قضايا خاصة

قراءة في العمليات الأخيرة في الداخل المحتل

تمهيد

تشهد مدن الداخل المحتل منذ 22 مارس الماضي سلسلةَ عمليات فردية متنوعة بين إطلاق نارٍ وطعن، تركت وقْعاً كبيراً على الجبهة الداخلية والأجهزة الأمنية والعسكرية للاحتلال، ووُصفت بالتطور الأمني الخطير الذي يشكل تهديداً حقيقياً لمنظومة الاحتلال الأمنية ويكشف فشلها في التتبع الأمني، والتوقع والرصد المسبق، الذي خلا من أي تحذيرات أو توقعات استخباراتية على الرغم من التعاون الأمني المكثف للأجهزة الأمنية والعسكرية في الضفة الغربية من جهة، وفي أماكن تواجد العرب في الداخل من جهةٍ أخرى.

وقد أحاط هذه العمليات العديد من العوامل الأمنية والميدانية، والتداعيات السياسية، مما قد ينعكس بشكلٍ كبير على سير أداء الحكومة الحالية الأمني والسياسي؛ وهو ما ظهر في الإجراءات الأمنية المكثفة المتخذة ردّاً على تلك الهجمات، وكذلك على مستوى المواقف السياسية التي وصلت إلى حد استقالة النائبة في الكنيسيت عيديت سيلمان -والتي لا شك- قد شكلت مساراً موازياً للضغوطات الأخيرة إثر العمليات المسلحة، لتضع بينيت وائتلافه أمام تطورٍ سياسيٍ خطيرٍ ومفاجئ قد يشهد تفككه، ولتفتح الباب واسعاً أمام إمكانية عودة نتنياهو من جديد، خاصةً وأن الحكومة الائتلافية قد فقدت الأغلبية البرلمانية ولم تعد تمتلك القدرة لمواجهة المستجدات الأمنية المتوالية.

فشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية 

كانت الأراضي الفلسطينية منذ 22 مارس الماضي على موعدٍ مع تحولٍ مهم في العلاقة مع الاحتلال الصهيوني، ففي الوقت الذي أشارت فيه تقديرات أجهزته الأمنية إلى عدم إمكانية وقوع تصعيد أمني في الفترة الحالية أو المقبلة في الداخل المحتل الذي لم تُعره أي اهتمام أمني مقارنةً بالقدس والضفة الغربية، اللتان لاقتا تركيزاً أمنياً مكثفاً قبل هذه العمليات؛ منعاً لأي تصعيد مرتقب في شهر رمضان، وكانت المفاجأة من بئر السبع تلتها عملية الخضيرة وصولاً إلى عملية شارع ديزنغوف وسط تل أبيب، وهو ما حوّل المنظار من احتمالية التصعيد في القدس وجبهاتٍ أخرى إلى مدن الداخل المحتل، التي باتت تشغل الحيز الأكبر من اهتمام الأجهزة الأمنية. 

أثبتت تلك العمليات نجاعتها ميدانياً من خلال نجاح منفذيها في الاختيار المسبق والدقيق لموقع تنفيذ العمليات جغرافياً، مما أتاح للمنفذين حرية الحركة والتنقل بين أماكن عدة وتنفيذ سلسلة من عمليات إطلاق النار بشكلٍ متسلسلٍ وفعال، وهو ما أضفى بُعداً مهماً لتلك العمليات الفردية في أنها لم تَظهر عفوية، وإنما خُطط لها مسبقاً، وهو ما أشار إليه نفتالي بينيت في تصريحاته بمحاولة أجهزته الأمنية الكشف عن الأطراف الداعمة لتلك العمليات.

كشف مراعاة العامل الجغرافي في تخطيط تلك العمليات مدى هشاشة المنظومة الأمنية داخل دولة الاحتلال، وهو ما ظهر بشكلٍ واضح في عمليتي بني براك وديزنغوف؛ فالأولى بعيدة عن الثقل الأمني لمنظومة الاحتلال، والتي غالباً ما يجري تركيزه على الأماكن الحيوية القريبة من الكثافة السكانية للمدينة، وهذا وفقاً لتبرير المفوض العام للشرطة الإسرائيلية عقب عملية بئر السبع الذي أشار إلى عدم كفاية أفراد الشرطة في تلك الأماكن للتعامل مع هكذا سيناريو، غير أن عملية ديزنغوف جاءت لتضرب هذا التبرير بعرض الحائط، حيث وقعت في شارعٍ حيوي غرب تل أبيب. 

وبناءً عليه لم تتأثر وتيرة سير العمليات بتفعيل أجهزة الأمن الإسرائيلية لتعزيزاتها المكثفة مؤخراً، مما شكل ضربةً موجعةً للمنظومة الأمنية لأجهزة الاحتلال، وأحدثت زعزعةً وتخبّطاً في المجتمع الإسرائيلي، وتسببت بمتغيرات سياسية قد تنعكس على مكونات المنظومة السياسية الحالية. 

محاولات دعشنة المقاومة الفلسطينية 

تحاول أجهزة الاحتلال ربط عمليتي الخضيرة والسبع بتنظيم داعش، فلو صح ذلك الادّعاء فإنه يدلل على فشل منظومة الشاباك الأمنية في التحقق والتتبع المستمر للعناصر المؤيدة لداعش، خاصةً تلك التي لها سجل أمني مسبق، فلن يكون الأمر بهذه السهولة التي تمكنهم من تنفيذ هكذا هجمات نوعية دون متابعة أمنية مسبقة. 

غير أن هذا الربط بين المقاومة الفلسطينية وتنظيم داعش، يأتي في إطار محاولة الاحتلال إخراج تلك العمليات عن سياقها الوطني الفلسطيني، وإقحامها في وحل داعش المنبوذ إقليمياً ودولياً؛ وذلك لكسب التأييد الإقليمي والدولي لصالح الاحتلال وصرف النظر عن إجراءاته التعسفية -بُعيد العمليات الأخيرة- بحق الفلسطينيين في الضفة والداخل المحتل، ففي الأسابيع القليلة الماضية نفذت أجهزة الاحتلال الأمنية عمليات اغتيال في الضفة الغربية واعتقلت العشرات في الداخل المحتل في حملةٍ أمنيةٍ غير مسبوقة رغبةً في كشف شبكة هذه العمليات. 

سعي المعارضة لتحقيق مكاسب سياسية 

وجدت المعارضة الإسرائيلية في العمليات الأخيرة فرصةً لضرب الأداء الأمني لأجهزة الحكومة في محاولةٍ لتفكيك الائتلاف الحالي، وهو ما ظهر جلياً من خلال التصريحات العديدة التي أطلقها عدد من ممثلي المعارضة متهمةً الحكومة الحالية بالتقصير الأمني، ومستشهدةً على ذلك عدم وقوع مثل هذه العمليات في الداخل المحتل في ظل الحكومة السابقة -في إشارةٍ إلى حكومة نتنياهو- وهو ما دفع الأجهزة الأمنية إلى نشر الألاف من الوحدات العسكرية، مثل شاييطت 13 وسييرت متكال في أماكن عديدة في مدن الداخل المحتل، وتنفيذ العديد من عمليات الاغتيال في الضفة الغربية، وجملة اعتقالات في الداخل المحتل لرفع الضغط الإعلامي عن أدائها الأمني.

كما قامت برصد موازنة طوارئ بقيمة 60 مليون دولار لتعزيز قوات الشرطة وإنشاء لواء جديد يضم عدداً من الجنود، فيما صادق وزير الدفاع غانتس على نقل ألف جندي لتعزيز قوات الشرطة في الداخل، وهو ما وُصف بالاستثنائي. 

ورغم مواصلة رفع مستوى تلك التعزيزات الأمنية، إلا أن تواصل سلسلة العمليات بات مهدداً حقيقياً لحكومة بينيت ويسرع من نهايتها لمصلحة حزب الليكود والأحزاب الأخرى الواقعة على يمينه، ومنها أحزاب مشاركة في الحكومة الإسرائيلية الحالية. 

يتضح ذلك التهديد جلياً في سلوك الحكومة والأجهزة الأمنية التي سمحت إلى عضو الكنيست المتطرف بن غفير يوم الخميس 31 مارس باقتحام المسجد الأقصى، كما جاء اقتحام وزير الخارجية يائير لبيد في 3 ابريل لباب العامود في هذا السياق. 

لذلك يمكن فهم اقتحامات الأقصى الأخيرة في إطار الصراع بين الأقطاب السياسية، ومحاولة التخفيف من الهجوم الإعلامي الذي تعرضت له حكومة بينيت خلال الأيام الماضية.

ظهرت انعكاسات الصراع بين الأطراف السياسية في إسرائيل بشكل أكثر وضوحاً بعد إعلان النائبة في الكنيست عيديت سيلمان انسحابها من معسكر الائتلاف الحكومي وانضمامها إلى معسكر المعارضة، وهذا ما أفقد حكومة بنينت أغلبيتها البرلمانية مقابل تعاظم فرص نتنياهو في العودة من جديد، وهذا الأخير دعا النواب المنتمين العودة إلى حضن اليمين، وذلك في محاولة لدفع نواب آخرين للقيام بهذه الخطوة، خاصةً وأن هنالك حديث يدور حول إمكانية قيام نواب آخرين بالسير على طريق عيديت سيلمان في ظل الضغوطات السياسية والأمنية المتوالية التي تتعرض لها الحكومة الحالية. 

الجانب الأهم في هذا السياق يتمثل في سعي حكومة بنيت إلى الاستعانة بالقائمة العربية المشتركة من أجل إنقاذها من الانهيار، وهو ما رفضه أيمن عودة قائلاً: لا يمكن أن نساعد في إنقاذ حكومة بنيت من الانهيار بعد استقالة عيديت سيلمان.

في سياق مختلف، تظهر انعكاسات العمليات بشكل واضح على المؤسسات الأمنية الإسرائيلية لاسيما وزير الأمن الداخلي عومر بارليف، حيث يظهر استطلاع للرأي نشره معهد سميث الإسرائيلي الأربعاء 6 إبريل الجاري تراجع ثقة الجمهور الصهيوني بجهاز الشرطة بنسبة 75%، ومن الطبيعي أن تتراجع الثقة في ظل حالة المخاوف الأمنية، لكن نتيجة هذا الاستطلاع تأتي في سياق الضغوط التي تهدد بقاء حكومة بينيت، خاصةً وأن مشهد الاتهامات المتبادلة بين عومر بارليف وعضو الكنيست المتطرف بن غفير التي عرضتها الفضائيات العبرية بعد ساعات قليلة من عملية بني براك تُعبر عن مستوى الصراع السياسي بين الحكومة الحالية والمعارضة.

وحسب الكثير من المصادر أن بارليف متساهل في إعطاء تصاريح الدخول للعرب من مناطق الضفة الغربية إلى القدس، على عكس موقف الجيش الإسرائيلي الرافض لدخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وإذا كان بينيت يتحمل ما أحدثته العمليات من زلزال سياسي في إسرائيل، فإن عضو حزب العمل ورئيس جهاز الأمن الداخلي عومر بارليف بات متهماً بالفشل الأمني في صدّ الهجمات الفلسطينية متسبباً في ذلك بموجة من الانتقادات السياسية هددت بإمكانية تفكّك الحكومة الحالية.

المحاولة على الجبهتين الأردنية والفلسطينية 

بالرغم من الجهود الدبلوماسية والأمنية المبذولة على الجبهتين الأردنية والفلسطينية، والساعية إلى الحد من أي تصعيد محتمل خلال شهر رمضان الذي يتزامن مع عيد الفصح اليهودي، إلا أن تلك العمليات ولدت حالة من الإحباط لدى القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية التي كثّفت تواصلها مع الجانب الأردني، حيث وصل الأمر حسب موقع واللا العبري إلى طلب عومر برليف وزير الأمن الداخلي من الجانب الأردني في 29 مارس الماضي إعادة النظر في تشغيل عدد من حراس الأقصى بحجة انتمائهم لحماس.

من ناحية أخرى وضعت سلسلة العمليات في المدن الفلسطينية المحتلة مدن الضفة الغربية على طاولة النقاش، لأن دخول منفذي العمليات من خلال الثغرات الموجودة في الجدار لا تعود لأسباب تقنية أو لوجستية بل لاعتبارات سياسية!

وعلى الرغم من وجود الجدار الفاصل حول الضفة الغربية، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تريد تثبيت واقع أو حقائق على الأرض، فالإغلاق الكامل أو العزل الكلي لمدن الضفة الغربية يمثل تنازلاً عملياً عن مناطق شرق الجدار، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لها، لهذا تحرص على إبقاء نقاط التواصل الجغرافي مع كافة مناطق الضفة الغربية. 

هذا الأمر عزز بلا شك من موقف اليمين المطالب دائماً بإحكام الجدار على مدن الضفة الغربية منعاً لتسلل المنفذين؛ واستجابةً للضغط شرعت قوات الجيش 1 ابريل 2022 إلى سد ثغرات الجدار الفاصل بعد أن اتضّحت دخول منفذ عملية بني براك بسيارته عبر ثغرة بالقرب من مستوطنة ماتان. 

العمليات وعرب الداخل

مع تواصل سلسلة العمليات ومشاركة عرب الداخل فيها تزداد نسبة العداء بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمع العربي في الداخل حيث زادت نسب العداء بين المجتمعين وفقاً لنتائج استطلاع مركز سميث، وهذا العداء لا يتفق مع تلك الأصوات المطالبة بمشاركة مزيداً من النواب العرب لإنقاذ حكومة بينيت.

الانعكاسات على العلاقات الإقليمية

على الرغم من محاولة الحكومة الإسرائيلية خلال الأسابيع القليلة الماضية إحداث زخم سياسي إقليمي من خلال سلسلة اللقاءات في شرم الشيخ والنقب والأردن، إضافة إلى وقف بينيت لوساطته في الأزمة الروسية الأوكرانية، فإن العمليات أجبرتها على التركيز على إصلاح الوضع الأمني من خلال تلبية الاحتياجات العملياتية التي أقر بينيت بإهمالها، والسعي دون الوصول الى التصعيد، أو للقضاء على التوتر الأمني قبل اتساعه، وهو ما فسرته حملات الاعتقال والاغتيال التي قامت بها أجهزة الاحتلال الأمنية مؤخراً في الضفة الغربية ومدن الداخل المحتل إلى جانب تكثيف التعزيزات اللوجستية. 

ختاماً

عدم التبني الفصائلي لأي من العمليات الأخيرة في الداخل المحتل يترك الاحتلال أمام سيناريو هو الأخطر في الفترة الحالية فيما يتعلق بمنظومته الأمنية في الداخل المحتل؛ كونها عمليات بدون عنوانٍ تنظيمي أو فصائلي؛ الأمر الذي يجعلها أصعب على الكشف والتتبع الأمني إن خُطط لمثلها في الفترة المقبلة، كما عزز من مستوى الضغوطات السياسية والأمنية التي تواجهها حكومة بينيت، حيث إن مباركة الفصائل الفلسطينية لتلك العمليات دون تبنيها ليست مبرراً كافياً لنقل المواجهة من الداخل إلى جبهاتٍ أخرى.  

ومن المتوقع أن تستمر وتيرة هذه العمليات الفردية ذات التخطيط المسبق لوجستياً وجغرافياً، وبصورةٍ أشد دقة وحرص من سابقتها، أي يُتوقع مراعاة المنفذين القادمين الاجراءات الأمنية المكثفة التي اُتخذت مؤخراً، ووضعها بعين الاعتبار أثناء التخطيط، مما قد يوفر غطاءً للمنفذين بما يتفادى المخاطر الأمنية ويدعمهم في التقدم بخطوة عن أجهزة الاحتلال الأمنية والعسكرية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق