قضايا خاصة
أخر الأخبار

الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية خلال العام 2021.. الأسباب والسيناريوهات المحتملة

واجهت السلطة الفلسطينية خلال العام 2021، واحدة من أكثر الأزمات المالية التي عصفت بها منذ نشأتها قبل أكثر من ربع قرن، وذلك في ضوء تسجيل الموازنة عجزاً مالياً تجاوز المليار دولار، وهو أعلى من التوقعات التي حددتها السلطة كسيناريو الأساس عند إقرار قانون الموازنة في مارس/ أذار من ذات العام.

وخلال العام ذاته، تعرضت السلطة الفلسطينية لما يشبه “الحصار المالي” من الدول المانحة حيث سجل العام 2021 أدنى مستوى من المساعدات الخارجية التي تلقتها السلطة الفلسطينية منذ توقف المفاوضات السياسية مع دولة الاحتلال مطلع العام 2014 [1].

ولم تتجاوز قيمة المساعدات الخارجية الحد الأدنى مما كانت تتطلّع إليه السلطة الفلسطينية عند إقرار قانون الموازنة العامة، أي أن ما تحقق فعلياً لم تتجاوز نسبته 20% مما كان مأمولاً بوصوله للخزينة العامة عند مستوى 400 مليون دولار.

وانعكست الأزمة المالية للسلطة سلباً على فئة الموظفين، التي تعتبر المحرك الرئيسي للطلب في السوق الفلسطيني، حيث دفعت الأزمة إلى اتخاذ السلطة قراراً بفرض اقتطاع مالي من رواتب الموظفين تراوحت نسبتها ما بين 20-30%، ما أعاد إلى الأذهان حالة الإرباك التي تحمّلها الموظفون في أزمة المقاصة لعامي 2019- 2020 [2].

تحاول السطور التالية تسليط الضوء على عمق الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية خلال العام 2021، ومدى وصول هذه الأزمة لمستويات دفعت بمسؤولي السلطة وحركة فتح للتحذير من خطورة انهيار السلطة في حال لم تتحرك الدول المانحة لإنقاذ السلطة من الانهيار المحتمل. 

أداء الموازنة خلال العام 2021

جاءت الموازنة العامة الفلسطينية للعام 2021 كأول موازنة عادية تقرّها السلطة الفلسطينية منذ العام 2018، حيث عملت الأراضي الفلسطينية في عامي 2019 -2020 بموجب موازنة الطوارئ، جرّاء اقتطاع إسرائيل عائدات المقاصّة مرتين خلال العامين، وبموجبها اقتطعت إسرائيل ما قيمته 140 مليون دولار من أموال المقاصة بحجة استمرار السلطة بدفع رواتب الأسرى[3].

وبلغت قيمة الموازنة عند إقراراها 5.6 مليار دولار بزيادة قدرها 9.9% عن نفقات الموازنة للعام 2020، في حين قدرت الإيرادات العامة قبل التمويل الخارجي بـ 3.9 مليار دولار، بعجز تقديري قُدر بـ1.7 مليار دولار[4].

وتحت بند التمويل الخارجي قدرت السلطة الفلسطينية قيمة ما ستتلقاه من منح ومساعدات خارجية بـ657 مليون دولار، منها 411 مليون دولار لدعم الخزينة العامة، و245 مليون دولار للنفقات التطويرية، بما سيساهم في خفض عجز الموازنة إلى مليار دولار.

من الناحية العملية، جاء أداء الموازنة العامة خلال العام بانحراف كبير عما تم التخطيط له عند إقرار قانون الموازنة، ما يعكس حالة من سوء التقدير والفشل الإداري يتحمل مسؤوليته مسؤولي وزارة المالية ومستشاري رئيس الحكومة، المنوط بهم تقديم السيناريوهات المحتملة للحالة المالية الفلسطينية بشكل يقترب من الدقة.

