مقالات بحثية

البحث عن بديل للولايات المتحدة في رعاية عملية التسوية

بدت نوايا الرئيس الأميركي تجاه الملف الفلسطيني واضحةً منذ فترة ترشّحه، إذ هدّد بإغلاق مكاتب منظمة التحرير في واشنطن، ما لم تتنازل الرئاسة الفلسطينية عنّ موقفها من الانخراط في مفاوضاتٍ مباشرةٍ واحداث نتائج «إيجابية» مع الاحتلال، محملًا الفلسطينيين مسؤولية تعثّر المفاوضات. وقدّ تُرجمت أقواله الى أفعال بعد أنّ امتنع عنّ اصدار المذكّرة الخاصة بتمديد عمل بعثة المنظمة في واشنطن لستّة شهورٍ جديدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، الأمر الذي رفع الصفة الرسمية عنّ المكتب، إذ بات يعمل خارج إطار القانون.

مضى ما يُقارب العامين على فترته الرئاسية، ولا زالت تسود توجّهات الرئيس الأمريكي حيال الملف الفلسطيني إجراءات غير متردّدة، تُزهَق فيها حقوق الفلسطينيين لصالح الاحتلال، كما أفصح عن توجّهه لإجبار الفلسطينيين على الانخراط في مفاوضاتٍ من شأنها تصفية القضية الفلسطينية على نحوٍ يخدم الطموح الصهيوني على صعيدٍ استراتيجي، الأمر الذي جعل بحث الفلسطينيين عنّ بديلٍ حقيقيٍ للولايات المتحدة كراعٍ لعملية السلام أمرًا لا بدّ منه.

مؤشرات الميل الأميركي لدعم الاحتلال على حساب حقوق الفلسطينيين:

ـ الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال:

في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017، اعترفت الإدارة الأميركية بالقدس عاصمة للاحتلال «الاسرائيلي»، مع تأكيدها على نقل سفارتها إليه، وعلّل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هذه الخطوة بالرغبة في تسريع إتمام عملية السلام في الشرق الأوسط، والتوصل إلى حلٍّ دائم.

يُذكر أنّ الكونغرس الأميركي كان قدّ أقرّ خطوة نقل السفارة الأمريكية لدى الاحتلال إلى القدس مُنذ عام 1995، لكنّ رؤساء الولايات المتحدة المتتاليين أجّلوا المصادقة عليها، وبطبيعة الحال، يأتي قرار إدارة ترامب على نحوٍ مخالفٍ لجميع القرارات الدولية، والتي تشدّد على ضرورة بقاء «القدس الشرقية» عاصمةً لدولةٍ فلسطينية مُنتظرة.

كان من اللافت تضمّن قرار ترامب دعمًا غير واضح لخيار حلّ الدولتين، الأمر الذي يضع الفلسطينيين أمام حالةٍ من الغموض حول عاصمتهم المستقبلية وفقًا للتوجّهات الأميركية الجديدة. إلا أنّ الامتناع السائد من قبل الدول المؤثرة على تبني الخطوة الأميركية في نقل السفارة كان بمثابة بريق أملٍ للفلسطينيين في سياق نيل دعم دوليٍ يقف على النقيض ممّا تحاول الادارة الأميركية فرضه في معادلة الصراع، والذي تضرب به جميع القرارات الدولية السابقة بعرض الحائط. وتُعدّ هذه الخطوة إحدى أهمّ الخطوات التي تؤكّد دعم إدارة ترامب لتوجّهات الاحتلال، وإنّ كانت قدّ أعلنت عن المدينة عاصمةً للاحتلال منذ احتلالها عام 1967.

إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن:

لم يُصدر ترامب في تشرين الثاني/نوفمبر من العام المنصرم شهادة التصديق المطلوبة لتمديد عمل مكتب منظمة التحرير في واشنطن. وفي 10 أيلول/سبتمبر 2018، أصدرت الخارجية الأميركية بيانًا بخصوص المكتب، قالت فيه: «بعد تحليلٍ دقيقٍ، قرّرت الادارة إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.” مشدّدة على أنّ الولايات المتحدة لا زالت ترى في المفاوضات المباشرة بين «الطرفين» السبيل الوحيد للسير إلى الإمام، محذرةً منّ «استغلال إجراءاتها من قِبل الذين يسعون إلى منع التوصّل إلى اتفاق سلام»، وهذا ما يحمل في طياته، على الأرجح، تهديدًا شديد اللهجة للسلطة الفلسطينية يحذّرها من محاولة البحث عن طريقٍ آخر أو راعٍ بديل لعملية السلام. ولعلّ مهاجمة مستشار الأمن القومي، جون بولتون، في 11 أيلول/سبتمبر، أيّ بعد يومٍ واحدٍ فقط من اتخاذ قرار إغلاق مكتب المنظمة لمحكمة الجنايات الدولية، ومطالبته بفرض عقوباتٍ على قضاتها، يأتي في سياق حماية مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها. الأمر الذي يوحي بما لا يدع مجالاً للشكّ توجهًا أمريكيا واضحًا لدعم الطموح الصهيوني في ظل المحاولات على إرغام المجتمع الدولي ككلّ على ذلك.

فلسطينياً، ووجِهت الخطوة باستنكارٍ شديد، فقدّ صرّح أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات حينها، وبحسب ما نقلته وكالة «وفا»، بأنّ: «هناك هجمةٌ تصعيديةٌ مدروسة ضدّ الفلسطينيين، وسيكون لها عواقب سياسية وخيمة في تخريب النظام الدولي»، مضيفاً أنّ: «هذه الخطوة جاءت كعقابٍ للسلطة الفلسطينية التي تواصل عملها مع المحكمة الجنائية الدولية ضدّ جرائم الحرب “الإسرائيلية”».

العزوف عن المساهمة في دعم الأونروا:

أقدمت واشنطن، 30 آب/أغسطس، على تجميد 150 مليون دولار منّ حجم مساهمتها في تمويل «الأونروا»؛ ما جعل الأمر مثار تساؤل عنّ جوانب وتبعات هذا القرار، الذي يأتي في إطار إعلان الإدارة الأميركية نيّتها الدفع بحلٍ نهائيٍ يصبّ في صالح الاحتلال، لا سيما بعد اتّهام منظمة التحرير الفلسطينية واشنطن بالسعي لتصفية القضية الفلسطينية ولا سيما حقّ العودة.

 دوافع البحث عن بديل للطرف الأميركي:

ـ المؤشرات المذكورة أعلاه، والتي تزيد الخناق على الحقوق الفلسطينية.

ـ عدم قبول واشنطن فعليًا في أيّ مرحلة منّ مراحل عملية السلام قيام دولة فلسطينية مُستقلة، إذ كان ذلك أحد شروطها لعقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.

ـ ممارسة واشنطن سياسة الحرب النفسية الابتزازية «الديماغوجية» القائمة على التلويح بفرض عقوباتٍ سياسيةٍ واقتصادية في حال أراد الفلسطينيون صُنع أيّ تحركٍ دولي من شأنه خدمة قضيتهم.

البدائل الدولية:

تزامن الحديث حول بحث منظمة التحرير الفلسطينية عنّ راعٍ جديدٍ لعملية السلام كبديل للولايات المتحدة مع اتخاذ واشنطن سلسلة إجراءات صارمة بحق الفلسطينيين. غير أنّ التحرك الفعلي في هذا الاتجاه، ظهر قبل الاجتماع الدوري للجمعية العامة في الأمم المتحدة، حيث اتجه الرئيس الفلسطيني إلى باريس، في 21 أيلول/سبتمبر 2018، ملتقيًا الرئيس الفرنسي، قبل التوجّه إلى أعمال الجمعية العامة، حيث طرح هناك مبادرته الهادفة لمؤتمرٍ دوليٍ للسلام.

ـ فرنسا:

ربما تُفهم جولة الرئيس محمود عباس في سياق محاولاته تكثيف الجهود الدولية الداعمة لمبادرته، لكنّ تمثّلت مطالبه عند لقائه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنّ تعمل أوروبا، لا سيما فرنسا وألمانيا، على توفير رعايةٍ دوليةٍ بديلة عنّ الرعاية الأميركية الحصرية وفقًا لما أشار إليه مرافقون في جولته، لصحيفة الحياة.

لم تكن المحاولة الفرنسية خالية من أيّ نتائج، إذ قدّم الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، مقترحًا بعقد مؤتمرٍ دوليٍ للسلام، والذي عُقد بالفعل في كانون الثاني/يناير 2017، بمشاركة 70 دولة، لكنّ كان لغياب طرفي الصراع، السلطة الفلسطينية والاحتلال، أثرًا سلبيًا في سياق تحقيق نتائج مرجوّة لعملية السلام. الأمر الذي أظهر فرنسا كلاعبٍ غير مؤثّر في الصراع.

لمّ تمتلك فرنسا قوةً ونفوذًا كافيين، من شأنهما دفع الطرفين حتى للمشاركة، وإذا ما حاولت السلطة الفلسطينية، في الوقت الحالي، الاستنجاد بقوى دولية مثل فرنسا، فليس بوسع فرنسا امتلاك قوة رادعة أو هيبة تأثيرية تُجبر الاحتلال على الالتزام بمخرجات أيّ حراكٍ دوليٍ خارجٍ عن الارادة الأميركية. بالإضافة الى ذلك تُعتبر محاولات فرنسا للعب دورٍ حيويٍ في المنطقة بمثابة اللعب في الوقت الضائع، حتى وإن كانت في سياق استعادة دورًا محوريًا مؤثرًا على الساحة الدولية في إطار مشروعها، والذي بات يتبناه الاتحاد الأوروبي «توحيد شطري البحر المتوسط» أو «الاتحاد من أجل المتوسط» في إطار تكتّلاتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ متناغمةٍ، توفّر للاتحاد الأوروبي منافذًا بحرية ودورًا حيويا في المنطقة والعالم.

في المقابل، تظلّ الهيمنة الأميركية الصارخة في منطقة الشرق الأوسط، والتي تأتي في إطار السيطرة العُظمى، والتي تحول دون تحوّل «مبادرات الوقت الضائع» الفرنسية لملء الفراغ الناجم عنّ تراجع الدور الأميركي، نسبيًا، في المنطقة، وتحوّله نحو توجيه دعمٍ كاملٍ للاحتلال.

لقد باتت دول المنطقة مرتبطة بديناميكيات أميركا المُتربّعة على عرش المنطقة، كقوة عُظمى منذ فترة طويلة من الزمن، وهو ما يعزّز فرضية اتباع فرنسا دورًا تكميليًا، لا يتعارض كثيرًا أو لا يخرج عن المسار الأميركي. كما أنّ للتاريخ الحديث تأثيرًا على حاضر المنطقة، حيث أُصيبت فرنسا بحالة من الصدمة إبان العدوان الثلاثي على مصر، حين اعترضت الولايات المتحدة الأميركية عليه، وهدّد الاتحاد السوفيتي بالتدخل العسكري لوقفه، إذ شعرت فرنسا وبريطانيا، معًا، أنّ دورهما التأثيري الاستعماري في المنطقة بات من الماضي، ويُتوقع أنّ تتجنب فرنسا الخوض في أيّ محاولات تضعها في موقف محرج من جديد أمام الولايات المتحدة.

ولعلّ في استهداف الاحتلال لمفاعل تموز النووي في العراق، مطلع الثمانينيات، والذي كان تحت رعاية فرنسية، دون أنّ تحرك ساكنًا لردع الاحتلال عنّ استهدافه، خير مثال على نكوص دورها وضعفه أمام نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وخاصة الاحتلال «الإسرائيلي».

أخيرًا، تحتّل منطقة أفريقيا الدرجة الأولى في سلّم أولويات السياسة الخارجية الفرنسية، فتلك المنطقة تُعتبر حديقتها الخلفية، ولها ما لها فيها من مصالح أمنية وسياسية واقتصادية واسعة، وعليه يصعب توقّع أنّ تُبرز فرنسا دورًا فعّالًا في منطقة الشرق الأوسط، كدرجة أولى منّ توجّه سلّم أولوياتها، نظرًا لكثرة المنافسين، وانعدام تأثيرها الكامل في المنطقة.

ـ ألمانيا:

انطلاقًا من دورها الأخير في رعاية مفاوضات صفقة تبادل الأسرى، والتي تمّت بين حماس والاحتلال «الإسرائيلي» عام 2011، فقدّ يُنظر إلى ألمانيا كبديلٍ محتملٍ لرعاية عملية السلام. لكن لا تختلف حالة ألمانيا كثيرًا عنّ الحالة الفرنسية، بلّ ويُمكن اعتبار فرنسا ذات فاعلية وتأثير أكثر على الساحة الدولية، مقارنةً بألمانيا، والتي وإنّ باتت تُمثّل زعامة الاتحاد الأوروبي، ضمنيًا، إلاّ أنّها لا زالت تُناور تحت عباءة النفوذ السياسي والعسكري الأميركي الفعلي فوق أراضيها، فلا يُعقل أنّ تتولّى دولة، لا زالت تحت عباءة دولةٍ عُظمى، رعاية ملفٍ ترعى الدولة العُظمى الراعية له، الولايات المتحدة، مصالح أحدّ حلفائه، وهو الاحتلال «الإسرائيلي».

تسير ألمانيا وفقًا لسياسة التوازن أو ما يسمّى بعدم الانحياز في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط عامةً، وخاصة في ملف الصراع الفلسطيني– «الإسرائيلي»، حتى وإنّ أظهرت في بعض الأحيان تحيزًا لطموح الاحتلال، إلاّ أنّها، مُنذ ستينيات القرن الماضي، تُظهر توازنًا في توجّهها حيال القضية. فبينما تدعم المشاريع التنموية لصالح الفلسطينيين، وتعترض على استخدام الولايات المتحدة أراضيها لتزويد الاحتلال بالأسلحة أو المُستلزمات اللوجستية التي تُستخدم في «النزاعات»، ووقوفها على الحياد في الحروب الكبيرة بين العرب والاحتلال الصهيوني، ورفضها للتوغّل الاستيطاني في الضفة الغربية، إلا أنها لا زالت تؤكّد على التزامها «الأخلاقي» في تعويض الاحتلال عنّ مجازر الهولوكوست والدفاع عنّ وجوده وأمنه. بلّ وتصوّت في المحافل الدولية لصالح القرارات التي تخدمه، كتصويتها ضدّ قرار إدانة الصهيونية ونعتها «بالعنصرية». بالإضافة إلى ذلك فإنّها لمّ تعترف حتى اللحظة بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولة مُستقلة، كما أنّها لمّ تدعم قرار قبول فلسطين كعضوٍ مراقِب في الأمم المتّحدة، حيث امتنعت عنّ التصويت، ولمّ تعترف حتى اللحظة بدولة فلسطين.

إنّ انعدام التأثير الدبلوماسي الواسع لألمانيا في الساحة الدولية وإظهارها لسياسة التوازن، قد يُنظر إليه، أي التوازن، على أنه غير حقيقي، بل ويُظهر انحيازاً لصالح الاحتلال، خاصة في ظل تشابك بعض ملفات الدبلوماسية الألمانية مع الاحتلال، وانعدام قوتها في امتلاك سلاح الشرعية الدولية، الذي يعني صوت «فيتو» في مجلس الأمن، وغيره منّ العوامل التي لا تشجع منظمة التحرير للتوجه إلى ألمانيا كبديلٍ للولايات المتحدة، وإنّما النظر إليها «كشريك مُكمّل» في دعم فرنسا، لدفع الاتحاد الأوروبي نحو دعم بعض الحقوق الفلسطينية والضغط على الاحتلال ودفعه لقبول مبادرات دولية، ليس بالضرورة أنّ تكون الولايات المتحدة على رأسها.

ـ بريطانيا:

لقد لعبت بريطانيا الدور التاريخي الأكبر في مسار القضية الفلسطينية، حيث رسّخت سلطتها الانتدابية في فلسطين عام 1917، وبسياساتها المقصودة وغير المقصودة ميلاد الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، وعلى الرغم من مرور سنواتٍ عديدة، إلا أنّ بريطانيا لا زالت تنحاز لمصالح الاحتلال، وخير دليلٍ على ذلك، احتفالها السنوي بذكرى إصدار وعد بلفور، بالرغم من طلب منظمة التحرير منها الاعتذار عنّ هذا الوعد الذي يُوصف، من قبل المنظمة بالظالم.

لكن رفضها لسياسة الاستيطان، وخلافها مع سياسة الاحتلال حول الملف الإيراني، وتصويتها ضدّ قرار ترامب فيما يتعلق بالاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال، قدّ يعيد النظر إليها كقوة يمكن أنّ تلعب دورًا وسيطًا في الصراع.

إلا أنه ومن الناحية الأخرى، فيُتوقع أنّ تتّجه السياسة البريطانية، بعد الانفصال عنّ الاتحاد الأوروبي، نحو المزيد من الانحياز والتأييد للاحتلال، بحسبان أنّ الأخير من «الدول» العشرة الأولى التي بادرت لطرح إمكان توقيع اتفاقية تجارة حرّة معها، بعد انفصالها عنّ الاتحاد الأوروبي، وتزداد أهمية مكانة الاحتلال «الإسرائيلي» الاقتصادية لبريطانيا، في ظلّ كونها المستورد الثاني الأكبر لبضائع الاحتلال بعد الولايات المتحدة.

ربّما تكون بريطانيا بحاجة لتوقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية جديدة مع الولايات المتحدة، بعد انفصالها عنّ الاتحاد الأوروبي، ما يعني صعوبة توقّع جنوح بريطانيا للعب دورٍ حيويٍ يُنافس التوجّه الأمريكي، لا سيما في ظلّ أزمتها الدبلوماسية والجيوسياسية مع روسيا، على خلفية اغتيال الأخيرة لأحد عملائها على الأراضي البريطانية، وعلى خلفية ميل روسيا للتوغل في حوض شرق البحر المتوسط، والذي تمتلك بريطانيا فيه قاعدةً عسكريةً في قبرص، اذ يُعدّ نقطة نفوذٍ هامة لبريطانيا والغرب وكيان الاحتلال المحاذي للحوض، ما قد يدفع بريطانيا والاحتلال للنظر في توحيد الجهود لتحقيق المصالح المُشتركة ضدّ روسيا. ولعلّ التدريبات الجوية العسكرية المُشتركة التي أقامها الطرفان العام الماضي، خير دليلٍ على محاولتهما للتقارب ورفع مستوى التنسيق في حوض شرق البحر المتوسط.

وإذا ما تمّ النظر لسياسات حلف «الناتو» الكلّية، والتي تُعدّ بريطانيا أحد أهمّ ركائزه، حيال الشراكة مع الاحتلال، فان ذلك يُصعّب من إعادة توجيه السياسة الخارجية البريطانية لرعاية المفاوضات بما يصبّ في الصالح الفلسطيني، فالسياسات العليا التي تربط بين بريطانيا والاحتلال في ملفات التعاون الأمني والاستخباراتي والاقتصادي، أكبر وأهمّ منّ إيلائها أهمية لإظهار الجانب الأخلاقي في دعم الحقوق الفلسطينية.

بالإضافة الى ذلك، فإنّ سيطرة الحزب المحافظ على مقاعد البرلمان البريطاني، وفي ضوء تغيّر أولويات مركز الاهتمام الدولي، لا سيما الأوروبي، حيال الشرق الأوسط من النظر في الصراع الصهيوني ـ العربي والفلسطيني، إلى الحرب ضدّ الإرهاب، فإنّه منّ الصعب تصوّر إقدام بريطانيا على لعب دور الوسيط كبديل للإدارة الاميركية في الوقت الحالي.

ـ روسيا الاتحادية:

نظرًا للتنافس التاريخي بين واشنطن وموسكو، تَظهر موسكو كأبرز المنافسين لواشنطن في سياق الحديث عنّ بديل للولايات المتحدة في عملية السلام. خاصة في ظل سعيها الحثيث لتحقيق أهدافها في إعادة روح تعدّد القطبية على الساحة الدولية، ويُستند هذا الطرح على توجّه موسكو لسياسة خارجية قائمة على نظرية جيوسياسية استراتيجية تُعرف باسم «الأوراسيانية»، والتي يطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين. تلك الاستراتيجية التي تُشير إلى ضرورة تكامل روسيا مع أعمدة القوى البرّية الدولية والإقليمية، لتُصبح قادرة على مواجهة القوى البحرية التي يتسنّمُها حلف «الناتو»، وليُصبح لها المقدرة على الوصول إلى المياه الدافئة في أوراسيا، والتي تُعدّ قلب العالم، وبذلك يتعزّز وجود ما يُطلق عليه «النظام العالمي الأوراسي» الجديد.

في ظلّ التوجّه الروسي الحالي نحو تثبيت أركان نفوذه بالاعتماد على بعض أعمدة الأقاليم وحيوية الأهمية الجيوسياسية، لا سيما حوض شرق البحر المتوسط وسوريا ومصر وليبيا؛ يجعل ذلك روسيا أمام منافسةٍ مُحتدمةٍ مع القطب الغربي الذي يدعم الاحتلال، والذي لا يرى في موسكو دولةً عُظمى، بلّ دولة كُبرى يمكن إخضاعها للتفاوض حول مصالحه، أيّ مصالح الاحتلال، من خلال التلويح بالركون إلى الولايات المتحدة.

لعلّ دور الاحتلال الواضح في سوريا، والذي أرغم، إنّ صحّ التعبير، موسكو على التنسيق معه، ومنحه الحرية في استهداف القوات الإيرانية وقوات حزب الله في سوريا، خير دليلٍ على مدى إدراك موسكو لأهمية أمن الاحتلال بالنسبة للولايات المتحدة، وعليه، يبدو من الصعب توقع إعادة إحياء روسيا لذات الدور التاريخي في دعم القُطب الفلسطيني والعربي ضدّ الاحتلال. بالإضافة إلى عدم مقدرتها على لعب دور الوسيط المؤثّر في الصراع، في ظلّ ركون الاحتلال للشرعية الدولية التي يوفرها له «الفيتو» الأميركي.

لمّ يستطع الاتحاد السوفياتي حتى في أوج قوته تقديم رؤية لحل الصراع ودفع الطرفين الأميركي و«الإسرائيلي» للقبول بها ولوّ جزئيًا، وعليه يبدو أنّه من الصعب جدًا على روسيا، والتي لا تساوي قوّتها الحالية القوة التي كان عليها الاتحاد السوفياتي، تقديم خطة ناجعة للحلّ، وتجدر الإشارة إلى أنّ روسيا ترى في الاحتلال دولة ذات سيادة. لذا فإنّها ترى حقّ عودة الفلسطينيين انتهاكًا لهذه السيادة، كما أنّها تقبل حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني لكن على نحوٍ لا يُهدّد أمن الاحتلال، وانطلاقًا من هذه المعادلة، لم تُخالف مُعاهدة «أوسلو»، والتي تنافت مع القيمة المُتعارف عليها في القانون الدولي.

