انتخابات المجالس المحلية، قراءة في الفرص والتداعيات
خلفية تاريخية.
طرحت دعوة رئيس الحكومة الفلسطينية “محمد اشتيه” إجراء الانتخابات المحلية والبلدية في غزة والضفة الغربية السؤال مجدداً حول فرص نجاح طرفي المعادلة الفلسطينية من التغلب على العقبات التي تحول دون العديد من الإستحقات الإنتخابية، حيث لم يكن إلغاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس للإنتخابات البرلمانية والرئاسية في مايو الماضي حدثاً عابراً أو أزمة مُستجدة في المشهد السياسي الفلسطيني.
في الاستحقاق الإنتخابي السابق، لجأت السلطة الفلسطينية إلى خيار إجراء الإنتخابات البلدية في الضفة الغربية دون القدس وقطاع غزة، وذلك بعد جملة من التفاهمات بين حركتي فتح وحماس لم تكن كافية لتجاوز عقبات الإنقسام، ورغم وصولهم إلى خطوات متقدمة آنذاك، إلا أن الطعون القضائية على القوائم الإنتخابية في غزة مثلت ذريعة لحركة فتح التي أجلت الإنتخابات البلدية لبضعة أشهر من ثم عقدها في محافظات الضفة الغربية في 13 مايو 2017.
وباقتصارها على مدن الضفة الغربية وخروج حركة حماس من المشهد الإنتخابي، حققت حركة فتح إنتصاراً كان متوقعاً بنسبة 74.8% مقابل اليسار والمستقلين، فكانت الإنتخابات نسخة مشابهة لإنتخابات عام 2012، ولم تنجح السلطة الفلسطينية خلال وجودها الذي تجاوز ربع قرن في عقد أي إنتخابات بلدية حقيقية سوى عام 2005 الذي شهد تنافساً كبيراً بين حركتي فتح وحماس.
شهد عام 2005 على أول إنتخابات بلدية ومحليات في الأراضي الفلسطينية بعد إنقطاع دام لعشرات السنوات، وتحديداً منذ 1976، حيث ظلت مجالس البلديات تُعين بمعرفة الإدارة المدنية الإسرائيلية، إلى أن أنتقل التعيين للسلطة الفلسطينية بعد إتفاق أوسلو عام 1993، وغلب الطابع العشائري على مجالس البلديات والمحليات خلال عهد الإحتلال، غير أن التعيين أخذ بُعداً حزبياً مع قدوم السلطة الفلسطينية.
بفضل إتفاق القاهرة بين الفصائل الفلسطينية عام 2005 تمكنت السلطة الفلسطينية من تحقيق أول إنتخابات بلدية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد أُجريت على أربعة مراحل حققت خلالها حركة فتح 42.6% مقابل 31.6% حققتها حركة حماس، ولم تتجاوز نسبة اليسار والمستقلين أكثر من 25%.
إذا كانت حركة فتح والسلطة الفلسطينية تسير على طريق تجديد شرعيات مجالس البلديات والمحليات عبر الإنتخابات الشكلية أو التي تغيب عنها التنافسية في الضفة الغربية، فإن حركة حماس اتجهت بعد وقوع الانقسام عام 2007 إلى سياسة تعيين المجالس البلدية، لكن قرار مجلس الوزراء في رام الله المتعلق بعقد المرحلة الأولى من الإنتخابات البلدية في 11 ديسمبر المقبل من هذا العام، ثم دعوة رئيس الحكومة لعقد في الضفة الغربية وقطاع غزة، إعتبره البعض مبادرة قد تُبنى عليها تطورات جديدة في المشهد الداخلي الفلسطيني.
حول أهمية الانتخابات البلدية.
إغتنمت منظمة التحرير الفلسطينية الفرصة بالمشاركة في أول إنتخابات محلية وبلدية عام 1972، وذلك بعد سماح الإحتلال بإجراءها حتى عام 1976، وكانت القوى المحسوبة على منظمة التحرير قد شاركت تحت عنوان “الجبهة الوطنية” كبديل عن الإدارة المدنية التي كانت تدير الأحوال المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل إتفاق أوسلو.
ساهمت مشاركة منظمة التحرير حينها في تقليص العناصر الموالية للمملكة الأردنية، وهو ما دفع الإحتلال لإعادة النظر وإلغاء فكرة الإنتخابات فيما بعد، وذلك منعاً للتواصل بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومكونات المجتمع الفلسطيني المختلفة، ولعل خير دليل على ذلك ملاحقة الإحتلال للعديد من رؤساء البلديات في الضفة الغربية “بسام الشكعة – كريم خلف – إبراهيم الطويل ” وهؤلاء أُتهموا بتعطيل ومواجهة التمدد الإستيطاني في الضفة الغربية خلال سبعينات القرن الماضي.
على الجانب الآخر، فإن انتخابات المحليات والبلديات تحظى باهتمام فصائلي كبير يتجاوز الدور الخدماتي لتلك المؤسسات، فما يجري من مشاورات وتفاهمات بين الفصائل الفلسطينية بشأن الإستحقاقات الإنتخابية المختلفة “إنتخابات تشريعية ورئاسية” بات يجري على الإنتخابات البلدية، بمعنى أخر إمكانية نجاح الإنتخابات البلدية لا تتوقف عند قرار حكومي، بل إتفاق فصائلي يتجاوز المواد الدستورية، لهذا فإن مبادرة رئيس الحكومة الفلسطينية تتجاوز الوضع السياسي القائم في الأراضي الفلسطينية.
صحيح أن المحليات والبلديات لا تضطلع بأي دور سياسي مباشر، لكن دورها في التواصل مع المجتمع المحلي يمثل رافداً سياسياً مهماً ومعززاً لوجود أي حكومة فلسطينية في غزة والضفة الغربية، ولا يمكن للسلطة الفلسطينية التحرك والإنتشار في كافة مدن وقرى الضفة الغربية بفعل إتفاق أوسلو الذي حصر دورها في المناطق “أ” التي لا تزيد عن 20% من مساحة الضفة الغربية، لهذا فإنها تعتمد على البلديات والمجالس المحلية للقيام بأدوار خدماتية وتتواصل مع فئات مختلفة من الشعب الفلسطيني، وهذا ما يفسر تضاعف عدد البلديات والمحليات في الضفة الغربية خلال السنوات الماضية، فقبل عام 1993 كان عدد البلديات في الضفة الغربية 24 مجلس بلدي فقط، ووفقاً لأرقام وزارة الحكم المحلي التي تنظم وتراقب عمل البلديات وصل العدد إلى 376 بلدية ومجلس محلي.
ولا شك في أن تضاعف عدد البلديات في الضفة الغربية لا يرتبط بالضرورة بالتمدد والإنتشار السكاني، فهناك جانب سياسي مهم يتعلق بسعي السلطة الفلسطينية إلى خلق حلقات تواصل مع المكونات المجتمعية البعيدة عن مناطق نفوذها، خصوصاً وأن مناطق “ج” في الضفة الغربية لا يتجاوز تعداد سكانها 70 ألف نسمة، وهو عدد لا يُقارن مع مئات الآلاف من المستوطنين الذي يتجاوز تعداداهم في الضفة الغربية والقدس الشرقية نحو 750 ألفاً، في الوقت ذاته فإن قطاع غزة الذي يتجاوز تعداد سكانة حد 2 مليون نسمة، لكن عدد البلديات يتوقف عند 11 بلدية منذ تسعينات القرن الماضي وترفض السلطة الفلسطينية الإعتراف بمجالس محلية جديدة تشكلت بعد الإنقسام الفلسطيني.
إذا تبدو علاقة البلديات والمحليات بالسلطة الفلسطينية مشابهة للامركزية الإدارية، فالبلديات تمثل عامل مساعد على التواصل بين السلطة الفلسطينية والمجتمع المحلي الفلسطيني، وفي نفس الوقت تخفف البلديات من أعباء السلطة الفلسطينية، خاصةً وأن للبلديات مصادر تمويل محلية ودولية تمنحها الكثير من الفاعلية، وهنا لابد من الإشارة إلى “صندوق تطوير وإقراض البلديات والهيئات المحلية” الذي يتلقى تمويل من عدة أطراف “البنك الدولي – الوكالة الفرنسية للتنمية – الحكومة الدنماركية – الوكالة السويدية للتنمية – بنك التنمية الألماني – الوكالة الالمانية للدعم الفني -الوكالة البلجيكية للتنمية – الوكالة السويسرية للتنمية – الإتحاد الأوروبي – اتحاد البلديات الهولندي” إلى جانب الممولين المحليين “وزرارات وجهات حكومية ومنظمات مجتمع مدني”.
ولا شك في أن تمويل تلك الجهات الدولية والمحلية للبلديات يساههم في تخفيف العبء عن كاهل السلطة الفلسطينية، كما يظهر دور الممولين الدوليين في بلديات قطاع غزة، لأن تداعيات الإنقسام التي تظهر في قطاع غزة على مستوى الوزارات والمؤسسات الحكومية وإرتفاع معدلات الفقر والبطالة لا تظهر بنفس الصورة على مستوى البلديات التي تأثرت بدرجة أقل من القطاعات الأخرى.
من ناحية أخرى، فإن سيطرة السلطة الفلسطينية وحركة فتح على غالبية مجالس البلديات في الضفة الغربية، يقابلة سيطرة حمساوية تتبع أسلوب التعيين لرؤساء وأعضاء مجالس بلديات قطاع غزة، خصوصاً وأن البلديات باتت تلعب دوراً مكملاً لمشروع المقاومة التي تقوده حركة حماس في غزة، فالبنية التحتية على سبيل المثال تشكل واحدة من المسائل المعقدة التي تربط بيئة عمل البلديات والمقاومة، لهذا تحرص الأخيرة على تعيين قيادات وطنية لا تتعارض مصالحها مع مشروع المقاومة.
الخلاف حول القرار الأخير.
وفقاً للصلاحيات الممنوحة للحكومة الفلسطينية بموجب قانون البلديات عام 2005 صدر في 7 سبتمبر الماضي قرار عقد المرحلة الأولي من الإنتخابات البلدية في 11 ديسمبر المُقبل لتقتصر على المناطق “ج” على أن تُستكمل المرحلة الثانية في الربع الأول من عام 2022.
لكن صدور القرار بهذا الشكل لا يراعي ظروف الحالة الفلسطينية التي تستوجب خطوات سياسية تسبق القرارات الحكومية، وحتى إن كان قرار الحكومة مرتكزاً على مواد دستورية، فإن الظروف السياسية تتطلب خطوات سياسية، وغياب هذه الأخيرة في ظل تأزم العلاقة بين حركتي فتح وحماس جعل دعوة رئيس الحكومة بإجراء الإنتخابات البلدية والمحليات ليست ذات إهتمام إعلامياً وفصائلياً، لأن قرار الحكومة لم يراعي ظروف الإنقسام، وهذا ما أشار اليه المتحدث بإسم حركة حماس “عبد اللطيف القانوع” مشيراً إلى أن الإنتخابات حق أصيل للشعب الفلسطيني، لكنها بحاجة لمشاورات فلسطينية قبل إصدار أي قرارات حكومية، موضحاً أن حركته تجري مشاورات فصائلية في هذا الشأن.
بدرجة أكثر حدة جاء رد فصائل اليسار لاسيما الجبهة الديمقراطية التي إنتقدت السلطة الفلسطينية بشدة بسبب الإنتقائية في قراراتها وتجاهلها لإستحقاقات إنتخابية سابقة وتركيزها على إنتخابات البلديات في مناطق “ج” وهي مناطق ليست ذات تأثير أو مناطق هامشية لا تتمتع بكتلة سكانية كبيرة، وتجاهلها لمناطق أو مدن كبرى تُشكل أولوية، وهو ما يعبر عن خشية السلطة الفلسطينية وحركة فتح من تكبد خسائر أخرى على مستوى شعبيتها في أوساط الرأي العام الفسطيني.
لهذا يأتي تركيزها على إنتخابات المناطق القروية وتجاهل أو تأجيل المدن الكبرى كمحاولة لقراءة الميول السياسية أو المزاج الشعبي الفلسطيني ومن ناحية أخرى التخفيف من حدة الإنتقادات الداخلية والخارجية الموجهة لها، كما أن دعوة حماس للمشاركة تأخذ بُعداً إعلامياً يسبق خطاب محمود عباس السنوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودائماً تسبق السلطة هكذا مناسبات بأي خطوات شكلية على مستوى الوضع الداخلي تُستخدم في خطاب الرئيس عباس وتقلل من حدة الانتقادات الموجهة له.
هل هناك فرصة؟
تزايدت حدة الإنقسام السياسي خلال الأشهر الأخيرة، خصوصاً بعد إلغاء محمود عباس للإنتخابات البرلمانية، وخطوة إعلان الإنتخابات البلدية في الضفة الغربية ودعوة غزة للمشاركة تأتي بالموازاة مع ذلك التباعد وتزايد مستوى الصراع السياسي، ولو كانت حركة فتح معنية بموافقة حركة حماس على إجراء الإنتخابات المحلية والبلدية لذهبت إلى حوار مُسبق على غرار ما حدث عام 2016، حيت توصل طرفي الإنقسام حينها إلى الكثير من التفاصيل حول مسألة عقد الإنتخابات في غزة والضفة الغربية، ولم يكن قرار تأجيل الإنتخابات حينها، ثم عقدها لاحقاً في الضفة الغربية فقط نتاجاً لخلاف سياسي حولها، بل لإعتراض حركة فتح على الطعون القضائية التي طالت أغلب قوائمها الإنتخابية في قطاع غزة.
في سياق مختلف، يُشير قرار الإنتخابات المحلية والبلدية ودعوة حماس للمشاركة فيها إلى أزمة السلطة الفلسطينية، لأن هكذا خطوة تمثل إستخفافاً بالحالة الوطنية والشعبية، وهذا ما تراه غالبية الفصائل الفلسطينية، خصوصاً وأن السلطة الفلسطينية تحاول إرضاء الأطراف الخارجية، لاسيما الممول الأوروبي الذي يدعم خزينتها بمبلغ سنوي يتجاوز 150 مليون يورو، وهذا الأخير أعلن في 20 سبتمبر الجاري عن وقف الدعم المادي للسلطة الفلسطينية وتلك خطوة تاريخية غير مسبوقة وتمثل جرس إنذار للسلطة الفلسطينية التي سارعت إلى إعلان الإنتخابات البلدية والمحلية والطلب من حركة حماس عقدها في قطاع غزة دون الإلتفات لأي سياق وطني ولا تهيئة مناخات ولا برنامج سياسي أو توافق وطني، وكان واضحاً أن المسعى الأساسي من هكذا خطوة هو ضمان التمويل الأوروبي.
هذه المعطيات لا تجعل حركة حماس متحفزة لقبول دعوة رئيس الحكومة في رام الله، وعلى الأرجح سوف تتجه حركة حماس لخيار الرفض، لكن بطريقة لا تستخدمها حركة فتح ضدها أو تتهمها بتعطيل الإنتخابات، ولا شك في أن مشاورات حركة حماس مع الفصائل الفلسطينية الأخرى يأتي في سياق تشكيل حالة رفض وطني عام، أو يكون رفضها في سياق وطني لا يقبل بطرح السلطة الفلسطينية القائم على إجتزاء وتقزيم الإستحقاقات الإنتخابية عموماً وإنتخابات البلدية خصوصاً، فما أعلن عنه رئيس الحكومة في رام الله يمثل تقزيماً لإنتخابات البلدية في حد ذاتها لأنها إقتصرت على قرى تعتقد حركة فتح انها قادرة على حسمها لصالحها.
وبالحديث أكثر عن السياق الوطني الرافض الذي تسعى إليه حركة حماس والفصائل الأخرى، والجاري تشكيله لمواجهة مبادرة الإنتخابات البلدية يتقاطع مع مواقف تيارات فتحاوية “دحلان” و “ناصر القدوة”، لكن بالنظر للداخل الحمساوي، فإن فشلها في تشكيل حالة الرفض العامة سيدفعها على الأرجح إلى تجاهل المبادرة، خاصةً وأن لقاء قيادة المخابرات المصرية بقيادة الجبهة الشعبية يأتي في إطار معارضة الإقليم لتحالف حركة حماس مع أطراف فلسطينية ظهرت خلال انتخابات نقابة المهندسين وهو ما يقوي من موقف حماس على حساب تيار محمود عباس، لهذا تظهر في رسائل التحشيد داخل حركة حماس رفض تقزيم الاستحقاقات الانتخابية، وترى الحركة أن عباس يعبث بالحالة الفلسطينية، كما تطرح سؤلاً محورياً متعلقاً بالضمانات التي يتوقف عليها نجاح هكذا خطوة، وذلك بعد فشل تجربة الانتخابات البلدية عام 2017، وإلغاء محمود عباس للإنتخابات التشريعية بحجة الإصرار على مشاركة القدس التي يتم تجاهلها الآن في الإنتخابات البلدية القادمة والسابقة.
ختاماً، يفرض سيناريو 2017 نفسه بشدة على الإنتخابات البلدية المُقبلة، ولا يتوقف قرار حكومة أشتيه عند الخلافات والصراعات الفصائلية أو أي رؤية فصائلية عامة يُمكن أن تتبلور خلال الأسابيع القليلة المُقبلة وحتى لو كانت تلك الرؤية عبارة عن تيار رفض عام، لأن إصدار القرار على هذه النحو، ثم دعوة رئيس الحكومة لمشاركة غزة تبدو رسالة موجهة للخارج ومحاولة لإسترضاء الموقف الدولي وإعادة التمويل لخزينة السلطة الفلسطينية التي تُعاني من أزمات مالية متلاحقة.