مؤشر فلسطين

مسار التصعيد في مواجهة مساعي التهدئة: رصد وتحليل

مثل التصعيد في الأراضي المحتلة عنواناً للمشهد الفلسطيني خلال الأسابيع القليلة الماضية، فبعد سلسلة من الاستفزازات الممنهجة ضد الفلسطينيين، واجه الاحتلال سلسلة الردود -التي أتت على شكل عمليات فردية- بالعقاب الجماعي لمدن الضفة الغربية، ومحاولة إخراج قطاع غزة من معادلة التصعيد الحالية بالتهديد والتلويح بعمل عسكري ضد القطاع المحاصر، وتارةً عبر تقديم بعض التسهيلات الاقتصادية، أملاً في الاستفراد بالقدس والمسجد الأقصى.

غير أن تبادل التهديد الإعلامي والترقب الحذِر في غزة، يقابله مواجهات ساخنة في العديد من مدن الضفة الغربية، وتظل القدس وساحات المسجد الأقصى عنوان لأي تصعيد محتمل؛ فالاحتلال من جانبه يسعى لفرض واقع سياسي جديد من خلال الطقوس والأعياد الدينية، بينما تدرك المقاومة الفلسطينية مستوى الإنجاز المتحقق في سيف القدس، وتسعى من أجل الحفاظ عليه وقطع الطريق على محاككات الاحتلال تجاه القدس.

  • ميدانياً

تقول معطيات المؤشر الفلسطيني أن التركيز الإعلامي على القدس ليس نتاجاً لتوتر أمني حاصل، ولم تنجح الاقتحامات السابقة في تحقيق رسائلها السياسية، لهذا يترقب الجميع ما سوف تسفر عنه دعوات جماعات الهيكل بذبح القرابين في 15 إبريل.

لهذا، شهد مكتب يحيى السنوار قائد حركة حماس في قطاع غزة اجتماعاً لقوى المقاومة في غزة 13 إبريل، وذلك بعد تحذير فصائلي من خطوة ممارسة الطقوس اليهودية الدينية في المسجد الأقصى، ولعل مشاركة حركة فتح في اجتماع الفصائل يمثل تطور جديد في المشهد الفلسطيني، خاصةً وأن حركة فتح متغيبة عن هكذا اجتماعات منذ سنوات طويلة.

وعليه وجهت الفصائل الفلسطينية رسالة للاحتلال عبر الوسيط المصري مفادها أن تعويله على تحسين الوضع الاقتصادي في قطاع غزة بمثابة تقدير خاطئ، لأن الاحتلال يسعى من وراء ذلك إلى التخلص من الإنجاز المتحقق بعد عملية سيف القدس والعودة إلى سياسة الفصل السياسي والنضالي بين الشعب الفلسطيني في مختلف ساحات الوجود الفلسطيني سواء في القدس، أو الضفة، أو غزة، أو الداخل المحتل، أو الشتات.

على الجانب الآخر، كانت مدينة جنين شمال الضفة الغربية قد واجهت حملات عسكرية واقتحامات تزامنت مع سلسلة العمليات الفردية في مدن الداخل المحتل، ففي 31 مارس الماضي حاول الاحتلال اعتقال عناصر تتبع لحركة الجهاد الإسلامي، وهو ما تسبب في وقوع نحو 15 إصابة وشهيدين، الأمر الذي دفع الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة بالدعوة الى الاستنفار.

ورداً على عملية تل أبيب التي نفذها الشاب الفلسطيني رعد حازم، جاء الاقتحام الثاني لمدينة جنين في 9 ابريل، وأسفر عن شهيد ونحو 15 إصابة، إضافة إلى سلسلة اعتقالات نفذّها جيش الاحتلال في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، غير أن التركيز المتكرر على مدينة جنين يعود إلى إدراك الاحتلال لمستوى تنامي قوة المقاومة ومستوى التنسيق الفصائلي، حيث يُعتقد أن ذلك التنسيق يشبه غرفة العمليات المشتركة في غزة.

مقابل تلك الاقتحامات لمخيم جنين تواصلت الدعوات التضامنية في مدن الضفة الغربية، واندلعت عدة مظاهرات حاشدة في نابلس ورام الله ومناطق متفرقة، حيث تجاوزت الاشتباكات أكثر من 100 نقطة مواجهة، فضلاً عن عمليتي إطلاق نار تجاه مستوطنين في بيت لحم وجنين.

في إطار تصاعد مستوى العداء بين عرب 48 والمجتمع الإسرائيلي والذي عبرت عنه إحصائيات إسرائيلية مختلفة، يسعى الاحتلال إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات العنصرية العقابية ضد المجتمع العربي المشارك بفاعلية في العمليات الفردية، حيث تنوي حكومة نفتالي بينت سحب الهوية الإسرائيلية من فلسطينيي الداخل إذا ما تبين وجود نية لتنفيذ عمليات ضد الإسرائيليين.

في السياق ذاته واجه أيمن عودة رئيس القائمة العربية المشتركة حملة تحريض في أوساط قوى اليمين الإسرائيلي بعد تصريحات نُسبت إليه؛ طالب خلالها العرب المنتسبين إلى الشرطة الإسرائيلية بالتخلّي عن وظائفهم.

  • سياسياً 

بالتزامن مع حالة التوتر الأمني السائدة في الأراضي الفلسطينية، كشف الاعلام العبري في 8 ابريل عن مقترح أمريكي للقاء فلسطيني إسرائيلي بمشاركة كل من الأردن ومصر، غير أن حكومة بينت أبدت تحفظاً على الطرح الأمريكي، لأن الائتلاف الحاكم خسر الأغلبية في الكنيست، كما أن مطالبة إدارة بايدن بوقف البناء الاستيطاني في الضفة الغربية يقلص من فرص انعقاد أي لقاءات سياسية.

وفي ظل صعوبة ترتيب لقاء سياسي، تحرص حكومة بنيت على اللقاءات الأمنية المباشرة مع السلطة الفلسطينية والجانب الأردني، وهذا ما أكد عليه وزير دفاع الاحتلال بني غانتس في 4 ابريل الماضي. 

وعلى مستوى الدور المصري، أوضحت تقارير إعلامية صعوبة التأثير المصري على موقف فصائل المقاومة في غزة بسبب ما قدمته الأخيرة من مطالب خلال الاتصالات الأخيرة المتعلقة بالوضع في القدس، وما يقوم به الاحتلال من انتهاكات قد تدفع الفصائل للرد عليها، فضلاً عن ضعف وتيرة إعادة الاعمار في قطاع غزة، وارتفاع أسعار المواد البترولية القادمة من مصر وما لها من انعكاسات سلبية على واقع قطاع غزة.

  • إقليمياً

يقابل حالة تشبه الإجماع الفلسطيني على مواجهة الاقتحامات والإجراءات الإسرائيلية في القدس مستوى مُحبط من عدد من المواقف الإقليمية التي أدانت العمليات الفردية في الداخل المُحتل، في ضوء محاولات التشويه التي تعرضت لها من خلال ربطها تارة بداعش وتارة أخرى بالعامل الإيراني، وهو ما قوبل برفض واستهجان فصائلي فلسطيني.

في سياق آخر، ما تزال أجواء الانتخابات المحلية قائمة في الضفة الغربية، فالصراع على منصب رئيس بلدية الخليل ما يزال قائماً بسبب محاولة استغلال قائمة حركة فتح ظروف اعتقال أحد أعضاء قائمة الوفاء، وهو ما تسبب في تأجيل اجتماع مجلس بلدية الخليل بسبب تدخلات جهاز المخابرات سفيان المحتسب ومحاولته تفويت الفرصة على تنصيب قائمة الوفاء ورئيسها تيسير أبو اسنينه.

  • اقتصادياً

يتبع الاحتلال سياسة الحصار الاقتصادي على مدينة جنين، التي تشمل إغلاق المعابر والمنافذ التجارية، ومنع حركة التنقل للأفراد سواء بالمركبات أو مشياً على الأقدام، على حاجزي الجلمة وريحان الرابط بين مناطق المثلث داخل الخط الأخضر ومدينة جنين. 

ولا شك أن لهذا القرار آثار اقتصادية مباشرة، إذ تعد جنين مركزاً تجارياً هاماً بالنسبة لفلسطينيي الداخل، فيما تشير التقديرات أن نحو 100 ألف مواطن يدخلون جنين شهرياً من مناطق الخط الأخضر للتسوق، وتقدر مشترياتهم ما بين 20-30 مليون شيكل شهرياً.

علاوة على ذلك، فإن بدء الجيش الإسرائيلي بإغلاق الثغرات على الجدار الفاصل بين الضفة الغربية ومناطق الخط الأخضر سيؤثر على حركة تنقّل العمال الفلسطينيين الذين يقصدون هذه الثغرات من أجل المرور عبر الخط الأخضر؛ تفادياً للحواجز وإجراءات التفتيش على المعابر الرسمية، حيث يعمل ما نسبته 40% من إجمالي العمالة الفلسطينية في دولة الاحتلال بدون تصاريح، بواقع 80 ألف عامل من أصل 210 ألف، وهم يمرون عبر الخط الأخضر عن طريق هذه الثغرات.

من شأن ذلك أن يؤثر على معدلات السيولة التي توفرها العمالة الفلسطينية في “إسرائيل”، التي تقدر ب 10 مليارات شيكل سنوياً، والتي من المتوقع أن تتراجع في حال بقيت الإجراءات الإسرائيلية على حالها لفترة أطول، أو في حال شملت طرد العاملين بدون تصاريح. 

تتزامن تلك الإجراءات مع موجة حادة من التضخم يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني -تحديداً في أسعار السلع الأساسية وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين- هذا وقد حذرت منظمة “أوكسفام” الدولية من أن مخزون القمح في فلسطين قد ينفذ خلال 3 أسابيع فقط أي مع نهاية شهر رمضان، كون الأراضي الفلسطينية تفتقر إلى وجود صوامع تخزين القمح وما هو متوفر في المخازن يغطي احتياجات السوق لأيام قليلة فقط.

لمواجهة موجة التضخم الحالية، صادق البنك المركزي في دولة الاحتلال على رفع سعر الفائدة على الشيكل بـ0.25%، عند مستوى 0.35% لأول مرة منذ العام 2018، إلا أن هذا القرار قد لا يكون له ارتدادات مباشرة لكبح موجة التضخم في الاقتصاد الفلسطيني، وذلك بسبب فائض الشيكل الموجود في السوق والبنوك الفلسطينية الذي يزيد عن 6 مليارات شيكل، ورفض البنوك الإسرائيلية استقبال هذا الفائض منذ ما يزيد عن 6 أشهر.

ورغم تطمينات الحكومة الفلسطينية في رام الله للحالة الاقتصادية الراهنة عبر محاولات ضبط الأسعار، إلا أن الواقع على الأرض يشير عكس ذلك، فالسلطة تعاني من أزمة مالية خانقة؛ إذ لا تزال نسبة صرف رواتب الموظفين 80% للشهر الخامس على التوالي، في حين أنه ما تزال إسرائيل تحتجز ما قيمته 500 مليون دولار من أموال المقاصة، و800 مليون شيكل (أي ما يعادل 250 مليون دولار) من أموال ضريبة المعابر، وفقاً لفؤاد حنش مدير عام الجمارك في وزارة المالية، ومن المتوقع أن ترتفع قيمة الخصومات الإسرائيلية تنفيذاً لقرار المحكمة العليا الإسرائيلية بإلزام السلطة بدفع تعويضات للأسر التي تضررت من العمليات الأخيرة، كونها تدفع رواتب شهرية للأسرى “الأمنيين”.

وجاءت موازنة السلطة للعام 2022 التي أقرتها الحكومة الفلسطينية في الأول من ابريل الجاري بواقع 5.8 مليار دولار ضمن بند النفقات العامة، بزيادة قدرها 7% عن موازنة العام 2021، في حين قُدرت الإيرادات العامة بـ4.7 مليار دولار بزيادة قدرها 8% عن العام الأخير، وقُدر عجز الموازنة قبل التمويل بـ1.1 مليار دولار، فيما قُدر بند المنح والمساعدات الخارجية بـ550 مليون دولار، منها 300 مليون دولار للمشاريع التنموية، و250 مليون دولار للموازنة، وفي حال تحقق ذلك فمن المتوقع أن ينخفض عجز الموازنة لـ560 مليون دولار.

وتواجه موازنة السلطة في هذا العام استحقاقات هامة على المستوى المالي، أهمها دعم الشرائح الفقيرة ومتوسطي الدخل في ضوء موجة ارتفاع الأسعار الحالية وعجز الكثير من الأسر عن تلبية احتياجاتها المعيشية، وتحديداً مستفيدي الشؤون الاجتماعية الذين لم يتلقوا مخصصاتهم منذ أكثر من 15 شهراً، فيما بلغت استحقاقاتهم على الحكومة 685 مليون شيكل.

في ذات الوقت، تواجه غزة معضلة تكمن في بطء عملية الإعمار إذ لم تتجاوز نسبة ما تم إعماره من الحرب الأخيرة 10% حتى الأول من الشهر الجاري، كما قُلصت من صادرات الأسمنت لغزة من 6 آلاف طن أسبوعياً لألف طن فقط، وحصرها ضمن المشاريع التي تشرف عليها داخل غزة؛ ما أدى لارتفاع أسعار الأسمنت لأكثر من 20%، وتضرر آلاف العاملين من قرار اتحاد المقاولين التوقف عن عطاءات المشاريع لعدم قدرته على تغطية التكاليف.

كما يواجه القطاع الإغاثي والخيري بما فيها برامج -الأونروا- أزمة حادة بعد توقف العشرات من برامج الإغاثة الإنسانية التي كان من المقرر تنفيذها في شهر رمضان، وذلك في ضوء توقف المانحين من القارة الأوروبية ودول الخليج عن تمويل هذه البرامج، وتوجيه تمويلهم لبرامج الإغاثة الإنسانية لمناطق أخرى.

  • تحليل المؤشر 

تتسارع الأحداث بخطى حثيثة نحو التصعيد، بفعل الاجراءات والسياسات “الإسرائيلية” التي تصرّ على المضي قدماً في هذا المسار عبر تنفيذ مخططاتها الهادفة إلى التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى مع محاولة إبقاء ردود الفعل الفلسطيني في حدود لا تخرج عن سيطرة أذرع الاحتلال الأمنية والعسكرية.

وتواصل الآلة العسكرية لدولة الاحتلال التمهيد للتعامل مع التصعيد القادم بصورة تضمن لها تقليص قدرة الفلسطينيين على الرد عبر إحكام الإغلاقات للمناطق الفلسطينية والتصعيد المتدرج والضربات الانتقائية التي تشمل الاعتقال والاغتيال أحياناً ضد النشطاء والفاعلين الفلسطينيين في الضفة الغربية؛ محاولةً منها ل “تطهير” ميدان المواجهة المقبلة في الضفة والقدس من العناصر المؤثرة على مسار التصعيد الصهيوني، في المقابل تبقى ردود الفعل الفلسطيني المتمثلة في العمليات الفردية في مدن الداخل خياراً قائماً للفلسطينيين في ظل اختلال ميزان القوى لصالح الاحتلال.

كذلك سيواصل الفلسطينيون توسيع نقاط الاشتباك لتشمل كافة مدن الضفة الغربية، فضلاً عن اطلاق فصائل المقاومة في غزة تحذيراتها وإعرابها لكافة الوسطاء عن تمسكها بنتائج معركة “سيف القدس” القائمة على الربط بين غزة والقدس، بما يضرب في الصميم التقديرات الاسرائيلية حول سيناريوهات التصعيد، ويرفع من احتمالات تدخّل الأطراف المعنية إقليمياً ودولياً للتفكير في الحيلولة دون توسع الاشتباكات نحو مواجهة شاملة قد تطور نحو حرب إقليمية.

إذا كانت القوى الإقليمية قد أدانت العمليات الفردية، إلا أن مواقفها لن تكون في مصلحة الاحتلال إذا ما ذهبت الأمور نحو التصعيد، وهذا الأمر لن يصب في مصلحة حكومة الاحتلال التي استثمرت طويلاً في خلق وتطوير مسار التطبيع الإقليمي.

أما اقتصادياً، يبدو أن موازنة السلطة لهذا العام لا تبشر بواقع جديد في التخفيف من حدة الأزمة المالية التي تمر بها، والتي تؤثر بشكل مباشر على قطاع الموظفين، إذ لا يزال عجز الموازنة قبل التمويل عند مستوى المليار دولار، كما لا يوجد ما يشير إلى نية الدول المانحة إعادة الدعم المالي للسلطة، وتشير النوايا الإسرائيلية إلى زيادة الضغط الاقتصادي عبر اقتطاع إضافي من أموال المقاصة.

خاتمة المؤشر

من خلال استعراض ما جاء في مؤشر فلسطين، يبقى تنامي مستوى التصعيد الأمني طاغياً على كافة الأحداث التي شهدتها الأراضي الفلسطينية خلال الأسبوعين الماضيين، وإذا كان الاحتلال يتخوف من إعادة ربط القدس بغزة، فإن دخول الضفة الغربية على خط المواجهة من شأنه إرباك حسابات الاحتلال.

هذا التحول المهم في الأراضي الفلسطينية من شأنه أن يحدث تحول في وظيفة السلطة الفلسطينية، وأغلب الظن أنها لم تعد قادرة على توفير التنسيق الأمني في الضفة الغربية كما يريد الاحتلال، كما أن إصرار الأخير على العقاب الاقتصادي يدفع باتجاه التصعيد في كافة المدن الفلسطينية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق