خيارات الاحتلال في غزة في ضوء اتفاق التهدئة
جاء الإعلان عن التوصّل إلى اتفاقٍ للتهدئة بين حركة حماس والاحتلال برعايةٍ مصرية ليطرح تساؤلًا حول خيارات الاحتلال في غزّة، في ظلّ وجود فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة وما تشكّله منّ تهديدٍ أمنيٍ للاحتلال. في ضوء التفاهمات الأخيرة التي تبلورت، وأدّت إلى اتفاق التهدئة، لا بدّ من دراسة خيارات الاحتلال التي دفعته للدخول في هذه التهدئة، وفي ضوء هذه الخيارات يُمكن تحديد مستقبل التهدئة في قابل الأيام:
الخيار الأوّل: الإبقاء على حالة الحصار الحالي المستمر منذ أنّ سيطرت حماس على قطاع غزة في عام 2007، حين فرضت إسرائيل طوقًا أمنيًا وحصارًا اقتصاديًا شاملًا، كانت قدّ ظهرت آثاره السلبية على كافة مناحي الحياة، ومع اندلاع ثلاث حروب في ظلّ هذا الحصار فقد تحوّل الوضع في القطاع إلى حالةٍ مأساوية، ومع بدء الإجراءات التي فرضتها السلطة الفلسطينية تحت شعار إعادة السيطرة على قطاع غزة ازداد الوضع الاقتصادي في قطاع غزة سوءًا، ليصل إلى حالةٍ كارثيةٍ كادت أن تؤدّي إلى انفجار الأوضاع الداخلية في قطاع غزة، لكن مع اندلاع مسيرات العودة وازدياد التوتر على الحدود، نتيجة الاحتكاك والمواجهات الجماهيرية مع قوات الاحتلال، إضافة إلى الهجمات بوسائل متعدّدة، كان لها التأثير الأكبر في دفع الاحتلال إلى إعادة التفكير في استمرار الحصار الحالي على غزّة؛ وبذلك نجحت المقاومة في قطاع غزة في استثمار الحراك الشعبي، وتحويله إلى أداة ضغطٍ على الاحتلال، وهذا الأمر الذي دفع حكومة الاحتلال برئاسة «نتانياهو» وبضغطٍ من مؤسسة الجيش إلى التراجع عن هذا الخيار.
الخيار الثّاني: توجيه ضرباتٍ عسكريةٍ قويةٍ لحركة حماس وفصائل المقاومة، عبر القصف بالصواريخ والطائرات من دون الدخول البرّي إلى قطاع غزة، وتهدف هذه السياسة إلى استنزف حماس وإضعاف قُدرات جهازها العسكري وشلّ قدرة مؤسساتها المدنية على العمل في قطاع غزة، وفي هذه الحالة، ربّما يُقتل عددٌ كبير من عناصر وقيادات حركة حماس، وسيكون الاحتلال في مواجهة تنظيمٍ مسلحٍ من دون رأسٍ سياسيٍ يعمل في الميدان، وبالتّالي فإن فقدان العنوان لهذه الحالة ربّما يؤدّي إلى الفوضى، وهو أمر يخشاه الاحتلال لأنّه سيدفعه ثمنًا لإضعاف سلطة حماس، والقيادات السياسية والأمنية للاحتلال تُدرك أنّ سلطةً ضعيفةً في غزّة، لا تستند إلى قوةٍ عسكريةٍ ضامنةٍ لحالة الاستقرار، لا يُمكنها السيطرة وإدارة القطاع، خاصة في ظلّ انتشار التنظيمات الصغيرة والتي ليس لها مقدّرات يُمكنها أن تخشى عليها، وغياب العنوان الذي يُمكن أنّ يتوجّه إليه الاحتلال عبر تحميله المسئولية عنّ الهدوء، لذلك فإن الاحتلال سيفقد ورقةً مهمةً في التعامل مع الجهة المُسيطرة على القطاع، وهي المقايضة على الحفاظ على السلطة وعلى المقدّرات مقابل الهدوء. ولذا فإن خيارًا مثل هذا الخيار مرفوض منّ قبل الجهات الأمنية والسياسية.
الخيار الثالث: مُقايضة الهدوء بالهدوء من دون الدخول في أيّ اتفاق تهدئة، بمعنى الاعتماد على عصا الاحتلال الغليظة، والردّ على أيّ عملٍ مقاومٍ يخرج منّ غزّة بالقصف على قطاع غزة، وخاصة أهداف المقاومة وأهدافٌ اقتصادية في قطاع غزة كلّما وقع حادثٌ هنا أو هناك، وهذا الخيار غير عملي، لأنّه لنّ يحلّ مشكلة الأمن، لا على «الغلاف» ولا داخل المدن الرئيسية، والتي أصبحت تقع تحت مرمى صواريخ الفصائل المسلّحة في غزّة، ويتناقض مع المصالح الإسرائيلية التي تسعى إلى توفير الأمن الدائم للمستوطنين، وعليه فإنّ هذا الخيار هو النموذج الأقرب لتصورات «ليبرمان»، وهي لمّ تحظى بدعم جمهور العدو، والذي حجب عن حزب «ليبرمان» عددًا من المقاعد، مما أدّى إلى خسارته مقعدين وهبوط عدد مقاعد حزب «إسرائيل بيتنا» من 7 مقاعد إلى 5 مقاعد.
الخيار الرابع: اعادة احتلال قطاع غزّة، وهذا الخيار تمّ دراسته في هيئة أركان جيش الاحتلال، والتي خلُصت إلى نتيجة أنّ احتلال غزّة سيُكلّف جيش الاحتلال حوالي 400-500 قتيل وأضعاف هذا العدد من الجرحى، والذي قدّرته الجهات المختصة بحوالي 5000 جريح ، علاوة على الخسائر المادّية، فالأمر لنّ ينتهي عند هذا الحدّ، لأنّ قوات الاحتلال ستضّطر إلى فرض سيطرتها على الأرض، وتقوم بعملية تطهيرٍ في قطاع غزّة، مما سيكلّف جيش الاحتلال خسائر فادحة لا يُعرف حجمها ولا يعرف متى سينتهي استنزاف الجيش طوال فترة وجوده في قطاع غزة؟، خاصة وأنّ قطاع غزّة يعجّ بالمقاتلين المدججين بكافة أنواع الأسلحة، والمدرَبين على أعمال المقاومة بكافة الظروف والأحوال، وفي ظلَ وجود شبكات الأنفاق تحت الأرض، والتي يتحرك خلالها المقاتلون ويتنقلون من مكانٍ إلى آخر، ممّا سيزيد من التكلفة، وبالتالي سيُعقّد مهمّة جيش الاحتلال في فرض سيطرته على قطاع غزّة. لذلك، لنّ تجد لدى الاحتلال مَن يُفكّر بإعادة احتلال غزّة، لهذه الأسباب والتي تقف على رأسها التكلفة المادية والبشرية. ثاني هذه الأسباب هو الوضع المعيشي في قطاع غزّة، حيث تظافر الكثافة السكانية مع ندرة الموارد في هذه القطعة المحدودة من الأرض حوّل قطاع غزّة إلى كابوسٍ دائمٍ لدى السياسيين والأمنيين والمفكرين الصهاينة، وهُنا، من المُفيد التذكير بأنّه خلال الانتفاضة الأولى نٌقلت تصريحاتٌ عنّ رئيس وزراء الاحتلال «اسحاق رابين» في أكثر من مناسبة القول بأنّه يتمنى أنّ يستيقظ من نومه ليجد غزّة قدّ ابتلعها البحر. ممّا حذا بالجهات الفكرية للبحث عنّ مخرجٍ من الوضع في قطاع غزّة، وهنا، يُشار إلى أنّ مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة «تل أبيب»، والذي كان يُطلق عليه اسم مركز «يافا»، قدّ أصدر في عام 1990 دراسةً حول الحلول المُقترحة لحلّ القضية الفلسطينية، وتمّ طرح فكرة الانسحاب من قطاع غزّة منّ جانبٍ واحدٍ، في حال فشل الاحتلال في التوصّل إلى حلٍ مع الفلسطينيين، وقدّ دعا الباحثون في هذه الدراسة إلى إيجاد مسارٍ سياسيٍ يؤدّي إلى الانسحاب من قطاع غزّة منّ طرفٍ واحدٍ، والعمل على تسليمه لطرفٍ فلسطينيٍ بعيدًا عنّ ادارة الاحتلال، وقدّ برّر أصحاب مقترح التخلّص من قطاع غزّة الكثافة السكانية الكبيرة، حيث كان وقتها عدد السكان يبلغ 650 ألف نسمة وكانت التقديرات بأنّه بحلول عام 2000 سيكون عدد سكان قطاع غزة حوالي مليون شخص، والآن، كيف سيكون الحال مع بلوغ عدد السكان حوالي 2 مليون نسمة؟!.
الخيار الخامس: التوصل إلى تهدئة، وهو الخيار الأكثر منطقية، فمِن الناحية النظرية تبدو حكومة الاحتلال برئاسة «نتانياهو» عاجزة عنّ فرض ارادة الاحتلال على قطاع غزّة من دون الدخول في حربٍ لا ترغب بها، وبدى موقف الاحتلال أكثر ارتباكًا، وهذا ما عبّر عنه أكثر من مسؤولٍ سياسيٍ وعسكري من الأكثر اطلاعًا على مسألة التعامل مع قطاع غزّة، فقد نقلت صحيفة «إسرائيل هيوم» عنّ القائد السابق للمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال الجنرال «تال روسو» القول: «إنّنا لا نملك سياسةً محددةً تجاه غزّة، لأنّنا في كلّ دقيقةٍ نُغيّر سياسةً مختلفةً، وبتُ مقتنعًا أنّه لابد لإسرائيل من المبادرة لاتخاذ الخطوة الأولى لحلّ المشكلة القائمة في القطاع»، وأضاف: «أنّنا لنّ نحلّ مشكلة غزّة صباح غدٍ، ولكنّ إنّ لم نقمّ بالخطوة الأولى فإنّ هذا الوضع سينفجر في وجوهنا نحن»، كما ونقلت صحيفة «معاريف» عن الجنرال «يسرائيل زيف» القائد الأسبق لفرقة غزة، إنّ: «الوضع القائم في غزّة يتطلب من «إسرائيل» اتخاذ قرار واضح، فإمّا التوصل لتسوية مع حماس، أو إعادة احتلال كلّ القطاع، بمعنى آخر، إمّا التوصّل لوقفٍ لإطلاق النار، أو إسقاط سلطة حماس، والتوقّف عنّ لعبة البينغ بونغ مع الحركة في غزة». بعد أنّ جرب الاحتلال الخيارات السابقة مع قطاع غزة، ولمّ يعد في صندوق خيارات الاحتلال أيّ خياراتٍ إبداعيةٍ قادرةٍ على فرض سياسته بالقوّة وحدها، شعر حبنها بالحاجة للبحث عن خياراتٍ بديلةٍ يمكن من خلالها تحقيق أهداف الاحتلال في قطاع غزّة، والتي يقف على رأسها في المرحلة الحالية، على الأقل، تحقيق الأمن والهدوء على الجبهة الجنوبية بعد أكثر من 12 عامًا منّ حالة الاضطراب على الحدود، بالرغم من حالات الهدوء على فتراتٍ متقطعةٍ، خاصة في أعقاب كلّ مواجهةٍ كبرى كانت تندلع بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال يظهر خيار التهدئة الأكثر منطقية والأكثر واقعية، خاصة بعد أنّ فشلت الخيارات التي تعتمد على منطق القوة العسكرية، ومع ارتفاع تكلفة تنفيذ هذه الخيارات على أرض الواقع، خاصة بعد نجاح المقاومة في تطوير قُدراتها العسكرية، فلمّ يعد أمام حكومة الاحتلال إلا الذهاب إلى خيار التهدئة، وباتفاقٍ مع المقاومة في قطاع غزّة، وهذا يعني بالمقام الأول التوصل إلى تفاهماتٍ بين الطرفين، تضمن استمرار هذه التهدئة لفترةٍ من الزمن يمكن أنّ يتفق عليها الطرفان، ومعنى ذلك، تنازل الاحتلال عنّ مواقفه السابقة في التعامل مع حماس بمنطق الاستئصال إلى منطق التعايش مع «الشرّ» الذي تمثّله حماس، فبالرغم منّ أنّها تمثل تهديدًا خطيرًا لكنّه لا يمكن أنّ يصل إلى التهديد الوجودي لكيان الاحتلال، وفي ظلّ الحاجة إلى حفظ الأمن والهدوء على الجبهة الجنوبية فيتوجب على الاحتلال دفع ثمن ذلك، من خلال الموافقة على تخفيف الحصار المفروض على قطاع غزّة .
ما يعزّز هذا التوجه هو القناعة التي تُبديها قيادة الجيش، والتي توصي بها على قاعدة المهنية والخبرة، بأنّ الحلّ الأمثل هو تخفيف الحصار عن قطاع غزّة وتفكيك الأزمة المعيشية، لمنع انفجار الأوضاع في قطاع غزّة في وجه الاحتلال، وهذا ما كان يدعو له رئيس الأركان السابق «غادي أيزنكوت»، واليوم يقف بقوّة رئيس الأركان الجديد «أفيف كوخافي» ليدعوا بوضوحٍ شديدٍ إلى ضرورة تخفيف الحصار عن قطاع غزّة إلى أقصى درجة ممكنة، وفي حديثه إلى موقع «والا» العبري تحدّث إلى ضرورة الذهاب بعيدًا في تخفيف الحصار على قطاع غزّة من أجل تثبيت الهدوء .
لقدّ أثبتت الأحداث الأخيرة حالة الانقسام داخل مجتمع الاحتلال حول سياسة حكومة الاحتلال تجاه غزّة والتي تتماهى مع توجّهات الجيش بالعمل على التوصل إلى التهدئة في غزّة، في ظلّ معارضة بعد السياسيين من اليمين واليسار، وتوظيفهم لحالة الارتباك في سياسة حكومة الاحتلال تجاه غزّة في سوق المُزايدات خلال الجولة الانتخابية الأخيرة، والتي أسفرت عنّ فوزٍ كبيرٍ لحزب الليكود بقيادة «نتانياهو» والذي أعلن تبنّيه خطًّا براغماتيًا في التعامل مع غزّة من خلال الاستعداد للتوصّل إلى تفاهمات للتهدئة وتجنّب الدخول في حربٍ جديدة، وبالرغم منّ الهجمات الصاروخية التي طالت العاصمة الاقتصادية للاحتلال مدينة «تل أبيب»، في المقابل، فشل منافسيه السياسيين والذين استخدموا ورقة الحرب على غزّة وتقويض سلطة حماس كورقةٍ دعائيةٍ لهم في الانتخابات، أمثال وزير التعليم السابق «نفتالي بينيت» والذي فشل حزبه في الحصول على نسبة الحسم ودخول «الكنيست»، وكذلك خسران حزب «إسرائيل بيتنا» بقيادة وزير الدفاع السابق «أفيغدور ليبرمان» مقعدين في الانتخابات، والذي كان يدعو بصراحة إلى مواجهةٍ شاملةٍ مع حماس ومن ثمّ استئصالها، والذي استقال من الحكومة بسبب احتجاجه على سياسة «نتانياهو» الحالية، كلّ ذلك يشير إلى أنّ المزاج الشعبي داخل مجتمع الاحتلال لا يميل إلى التوجّه إلى حربٍ جديدةٍ في غزّة، وهذا يعني أن خيار التهدئة هو الأكثر قبولًا لدى جمهور الاحتلال.
خلاصة القول، أنّ الاحتلال وفي ظلّ حاجته للأمن وغياب أيّ مصلحة له في غزّة سواء ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، وصعوبة تحقيق خيارات الحسم في غزّة، بما ينطوي عليها منّ تعقيدات وتكلفة باهظة، يبقى التوجّه الحالي والذي يتبناه رئيس الوزراء الحالي والمكلّف للحكومة القادمة هو خيار الذهاب إلى التهدئة وتنفيذ متطلبات التهدئة التي تمّ الاتفاق عليها.