الحكومة الجديدة: على حد البقاء ودون النجاح
أدّت حكومة الدكتور محمد اشتية في الثاني عشر من الشهر الحالي اليمين القانونية أمام الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، لتُشكّل بذلك الحكومة الثامنة عشر مُنذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وبعيدًا عمّا يحمله رئيسها من قدراتٍ، أو ما يتمتّع به من شبكة علاقاتٍ أو دعم، تقف أمامها مسؤولياتٍ جمّة، وتعترضها عقباتٍ عدّة قد تُشَّكل حائلاً أمام تحقيقها للإنجازات المنوطة بها، أو المُتوقَعة منها، ويُمكن من خلال تقدير الموقف هذا، التعرّض لأبرز المتغيرات التي تُعتبَر موانع إنجاز أمام الحكومة الحالية:
أولاً: رفع عالٍ لسقف التوقّعات
منذ بداية تكليف الدكتور اشتية بتشكيل الحكومة، تمّ رفع سقف ما هو مطلوب من الحكومة كما جاء في كتاب التكليف الرسمي من الرئيس عبّاس، والذي طُلب فيه إعادة غزّة إلى حُضن «الشرعية» الوطنية، والإسراع في إجراء الانتخابات التشريعية في كلّ محافظات الوطن، وترسيخ التعدّدية والديمقراطية، وهذه أزماتٌ قائمة أساسًا، منذ العام 2007م، ولمّ يتم التوصّل لحلٍ لها رغم تبدّل الحكومات، وتعدّد المتدخلين، وهي أمورٌ يعتمد الحلّ فيها بشكلٍ أكبر على الرئيس الفلسطيني، وقوى أخرى داخل فتح ومنظمة التحرير. وبقدر ما يُراد تقديم تنازلاتٍ، يُمكن إهداء الحكومة فرصًا للنجاح في هذا الإطار.
ثانيًا: قبول تكليف باسم فتح
أتى تشكيل الحكومة مختلفًا عنّ سابقاتها بالنظر الى حالة الاسناد من قبل الرئاسة، لعضو لجنة مركزية منّ حركة فتح، وهذا نابعٌ من قناعة دوائر صنع القرار العُليا في السلطة الفلسطينية، أنّ حركة فتح تحمّلت مسؤولية انعدام قدرة الحكومات السابقة على تحقيق الإنجازات، رغم وجود اختلاف على انتماء رئاستها للحركة، ممّا خلق تيارًا يعتقد أنَّ بإمكان فتح تحمّل أعباء رئاسة أيّ حكومة قادمة، طالما أنّ اللوم في كلّ الحالات يُلقى على كتف الحركة، وكان هذا واضحًا منّ خلال خطاب قبول رئاسة الحكومة من الدكتور اشتية، والذي وجّه رسالته للرئيس محمود عباس ليس باعتباره رئيسًا لمنظمة التحرير أو الشعب الفلسطيني، وإنّما باعتباره رئيسًا لحركة فتح.
يخضع هذا الخيار لاعتبارين أساسيين، فهو، وإنّ كان تحمّلاً فعليًا لفتح، ووقوفًا أمام مسؤوليتها كفصيلٍ وازنٍ في الساحة الفلسطينية، إلاَّ أنّ فشل الحكومة في تحقيق أيٍّ ممّا أُنيط بها، قدّ يعني اهتزازًا في شعبية الحركة، وفقدانًا لثقة الشارع فيها.
ثالثًا: أزمات مُرحّلة
جاء تشكيل الحكومة في ظلّ أزماتٍ بنيويةٍ عميقةٍ يُعايشها النظام الفلسطيني، والمشروع الوطني برمّته، وهي أزماتٌ مُرحّلة من حكوماتٍ سابقة، تراكمت لتستعصي على الحلّ أمام الحكومة الحالية، بدءًا منّ اقتصار دور السلطة الفلسطينية على كونه وظيفيًا إداريا في المناطق التي تُسيطر عليها، بفعل عوامل مركّبة ذاتية وخارجية، وهذا ما يجعل من الحكومة إداريةً بالدرجة الأولى، مهمّتها الأساسية تجاوز الأزمات التي أُلقيت على عاتقها قبل تشكّلها.
رابعًا: لا توافق كامل
تمّ تشكيل الحكومة الفلسطينية الحالية لتكون حكومة وحدة وطنية، تضمّ أكبر قدرٍ من الفصائل الفلسطينية في ثنايا تشكيلتِها، وهذا أمرٌ لمّ يحصل في ظلّ عدم الاتفاق مع الفصائل الوازنة في الشارع الفلسطيني على المشاركة فيها، كحركة حماس والجبهة الشعبية والديمقراطية، فيما شاركت فيها فصائل صغيرة مختلفة. وأيًا كانت دوافع عدم مشاركة الفصائل الفلسطينية، وبعيدّا عنّ الاتهامات، فهذا يضع الحكومة أمام خسارةٍ لشرائح كبيرة من الشارع الفلسطيني مؤازرة للفصائل غير المشاركة، في حين أنّ أحوج ما تُريده الحكومة الحالية هو دعمٌ شعبي فلسطيني أمام توحشٍ احتلالي متعاظم.
خامسًا: بيئة حاضنة متخلخلة
تُعاني الحكومة الحالية بصورةٍ واضحة، منّ ضعف البيئة الحاضنة لها، عربيًا وإقليميًا، فقد أتى تشكيلها في ظلّ عزوفٍ عربي واضحٍ عنّ دعم القضية الفلسطينية على عكس مراحل سابقة، وفي وقتٍ تتناغم فيه العديد من الدول العربية مع سياسات الاحتلال «الإسرائيلي»، وتتزايد فيه فرص التطبيع. هذا كلّه يجعل الحكومة الحالية في أزمةٍ حقيقية، يعتمد الخروج منها على مقدار التعاون مع سياسات الدول العربية الداعمة، والتي يسودها حالة من عدم الانسجام مع توجهات السلطة الفلسطينية الحالية.
سابعًا: تغولٌ احتلالي
على الأغلب، ستتمتع حكومة نتنياهو التي يتمّ تشكيلها الآن، بعد فوزه الأخير في الانتخابات بقوةٍ ودعمٍ إسرائيلي شعبي كبير، لأنّ وصول نتنياهو نفسه أتى نتيجة لهذه العوامل، والأيام القادمة قدّ تحمل على الأغلب تطرفًا متزايدًا من الحكومة الإسرائيلية القادمة تجاه الفلسطينيين، خاصةً في ظلّ دعمٍ أمريكي واضح لها، الأمر الذي يعني أنّ الحكومة الفلسطينية ستواجه منحنيات تدهورٍ أكثر خطورة وحدّة في المستقبل، خاصةً وأنّ نتنياهو نفسه يسعى لمحاولات ضمّ الضفة وقضمها قدر استطاعته.
ثامنًا: أزمات مالية متصاعدة
من المهمات الأساسية التي تقع على عاتق أيّ حكومةٍ فلسطينية الإيفاء بالالتزامات المالية، وهذا محور الاهتمام الشعبي بها في ظلّ تراجع القدرة على تحقيق مكاسب وطنية باتت صعبة المنال، نظرًا لما حصل في السنوات الأخيرة من انحسار الدور المؤثّر للسلطة الفلسطينية. وفي حال عجز الحكومة عن القيام بذلك، فسيضعها هذا أمام اختبارٍ حقيقي في مواجهة شعبٍ تمّ تفكيك بُناه الاقتصادية وربطه بالرواتب المقدمة.
وفي ظلّ انحسار موارد توفير هذه الرواتب، وإصرار الاحتلال على سياسته، لا تظهر بوادر حدوث انفراجٍ سريعٍ في الأزمة المالية. كما ويعتمد نجاح الحكومة على مقدار ما تنتهجه من سياسيةٍ تقشفية، وسياسات شفّافة، تُشرك فيها الشعب الفلسطيني للخروج من أزمتها الحالية ونيل ثقته، وهو الأمر الذي خسرته الحكومات السابقة، وتوسَّعت على إثره الفجوة بينها وبين الشعب الفلسطيني.
أمام موانع إنجاز التغيير وتحقيق ما يُتوقع من الحكومة الحالية أدائه، يُمكن الحديث عن مجموعةٍ من المداخل التي قدّ تخفّف الثقل عنها، أو تفتح الطريق أمامها كبدائل، من شأنها تقليص حدّة المعطيات السلبية التي تُحيط بها:
أولاً: صياغة مقاربة جديدة لكيفية التعامل مع الاحتلال
حتى تستطيع الحكومة الحالية الثبات واستعادة ثقة الشارع، والتي تقلّصت تدريجيًا بشكل تراكمي على إثر ما انتهجته الحكومات السابقة، يتطلب الأمر صياغة مقاربة جديدة لكيفية التعامل مع الاحتلال، وهذا لا يأتي إلا بالبدء بتطبيق قرارات المجلس الوطني، والانفكاك عنّ الاحتلال، وعدم التمسك به كشريان حياة يُغذّي الفلسطينيين، والابتعاد عنّ بقايا أوسلو، بحيث لا تكفي الرؤية التي أثبتت أنّ أيّ ضغطٍ على الفلسطينيين يواجَه بمزيدٍ من الصمود دون عمل، وإنّما يُفترض أنّ يكون العمل سابقًا على الصمود كأولوية لدى الحكومة. هذا السيناريو، يبدو ممكنًا العمل على تطبيقه، ولو جزئيًا، نظرًا لحجم الضغوط التي تُمارس على الرئيس محمود عباس، والتي تحوّلت إلى صراعٍ بينه وبين الإسرائيليين من جهة، وإلى شعورٍ بالخذلان من الانحياز الأمريكي من جهة أخرى، الأمر الذي قدّ يجعل موقفه منّ التغيير أمام رئيس الحكومة أكثر مرونة.
يمثل هذا المدخل العديد من عوامل القوة للحكومة، فعليًا، سيعيد جزءًا منّ ثقة الشارع، ويؤكّد على أنّ التعامل مع الاحتلال بات جدّيًا، ويغيّر الموقف تجاه الحكومة كجسم صوري تنفيذي تابع للرئيس.
ثانيًا: العلاقات الدولية وشدّ أطراف الاحتلال
يسعى الاحتلال خاصةً بعد فوز حكومة نتنياهو وضمن تسريباتٍ مختلفةٍ إلى سنّ قوانين تهدف لضمّ الضفة الغربية، وهو أمرٌ مفترض مع تعنّت الاحتلال الحاصل، والذي أحاط نفسه بشبكةٍ قويةٍ من العلاقات مع الطرف الأمريكي، والأطراف الأخرى المُماثلة له، في الوقت الذي افتقدت فيه الحكومات الفلسطينية السابقة بالإضافة إلى خسارتها الكثيرٍ من العلاقات التي كانت تُشكّل فٌرصًا لثني الاحتلال عنّ تنفيذ قراراته، كروسيا والصين والهند وغيرها. من هُنا، وُضعت الحكومة أمام أولويةٍ حقيقية متمثّلة في إعادة التوجّه نحو هذه الدول بطرقٍ مغايرة، بحيث يُصبح زخم العلاقة محفزًا نحو التأثير.
ثالثًا: المصالحة أولوية
اتّسمت العلاقة السائدة بين الحكومة السابقة والأطراف الفلسطينية الأخرى كحركة حماس بنوعٍ منّ الشدّة في استخدام المصطلحات، ووصلت إلى مراحل متقدمة من الصدام وفرض الشروط لإتمام المصالحة. بحيث شهدت الفترة الأخيرة للحكومة جفاءًا منقطع النظير في مراحل المصالحة. الأمر الذي يُمكّن رئيس الحكومة الفلسطينية من استغلال مجموعة من السمات التي قدّ تدفع باتجاه السير نحو المصالحة، كخطوةٍ سريعة تستدعي الاهتمام، مثل تمتّعه بدعمٍ منّ أعضاء متعدّدين في مركزية فتح يُمكن استغلال نفوذهم في دعم جهود إنهاء الانقسام. وهذا الملف في حال تتويجه بالمصالحة، أو على الأقلّ بانتخابات، يُمكن أنّ يُعتبر نقطة تحولٍ فعلية في مسيرة العمل السياسي الفلسطيني، بحيث يحقّق رئيس الحكومة مكسبًا شخصيًا ونجاحًا عجز عنه مَن سبقه، ويُعيد لفتح حجمها في الشارع كطرف مؤثرٍ في إدارة الصراع مع الاحتلال.
الخلاصة
تشكّل مجموعة الظروف التي وُضعت الحكومة الفلسطينية الحالية في سياقها عواملَ ومتغيراتٍ تدفع بها نحو مآزق متوقّعة، أبرزها، ارتفاع سقف التوقّعات التي أُحيطت بها، ومواجهة أزماتٍ مالية فعلية مستمرة، بالإضافة لكونها حكومة تتربّع على رئاستها حركة فتح، والتي وضعت بذلك نفسها أمام مسؤولياتٍ متعدّدة يصعب انجازها، نظرًا لأنَّ سياستها السابقة أخفقت في ذلك، وهذا يحتاج، إذا ما أرادت الحكومة الحالية النجاح، تحولاً فعليًا في سياسة حركة فتح الداعم الأول لها.
وبالرغم من ذلك، فإن بعضًا من الفرص تلوح في الأفق بالنظر الى استمرارية هذه الحكومة، ولكن ليس بالضرورة نجاحها، والتي تتمثّل أهمها في الدعوة التي قام بها وزراء الخارجية العرب من أجل خلق شبكة أمانٍ مالي للسلطة الفلسطينية، وتُقدّر بمائة مليون دولار شهريًا من ناحية، وظهور أصواتٍ عدّة في الكونغرس الأمريكي تُطالب بدعم السلطة الفلسطينية من ناحيةٍ أخرى، بالإضافة إلى موقف بعض دول الاتحاد الأوروبي الأخيرة، والتي جاءت رافضة للسياسات الإسرائيلية.