد التدقيق والتحرير، مع الحفاظ على المعنى وتعزيز الوضوح والأسلوب:
لهذا، تراهن الحكومة الإسرائيلية على كسب المزيد من الوقت لتمهيد الطريق أمام تنفيذ مخططاتها في غزة. فهي تواصل شنّ حملات إعلامية ممنهجة عبر منظمات إعلامية وشبكة من الصحفيين الإسرائيليين والفلسطينيين، تُستخدم لإجراء مقابلات وانتقاء آراء تُعرض في سياق مشوّه يهدف إلى تبرير استمرار الحرب بذريعة محاربة حركة حماس وتقويض سلطتها.
ولا يقتصر هذا الجهد على محاولة تغيير قناعات الرأي العام العالمي خدمةً للرواية الإسرائيلية، بل يسعى أيضًا إلى صرف الأنظار عن المجازر المتواصلة في غزة. والأخطر من ذلك، أن هذه الحملات تُسهم في تعزيز المخطط الإسرائيلي لتهجير السكان، إذ إن استمرار القصف والتدمير والإبادة يفضي إلى تقويض مقومات الحياة في القطاع، ويدفع الناس قسرًا نحو الرحيل.
تجميد مؤقت للعملية البرية في غزة
تعلق صحيفة هآرتس العبرية في 11 إبريل 2025، على موقف الحكومة والجيش الإسرائيلي بعد خرق المرحلة الأولى من اتفاق التهدئة مع غزة، وما تبع ذلك من تهديد مستمر بالعودة الى الحرب البرية الواسعة في غزة، حيث تُرجع الصحيفة الاعتماد على سلاح الطيران، مع تحرك طفيف للجيش الإسرائيلي داخل حدود غزة، حيث تعتبر ذلك محاولة إسرائيلية هدفها إبقاء المقاومة تحت النار لتحقيق المزيد من المكاسب الأمنية والسياسية على حسابها.
وهذا ما أكدته تصريحات الرئيس الأمريكي خلال استقباله لنتنياهو، مؤكداً أن المطلوب في غزة ليس اتفاقاً ينهي الحرب، بل هدنة مؤقتة تقدم للاحتلال المزيد من المكاسب على مستوى تبادل الأسرى، وهو ما يهدف الى تمكن ترامب من زيارة هادئة الى الشرق الأوسط، لذلك فإن طلبه من نتنياهو الوصول لتهدئة مؤقتة مع غزة يأتي في سياق تطلعاته لتحقيق المزيد من أهدافه السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط.
تكمن أهمية التهدئة القريبة والمؤقتة في غزة في تلك الإجراءات الأمريكية، فقد وصل الإصرار الأمريكي عليها إلى استدعاء إيتمار بن غفير لزيارة الولايات المتحدة، حيث يرجع الاعلام العبري سبب هذه الزيارة الى تقليل الضغوط اليمينية على نتنياهو وحكومته بهدف الوصول لاتفاق مؤقت مع المقاومة في غزة.
عملياً، يبدو أن ثمة قناعة لدى الاحتلال والإدارة الأمريكية تقوم على استعادة المزيد من الأسرى الاحياء، ثم استئناف التفاوض تحت النار، خاصةً وأن الاحتلال بات يدير حرب الإبادة في غزة بأدوات إعلامية وعسكرية، بهدف دفع المقاومة الى الزاوية الضيقة التي تجبرها على المزيد من التنازلات، مع الاستمرار في اتهامها بتعطيل الحلول الأمريكية والإقليمية المُقدمة.
لذلك فإن الحديث الجاري عن المقترح المصري، وما سبقه من مقترح المبعوث الأمريكي ويتكوف، مقتصراً على تبادل الأسرى وإدخال المساعدات لغزة، وهذا ما يعزز من إدارة الاحتلال لحرب الإبادة من خلال إنتاج مشهد تفاوضي يجعل المقاومة تحت النار، مع إمكانية الوصول الى هدنة جزئية أو تكتيكية تُبقي على فرص العودة الى الحرب.
من الواضح إذاً الحكومة الإسرائيلية لا ترى أي حلول سياسية لقطاع غزة، وقد يعود تجميد الحرب البرية الواسعة الى سلسلة الاعتراضات دخل الجيش على مستوى الطيارين والضباط الاحتياط الذين عبروا عن احتجاجهم ورفضهم للخدمة العسكرية في غزة، لكن هذا لا يؤثر بشكل كبير على قرارات الحكومة الإسرائيلية التي تحاول الحفاظ على فرص الحرب حتى لو وافقت على هدنة مؤقتة في قطاع غزة.
ثالثاً: تدارك الركود السياسي في مواجهة استئناف العدوان
بعد استئناف العدوان، تباطأت المساهمات الإقليمية، لتنحسر نحو اختزال المناقشات الدائرة حول المسؤولية عن الإغاثة ومنع التهجير، ليغيب أي شكلٍ من التنسيق الجماعي للضغط على الاحتلال أو إقناع الولايات المتحدة بمراجعة تصوراتها حول إخلاء القطاع ووقف البحث عن بدائل التهجير القسري غير مصر والأردن.
دائرة الوسطاء والشرعية الفلسطينية
تركزت الاتصالات الثنائية والإقليمية، في إطار دعم مسار وقف إطلاق النار ومنع التهجير من كامل الأراضي الفلسطينية. في 25 مارس، وعلى الحفاظ على تواصل مع المؤسسات الرسمية الفلسطينية وكذلك القوى والفصائل الفلسطينية لإبقاءها في مشهد اي ترتيبات محتملة لانهاء الحرب.
على المستوى الفلسطيني، انصبت المحادثة بين وزير خارجية مصر ورئيس الوزراء الفلسطيني، 26 مارس، على تصاعد العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية (غزة والضفة الغربية) وما صاحبه من انتهاك للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. وحسب بيان وزارة الخارجية المصرية، اتفق الطرفان على أهمية التنسيق مع قطر لتثبيت وقف إطلاق النار وتسهيل انعقاد مؤتمر القاهرة لحشد التمويل والتأييد للخطة العربية الإسلامية لإعادة الإعمار غزة.
مع ظهور ملامح الركود في الاصطفاف الإقليمية لمواجهة استئناف قوات الاحتلال للعدوان، اتجهت القاهرة نحو التحرك على مسارين؛ حيث اتباع سياسة مرنة للعمل على العديد من المسارات الإقليمية والدولية، وبحيث تتمكن من بناء نسق جماعي في التعامل مع قطاع غزة والقضية الفلسطينية.. وفي لقائه مع ممثلي منظمة فتح في 5 أبريل 2025، حيث ناقش وقف إطلاق النار واستئناف المساعدات الإنسانية، وكان الاتصال مع كافة الفصائل الفلسطينية لإدماج كل الأطراف في الحل السياسي والحفاظ على وحدة الأراضي الفلسطينية، والإعداد لأن تكون الفصائل جبهة فلسطينية في مواجهة توسع إسرائيل في القطاع والضفة
بشكل عام، ركز جانب من الاجتماع على تداعيات العدوان على صورة إسرائيل في المنطقة، وخصوصاً ما يتعلق بتأثير الكراهية ورغبة الانتقام على التعايش والثقة في تحقيق السلام، وقد تضمنت المباحثات مع وفد حركة “فتح” معالجة الجدل حول التهجير ووقف الحرب على ثلاث مسارات؛ كان الأول واضحاً في الحفاظ على استمرارية الشرعية الفلسطينية، لكي يخرج الخلاف حول التمثيل السياسي من التلاعب الدولي، ولذلك كانت دائماً تحافظ تواصل مع مؤسسات السلطة والفصائل وحركة حماس، لسد الثغرات المحتملة لتأثير العوامل الخارجية. أما المسار الثاني، فكان يتعلق بضمان وجود الطرف الفلسطيني على أرضه وإضعاف أي محاولة للإطاحة بالمقاومة وإبعادها خارج قطاع غزة. أما المسار الثالث، فكان البحث عن إطار دولي جديد، يمكنه تشكيل تحالف جديد يحد من التحيز الأمريكي
وفي ذات السياق، كان هناك تركيز على عاملين؛ تنفيذ الخطة العربية الإسلامية لإعادة إعمار قطاع غزة، ووحدة الصف الفلسطيني ودور السلطة الوطنية، بما يضمن تحقيق تطلعات وآمال الشعب الفلسطيني، بالإضافة للتوصل لحل دائم وعادل للقضية الفلسطينية.
التحركات الإقليمية لدعم جهود الوساطة
وفي هذا السياق، انصبت التحركات الإقليمية والدولية على استكمال مراحل وقف إطلاق النار وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني. وتكشف الاتصالات بين المسؤولين عن أولويات الدول في المرحلة الحالية. في الاتصال ما بين وزير خارجية مصر والمبعوث الأمريكى الخاص للشرق الأوسط، 24 مارس، ستيف ويتكوف، دار الحديث عن العلاقات الثنائية ووقف العدوان الإسرائيلي على القطاع واستكمال اتفاق وقف إطلاق النار. وفي ذات الوقت كانت الاتصالات بين الولايات المتحدة وتركيا في نفس الاتجاه، حيث التأكيد على المصالح المشتركة وأولية التحالف المستمر بين البلدين وحماية الحقوق الفلسطينية.
ومع الطبيعة الدورية للاتصالات بين البلدين، ناقش وزيرا قطر ومصر الطابع الدوري، 26 مارس 2025، فرض تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، ووقف العدوان للمضي في المراحل التالية، وخصوصاً ما يتعلق بإطلاق سراح الرهائن والأسري ودخول المساعدات الإنسانية. كان الاهتمام بخطة الإعمار في صلب المحادثة، حيث أبدى البلدان اهتماماً بتهيئة الظروف في قطاع غزة والترتيب لمؤتمر القاهرة للتعافي المبكر بما يضمن بقاء الفلسطينيين على أراضيهم، ما يتطلب خفض التصعيد في المنطقة ومنع الانزلاق للتوتر وزيادة ضمانات التسوية التي تؤدي للدولة الفلسطينية.
العامل الدولي لتعزيز هيكل الوساطة
بعد إٍقرار الخطة العربية لإعادة إعمار غزة، برز سلوك الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أوضح في عملية تمكين إسرائيل من القطاع والتهجير على حساب الجهود الإقليمية لوقف العدوان. ولذلك، اتجهت القاهرة لتوسيع مجال الدعم الدولي لموازنة الوضع الضعيف للوسطاء. حاولت مصر تكوين تحالف يتجاوز الإطار الإقليمي. كانت فرنسا الوجهة الأولى بعد إفساد الولايات المتحدة لفكرة الوساطة الثلاثية. ولذلك، ترجع أهمية فتح الطريق أمام الدور الفرنسي خطوة لتعديل هيكل الوسطاء ومنح العملية دفعة كبيرة نحو ضمان مراحل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار. وكانت زيارة الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) محاولة لوضع أوربا في مقابل الولايات المتحدة.
وضمن زيارة الرئيس الفرنسي للقاهرة، تم عقد قمة ثلاثية في 7 أبريل 2025، شملت الأردن تم خلاله الاتصال مع الرئيس الأمريكي، تم فيها مناقشة ضمان وقف إطلاق النار والاستئناف الكامل لتقديم المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح جميع الرهائن والمحتجزين. بالإضافة لتهيئة ظروف تحقيق أفق سياسي لحشد الجهود الدولية لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، واستعادة الأمن والسلام للجميع، بحيث تقود لتنفيذ حل الدولتين. اتجه بيان صادر عن الاجتماع الثلاثي لأن يكون تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار مقدمة لوقف الحرب، وتوفير الحماية لمرحلة الإعمار مع بقاء سكان غزة. كان هناك أمر لافت بضمان سلامة النظام والأمن في القطاع وجميع الأراضي الفلسطينية، وتمكين السلطة الوطنية الفلسطينية
الآثار السلبية لمزاحمة الأزمات الإقليمية على ملف غزة
تجري هذه الأحداث في سياقات إقليمية غير فلسطينية، استحوذت على جانب كبير من انشغال السياسة الخارجية لعدة دول، جاء في مقدمتها الوضع في سوريا، حيث تنشغل السياسة التركية بترتيبات الأمن والدفاع حتى لا تكون ساحة فراغ أمام إسرائيل، وأيضاً، اهتمت السعودية بضبط الحدود بين سوريا ولبنان بحيث لا يكون ساحة صراع مفتوحة أمام الانفلات الأمني. وفي ذات الاتجاه رأت السياسة المصرية تكرار العدوان على سوريا ولبنان ضاراً بالأمن الإقليمي. في 27 مارس، تناول وزيرا خارجية مصر ولبنان، بدر عبد العاطي ويوسف رجى، موضوع إعادة الإعمار ومواجهة التحديات الأمنية وسلامة الدولة اللبنانية، وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، وتلاقت مع الموقف السعودي في انسحاب إسرائيل الفوري من الأراضي السورية واللبنانية.
وبجانب شمول الاتصال بين وزيري خارجية إيران (عباس عراقجي)، في 9 أبريل، الأزمات الإقليمية في سوريا، اليمن لبنان، كان هناك اهتمام اًواضحاً بوقف العدوان على غزة باعتباره شرطاً ضرورياً للاستقرار الإقليمي. يعكس سياق الاتصالات ببين البلدين الحاجة للتنسيق تجاه مصادر التهديد المختلفة، وخصوصاً مع تعدي التهديد للحدود وتأثيرها الواسع.
ويمكن قراءة وضع غزة والقضية الفلسطينية في ظل انشغال الدول بملفات أخرى. يستحوذ الملف السوري كثيراً من انشغال دول مصر، السعودية وتركيا، وهنا، تحدث المفاضلة ما بين الخلاص من الأعباء المتعددة في داخل هذه الدول أو خارجها. وعلى التوازي من هذه الأعباء والاحتجاج المُبرر، نفى الأردن شائعات بقبوله توطين 3000 آلاف فلسطيني، وهي ذات الإشاعة بقبول مصر توطين نصف مليون فلسطيني في سيناء، وإقامتها جسراً جوياً لإمداد الاحتلال بالسلاح. وهو نمط من التحضير لتشتيت الأذهان عما يجري من عدوان إسرائيلي لصالح إثارة الخلافات مع الحكومات المنخرطة في الوساطة والمتضررة من استمرار الحرب، فهي كلها تصب في إرباك مسار وقف الحرب وتشد الأطراف نحو مناقشة الصراعات الداخلية فيما بين الفلسطينيين وبين القوى الإقليمية.
وفي ظل تزاحم مشكلات الأمن الإقليمي، تتشكل تحركات لملء الفراغ في مناطق الاشتعال، بحيث لا تكون إسرائيل العامل الحاسم والمنفردة بالتصرف. ولذلك، تمثل أي مبادرة أو ترتيبات جديدة عاملاً ضرورياً لضمان استمرار اتفاق وقف إطلاق النار، بشكل يُعطي الطرف الفلسطيني الحرية في بناء نظامه السياسي.
يشير السياق العام إلى أنه بعد الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار، لم تعد المشكلة في استمرار حُكم حماس، فهناك ما يمكن وصفه بوضع انتقالي لإدارة غزة، ليست حماس جزء منه، وهو ما يُعد الخطوة التمهيدية لتوحيد السلطة في القطاع والضفة تحت قيادة رام الله. الوضع الإنساني في غزة كارثي، وربما يتم توظيف مظاهر الاحتجاج في الشارع ضد حركة حماس في سياق تعطيل إسرائيل للاتفاق بحرب عشوائية همجية، خصوصاً بعد توافق كل الأطراف على مراحل الاتفاق، ومنها تسليم القطاع للسلطة.
فهي مهتمة بالأساس بالسير باتفاق وقف إطلاق النار، وليس هناك ما يشير للالتفات لانقسامات فلسطينية جديدة من شأنها تعطيل ما تم إنجازه في المرحلة الحالية، وخاصة ما يتعلق بتشغيل اللجنة الإدارية المجتمعية “الإسناد المجتمعي”
في الوقت الراهن، تشير التقييمات الحالية لإمكانية الوصول لنقطة توازن مع المقترحات الأمريكية، وخاصة بعد قدرة الدول الإقليمية على امتصاص هجمة ترامب، وبشكل عام، يتوقف الوصول لنتائج على مدى تسارع مسار الوحدة الفلسطينية لدعم اللجنة المجتمعية والوقوف وراء السلطة لسد أي فجوة محتملة للحديث عن فراغ في الشرعية الفلسطينية .