ـ الجمهورية الصينية الشعبية:

تتجه أنظار الجمهورية الصينية حيال منطقة الشرق الأوسط انطلاقًا من مشروعها العالمي المعروف باسم «حزب واحد ـ طريق واحد»، ويرمي هذا المشروع الاستراتيجي إلى إعادة إحياء «طريق الحرير» القديم عبر شبكة طرق تجارية تمرّ عبر جنوب آسيا، لتربط الصين بدول جنوب وشرق آسيا والشرق الأوسط وصولاً إلى تركيا.

ويقوم هذا الهدف النابع من نظرية إنشاء روابط اقتصادية وثيقة تمنح الدول فائدةً متبادلة، تجعلها مقرّبة من بعضها على صعيدٍ أمنيٍ وسياسيٍ أيضًا، وتوثّق الروابط التجارية والاقتصادية والتمويلية والأمنية بين الدول المُشاركة، بقيادة الصين التي أسّست صندوقًا استثماريًا برأس مالٍ يُقدّر بمليارات الدولارات لتمويل المشاريع في الدول الأخرى.

يشمل مشروع «طريق الحرير» ميناء حيفا المحتلّة، لذا، ووفقًا للتوجّه الاستراتيجي الصيني، فإنّه من الصعب توجه الصين للعب دورٍ مستقل أو موازٍ لدور الولايات المتحدة في حلّ القضية، حيث أنّ الاحتلال يُشكّل إحدى أهمّ ركائز مشروعها.

من الجدير ذكره قيام السفارة الصينية في بيروت، في 11 كانون الأول/ديسمبر 2017، نشر بيانًا يتضمن موقف بلادها من القضية الفلسطينية. ووفقًا للبيان، فإنً الرئيس الصيني، شي جينبينغ، يتبنى الآراء التالية:

ـ الإيمان بحلّ الدولتين، وهذا ما ينفي حقّ العودة وغيرها من الحقوق الأخرى.

ـ دعوة الاحتلال لإيقاف الاستيطان على الأراضي المُحتلّة وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334.

ـ تعزيز الجهود السلمية المُشتركة، ودعم كافة الجهود التي تُساهم في حل قضية فلسطين سياسيًا.

ـ اتخاذ إجراءات مُتكاملة وتعزيز السلام عبر تحقيق التنمية.

تمعّنًا في النقاط المذكورة أعلاه، يتضح أنّ الصين لا تتبنى دورًا كاملاً في تولّي ملف رعاية حلّ القضية، بلّ ترمي إلى دعم الجهود الدولية. بالإضافة الى أنّها، كما روسيا والدول الأخرى، لا تتبنّى الرؤية الفلسطينية فيما يتعلق بحقّ عودة اللاجئين والحقوق الفلسطينية الأخرى. وأخيرًا، فانه لا يُمكن التعويل على الصين التي تولي السلام الاقتصادي؛ أيّ التنمية التي تولد أواصر اقتصادية وأمنية وسياسية مترابطة على نحوٍ متينٍ بين دولٍ كبيرةٍ أولوية قصوى، كدولةٍ يمكن أنّ تتبوأ دورًا هامًا في رعاية تسوية القضية.

خاتمة:

يبدو أنّ تجاوز الولايات المتحدة الراعي الأوّل للقضية الفلسطينية، أمر نظري لا يحاكي الواقع. فالولايات المتحدة لا زالت تتسيّد دورها القيادي لمسار العلاقات الدولية حول العالم، وعليه، يبدو أنّ الميل «لدورٍ دولي تكاملي» تدعم فيه عدّة دول حلّ القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى إصلاحٍ حقيقيٍ للبيت الفلسطيني، بحيث يُظهر نوعًا من التماسك أمام دول العالم، والتي لا تدري كيف تتعاون مع الفلسطينيين، قد يفيا بالغرض لتوفير بديلٍ نسبيٍ للولايات المتحدة لرعاية الصراع.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق