مقالات بحثية

دولة غزة الكبرى بين الوهم والحقيقة

في الآونة الأخيرة، كثر الحديث عن حلولٍ سياسيةٍ قادمة، تقوم على توسيع مساحة قطاع غزة غربًا، باتجاه الأراضي المصرية الحدودية، ضمن ما يُعرف ب«صفقة القرن»، بالرغم من النّفي الأمريكي الذي جاء على لسان المبعوث الأمريكي جيسون «جرينبلات» لأيّ تمددٍ وتوسيعٍ لحدود قطاع غزة على حساب الأراضي المصرية أو بالاتفاق معها.

الغريب أنّه خلال فترةٍ وجيزة كانت قدّ أصدرت أكثر من جهةٍ إعلاميةٍ تقاريرًا عنّ خططٍ وُضعت لضمّ مساحاتٍ من أراضي سيناء إلى قطاع غزة، وقدّ نُشرت خرائط متنوّعة لصورة القطاع في المرحلة القادمة، واشتركت جميع تلك الخرائط بتمدّد مساحة قطاع غزة إلى المنطقة المحصورة ما بين رفح المصرية والعريش.

نظرة تاريخية على المبادرات تجاه غزة

يعتقد البعض أنّها المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني التي يتمّ فيها طرح مبادرة لإقامة دولةٍ فلسطينية في قطاع غزة تستوعب اللاجئين الفلسطينيين، لكنّ عدّة مبادرات ومشاريع دولية واحتلالية صهيونية ظهرت سابقًا لاستغلال أزمة غزة الإنسانية كمدخلٍ للحلّ الإنساني والسياسي، كانت على النحو التالي:

أولاً: المبادرات الدولية

1-مبادرة غزة عام 1949: طُرحت مبادرة عام 1949 من جانب الولايات المتحدة بالتعاون مع بريطانيا، تقوم على توسيع غزة في مناطق النقب، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إليها، فيما عُرف وقتها ب«مبادرة غزة»، لكنّها رُفضت في حينها من قِبل الاحتلال، لأنّها كانت تشترط عودة 150 ألف لاجئ فلسطيني إلى الأرض المحتلة عام 1948 من جهة، وتوسيع قطاع غزة شرقًا في صحراء النقب. الأمر الذي رأى فيه «بن غوريون» و«موشي شاريت» وزير الخارجية الصهيوني آنذاك خطرًا على كيان الاحتلال، سيؤدي إلى سيطرة العرب على النقب وميناء «إيلات» الحيوي، كما أن الاحتلال لا يمكنه أن يمنح الدول العربية تنازلاتٍ إقليمية لمّ ينجحوا في الحصول عليها بطريقة الحرب، لذلك أُجهضت الفكرة في مهدها، ولم يمرّ عام1949 حتّى تخلّت الولايات المتحدة عنّ المبادرة.

2-مبادرة التوطين 1953: وهي المبادرة التي تمّ الاتفاق عليها بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» في 14 تشرين الأول 1953، والتي يُقضى بموجبها أنّ تقدّم الحكومة المصرية 230 ألف فدان من الأراضي الصحراوية بهدف خدمة اللاجئين في قطاع غزة في مجالات الاسكان والزراعة والتطوير، بحيث يتمّ نقل 59500 ألف نسمة لهذا الغرض في المرحلة الأولى، ويُمكن نقل 85000 نسمة لاحقًا. لكن هذا المشروع أُجهض أيضًا نتيجة الموقف الشعبي الفلسطيني الرافض له.

3-مشروع جونسون: وهو مشروع لم تتمّ مناقشته بصورةٍ معمّقة كما هو الحال بالنسبة للمشاريع السابقة، واقتصر الأمر على نقاشٍ بين الحكومة المصرية ووفدٍ أمريكي أرسله الرئيس «جونسون» في مطلع الستينات من القرن الماضي بهدف إعمار شمال سيناء وتوطين اللاجئين الفلسطينيين هناك.

ثانياً: مشاريع العدو الصهيوني

في ظلّ الفشل الذي تواجهه المفاوضات الفلسطينية مع الاحتلال الصهيوني منذ أكثر من ربع قرن، والتي تقوم على أساس دولةٍ فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جانب دولة كيان الاحتلال، وفي ظلّ تعنّت الاحتلال ورفضه الانسحاب من الضفة الغربية، وإجراءاته لتمزيق الوحدة الجغرافية في أراضيها وعن نيته بضمّ أجزاء كبيرة منها إلى كيانه الاحتلالي صار من المستحيل أنّ تتشكّل الدولة الفلسطينية الموعودة إلى جانب غزة. لذلك عاد الحديث، مرة أخرى، عنّ دولة في غزة لإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية؛ على اعتبار أن غزة هي الدولة الفلسطينية، عبر تبادل الأراضي بين العدو الصهيوني وغزة ومصر، بهدف ضمّ مساحاتٍ إضافية لقطاع غزة تتراوح ما بين 600 -720 كم² إضافة لمساحته البالغة 365 كم²، وكل هذه الأرض ستُخصّص لحلّ مشكلة الاكتظاظ السكّاني في قطاع غزة، علاوة على استيعاب اللاجئين الفلسطينيين من بعض الدول خاصة لبنان، وقدّ برزت الأفكار الصهيونية على النحو التالي:

1-مبادرة إيجال آلون 1967:  التي جاءت بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وقدّ طرحت المبادرة فكرة توطين اللاجئين من سكان قطاع غزة في شمال سيناء ضمن خطة عُرفت باسم مشروع «إيجال آلون»، من دون النظر إلى قبول مصر أو رفضها للمشروع نظرًا لسيطرة الاحتلال على سيناء.

2- مشروع شارون 1971: وهو مشروع غير متكامل، لأنّه لمّ يُقدم رؤيةً سياسية حول الموضوع، فقط، تمّ نقل آلافٍ منّ الأسر الفلسطينية بعد هدم منازلهم في قطاع غزة، ضمن خططٍ أمنية لفرض السيطرة التامة.

3- خطة غيورا إيلاند: دعا رئيس مجلس الأمن القومي للاحتلال عام 2004 إلى أن تتنازل مصر عن مساحة 600 كم² من أراضيها لضمّها إلى قطاع غزة مقابل تعويضها ب 200 كم² من النقب المحتلّ شمال غرب «إيلات»، بحيث تُساهم هذه المنطقة بتوصيل مصر مع الأردن، ممّا سيُحقّق منافع اقتصادية لكلًا من مصر والأردن ودول الخليج، عبر إيجاد ممرٍ إلى البحر المتوسط لتصدير النفط إلى أوروبا.

4- مبادرة نتانياهو 2010: التي كَشف عنها الرئيس المصري السابق حسني مبارك خلال لقاءٍ صحفي، وادّعى أن رئيس الوزراء الصهيوني نتانياهو قدّ عرض عليه الفكرة عام 2010 خلال زيارته للقاهرة، والذي دعا في حينها إلى منح الفلسطينيين أراضي من سيناء ليقيموا عليها دولتهم، لكنّ الرئيس مبارك رفض في وقتها الفكرة ورفض الحديث في القضية برمتها.

5- خطة هيشوع بن آرية 2013: الرئيس السابق للجامعة العبرية والذي دعا في خطّته إلى تبادل الأراضي بين مصر والاحتلال وفلسطين، على أنّ تتنازل مصر عن أراضي لنقل السكان اللاجئين من قطاع غزة إلى المنطقة الواقعة بين رفح حتى العريش، وأنّ تحصل مصر على أراضي مماثلة في صحراء النقب، في المقابل يحصل الاحتلال على ما يقارب 40-60% من مساحة الضفة الغربية.

وفي ظلّ ما يقدّمه السياسيون وما تُنتجه مراكز البحوث والمفكّرين الأكاديميين الصهاينة من أطروحات حول هذه الفكرة، فقدّ أصبح النقاش في فكرة أمرٍ لا مناص منه، ويحتاج إلى الوقوف أمام التحدّيات التي يُمكن أنّ تواجه تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع.

عند الوقوف وتحليل كلّ هذه الخطط المُعلن عنها، وما تحتويه من خرائط على كافّة أشكالها حول إمكانية تطبيق فكرة تمدّد غزة سواء باتجاه شاطئ البحر أو على طول الحدود مع الأرض المحتلّة وصولًا إلى البحر الأحمر، وجلب لاجئين فلسطينيين إلى هذه المنطقة؛ يمكن التساؤل حول جملة من الافتراضات، والتي تجعل من الصعب تحقيق هذا الأمر بالصورة التي يتم طرحها، وهي على النحو التالي:

1- تمدّد حدود غزة حتى العريش يطرح تساؤلًا مهمًا؛ كيف يُمكن للاحتلال أنّ يقبل بتمدّد حدود غزة البحرية 40 كم إضافية لتصبح 90 كم، في وقتٍ يواجه فيه تحدياتٍ كبيرة من الناحية الأمنية في مواجهة إطلالة قطاع غزة على البحر، فهلّ يُمكن أنّ يقبل بإضافة 50 كم أخرى؟، يظلّ الأمر مشكوك فيه ولا يستقيم مع طبيعة تفكيره الأمني.

2- إذا كان الاحتلال الصهيوني يُعاني من حدوده مع قطاع غزة، والتي يبلغ طولها حوالي 60 كم، فهلّ يقبل أنّ تصل الحدود 220 كم أخرى؟، وهذا ما لا يمكن لأحدٍ في الكيان الصهيوني أنّ يقبل به.

3- من الناحية الجيو-استراتيجية فإنّ تمدّد قطاع غزة يُضيف تحدياتٍ على الأمن الصهيوني منّ جهة القدرة على السيطرة والمراقبة. فالاحتلال عجز خلال مواجهاته، في الحروب الثلاث، مع قطاع غزة في تحديد مواقع إطلاق الصواريخ، بالرغم منّ صغر مساحة القطاع الجغرافية، فكيف به أنّ يُراقب القطاع عندما تتمدّد مساحته لتصل إلى 1000كم² أو أكثر من ذلك كما تشير الخرائط؟.

4- لا ُيمكن للاحتلال والذي يسعى دائمًا إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها أنّ يكون لديه خططًا لجلب المزيد من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي المجاورة لها، لأنّ هذا يتناقض مع طبيعة المشروع الاستيطاني الصهيوني في أرض فلسطين، ولأن الاحتلال لا ينظر إلى الأمر من زاوية حلّ مشكلة لدولةٍ ما أو حلّ مشكلة اللاجئين أنفسهم، بل ينظر إلى الأمر من زاوية التهديدات المحتملة [جلب اللاجئين من خارج الأراضي الفلسطينية] على مستقبل كيانه وتأثير الوضع الديموغرافي الفلسطيني على أمنه الحالي والمستقبلي.

5- بالرغم من الحديث عنّ رغبةٍ صهيونية بفصل غزة عن الضفة، إلّا أن الاحتلال لا يرغب بإقامة دولةٍ فلسطينية لا في الضفة ولا في غزة أيضًا، من دون أنّ تتحقّق مطالبه بالتنازل التاريخي عنّ الحقوق الفلسطينية في الأرض أو عودة اللاجئين والسيطرة اليهودية على الأماكن المقدسة، ولذلك فهو يضع شروطًا يستحيل معها التوصّل إلى حلٍ سياسي نهائي لقطاع غزة. لذلك تظلّ الحلول الاستراتيجية مع غزة غير ممكنة حتى اللحظة، ولا يُوجد في الأفق ما يدلّل على إمكانية قبول الاحتلال إقامة دولة في غزة أو التفكير بمدّها بسبل الحياة سواء على المستوى الجغرافي أو على المستوى السكاني، وعليه فسيستمر بالتعامل مع قطاع غزة بأنّ تظل هنالك إمكانية للحياة بالحد الأدنىمنع تكرار انفجار غزة في وجهه، دون التفكير في إقامة دولة فلسطينية.

وما يدفع الاحتلال إلى عدم القبول بهذه الدولة أيضًا؛ تجربة أوسلو وما آلت إليه الأمور عندما انفجرت انتفاضة الأقصى، فقط بعد 6 سنوات من دخول السلطة الفلسطينية إلى الضفة وغزة، نتيجة للطموح الوطني الفلسطيني الذي يتطلع دائمًا للتحرر والاستقلال.

6- تمدّد غزة على شاطئ البحر على حساب مصر في منطقةٍ يُعد شاطئها أغنى مناطق شرق المتوسط بالغاز، وكما هو معروف أن شاطئ غزة تمّ اكتشاف الغاز فيه عام 1999، وربّما وضع غزة السياسي الحالي لا يسمح بالكشف عن حجم الثروة المخبأة تحت أراضيه، لكن إذا ضُمّت المناطق البحرية إلى قطاع غزة فهذا يعني أنّ غزة يُمكن أنّ تُسيطر على كمياتٍ كبيرة من احتياطي الغاز، فكيف تُضمّ مناطق أخرى إليها قدّ لا تقلّ أهميةً اقتصادية عن شواطئها الحالية، وهنا يُطرح تساؤل: هل يُمكن لأحدٍ في مصر أنّ يتنازل عن هذه الثروة المحتمل الكشف عنها في أيّ وقت، والتي لا يُعرف حجمها حتى الآن؟.

7- لا يوجد ما يُشير إلى أنّ مصر قدّ تقبل بأنّ تتنازل عنّ هذه الأرض، لعدم وجود المسوغ القانوني الذي يُمكن لأي سلطةٍ في مصر أن تُبرّر هذا التنازل من خلاله للشارع المصري، سوى بعض ما تتناقله الصحافة هُنا وهناك عن مواقف غير معلنة يتناقلها بعض الصحفيين، والتي تتحدث عن قبول الجهات السيادية للفكرة بحسب ما نقلته صحيفة الجوروزليم بوست، في الوقت الذي يبدو فيه أنّ الصوت الأعلى يتبنى موقف الرفض بشكلٍ قاطع لهذه الفكرة. وبالعودة إلى تجربة تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير صغيرتي الحجم؛ لمّ يمرّ الأمر بسهولة، ولا تزال هناك إشكاليات قائمة حولها، فكيف يُمكن للوطنية المصرية أنّ تقبل بأيّ حالٍ عن هذا التنازل الكبير؟.

خلاصة الأمر إنّ فكرة إقامة دولة فلسطينية في غزة، وزيادة مساحتها الحالية يقع بين خياراتٍ متعارضة استراتيجية وتكتيكية في نفس اللحظة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الاحتلال بقيادة اليمين الصهيوني لإيجاد بديلٍ عن فكرة الدولة الفلسطينية التي يدور الحديث عنها حاليًا إلى دولة في غزة تَستثني الضفة الغربية، يظل هذا البديل غير مقبول لمسوغاتٍ أمنيةٍ لدى الاحتلال، علاوة على المسوغات الأيديولوجية التي تُسيطر على العقلية الصهيونية من خلال الحديث عنّ أنّ غزة من عسقلان حتى العريش هي أرض الفلسطينيين ولا تمت للشعب اليهودي بأيّ قدسية، سوى سكن بعض اليهود فيها لفترات قصيرة. فهل الحديث مرة أخرى من جديد عنّ دولةٍ في غزة حتى العريش يمكن أنّ يُشكّل هدف المرحلة القادمة؟، والذي لا يُمكن أنّ يتحقّق إلا بإحداث تغيراتٍ جوهرية، على رأسها إنهاء سيطرة حماس على قطاع غزة أو إخضاعها للشروط الأمنية للاحتلال في المقام الأول، علاوة على وجود سلطة في مصر مُقتنعة وقادرة على المشاركة في هذه الخطة للاستفادة من التمويل الأجنبي، فهل يتحقّق الحلم الصهيوني يومًا؟!.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق