المواجهة الشاملة، احتمالاتها ومآلاتها
يمكن عدّ العام 2014 نقطة تحوّل في المسار النضالي للفلسطينيين، فمستوى الممارسة النضالية في الضفّة الغربيّة قفز على نحو واسع عمّا كان عليه في العام الذي سبقه، وعن الحالة التي شهدتها الضفّة الغربية منذ الانقسام الفلسطيني في العام 2007، فقد شهدت الضفّة الغربية، سياسات عميقة، تستند في جانب من ذرائعها للانقسام، وتهدف إلى تحييد الجماهير عن الشأن العام، وبما يستدعيه ذلك من تجريف الحركة الوطنية، وتفكيك فصائل المقاومة.
منذ العام 2014، أضحت العلاقة النضالية، للفلسطينيين ببعضهم في القدس والضفّة الغربية وغزّة، علاقة تأثير وتأثّر جدليّة، فالأحداث بدأت بأسر ثلاثة مستوطنين في الخليل، تدحرجت على إثرها حركة اقتحامات واسعة لقوات الاحتلال لمناطق الضفة الغربية كافّة، ثم جاءت حادثة حرق الطفل محمد أبو خضير من حيّ شعفاط بالقدس، وما تبعها من هبّة عرفت باسمه، وانعكست هذه الأحداث في أطول مواجهة بين قوات الاحتلال وبين المقاومة في غزّة حتى الآن.
مثّلت حرب العام 2014، رافعة معنوية للفلسطينيين في القدس والضفّة الغربية، تجلّت في هبّة القدس التي بدأت مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2015، والتي امتدت لسنتين للأمام بوتيرة متفاوتة، وبأنماط مقاومة متنوعة، لتتكرّر الهبّات المقدسية في هبّة باب الأسباط في القدس في 2017، وهبة باب الرحمة في العام 2019، وأخيرًا الهبات المتسلسلة، في نيسان/ إبريل وأيار/ مايو الماضيين، من باب العمود إلى الشيخ جراح إلى صدّ اقتحام المسجد الأقصى أواخر رمضان، ومعركة “سيف القدس” بين الاحتلال وبين المقاومة في غزّة، والتحام الفلسطينيين مع المعركة في الضفّة الغربية، والداخل المحتلّ عام 1948، وما اتصل بذلك من نشاط إعلامي ودعائي مكثف، مما أمكن به وصف هذه المعركة بنقطة تحوّل واضحة في المشهد العام، بالرغم مما اعترى هذا المشهد من جمود بعد ذلك.
هذا المسار المتّصل من الفاعلية النضالية، الكاشفة عن تحولات في ساحة الضفة، واستمرارية القدس والمسجد الأقصى عنصر تثوير، وبقاء دواعي المواجهة في غزّة على حالها، فضلاً عن عناصر تثوير أخرى قائمة، مثل أحداث السجون، وظهور تجمعات مقاومة ذات مستوى تنظيمي كما في جنين.. من شأنها أن تفتح الاحتمالات على إمكانية مواجهة أوسع، قد تكون أكثر شراسة، وهو ما يستدعي النظر في مجموع الاحتمالات، وما يتعلق بها من دوافع أو معيقات، وما هي القراءة السياسية الصحيحة، إزاء مواجهة كهذه، في حال وقعت.
دوافع المواجهة.
تتكثف دوافع المواجهة في جملة من العوامل المتضافرة، السياسية والميدانية، فالأفق السياسي منغلق تمامًا بلا أيّ وعود سياسية تحظى بالمصداقية لدى الجمهور بإمكانية تحوّل مشروع التسوية إلى أفق سياسيّ أرقى، وفي الأثناء، تنزاح شعبية السلطة التي أخذت باستمرار تفقد مرتكزات شرعيتها السياسية والشعبية وتتراجع قدرتها على القيام بوظيفتها الاجتماعية والاقتصادية، مما يدفعها للاستناد إلى دورها الوظيفي الشارط لوجودها في الاتفاقيات المؤسسة لها، وبما يحولها إلى هدف تُعنى به نخبة تتصل بها شبكة زبائنية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يفاقم من الإحباط الذي قد ينعكس في مواجهة الاحتلال، وغير بعيد عن ذلك عجز الفرقاء الفلسطينيين عن صياغة اتفاق وطني يخرج بالجميع من الأزمة، وهو ما يعني استمرار حصار قطاع غزّة، واستمرار المناورة بين المقاومة في غزّة وبين الاحتلال في الضفّة.
لا تنفكّ عن ذلك العلاقة الصراعية مع الاحتلال في القدس والضفّة الغربية، من اتضاح خطّة الاحتلال لتقسيم المسجد الأقصى زمانيّا، وإنفاذ ذلك بالاقتحامات المستمرة، والتوسع الاستيطاني، الذي لا يقتصر على البناء والمصادرة والهدم، وتعظيم أدوات الضبط والسيطرة، وإنفاذ خطة الضمّ فعليًّا، بتكريس عمليات الضمّ للمستوطنات وربطها بعضها وبالداخل المحتل، والعزل لتجمعات الفلسطينيين فحسب، ولكنه وبالإضافة إلى ذلك يتمدد، أي التوسع الاستيطاني، في توسع اعتداءات المستوطنين المباشرة على الفلسطينيين، مما يجعلها عوامل تفجير قائمة باستمرار.
لا يمكن النظر إلى هذه العوامل السياسية وما ينجم عنها من علاقات صراعية بمعزل عن الحالة الكفاحية المستمرّة منذ العام 2014، والتي سبق وصفها، والإتيان على بعض مظاهرها في مطلع هذه المقالة، فاستمرار هذه الحالة بوتائرها المتباينة صعودًا وهبوطًا، وتبلور مظاهرة منظمة لها، مع استمرار قوى المقاومة في محاولة خرق المنظومة الأمنية المصمتة في واقع الضفة، هو ما يجعل الدوافع السياسية والاستعمارية العامة، قابلة للتحول إلى شكل أوسع من المواجهة، لاسيما مع الشعور العارم بالجمود المطبق، وعجز الفلسطينيين عن الدفع بأيّ إزاحة في هذا الواقع، سواء في العلاقات الوطنية أم في الصراع مع الاحتلال، مما يحمل على الاعتقاد بأن المواجهة الواسعة قد تكون هي المخرج الوحيد الممكن.
مثبطات المواجهة.
في المقابل، ثمّة مثبطات في الواقع، فإذا كانت ساحة المواجهة الرئيسة التي يُعوّل عليها لإيجاد هذه الإزاحة هي الضفّة الغربية، فإنّها وبالرغم من حالة التململ، وأنماط الكفاح المتنوعة التي تشهدها منذ سنوات، كما سلف بيانه، وبالإضافة إلى نشوء أجيال جديدة متحرّرة من آثار سياسات “كيّ الوعي” التي فرضها الاحتلال أثناء انتفاضة الأقصى، ومتأثّرة بمشهدية الأداء الملحمي للمقاومة في غزّة، فإنّها أي ساحة الضفّة، مكبّلة بمنظومة أمنيّة هائلة، وأدوات ضبط وسيطرة تتحكم بمفاصلها، بما يجعل حركة الفلسطينيين خارج قدرة الاحتلال الاستطلاعية أو الفيزيائية شديدة الصعوبة، وهي منظومة ظلّ الاحتلال يراكمها منذ انتفاضة الأقصى.
وبما أنّ أداء فصائل المقاومة في انتفاضة الأقصى، أفضى إلى استهلاك كادرها الأساس وصفها الأول، وعلى النحو الذي عزّزته عملية “السور الواقي” الإسرائيلية، والتي ظلّت مستمرّة حتى الساعة في إطار سياسية “جزّ العشب”، دون أن تتمكن هذه الفصائل من إعادة بناء نفسها، لاسيما مع تعزيز سياسات تفكيكها بذريعة الانقسام، ثم عجزها تاليًا عن التحايل على هذه المنظومة الأمنية المركبة، فإنّ إمكانية تطوّر أيّ هبة شعبية إلى مواجهة شاملة، دون وجود قوى منظمة قادرة على تأطيرها والحشد لها ودعمها وتطويرها ومدّها أفقيًّا وعموديًّا.. تبقى أمرًا محفوفًا بالتحفّظ والتحوّط.
صحيح أنّ العلاقة بين الهبّات الواسعة، وإعادة البناء في رحمها جدلية، إذ ترفع الأعمال المنظمة من الروح المعنوية وتدفع نحو الانفجار الجماهيري، ثم تعيد القوى المنظمة تأسيس نفسها داخل الحالة، وهذا ما حصل في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987، إذ مهّدت الأعمال المنظمة للانفجار الكبير، كما أعادت الفصائل بناء نفسها مستفيدة من مدّ انتفاضة الأقصى الشعبي، وقد مثّلت بعض الأعمال المنظة فواتح لهبّتي 2014 و2015، إلا أنّ واقع الانقسام الفلسطيني، ووجود سياسة فلسطينية حاكمة في الضفّة الغربية، غير متعاطفة -في ألطف التعبيرات- مع فكرة المواجهة، بالإضافة للمنظومة الأمنية سالفة الذكر، يجعل من القدرة على البناء أو التطوير بالاستفادة من هبّة محدودة أمرًا صعبًا، وهو ما كشف عنه العجز عن تطوير هبّتي القدس 2015 و2021.
الإطار السياسي والاجتماعي العام، لا ينطوي على الدوافع فقط، بل فيه العكس كذلك، فارتباط الدورة الاقتصادية في الضفّة الغربية بالراتب الحكومي، وبالعمالة في المستوطنات والداخل المحتل عام 1948، والتي تشير بعض المعلومات إلى أنها تتجاوز 170 ألف عامل، وهي دورة مرهونة بالكامل لشرط الهدوء المطالب به إسرائيليًّا، بالإضافة إلى جملة سياسات الهندسة الاجتماعية، وتحييد الجماهير، ساهمت إلى حدّ كبير في حصار أيّ هبّة، وفرض المحدودية عليها، ثم القدرة على استيعابها وتفكيكها، ويمكن قول الأمر نفسه في القدس، فالطابع الشعبي العامّ لهباتها، غير قابل بطبعه للاستمرارية دون أطر منظمة تملك القدرة والأدوات على مدّه وتطويره.
المواجهة الشاملة بين موقفين.
الأول المواجهة الشاملة مخرجًا:
بالنظر إلى مجموع العوامل والمثبطات، فإننا لسنا إزاء مسار حتميّ، بيد أنه يجدر التفكّر في وجهات النظر المتباينة حول الدفع نحو مواجهة شاملة مع الاحتلال، إذ ترتكز وجهة النظر الدافعة نحو ذلك، إلى مقدمتين أساسيتين، الأولى، هي الأصل في العلاقة مع الاحتلال، أي العلاقة الصراعية المتسمة بالمقاومة، التي تستثمر في طاقات أبناء الشعب وممكناتهم، والمقدمة الثانية هي حالة الانسداد التي فشل الجميع في فتح نافذة فيها، لا بالمصالحة، ولا بالانتخابات، ولا بالاتفاق على برنامج نضاليّ ممكن، يراعي حتّى المخاوف من مواجهة واسعة قد تنوء بها قدرات الفلسطينيين في ظرف إقليمي غير موات.
ذلك بالإضافة إلى كون “معركة سيف القدس” بمقدماتها ومسارها، كشفت أنّ الإجماع الوطني، على قاعدة المواجهة، والخروج من حالة شلل الفاعلية، هي وحدها القادرة على كبح مسارات التطبيع، واستعادة الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، فالعالم لا يتعاطف مع ضحية مستكينة، ثمّ إنّ الاحتلال يتمدّد في القدس والضفّة الغربية في هدوء مريح، وبالتجربة فإنّ المواجهة الشاملة، كما في الانتفاضتين الأولى والثانية، وحدها التي كبحت خطوات الاستيطان، وفي السياق نفسه، فإنها وحدها التي تكسر سياسات الهندسة الاجتماعية، وتعيد الجماهير إلى موقعها الطبيعي في مواجهة الاحتلال.
يعزّز هذه الرؤية سياسات السلطة الفلسطينية، لاسيما بعد سلسلة من الأزمات الأخيرة، السياسية والإدارية والاجتماعية، فبالرغم من جملة التوصيات والقرارات من داخل مؤسسات منظمة التحرير، كالمجلسين المركزي والوطني، واللجنة التنفيذية، وتوصيات المجلس الثوري لحركة فتح، لإعادة صياغة العلاقة مع الاحتلال على أسس نضالية، وبما يتطلب وقف التنسيق الأمني، وبالرغم من رفع سقف الخطاب في حوادث متعددة، كاعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، وإعلان بنيامين نتنياهو عن مشروعه للضم، والإفصاح عن “صفقة القرن” وانعكاسها في خطوات تطبيع محمومة، فإنّ خطوة نضالية واحدة جدّية لم تدفع نحوها السلطة أو عمودها الفقري حركة فتح.
وعلى المستوى الوطني، ألغت السلطة الفلسطينية الانتخابات المتدحرجة (تشريعية، ورئاسية، وأخرى للمجلس الوطني)، التي اتفقت على الذهاب إليها مع حركة حماس خصوصًا ومجمل القوى الوطنية دون شقّ بديل آخر، يعيد ترميم العلاقات الوطنية، ويصاغ به برنامج نضالي متفق عليه، وكان من نتائج ذلك تكريس السلطة مصلحة لنخبتها، وهو ما تجلّى في أدائها المرتبك في جملة من الحوادث، كمعركة “سيف القدس”، وصفقة اللقاحات منتهية الصلاحية، ومقتل الناشط نزار بنات وكيفية التعامل مع تداعيات مقتله، الأمر الذي يجعل من التعويل على التغيير بالتفاهم معها، أو إصلاحها من الداخل، تكرارًا لتجارب فاشلة، لا تخدمها بنية السلطة وتحولاتها وسلوكها في الواقع، مما يجعل المواجهة مفتاحًا ممكنًا للخروج من الأزمة.
الثاني المواجهة الشاملة مخاطرة:
لا يرفض التحفظ على فكرة المواجهة الشاملة، المقاومة من حيث المبدأ، ولكنه يخشى من استنزاف قدرات الفلسطينيين، بالنظر إلى محدودية ممكناتهم، فهم شعب قليل العدد، في جغرافيا صغيرة، ويفتقر للدعم الخلفي، وقد ظلّت نظريات حرب الشعب في الحالة الفلسطينية محلّ جدال طويل، نتيجة هذه الظروف الخاصّة التي تميّز الفلسطينيين عن غيرهم من أصحاب التجارب الثورية الأممية، وقد زاد الاحتلال إلى ذلك مزيدًا من التقسيم لما هو مقسّم أصلاً، وعزّز تباين الظروف الاجتماعية والسياسية بين الفلسطينية في أقاليمهم المنفصلة عن بعضها، وأحكم منظومته الأمنية، وما يتصل بها من هندسة استعمارية، الأمر الذي قد يجعل من فكرة المواجهة الشاملة عبئًا على الفلسطينيين أكثر مما هو مخرج لهم.
تهتمّ وجهة النظر هذه بسياسات الهندسة الديموغرافية التي ينتهجها الاحتلال، الذي يسعى وبالإضافة إلى إنجاز الهندسة الاستعمارية في البنية المادية، إلى إنجاز الهندسة الاستعمارية في البنية البشرية، بتحويل تجمعات الفلسطينيين إلى بيئات طاردة، ابتداء من القدس، وعبورًا بالضفّة الغربية وغزّة، وإذا كانت ظروف الحصار في غزّة، وانحصار تمثيل السلطة لنخبتها وشبكتها من الظروف الطاردة، فإنّ المواجهة الشاملة التي تفتقر للرؤية ولأدوات تعزيز الصمود.. من شأنها أن توفر للاحتلال المزيد من أدوات الطرد للفلسطينيين، وتفريغ ساحة الصراع الرئيسة من أهلها وكوادرها.
يجدر لأجل تقديم تصور أفضل، محاولة فهم نوايا الاحتلال بهذا الخصوص، فبالقدر الذي يبدو فيه حريصًا على استمرار الهدوء في الضفّة الغربية والقدس، وتعزيز قوّة السلطة فيها، لاسيما من بعد معركة “سيف القدس”، وتبدو فيه إدارة بايدن، كما ظهر من سلوكها في معركة “سيف القدس” كذلك غير راغبة في التصعيد في المنطقة في هذا الوقت، وهو ما يشكّل كابحًا لحكومة “بينت” تحديدًا، فإنّ مواجهة واسعة، يملك فيها الاحتلال ظروفًا لوجستية أفضل، مع فائض في القدرة على التحكم بالواقع الميداني، قد توفّر له كذلك فرصة للهروب للأمام من بعض أزماته السياسية، أو لفرض وقائع سياسية أو استيطانية أو أمنية بمظلة المواجهة، كما أنّ السلوك الأمني والعسكري، قد يبحث عن معارك للانتصار فيها لتعزيز ما يسميه الاحتلال بالردع، ولمنع تطوير أي بنية سياسية أو اجتماعية صلبة للفلسطينيين، ولذلك فإنّ التقديرات التي ترى أنّ الاحتلال بعد انسحابه من لبنان عام 2000؛ كان يبيّت للاعتداء على الفلسطينيين لاسترداد هيبته، والتأكيد على موقعه الاستراتيجي في المنطقة.. تحظى بشيء من الوجاهة.
تحضر هنا بعض المراجعات التي دونها فاعلون مهمون في انتفاضة الأقصى، كما في مذكرات الأسير سليم حجة، أحد قادة كتائب القسام في الضفّة الغربية، والموسومة بـ “درب الأشواك”، والتي انتقد فيها، استهلاك بعض الكوادر المهمين، في العمل الاستشهادي، والتركيز على هذا النمط من العمل على حساب أنماط أخرى، مما جعل المقاومة تفقد القدرة على الاستمرارية المطّردة في مواجهة يملك فيها الاحتلال عناصر التفوق المادي.
خلاصة.
الانسداد الراهن والفشل في إيجاد حلول من خلال البنى القائمة، كالمصالحة في إطار السلطة، أو حتى من خارجها، يدفع للواجهة فكرة المواجهة الشاملة، التي تعوّل على التوتر القائم بأن يتطور إلى حالة أوسع، وعلى الحالة النضالية متفاوتة الوتيرة في الضفّة والقدس، أو على بعض الأعمال المنظمة بأن تطلق شرارة مواجهة شاملة.
كما أن سياسات السلطة التي تغلق الآفاق أمام أيّ حلول إبداعية وطنية تواجه الاحتلال، وتكبح خطواته، وتعيد للقضية صدارتها، وللتعبئة النضالية مكانتها، تجعل من هذه الفكرة حاضرة بقوّة، إذ لا ينبغي الاستمرار في المراوحة في المكان نفسه، وبالتعويل على محاولات لم تزل تفشل منذ العام 2007 وحتى اللحظة، وكان آخرها مشروع الانتخابات الملغاة.
بيد أنّ فكرة انتظار المواجهة الشاملة، أو الدفع نحوها، دون استعداد هي فكرة خطيرة، وتفتقر لأهمّ ما يقوم عليه الفكر الثوري المنظم، الذي يؤسس البنى التي تملك الرؤية والخطة والقدرة، للاستثمار في الهبات الشعبية، ومن الواضح تمامًا أنّ ساحتي القدس والضفّة الغربية تفقدان تمامًا هذه البنى الحاضرة والجاهزة، وهنا يمكن أن يُضاف إلى ذلك، افتقار الفلسطينيين للوحدة التكاملية، لا على مستوى الجغرافيا أو الفرقاء المتخاصمين، فحسب بل على مستوى الفصيل الواحد، بما في ذلك كبرى فصائل المقاومة التي تقوم بنيتها الداخلية على واقع التجزئة المفروض استعماريًّا، ما بين الضفّة وغزّة والخارج، وبما يخلق أولويات مختلفة، ويفتح المجال للكثير من المسلكيات التنظيمية المتعارضة مع حاجة الثورة والمواجهة.
إنّ فهم خطط الاحتلال جيدًا، والقراءة الصحيحة للحظة، واختيار الوقت المناسب، والاستعداد ببنى جاهزة، وأجسام تنظيمية موحّدة، تملك الرؤية والخطة والنظرة التكاملية، وتوفير الموارد لتعزيز صمود الناس في أرضهم، ومعالجة الظروف الطاردة لهم، والاستثمار متعدد المجالات في الكفاءات والطاقات في الداخل، وشقّ مجالات عمل لتعزيز عصامية المجتمع، واستعادة الدور الفاعل لتجمعات الفلسطينيين خارج الأرض المحتلة، هو ما يمكن فعله في هذه اللحظة، حتى تكون أيّ مواجهة قادمة في صالح الفلسطينيين لا في صالح عدوّهم، وهذا حتمًا يحتاج برامج عمل مفصّلة تستند إلى رؤى واضحة يصوغها الفاعلون المعنيون بمواجهة كهذه.