يشير الجدول التالي إلى مقارنة الأداء الفعلي للموازنة عن القانون الذي تم إقراره للموازنة (مليون دولار)

البنودالفعليالمخططمعدل الانحراف
إجمالي صافي الإيرادات3.623.887%
الإيرادات المحلية1.31.31%
الإرجاعات الضريبية7410731%
إيرادات المقاصة2.32.612%
إجمالي النفقات العامة3.34.932%
رواتب وأجور1.72.223%
مساهمات اجتماعية1016995%
النفقات التطويرية11768383%
المشتريات الحكومية29373260%
التراكم الرأسمالي46092%
صافي تراكم المتأخرات34850330%
صافي الاقتراض349229150%
الفائدة على الاقتراض9110412%
المساعدات لدعم الموازنة8141180%
المساعدات للنفقات التطويرية9324562%
تمويل البنوك المحلية (فوائد الإيداعات)510599.5%

المصدر: إعداد الباحث استناداً لبيانات الموازنة العامة الصادرة عن وزارة المالية الفلسطينية.

تناول الجدول السابق أبرز العمليات المالية للموازنة العامة خلال العام 2021، ولعل أبرز الملاحظات التي يمكن قراءتها من الجدول السابق هو الانحراف الكبير في بعض البنود المتعلقة بالنفقات المدفوعة والإيرادات المتحققة.

ففي بند الإيرادات المحلية كان الانحراف الأكبر في إيرادات المقاصة بفارق 12% عن الهدف الذي تم تحديده في قانون الموازنة، ويمكن التقدير بأن هذا التراجع الذي تجاوزت قيمته 300 مليون دولار، يعود إلى  عاملين؛ الأول مرتبط بتراجع النشاط الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية بسبب تداعيات أزمة فيروس كورونا التي تسببت بأضرار اقتصادية مرتبطة باستمرار إغلاق العشرات من المشاريع التشغيلية ودخول الاقتصاد الفلسطيني في انكماش قدّره البنك الدولي بـ5.9% خلال الربع الأول من العام 2021 [5].

أما العامل الثاني فمرتبط بالتغيرات التي طرأت في قطاع غزة بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع في مايو/ أيار الماضي، والتي أدت إلى إغلاق المعابر وتقليص إسرائيل لكميات السلع الواردة لغزة لأكثر من ثلاثة أشهر، وتعرض جزء كبير منها للتلف، تزامن ذلك مع اتجاه مصر لتبني علاقات أكثر انفتاحاً مع حركة حماس التي تدير قطاع غزة، حيث ضاعفت مصر من كميات السلع الواردة لغزة بما فيها مواد البناء، ما انعكس على تراجع إيرادات السلطة الضريبية [6].

أما بند النفقات العامة فيُظهر عمق الأزمة المالية للسلطة بشكل واضح، حيث لم تتجاوز نفقات السلطة التشغيلية 32% عن الهدف الذي تم تحديده في قانون الموازنة بفارق 1.6 مليار دولار، ويظهر الانحراف بشكل واضح في كل البنود المتعلقة بالنفقات؛ أهمها رواتب الموظفين التي تمثل العصب الأهم للقوة الشرائية المحركة للأسواق، وبلغ الانحراف 23%، كترجمة لقرار السلطة تقليص رواتب الموظفين في الأشهر الأخيرة بنسبة تراوحت ما بين 20-30%، وبلغت قيمة الاقتطاعات من بند الرواتب 500 مليون دولار.

في بند الحماية الاجتماعية وهي مخصصات الأسر الفقيرة التي يستفيد منها قرابة 100 ألف أسرة في الضفة الغربية وقطاع غزة فكان من أكثر القطاعات تضرراً من التقليصات المالية في بند النفقات العامة، حيث لم تصرف السلطة الفلسطينية سوى دفعة واحدة بنسبة 50% من أصل 4 دفعات سنوية مستحقة لهذه العائلات بقيمة 10 ملايين دولار من أصل 169 مليون دولار، ويعود ذلك إلى عدم التزام الدول المانحة وأهمها الاتحاد الأوروبي بالمساهمة في هذا البند، حيث تُقدّر المساهمة الأوروبية لبند الحماية الاجتماعية بـ40 مليون دولار. 

أما النفقات التطويرية المتعلقة بالدعم الحكومي للمشاريع الحيوية والبنى التحتية؛ فلم تلتزم السلطة سوى بصرف 17% مما كان مخطط له، وهو ما يطرح شكوكاً بجدية وحقيقة ما يتم ترويجه عن المشاريع التي تدعي السلطة بأنه تم تنفيذها في الأراضي الفلسطينية خلال العام 2021.

في ضوء ذلك فإن النفقات المتحققة على أساس نقدي أي ما تم إنفاقه فعلياً، أقل من المتحق~ق على أساس الالتزام  بفارق (1.6 مليار دولار)، ما يعني ترحيل هذا المبلغ  كمتأخرات مالية على موازنة الأعوام القادمة.

وكجزء من المسؤولية الإسرائيلية في هذه الأزمة المالية فقد تضاعف صافي الاقتراض بنسبة 150% خلال هذا العام وهي الاقتطاعات المالية لسداد الديون المتراكمة على الهيئات المحلية لصالح الشركات الإسرائيلية وخاصة في موضوع الكهرباء والماء، والتي ارتفعت خلال هذا العام بمتوسط 10 ملايين دولار شهرياً من 229 مليون دولار مستهدف إلى 349 مليون دولار متحقق.

الدين العام الفلسطيني

خطورة ما تمر به السلطة من أزمة مالية خصوصاً في السنوات الثلاثة الأخيرة هو تعويض العجز الذي تعاني منه الإيرادات العامة، باللجوء للاقتراض دون أي رقابة أو خطط اقتصادية متكاملة، تبرر اللجوء لهذا الخيار المكلف على المدى البعيد.

وتجاوز الدين العام على السلطة أكثر من 86% من الإيرادات العامة، مع ضرورة الإشارة إلى أن حجم الدين للسلطة الفلسطينية وصل لمستوى 8 مليار دولار حتى نهاية العام 2021، عند احتساب متأخرات القطاع الخاص وديون صندوق التقاعد، ما انعكس على زيادة عبء الدين على الموازنة العامة، حيث بلغت قيمة الفوائد السنوية المدفوعة لهذه القروض دون سداد أصل القرض بمتوسط سنوي 100 مليون دولار[7].

وتضاعفت فاتورة الدين العام بشقّيه المحلي والخارجي بصورة كبيرة منذ وقف إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب المخصصات السنوية للأراضي الفلسطينية في العام 2017، من 1.4 مليار دولار إلى 3.8 مليار دولار، وبلغت حصة الدين المحلي 2.4 مليار دولار، أما الدين الخارجي فقد بلغ 1.4 مليار دولار.

ووفقاً لتقرير سلطة النقد الفلسطينية فقد شكل الائتمان الممنوح للحكومة وموظفيها ضعف حقوق ملكية القطاع المصرفي بنسبة 197% مقارنة بـ158% عند نهاية العام 2019 وهي تشكل قفزة كبيرة خلال وقت قصير نسبياً، ويُقدّر نصيب الاقتراض الحكومي من البنوك 22% من إجمالي التسهيلات المصرفية، أي أنه بات منافساً للقطاع الخاص، وهو ما قد يدفع القطاع المصرفي لرفع أسعار الفائدة مستقبلاً [8].

المساعدات الخارجية 

  • الدول العربية

أظهرت بيانات الموازنة العامة للعام 2021 توقفاً كاملاً للمساعدات العربية طيلة العام، في سابقة تعكس حالة من عدم اليقين لمستقبل العلاقة بين السلطة الفلسطينية والدول العربية، رغم أن الدعم المالي العربي تراجع بشكل لافت في السنوات الأخيرة، اتّساقاً مع موقف الإدارة الأمريكية منذ العام 2017، ولكن خطورته أنه لم يصل لحد القطيعة الكاملة.

وبلغت قيمة المساعدات العربية للسلطة الفلسطينية خلال العام 2020 لـ 40 مليون دولار، مقارنة 265 مليون دولار للعام 2019، و313 مليون دولار للعام 2018، و88 مليون دولار للعام 2017، في حين كانت ذروة الدعم العربي لموازنة السلطة في العام 2009 حينما وصلت قيمتها لـ462 مليون دولار [9].

وتتصدر دول الخليج أبرز المانحين العرب للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها، وتحتل السعودية موقعاً متقدماً لهذه الدول حيث وصل إجمالي ما ساهمت به إلى 3.2 مليار دولار، تليها الإمارات بـ937 مليون دولار، والجزائر بـ800 مليون دولار، والكويت بـ485 مليون دولار، وقطر بـ225 مليون دولار [10].

  • الولايات المتحدة الأمريكية

عاد الدعم الأمريكي للسلطة الفلسطينية خلال العام 2021 بشكل خجول، بعد توقفه منذ مارس/ آذار 2017، حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية 10 ملايين دولار خصصت لدعم المستشفيات الفلسطينية في مدينة القدس وذلك في 30 من نوفمبر/ تشرين الثاني، كما أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “USAID” عودة نشاطها في الأراضي الفلسطينية بعد توقفه منذ العام 2018 [11].

ويأتي هذا التطور في ضوء التحرك الأمريكي الأخير في المنطقة، التي يقودها مبعوث الرئيس الأمريكي للسلام هادي عمرو في لقاءته مع المسؤولين في السلطة الفلسطينية لمد جسور الثقة، على أمل أن يسهم ذلك في خلق مناخ سياسي يساهم بتقوية السلطة الفلسطينية كجزء من الاستراتيجية الأمريكية لإدارة الرئيس جو بايدن، بهدف قطع الطريق أمام احتمالية تعاظم قوة خصومها في الساحة الفلسطينية وتحديداً حركة حماس.

 وتعدّ الولايات المتحدة المساهم الأكبر من الدول المانحة في دعم السلطة الفلسطينية، حيث تخصص قنوات الدعم المالي الأمريكي التي تقدر قيمتها السنوية بـ600 مليون دولار إلى 4 قنوات صرف رئيسية وهي، الدعم المباشر للموازنة العامة، دعم الموازنة التطويرية التي تنفذها “USAID”، والدعم العسكري للأجهزة الأمنية الذي لا يدخل في الحسابات المالية للموازنة العامة ولكن تقدر قيمته السنوية بـ30 مليون دولار تأتي على شكل معدات ودورات تدريبية، إضافة إلى المساهمات السنوية في دعم وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.

  • الدعم الأوروبي

شكّل العام 2021 عاما استثنائياً بالنسبة للتمويل الأوروبي للسلطة الفلسطينية، حيث سجّل الدعم الأوروبي لموازنة السلطة أدنى مستوى له منذ نشأة السلطة الفلسطينية، رغم قيادة رئيس الوزراء محمد اشتية جهوداً سياسية تمثلت في قيامه بجولة خارجية لعدد من الدول الأوروبية، بالإضافة لمشاركته في مؤتمر المانحين في النرويج، على أمل أن يساهم في عودة الدعم الأوروبي، ولكن ما تحصل عليه رئيس الوزراء من هذه الزيارات لم يتجاوز سقف التوقعات، حيث اكتفى المسؤولون الأوروبيون بتبرير تأخر الدعم المالي لأسباب فنية متعلقة بإقرار الميزانيات [12].

وتظهر بيانات الموازنة أنه خلال الأشهر العشرة الأولى من هذا العام لم تتلقى السلطة الفلسطينية أي مساهمة من دول الاتحاد الأوروبي أو مؤسساته، ولكن مع نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني تلقت موازنة السلطة أول مساهمة أوروبية لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين بلغت 15 مليون يورو [13].

سياسياً لا يمكن القفز عن الأحداث التي شهدتها الأراضي الفلسطينية مطلع العام 2021، كأحد التفسيرات المحتملة وراء توقف الدعم الأوروبي للسلطة الفلسطينية، فمن ملف تأجيل الانتخابات، وما صاحبها من موجة غضب عمّت الشارع الفلسطيني، وتمادي السلطة في سياسة قمع الحريات العامة التي وصلت لحدّ ارتكاب الأجهزة الأمنية جريمة اغتيال بحق الناشط السياسي المعارض نزار بنات، الذي كان مرشحاً على رأس قائمة تجمع الحرية والكرامة لخوض الانتخابات التشريعية.

أدت الأحداث الأخيرة إلى إصدار الاتحاد الأوروبي بياناً أعرب فيه عن إدانته لمستوى العنف الذي تقوم به الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، كما عبر الممثلين الأوروبيين عن تضامنهم مع عائلة المعارض نزار بنات[14].

وتعوّل السلطة على عودة الدعم الأوروبي كونه يمثل ركيزة لاستقرارها المالي، حيث تقدر قيمة المساعدات الأوروبية سنوياً بـ350 مليون دولار، يذهب الجزء الأكبر منه لدعم الموازنة الفلسطينية بشكل مباشر، ويخصّص الجزء الآخر من هذا الدعم كمساهمة أوروبية في دفع رواتب الموظفين المدنيين والمتقاعدين وبرنامج الرعاية الاجتماعية بنسبة 40%.

 أسباب أخرى للأزمة المالية

يمكن وصف الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية بأنها أزمة بنيوية مرتبطة بفشلها في إدارة نظامها المالي، فمنذ العام الأول لإصدار أول موازنة في عهد السلطة الفلسطينية في العام 1996، ورثت السلطة نظاماً مالياً مثقلاً بالديون تصاعد وتيرته عاماً بعد عام إلى أن وصل لمستويات قياسية مع نهاية العام 2021، يضاف لها حالة التخمة والترهل واستشراء الفساد التي باتت سِمة الجهاز الحكومي.

ويقدر عدد الموظفين في القطاع الحكومي الفلسطيني بـ140 ألف موظف، يضاف لهم عشرات الآلاف من المتقاعدين، ونظيرهم من الحسابات التي تموّلها الخزينة العامة لأشباه الرواتب، وهم ذوي الشهداء والأسرى والجرحى وكوادر منظمة التحرير داخل فلسطين وخارجها، ليصل إجمالي المستفيدين من فاتورة الرواتب التي تدفعها السلطة شهرياً أكثر من 350 ألف مستفيد، وتقدر فاتورة رواتبهم الإجمالية بـ268 مليون دولار[15].

تستنزف الوظيفة العمومية فاتورة الرواتب في الخزينة العامة للسلطة الفلسطينية، حيث تتجاوز قيمتها 180 مليون دولار شهرياً، وهي تشكل أكثر من 60% من النفقات التشغيلية، وتكمن الإشكالية أن سُلّم الرواتب منحاز للوظائف العليا بشكل كبير ولا يتلاءم مع الحالة الاقتصادية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تتجاوز رواتب النواب والوزراء 3 آلاف دولار شهرياً، في حين لا يتجاوز متوسط الرواتب في الوظيفة العمومية 800 دولار شهرياً.

من جانب آخر، شكّل غياب الأسس السليمة في عملية التنمية المحلية، عبر اعتماد السلطة على محاكاة الدول المتقدمة في بناء المؤسسات المختلفة، والتي أثقلت كاهل الاقتصاد الفلسطيني بالكثير من الأعباء المالية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك أكثر من 63 مؤسسة عامة غير وزارية تتلقى تمويلها من قبل السلطة الفلسطينية لتغطية الرواتب والنفقات التشغيلية، مما يمكن اعتباره أحد أشكال الفساد والمحاباة، ويمتاز هذا النوع من الوظائف الخاصة التي تمنح لشخصيات بعينها، بارتفاع أجور مدرائها الشهرية التي تقترب من 3 آلاف دولار، مما يشكل انحرافاً كبيراً عن متوسط الأجور العامة لدى موظفي السلطة، ويزيد من عبء النفقات العامة[16].

يضاف لما سبق فإن خضوع الموارد المالية الفلسطينية للابتزاز الإسرائيلي، يعد سبباً مباشراً في استمرار هذه الأزمة، حيث تمارس إسرائيل سياسة القرصنة لأموال المقاصة، وتقدر قيمة الاقتطاعات التي تطالب بها السلطة الفلسطينية من إسرائيل في  العام 2021 بأكثر من 1.4 مليار دولار [17].

وأموال المقاصة هي الإيرادات التي تأتي من الضرائب والرسوم على الواردات الفلسطينية عبر الموانئ الإسرائيلية، وتشكل 60% من إجمالي الإيرادات العامة بقيمة 2.5 مليار دولار سنوياً.

علاوةً على ذلك بات اعتماد السلطة على الموارد المالية التي تأتي من المساعدات الخارجية موجها لتغطية النفقات التشغيلية كالرواتب وفوائد الدين العام، بدلاً من توجيهها كاستثمارات تشغيلية تساهم في تخفيف العبء المالي الواقع عليها.

السيناريوهات المحتملة

أمام هذه المعطيات التي تعكس عمق الأزمة المالية الراهنة للسلطة الفلسطينية فإن السيناريوهات المحتملة للعام 2022، لا تنذر بإيجاد حل جذري لهذه الأزمة خلال هذا العام أو حتى في المتوسط القريب خلال السنوات القادمة، نظراً لتداخل عدة أطراف في هذه الأزمة.

فعلى المستوى الإسرائيلي، لا تزال حكومة نفتالي بينت تتبنى موقفاً متشدداً تجاه السلطة الفلسطينية، مما سيزيد من تعقيد الموقف بالنسبة للسلطة، التي تتطلع إلى بناء شراكة سياسية قد تساهم في تخفيف حدة الضغط الاقتصادي الذي تمارسه الحكومة الحالية، وأهمها وقف الاستقطاعات من أموال المقاصة، أو الإفراج عن الأموال التي تحتجزها والتي قد تساهم في حل جزء كبير من هذه الأزمة.

وعلى المستوى الإقليمي تشير القراءات المتعددة إلا أن القفز بالعلاقات الفلسطينية- العربية وتحديداً مع السعودية باعتبارها الممول الأكبر لخزينة السلطة بمتوسط 20 مليون دولار شهرياً، ليس مطروحاً في هذا العام، وهو ما سيزيد من ضبابية الموقف بإمكانية إيجاد مخرج لعودة الدعم العربي لما كان عليه الوضع قبل العام 2017.

على المستوى الدولي، فإن النوايا الأمريكية بإعادة الدعم لما كان عليه قبل العام 2017، لن يخلق انفراجة ملموسة بالنسبة للأزمة المالية التي تعاني منها السلطة، لأن قنوات صرف المساعدات الأمريكية لا تذهب لخزينة السلطة بشكل مباشر، بل توجه لقنوات تنموية وإغاثية كالمشاريع التي تشرف عليها الوكالة الأمريكية للتنمية “USAID” وقنوات الصرف الأخرى للمنظمات الأهلية “NGO” والأونروا.

يبقى الرّهان الأكبر بالنسبة للسلطة الفلسطينية هو عودة الدعم الأوروبي، وفقاً للوعودات التي تلقّتها السلطة من القادة الأوروبيين فمن المتوقّع أن يصرف الاتحاد الأوروبي في الربع الأول من العام الجاري 2022 التزاماته للعام 2021- 2022، بإجمالي 600 مليون دولار، ومن شأن ذلك إحداث نقلة على صعيد إنهاء جزء من هذه الأزمة كون الجزء الأكبر من هذه المساعدات يذهب لقنوات مباشرة لدعم الخزينة العامة.

تضعنا هذه الخيارات أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة للعام 2022 كالتالي:

سيناريو الأساس: استمرار الحصار المالي للسلطة الفلسطينية وتوقف الدول المانحة عن الإيفاء بتعهداتها كما كان عليه الوضع في 2021، الأمر الذي سيضعنا أمام خيارات قد تؤثر على استقرار السلطة، في ضوء عدم قدرة قطاعات اقتصادية على الصمود في وجه الأزمة وأهمها الموظفين باعتبارهم المحرك الرئيسي للطلب، وقد يترتب على ذلك تلويج السلطة بعجزها عن إدارة الشأن العام، على أمل أن يغير ذلك من الموقف الدولي تجاهها.

سيناريو متفائل: لا يزال رهان السلطة على عودة الدعم الخارجي وتحديداً من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي خياراً منطقياً في ضوء الإشارات الأخيرة التي تلقّتها قيادة السلطة من مبعوثي هذه الدول خلال العام 2022، نظراً لما يمثل هذا الدعم من قيمة مضافة في حال عودته، ما سينعكس بشكل إيجابي على الوضع المالي لموازنة العام 2022، وإذا ما أضيف ذلك إلى ما تعهّدت به الجزائر من تقديم 100 مليون دولار، فستكون السلطة قد قطعت شوطاً كبيراً في التخفيف من حدّة الأزمة التي تعاني منها على الأقل في موازنة 2022.

سيناريو متشائم: أحد الخيارات التي قد تسبب إرباكاً لاستقرار السلطة الفلسطينية ويضع تحذيرات مسؤوليها من خطر الانهيار كأمر واقع، هو بروز حدث سياسي أو ميداني مفاجئ من أحد الطرفان (السلطة الفلسطينية- إسرائيل) قد يتسبب في دفع الطرفان لتجميد أو وقف استلام أموال المقاصة كما حدث في عامي 2019-2020، وإذا ما تزامن ذلك مع استمرار الدول المانحة بعدم الإيفاء بالتزاماتها كما حدث في العام 2021، سيكون خيار الفوضى وانهيار السلطة خياراً قائماً، نظراً لما باتت تمثّله أموال المقاصة كصمام أمان أخير تستطيع السلطة من خلالها الإيفاء بالتزاماتها بالحد الأدنى.

الهوامش والمصادر:


[1] مراقبون فلسطينيون: حجب المساعدات الخارجية يفاقم أزمة السلطة الفلسطينية المالية، وكالة شينخوا، 29/10/2021، اضغط هنا

[2] فلسطين.. الأزمة المالية تهدد رواتب منقوصة للشهر الثالث، موقع الاقتصادي، 23/1/2022، اضغط هنا

[3] تصعيد جديد.. إسرائيل تنهب أموال عائلات الأسرى والشهداء، الجزيرة نت، 17/2/2019، اضغط هنا

[4] مجلس الوزراء يقر الموازنة العامة للسنة المالية 2021، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، 29/3/2021، اضغط هنا

[5] الأراضي الفلسطينية: الأفاق الاقتصادية، البنك الدولي، 7/10/2021، اضغط هنا

[6] تدفق البضائع المصرية عبر رفح وتيسير في حركة الانتقال.. هل تسعى إسرائيل لنقل مسؤولياتها إلى القاهرة؟، عربي بوست، 13/7/2021، اضغط هنا

[7] الدين العام يسجل رقما قياسيا.. و30 مليون فوائد مدفوعة عليه بالربع الأول من العام 2021، بوابة اقتصاد فلسطين، 24/6/2021، اضغط هنا

[8] سلطة النقد الفلسطينية، 18/3/2021، اضغط هنا

[9] مازن العجلة، المساعدات الدولية والعربية.. إلى أين؟، مركز أبحاث منظمة التحرير، اضغط هنا

[10] المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والاعمار_ بكدار، قاعدة بيانات المانحين، اضغط هنا

[11] الولايات المتحدة تدعم ميزانية فلسطين لأول مرة منذ 2017، وكالة الأناضول، 30/11/2021، اضغط هنا

[12] اوروبا تقول إن المساعدات للفلسطينيين ستتأخر حتى شهر أكتوبر على أقل تقدير .. ومخاوف من أزمة مالية، بوابة اقتصاد فلسطين، 30/6/2021، اضغط هنا

[13] الاتحاد الأوروبي يدعم السلطة الفلسطينية بـ15.6 مليون يورو، وكالة الأناضول، 2/11/2021، اضغط هنا

[14] الاتحاد الأوروبي يدين اعتقال السلطة للنشطاء السلميين ويصفه بـ “الغير مقبول”، موقع فلسطين اليوم، 24/8/2021، اضغط هنا

[15] فلسطين.. الأزمة المالية تهدد رواتب منقوصة للشهر الثالث، مرجع سابق

[16] إهدار الميزانية الفلسطينية…ترضيات وظيفية عبر مؤسسات متضاربة المهام، العربي الجديد، 612/2020، اضغط هنا

[17] بشارة للمانحين: الخصومات الإسرائيلية المجحفة تشكل نصف العجز في الموازنة، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، 17/11/2021، اضغط هنا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق