تقدير الموقف

إمكانية تشكيل جبهة وطنية فلسطينية

في ضوء النقاشات التي شهدتها الساحة الفلسطينية حول أزمة الشرعية والتمثيل السياسي في النظام الفلسطيني، المتمثلة بنهج الإقصاء والتفرد لقيادة المنظمة في جميع القرارات السياسية والتنظيمية والإدارية، وتعطيل الانتخابات التشريعية والرئاسية، وقرارات المجلس المركزي الأخير، والتي تمخض عنها ربط منظمة التحرير بهيكلية السلطة الفلسطينية -قبل أن يتراجع محمود عباس عنها- بدأ الحديث حول إمكانية تشكيل جبهة وطنية فلسطينية لتوحيد الجهود السياسية والنضالية في الإطار الوطني يعود مجدداً إلى السطح. 

وبالرجوع قليلاً إلى الوراء نجد أن فكرة تشكيل جبهة وطنية شاملة للكل الفلسطيني شعبياً وفصائلياً، لم تكن حديثة الوضع الراهن أو النقاشات المستجدة، إنما شغلت سابقاً العديد من فصائل الخط المعارض للمسار المتبع من قبل قيادة المنظمة في عدةِ محطاتٍ رئيسيةٍ عبر تاريخها؛ مكونةً في ذلك عدة جبهات رفضٍ ومعارضة [1]، والتي غالباً ما آلت إلى التفكك والحل عبر تفاهماتٍ متبادلةٍ بين قيادة المنظمة وفصائل جبهات المعارضة، إما عبر لقاءات مباشرة أو عبر وساطاتٍ إقليمية أو دولية، كما حدث مع حل جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني؛ بناءً على تفاهمات أعادت التوافق الفصائلي في إطار المنظمة عام 1991 بعد محادثات مطولة بين الطرفين [2].

الوضع الراهن على الساحة الفلسطينية:  

وجدت الفصائل والفواعل الفلسطينية نفسها أمام تحدياتٍ جديدةٍ وغير مسبوقة، إثر التطورات الأخيرة، فلم يعد انتظار حوارات المصالحة أو إحداث أي تغيير إيجابي على مستوى السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير سيناريو محتمل على المستويين القريب والمتوسط، ولم يكتف محمود عباس بتعزيز هيمنته على السلطة الفلسطينية، ورفع مستوى التنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية فحسب، بل قضى على كل الفرص الممكنة متجاهلاً ما تم الاتفاق عليه مع الفصائل في اجتماع مجلس الأمناء العامون ومقررات المجلس المركزي، وإذا كان قرار محمود عباس بإلغاء الانتخابات العامة في أبريل 2021[3]، وتجاهل تشكيل حكومة وحدة وطنية بإشراك الفصائل تسبّب في موجة من الانتقادات على المستويين السياسي والشعبي، فإن الترتيبات المنفردة لمؤسسات منظمة التحرير مطلع عام 2022 عزز من حالةِ الانقسام؛ لذلك لم يعد مطروحاً أمام الفصائل الفلسطينية وباقي المكونات الشعبية سوى خيار الالتزام بشروط الرباعية الدولية والاعتراف بالشروط الأمريكية-الإسرائيلية إذا ما أرادت المشاركة في نظام السلطة الفلسطينية القائم. 

بالإضافة إلى هذه التحديات السياسية الإقليمية والدولية، فقد شكل الوضع الجغرافي والديمغرافي المقسَم للمناطق الفلسطينية الخاضعة للحكم الذاتي تحدياً قوياً، حيث إن تشرذم سيطرة أجهزة السلطة بين أرخبيل من الجيوب المعزولة والمقسمة التي تفصل مناطق السيطرة عن بعضها البعض، وربط مناطق المستوطنات بنظامِ نقلٍ إسرائيلي؛ تسبّب في تقويض فرص إمكانية قيام دولة فلسطينية على المدى القريب والمتوسط، الأمر الذي انعكس على المكونات السياسية الفلسطينية، متمثلاً في جمود الحلول الممكنة والمطروحة لإتمام العملية الانتخابية، مما رسّخ الانقسام سياسياً ومناطقياً، وعزز من فرص تفرّد القيادة الفلسطينية الحالية في القرار الوطني الفلسطيني، دون إشراك باقي الفصائل والقوى الفلسطينية على اختلاف توجهاتها وبرامجها، التي بدأت مؤخراً أمام حالة الاستعصاء السياسي والاستياء الشعبي العام بطرح بعض الحلول حول إمكانية تشكيل تكتلٍ تنظيمي ضد مسار منظمة التحرير رغبةً في إصلاحها. 

التطورات الإقليمية والدولية:

بالإضافة إلى ذلك، إن الضغوط الإقليمية والدولية التي ساهمت في دفع محمود عباس نحو خطوة الانتخابات التشريعية مطلع العام الماضي هي الأخرى لم تعد متوفرة؛ فقد بات الاتحاد الأوروبي يطرح استئناف الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، بعيداً عن التطرق إلى مسألة العملية الديمقراطية كمعطلٍ لهذه المساعدات، فالحديث الآن يدور حول تغيير أو تعديل المناهج الدراسية كشرطٍ رئيسي لاستئناف المساعدات[4]، كما أن التوجه الإقليمي من قبل عدة دول عربية بات أكثر قرباً واهتماماً بمسار التطبيع مع دولة الاحتلال، وهذا ما أبقى ملف إنجاز الانتخابات الفلسطينية لترميم الشرعية السياسية للشعب الفلسطيني، كمقدّمة لاستقلال كيان فلسطيني بات أمراً مستبعداً أمام تلك التطورات الإقليمية والدولية التي حالت دون تشكيل ورقة ضغطٍ على قيادة محمود عباس باستكمال الإجراءات القانونية لتفعيل المسار الديمقراطي. 

وفي حقيقة الأمر أن ترتيب منظمة التحرير للمرحلة المُقبلة وتجاهل محمود عباس لكافة المكونات السياسية والاجتماعية الفلسطينية، جاء بضوءٍ أخضرٍ أمريكي إسرائيلي، اللتان تسعيان إلى إبقاء الوضع الفلسطيني على ما هو عليه الآن[5]، والتصدي لأي صراعٍ محتملٍ داخل أو خارج حركة فتح بعد مرحلة محمود عباس، الذي لا تخرج خطواته عن هذا السياق، وهو ما ينعكس على الموقفين الأوروبي والإقليمي.

ومقابل تلك التطورات لم يعد أمام الفصائل والقوى المؤثرة في المجتمع الفلسطيني سوى الانتظار والترقب، أو السعي للضغط والتأثير وتجاوز حالة الانقسام وتصعيد خطاب المقاومة في الشارع الفلسطيني؛ لتشكيل جبهة ضغطٍ وطنية من شأنها أن تعيد الحالة الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، وإجبار كافة الأطراف على التعامل معها لضمان نجاح هذا الطرح، وهنا لابد من قراءة البيئة الداخلية والإقليمية الفلسطينية، وهذا ما سيتم تناوله في النقاط التالية:

  • البيئة الداخلية: 

تأتي فكرة تشكيل جبهة وطنية فلسطينية في ظروف تعقد المشهد السياسي الفلسطيني وانزلاق قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله نحو إغلاق الطريق أمام أي محاولات لاستعادة الوحدة الوطنية، ولّد ذلك حالة من الغضب الفلسطيني العام تجاه سلوك محمود عباس السياسي وفريقه، ودفع بعضاً من الأطراف الفلسطينية نحو التفكير في تشكيل جبهة رفضٍ من شأنها كسر حالة الجمود السياسي الداخلي من خلال الضغط على السلطة ومنظمة التحرير وإجبارها على العودة للشعب الفلسطيني عبر إصلاح منظمة التحرير، وعدم التفرد بالقرار الوطني الفلسطيني.

ولا شك في أن أي تحرك في هذا الاتجاه بحاجة ماسّة لحاضنة شعبية وحزبية، وكذلك إقليمية، لكن يبدو أن هكذا فكرة أو توجه هو أقرب ما يكون إلى ردة فعل فلسطينية غاضبة من سلوك محمود عباس وفريقه، وليس حاله فلسطينية عامة؛ بالتالي ليس من السهولة احتضان البيئة السياسية الفلسطينية جبهة وطنية أو كيان سياسي منافس أو بديل. 

  • البيئة الاجتماعية: 

رغم تصاعد حالة الرفض الفلسطيني لمسار محمود عباس، وظهور حالة من الالتحام نحو خيار المقاومة داخلياً وخارجياً، إلا أن ذلك لا يُعطي صورة حقيقية للبيئة السياسية الفلسطينية، وهنا يتفق مجموعة من الكُتاب والمحللين الفلسطينيين على صعوبة الاختراق، فمن جانبه يستبعد رشيد شاهين “كاتب في صحيفة رأي اليوم اللندنية” نجاح مشاركة الضفة الغربية بفاعلية في إنجاح جبهة وطنية معارضة لمنظمة التحرير، ذلك لأن السلطة الفلسطينية نجحت في ربطِ جزءٍ كبيرٍ من سكان الضفة الغربية بمصالحٍ فئوية بعيداً عن التفكيرِ في تغيير الواقع السياسي[6]، وهذا ما أكد عليه أيضاً الاقتصادي الفلسطيني عمر شعبان حينما قلّل من أهمية الضغط الشعبي أو الفصائلي المضاد لسلوك محمود عباس[7].

في هذا السياق يستشهد رشيد شاهين بجنازة “نزار بنات” قائلاً: كنا نتوقع خروج عشرات الآلاف لتشييع نزار بنات خصوصاً أن الجنازة كانت في مناطق “ج” التي لا تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، إلا أن المشاركة كانت خجولة، ولم تتفاعل الجماهير معها بالشكل المنتظر، رغم أن تلك الحادثة قد هزت المجتمع الفلسطيني، وزادت من الغضب الشعبي ضد أجهزة أمن السلطة. 

  • مستوى المعارضة الفصائلية: 

للحديث عن كيانٍ سياسيٍ فلسطينيٍ جديد بديل أو مواز لمنظمة التحرير الفلسطينية يمكن الانطلاق من توسع مستوى المعارضة الفصائلية داخل وخارج منظمة التحرير، وهنا نلاحظ أن هنالك أربعة فصائل تتبع منظمة التحرير كانت قد رفضت المشاركة في جلسة المجلس المركزي الأخيرة في 6 فبراير الماضي، والتي تمثلت في كل من الجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية والصاعقة والجبهة الشعبية القيادة العامة[8].

يُضاف لهذا الخلاف المتطور داخل منظمة التحرير خلافٌ آخر ظهر قبل ساعات قليلة من انعقاد جلسات المجلس المركزي بين قيادة الجبهة الديمقراطية، وهذه الأخيرة كانت تربط مشاركتها في جلسات المجلس المركزي برد حركة فتح على مخرجات كل من المجلس الوطني إبريل 2018، واجتماع الأمناء العامون للفصائل في بيروت 2020، وقد عبرت الجبهة الديمقراطية عن ذلك في مبادرتها التي أطلقتها قبل ذهاب الفصائل إلى الجزائر منتصف يناير الماضي[9].

في هذا السياق كان عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية في دمشق معتصم حمادة قد أكد لنا أن الجبهة الديمقراطية لن تشارك في اجتماعات المجلس المركزي إلا بعد تلبية حركة فتح مطالبها، وهذا ما تشاورا بشأنه مع جبريل الرجوب خلال زيارته إلى دمشق وبيروت نهاية العام الماضي، لكن المهم هنا أن الجبهة الديمقراطية عادت وشاركت وتجاوزت الخلافات الداخلية التي حدثت في مستويات قيادية لديها بشأن هذه المسألة[10].

والحقيقة أن مشاركة الجبهة الديمقراطية أو غيرها في مؤسسات ومجالس المنظمة -رغم معارضتها لقرارات المنظمة وتفرد حركة فتح بالقرار السياسي- لا يرجع فقط إلى خشية تلك الفصائل على مخصصاتها المادية ورصيدها السياسي داخل منظمة التحرير فحسب، إنما لتخوفها من هيمنة حركة حماس في حال انتقالها نحو معسكر المعارضة، وهذا ما أشار إليه معتصم حمادة بصريح العبارة حينما سألته “مجموعة الحوار” عن تقارب المواقف السياسية بين الجبهة الديمقراطية وأطراف المعارضة التي تقودها حركة حماس، مشيراً إلى أن الجبهة الديمقراطية تتفق مع حركة حماس من حيث الموقف من منظمة التحرير، لكن تخوفها من فكرة الشراكة مع حماس في أي تجمع وطني فلسطيني لا يختلف كثيراً عن صراعها مع حركة فتح داخل منظمة التحرير، كون الفصيلين الكبيرين يستغلان شعبيتهما وثقلهما السياسي على حساب الفصائل الأخرى، ولا يؤمنا بمبدأ الشراكة السياسية بقدر ما يحاولان السيطرة على القرار على حد وصفه.

  • رؤية الفصائل لمنظمة التحرير: 

عند إلقاء نظرة على مواقف الفصائل الفلسطينية المُعلنة من منظمة التحرير، فإن الجميع يتمسكون بإصلاحها، ويحرصون على عدم تجاوزها، بما فيها حركتي حماس والجهاد الإسلامي، حيث تلتزم الفصائل التوجه الناقد والمعارض للسلوك السياسي للمنظمة، وفي الوقت ذاته يتم التأكيد على ضرورة إصلاحها، وكأن الحديث عن كيانٍ سياسيٍ فلسطيني بديل عن المنظمة من الأمور المستبعدة والمحرمة، وبات هناك حرص فصائلي على بقاء منظمة التحرير والعمل على محاولة تصحيح مسارها وهيكليتها، رغم أن الهيكلية الإدارية والتنظيمية الحالية لدى الأخيرة هي من أوصلت الوضع السياسي الفلسطيني إلى هذا المستوى من التراجع. 

أغلب الظن أن هذا الحرص يعود إلى أن الفصائل الفلسطينية لم تستطع التخلي عن حذرها السياسي في مسألة المنظمة، ورغم اقتناع الجميع بأن منظمة التحرير مُختطفة وموضوعة تحت إطار السلطة الفلسطينية وقيادتها المتفردة بقرارتها، إلا أن الجميع يفشلون في تجاوز مواقفهم التقليدية من منظمة التحرير، ولعل أكثر الفصائل اعتراضاً على منظمة التحرير هي الجبهة الشعبية التي لم تتحلى بالشجاعة الكافية للتخلي عن مفاهيمها الثابتة حيال منظمة التحرير[11].

  • الحسابات بين المقاومة والسلطة: 

هناك إشكالية مهمة لا يمكن تجاهلها تتعلق بالحسابات بين المقاومة والسلطة، وحل هذه الإشكالية يمكن أن يفتح الطريق لتشكيل جبهة وطنية فلسطينية، وفي هذا السياق يؤكد مازن الجعبري مدير في جمعية الدراسات العربية في القدس أن التمسك الفلسطيني ببقاء السلطة الفلسطينية يتعارض كلياً مع تشكيل جبهة وطنية، وقد ظهر هذا التمسك بكل وضوح خلال استعداد الفصائل والمستقلين للانتخابات التشريعية التي تم إلغاؤها بقرار محمود عباس في إبريل 2021[12]، حيث شاهدنا نحو 36 قائمة انتخابية من الفصائل والمستقلين يحاولون العمل تحت إطار السلطة الفلسطينية[13].

  • البيئة الإقليمية: 

بالنظر إلى الوضع الإقليمي وتطوراته الراهنة، فإن تقبل الإقليم لجبهة وطنية ليس بالأمر السهل، وذلك لأسباب عدة، أبرزها؛ علاقات السلطة الفلسطينية بالقوى الإقليمية، وتحالف العديد من الأطراف الإقليمية مع “إسرائيل” أمام تلك المصالح المتطورة وغيرها من اتفاقيات التطبيع الأخيرة بين الاحتلال ودول الخليج، يتبادر للأذهان تساؤلٌ مهم، وهو هل يمكن للإقليم تقبل أي جسم سياسي فلسطيني يغير من الخريطة السياسية للمشهد السياسي الفلسطيني وعلاقاته الإقليمية، ومن ثم التأثير على مصالح الإقليم التي  تتطور مع “إسرائيل” في ضوء ما جرى من تفاهمات في اجتماع النقب الذي ضمّ وزراء خارجية 5 دول عربية مع “اسرائيل”  في شهر آذار الماضي؟

أولاً: تركيا كفاعل إقليمي:

نشأت منظمة التحرير في أحضان النظام الإقليمي، وقد مهدت مواقفها خلال اتفاق أوسلو 1993 الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية لإقامة علاقات مع “إسرائيل”، فعلى سبيل المثال، ورد في كتاب السياسة الخارجية التركية للكاتب علي بالجي (Ali BALCI) أنه “رغم اعتراف تركيا ب”إسرائيل” عام 1949، إلا أن التبادل التجاري بين الجانبين لم يتجاوز حد 90 مليون دولار عام 1994، لكنه تجاوز حد 800 مليون دولار عام 1998″، يمثل ذلك مؤشراً مهماً على تطور العلاقات بين الجانبين بعد اعتراف منظمة التحرير بـ “إسرائيل”.[14]

كما أن السلطة الفلسطينية وقّعت عدّة تفاهمات أمنية واقتصادية مع أنقرة في 2018 و2021، وترى أنقرة أنها ستساعد في كسر محاولات عزلها عن حقوقها الاقتصادية في شرق المتوسط، في هذا السياق شهدت الأسابيع القليلة الماضية زيارة وُصفت بالتاريخية لرئيس الكيان الصهيوني “هرتسوغ” إلى أنقرة، وأغلب الظن أن الجانبين يسعيان إلى التعاون في شرق المتوسط لإيصال الغاز إلى أوروبا بعد وقف التعاون الأمريكي الفرنسي مع اليونان في مشاريع الغاز،   لذلك فإن تشكيل جبهة فلسطينية عريضة لا تقرّ بالواقع الإقليمي الناشئ بعد أوسلو وجملة المستجدات التي طرأت على مواقف ومصالح قوى إقليمية مثل تركيا، ربما  ستواجه عدّة صعوبات لا تقل عن الكثير من المعيقات الداخلية. 

ثانياً: الموقف الإيراني: 

رغم اعتراض إيران على اتفاق أوسلو و تزعمها لمحور الممانعة العربية، إلا أنها تنظر لعلاقاتها الإقليمية وفق مصالحها، فمثلاً لم تجد إيران بعد الثورة السورية 2011 أي إشكالية في الضغط على حلفائها حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إلى أن وصل الأمر بإيران إلى حد دعم حركة الصابرين في قطاع غزة وتجميد المساعدات لحلفائها، في الوقت ذاته لم تشهد علاقات إيران بمنظمة التحرير أي خلافات على المستوى الدبلوماسي؛ فمنظمة التحرير التي اعترفت ب”إسرائيل” ووقعت اتفاق أوسلو عام 1993 واصلت العمل داخل العاصمة طهران من خلال تمثيلها الدبلوماسي، بينما شهدت العلاقات بين فصائل المقاومة في غزة وإيران خلافات كانت بحاجة لعدة سنوات من أجل التغلب عليها[15]

ثالثاً: مصر كفاعل رئيس: 

تدرك مصر تماماً مستوى الصراع الداخلي الفلسطيني وتحرص على التواصل مع كافة الفصائل مجتمعة ومنفردة، ورغم فشل جهودها في إنهاء الانقسام، إلا أنها تركز في لقاءاتها مع الفصائل على أهمية منظمة التحرير كممثلٍ شرعيٍ ووحيد للشعب الفلسطيني، وخلال لقاء وفد الجبهة الشعبية بالمخابرات المصرية في سبتمبر الماضي، عبرت مصر عن موقفها الحقيقي تجاه أي محاولات فلسطينية لإنشاء كيان سياسي خارج منظمة التحرير، وهنا يربط رئيس جهاز المخابرات المصرية خلال حديثه لوفد الجبهة الشعبية بين حقوق الشعب الفلسطيني وبين منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها ممثل شرعي ووحيد في الداخل والخارج، ويؤكد رفض بلاده لأي كيان فلسطيني بديلاً عنها[16]، في هذا السياق لم تعلق مصر على دعوة الفصائل المتمثلة في حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتشكيل مجلس انتقالي خلال اعتراضها على جلسات المجلس المركزي في فبراير الماضي.

رابعاً: الأردن: 

تتجه العلاقات الأردنية “الإسرائيلية” الى التحسن وتوقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية أبرزها مشروع تحلية المياه الذي جرى التوافق بشأنه العام الماضي، وتطوير صادرات الأردن إلى الضفة الغربية من 150 مليون إلى 700 مليون دولار سنوياً، في مقابل تصاعد حدة التوتر في الضفة الغربية والقدس بتأثير واضح من قوى المقاومة المتمثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي العمود الفقري للجبهة الوطنية العتيدة، ترى عمان دورها الأساسي في ضبط ردود الفعل الفلسطيني على الاستفزازات الصهيونية عن طريق حليفها المتمثل بالسلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير، فزيارة الملك عبد الله الثاني إلى رام الله تأتي في سياق تقوية موقف السلطة والخشية من ضعفها كما جاءت بعد زيارة وزير الخارجية الصهيوني يائير لبيد في العاشر من الشهر الجاري، والتي جاءت ضمن توجهٍ إقليميٍ لتبادل الزيارات الثنائية مع دولة الاحتلال[17].

خامساً: الجزائر: 

إذا كان محمود عباس قد استغل زيارة وفد حركة حماس بعد حرب غزة في مايو 2021 إلى المغرب متجهاً إلى العاصمة الجزائرية، فإن الأخيرة بدأت في يناير ٢٠٢٢ بعقد العديد من اللقاءات مع قيادات الفصائل لاستئناف مسار المصالحة والوحدة الفلسطينية قبيل انعقاد القمّة العربية في أواخر آذار من نفس العام، وإثارة مسألة تشكيل جبهة وطنية في هذا الوقت بالذات ربما يعقّد الموقف بالنسبة لجهودها الرامية إلى انهاء الانقسام بين الفرقاء الفلسطينيين، إذ أنه من الصعب على الجزائر أن تضحي بعلاقاتها مع أي فصيلٍ فلسطيني في هذه المرحلة، حيث تسعى للعب دور الوسيط بين الفصائل الفلسطينية، وتدرك في نفس الوقت أن اقترابها من كافة الفصائل سيضمن لها دور أكثر فاعلية، لهذا فإن حرص الجزائر على دورها دفعها لتأجيل القمة العربية أملاً في التقريب بين الفرقاء الفلسطينيين.

سادساً: دول الخليج: 

وصل إجمالي الدعم السعودي السنوي لخزينة السلطة الفلسطينية نحو 240 مليون دولار أمريكي، وفي الوقت الذي تراجعت فيه علاقات السلطة الفلسطينية بالإدارة الأمريكية، شكلت الرياض بديل مالي جيد للسلطة الفلسطينية، حيث لم يتوقف الدعم السعودي حتى مارس 2020، وذلك في إطار قناعة دولية وإقليمية بتراجع مكانة قيادة السلطة ومنظمة التحرير، وفي الوقت ذاته وصلت علاقات المملكة العربية السعودية بالأطراف الفلسطينية الأخرى لاسيما حركة حماس إلى أسوأ مستوياتها[18]

من جانب آخر، فإن علاقات قطر الجيدة مع حركة حماس لم تنعكس سلباً على علاقاتها مع قيادة منظمة التحرير، ولم تتجاوز دولة قطر الموقف العربي المصري والسعودي سوى خلال انعقاد قمة الدوحة 2009، وقد حرصت على حضور محمود عباس إلى جانب قيادة حركة حماس، وعند الحديث عن الإمارات فإنه رغم الدعم المُعلن للقيادي الفتحاوي محمد دحلان، إلا أنها تُبقي على علاقاتها الدبلوماسية مع السلطة الفلسطينية، ولم تتخذ دولة الإمارات أي خطوات مضادة لمنظمة التحرير إلا عام 2016 بعد تنظيم محمد دحلان لمؤتمر العين السخنة بالتنسيق مع الجانب المصري[19].

ختاماً: 

تأتي مواقف الفصائل الفلسطينية كـرد فعلٍ على سلوك قيادة  المنظمة والسلطة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المتمثل في نهج التفرد بالقرار الوطني والتهرب من استحقاقات المصالحة وعرقلة سير العملية الانتخابية، فمنذ توقيع اتفاق أوسلو 1993 لم يكن هناك أي عمل سياسي فصائلي فلسطيني منظم، وغالباً ما كان يتم الاعتراض على منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية في المنابر الإعلامية، بعيداً عن تأسيس منصات أو جبهات مشتركة وطنية، وأيضاً منذ وقوع الانقسام الفلسطيني عام 2007 لم تتجاوز فصائل المقاومة الموحدة تحت راية المقاومة غرفة العمليات المشتركة، حتى محاولات إشراك الفصائل في حكومة غزة لم يلقَ قبولاً فصائلياً. 

ورغم تجارب التحالفات الانتخابية سواء على صعيد البلديات أو النقابات بين بعض الفصائل  كحركة حماس والجبهة الشعبية وفصائل أخرى، إلا أنها لم ترتقِ بعد إلى مستوى من التحالف يقود إلى تشكيل جبهة وطنية، وذلك لأن التأثير الأكثر فعالية سيعتمد على توحيد الرؤى في الموقف من مجمل النظام السياسي الفلسطيني والتوافق على مفهوم الشرعية الفلسطينية، ومدى القدرة على تنسيق المواقف من كافة القضايا الوطنية التي تتعدّى دعم خيار المقاومة إلى مسائل أكثر عملية منها على سبيل المثال: إدارة الأوضاع في قطاع غزة وآليات اتخاذ القرار الميداني في إطار الغرفة المشتركة، وكذلك النظرة لبعض التحالفات الإقليمية وقدرة على التوافق على تقييم مشترك للحلفاء الإقليميين للفرقاء الفلسطينيين.

ومع تصاعد الأصوات الشعبية والفصائلية حول الرغبة في تشكيل جبهة وطنية شاملة؛ لتوحيد الصف الفلسطيني على المستويين المؤسساتي والتمثيلي، يمكن الإشارة إلى أننا بصدد محاولات بناء إطارٍ فصائلي يحدد الأدوار المؤسساتية والوطنية بعيداً عن مسار أوسلو، في محاولة للضغط على مؤسسة القرار الفلسطيني الرسمي، إلّا أن تشكيل تكتل تنظيمي بديل لمنظمة التحرير أمر يصعب تصوره على البعدين التكتيكي والمرحلي، رغم توفر شرطه الموضوعي من ناحية انسداد أفق إصلاح المنظمة بسبب إصرار قيادة المنظمة والمضي في ترتيبات وتعيينات مسّت بنيتها بمعزل عن رأي غالبية المكونات الفلسطينية.

وتظل التحديات التي تطرحها البيئة الوطنية الفلسطينية عامل أساسي يتعين التغلب عليه لإنجاز مهمّة من هذا النوع وهي “تشكيل جبهة وطنية فلسطينية” حيث تتطلب صناعة جملة من التوافقات الفصائلية والمجتمعية للوصول لهدف الجبهة، إلى جانب ما تنتجه البيئة الإقليمية والدولية من مصاعب في طريق بناء الجبهة رغم الفرص التي تولدها التغييرات والمستجدات على هذين الصعيدين، فيما تشكل التجربة المتراكمة والنضال التاريخي والاعتراف الإقليمي والدولي عوامل حاسمة لاستمرارية الاعتماد على منظمة التحرير؛ لذا من المتوقع أن تتجه الجهود إلى فكرة تشكيل تكتل تنظيمي أو جبهة  ليست بالضرورة أن تعلن نفسها بديلاً عن المنظمة، تركّز في أولوياتها على إدارة الصراع مع الاحتلال واستعادة القرار الوطني الفلسطيني عبر إعادة تفعيل الدور المؤسساتي والتمثيلي لمنظمة التحرير، وهو السيناريو الأقرب للتطبيق في الوضع الراهن. 

المصادر والمراجع:


[1] واجهت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عبر تاريخها العديد من جبهاتِ الرفض والمعارضة في الساحة الخارجية من قبل عدّة أحزابٍ وتكتلاتٍ فلسطينية، شكلت التوجه الرافض لأجندةِ منظمة التحرير السياسية والتنظيمية في مشروعها الوطني الفلسطيني؛ كردِ فعلٍ على توجهاتٍ ومواقفٍ سياسية صُنفت على أنها مناقضة لمخرجات الإطار الوطني، القائم على الحفاظ على جميع الثوابت الوطنية، مما كان لها الأثر الداخلي في تشكيلِ جبهة معارضةٍ فلسطينية مبكرة للأغلبية الحزبية ضد توجه قيادة المنظمة، وإن تشكلت رغبةً في تصحيح مسار المنظمة آنذاك، إلا أن إعلام المنظمة صُنفها على أنها محاولات لتشكيل جبهة وطنية فلسطينية تسعى لأن تكون بديلاً للمنظمة. ينظر: دراسات مجموعة الحوار الفلسطيني، جبهات المعارضة ضد منظمة التحرير بين الماضي والحاضر، 2022، https://paldg.co

[2] ينظر: شريف، ماهر، دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني، مركو الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995، ص352. 

[3] أعلن محمود عباس إلغاء الانتخابات التشريعية في 29 ابريل عام 2021، معللاً القرار برفض سلطات الاحتلال السماح بإجراء الانتخابات في القدس، خاصة بعد انتهاء المهلة التي منحها لممثلي الاتحاد الأوروبي للضغط على الاحتلال؛ مما ولّد حالةً من الاستياء الشعبي والفصائلي على المستوى الداخلي والخارجي ، وتسبب قرار عدم تحديد تاريخ لاحق معين لإجراء الانتخابات في ازدياد الانقسام السياسي الفلسطيني – الفلسطيني، وتوالت بعض التصريحات الراغبة في تشكل جبهة  وطنية فلسطينية لتوحيد كلمة الصف الفلسطيني بما يتوافق مع الثوابت الوطنية. ينظر: BBC عربي، ما هي دوافع الرئيس محمود عباس لتأجيل الانتخابات الفلسطينية؟، 2.05.2021، https://www.bbc.com/arabic/interactivity-56965125

[4] أقر الاتحاد الأوروبي قانون تعديل ميزانيتها لعام 2022، والذي أقر بحجب المساعدات المخصصة للسلطة الفلسطينية، وربطها بإجراء تعديلات على المنهاج الفلسطيني، بما ينسجم مع معايير الأمم المتحدة واليونسكو على حد تعبير مسؤول الاتحاد الأوروبي أوليفر فارهيلي، وهو الأمر الذي عارضته مؤسسات فلسطينية رسمية وخاصة، ويذكر أن الاتحاد الأوروبي قام بالعديد من محاولات مراجعة المنهاج الفلسطيني، مثل دراسة أنجزها معهد جورج ايكرت الألماني ما بين عامي 2018-2020 حول مدى ملائمة المنهاج للمعايير المعتمدة لدى الاتحاد الأوروبي، حيث خلص التقرير الصادر عنه بمحاكاة المنهاج للشروط العالمية والمعايير المعتمدة، لكن على الرغم من ذلك فقد رفض الطرف الفلسطيني العديد من التصويات التي وردت في التقرير، وأشارت إلى أن المحتوى الفلسطيني يسير العنف ضد الجانب الأخر أي الإسرائيلي. مثل أبو عيشة، عز الدين، الاتحاد الأوروبي يشترط تعديل المناهج الفلسطينية لاستئناف التمويل، اندبندت عربية، 10.03.2022، https://www.independentarabia.com؛ أبو معلا، سعيد، اشتراطات الاتحاد الأوروبي على المنهاج الفلسطيني اختلال سبع نجوم وفصام لدى الجيل الناشئ، القدس العربي، 19.03.2022، https://www.alquds.co.uk/

[5] حمد، غازي، إسرائيل والانتخابات الفلسطينية المقبلة، مركز أورسام، 24.03.2021، https://www.orsam.org.tr/ar/israil-ve-yaklasan-filistin-secimleri/

[6] مقابلة أجريت مع رشيد شاهين، كاتب صحيفة رأي اليوم، لندن، 24.03.2022. 

[7] مقابلة أجريت مع عمر شعبان، مدير بال ثينك للدراسات الفلسطينية، 29.07.2021. 

[8] الحيلة، أحمد، جبهة وطنية فلسطينية بقوة الواقع والمبادرة، عربي 21، 15.02.2022، https://cutt.ly/bF5RsCU

[9] أبو سمرة، قيس، “الجبهة الديمقراطية” لم تحسم مشاركتها في “مركزي” منظمة التحرير الفلسطينية، وكالة الأناضول، 24.01.2022، https://cutt.ly/8F5TaGt

[10] مقابلة مع معتصم حمادة، المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، 20.01.2022. 

[11] شاهين، حسن، الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير، العربي الجديد، 14.10.2016، https://cutt.ly/sF5U5MF

[12] لقاء مع مازن الجعبري، مدير جمعية الدراسات العربي، القدس، 20.03.2022. 

[13] أبو سمرة، قيس، 36 قائمة لخوض الانتخابات التشريعية الفلسطينية (إطار)، وكالة الأناضول، 01.04.2021، https://cutt.ly/TF5IKzt

[14] BALCI, Ali, Türkiye Dış Politikası: İlkeler, Aktörler ve Uygulamalar, Türkiye: Alfa Yayınları, 2021. 

[15] عودة، نبيل، إيران والقضية الفلسطيني: الخميني وثقل الواقع، نون بوست، 25.05.2016،https://www.noonpost.com/content/11947

[16] رأي اليوم، الجبهة الشعبية تكشف تفاصيل اجتماعاتها بوزير المخابرات المصري، 17.01.2021، https://cutt.ly/nF5PAME

[17] العربية 20، بعد غياب الأردن عن “قمة النقب”.. قراءة لزيارة الملك عبدالله إلى الأراضي الفلسطينية، 29.03.2022، https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2022/03/29/jordan-king-visit-ramalaah-analysis

[18] خبيصة، محمد، المانحون ينسحبون تدريجيا من دعم موازنة فلسطين (إطار)، وكالة الأناضول، 21.10.2020، https://cutt.ly/iF5S8Li

[19]  قطناني، رضوان، مؤتمر القضية الفلسطينية في “العين السخنة”.. رسالة لمن؟، عربي 21، 18.10.2016، https://cutt.ly/XF5Dof7

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق