الحوار الفلسطيني

استدعاء الحوار الوطني لمواجهة الاحتلال

تمرّ الحالة الوطنية الفلسطينية بمرحلة غير مسبوقة من العجز المُسيء لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وحاضرها، ولم تعد الوحدة الوطنية الملحّة دائماً مطلباً فلسطينياً الآن، بقدر ما تعني سعياً نحو الخروج بأقل الخسائر الناتجة عن محاولات تصفية القضية الفلسطينية سياسياً، والقضاء على أيّ أوهام فلسطينية مُرتهنة باتفاقيات وشرعية دولية شكلية لم تُبقِ على أيّ بارقة أمل لحلّ الدولتين أو حتى الدولة الواحدة.

يعلم الشعب الفلسطيني أن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي قانونياً ودبلوماسياً هي أضعف الإيمان، لكن القيادة السياسية ظلّت تتمسّك بتقديم الاتفاقيات السياسية وقرارات الشرعية الدولية على حساب حقوقها، وحقوق شعبها الذي يعيش مرحلة تطهير هادئ تكاد لا تراه أو تسمع عنه أو تقصد تجاهله الأطراف الإقليمية والدولية.

مع تحرّك القيادة الفلسطينية المتأخّر دبلوماسياً ضدّ الاحتلال، فسّر البعض ذلك التحرّك بدرجة الخطورة التي باتت تهدّد كلّ مكوّنات الشعب الفلسطيني، وبضمن ذلك مُخرجات أوسلو، كما ربط بعض المراقبين للمشهد الداخلي الفلسطيني دعوات الرئيس محمود عباس المتكرّرة للحوار الوطني في سياق الالتفات إلى الداخل، ومحاولة تشكيل جبهة داخلية تكون عوناً له في هذه اللحظة الحرجة التي تعيشها القضية الفلسطينية.

دعوات الرئيس محمود عباس وحيثياتها:

تكرّرت في الأسابيع الأخيرة دعوات الرئيس الفلسطيني محمود عباس للحوار الوطني، حيث دعا في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 خلال اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة، إلى الحوار الوطني، كما تكررت تلك الدعوة في خطابه في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2022 عشية إيقاد الشعلة في الذكرى الـ58 لانطلاقة حركة فتح، وقد لاقى خطابه ترحيباً من كافة أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، وجميع فصائل منظمة التحرير.

عند قراءة الظروف التي تصاحب دعوة الرئيس الفلسطيني إلى الحوار الوطني، سيكون من الصعب تجاهل أزمة حركة فتح الداخلية، فالحركة التي أجّلت مؤتمرها الثامن لمرّاتٍ عدّة، ولم تعد قادرة على تحديد موعدٍ مناسب لعقد المؤتمر، بحاجة إلى حوار داخلي يسبق الحوار الوطني، خصوصاً بعد تسريبات حسين الشيخ في كانون الأول (ديسمبر) الماضي التي كشفت عن أزمات جديدة على مستوى الدائرة الضيّقة المُحيطة بمحمود عباس، وهو ما يشير إلى أن الخارطة الداخلية لحركة فتح غير مهيأة لاستحقاق كبير وجدي كاستحقاق المصالحة الذي قد يتطلب تنازل عن بعض مواقع النفوذ والقوة من كلا الفصيلين الكبيرين، على الجانب الآخر، فإن دعوة الحوار يُمكن أن يفسرها البعض بشكل سلبي، لأن ظاهرها حوار وطني ومساعٍ لاستعادة الوحدة، أما باطنها فقد يبدو محاولة للقفز على ما اتُّفِق عليه في حوارات الجزائر في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي.

يتبقى ظرف التزامن بين دعوات الحوار الوطني، وتصاعُد حدّة المواجهة الدبلوماسية بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، فدعوات عباس تزامنت مع فرض الاحتلال لمجموعة من العقوبات التي طالت مكونات مختلفة من الشعب الفلسطيني، وبضمنها قيادة العمل الدبلوماسي الفلسطيني.

جدّية دعوات الحوار الوطني

تحتاج دعوات الحوار الوطني إلى توفّر أرضية وطنية ملائمة لم يَعِشْها المشهد الفلسطيني خلال الأسابيع القليلة الماضية، فقد ترافقت تلك الدعوات مع اشتداد الملاحقة الأمنية، التي تنفّذها أجهزة السلطة الفلسطينية، لعناصر فصائل المقاومة وتحديداً من حركة حماس، فضلاً عن الخلافات الداخلية التي تعيشها حركة فتح.

وعلى المستوى السياسي يحرص السلوك الفتحاوي على السعي للظهور بمظهر الإجماع الوطني قبل التوجه نحو أيّ استحقاقات سياسية، فالدعوة إلى المصالحة وتفعيل لقاءات الحوار الوطني لا يمكن قراءتها بشكل منفصل عن مُخرجات حوار الجزائر، والضغوط السياسية التي تتعرّض لها السلطةُ الفلسطينية على صعيد توتّر العلاقة مع الاحتلال، فبعد إعلان صفقة القرن توجّهت حركة فتح نحو الموافقة على عقد الانتخابات التشريعية، لكنّها سرعان ما تراجعت وحوّلت ما أُنجِز من حوار وطنيّ واتفاقيات إلى مجرّد جولة من جولات المصالحة الصفرية.

ثمّة ما يدعو إلى الاعتقاد أن استدعاء قضية الحوار الوطني في خطاب السلطة الفلسطينية يبدو مرهوناً بما تتعرّض له من ضغوط تهدّد بقاءها، فالحوار الوطني هنا مجرّد مجالٍ للتحرك، حيث واجهت السلطة الفلسطينية صفقة القرن بالتحرّك على مستوى المصالحة الفلسطينية، وفتحت مجالات للحوار الوطني، وربما الظروف تبدو مشابهة الآن، إذ تضع حكومة اليمين الديني في إسرائيل تصفية القضية الفلسطينية نصب أعينها، وهذا ما استدعى الحديث الآن عن الحوار الوطني وضرورة التوجه إليه كخيار وحيد.

لكن، بالنظر الى أبسط التفاصيل التي تتعلّق بدعوات الحوار، فإن مرحلة الانتقال من الحوار المشروط إلى الحوار المفتوح لم تدخل بعدُ ضمن قاموس السلطة الفلسطينية وحركة فتح، لأنها تصرّ على أن تعترف حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية بالشرعية الدولية، وهو الشرط الذي تتحفظ عليه حركة حماس، ما يُعطي بُعداً شكلياً لدعوات الحوار الوطني الحالية.

إمكانية مواجهة التطرّف الصهيوني بالحوار الوطني

قد لا يكون الشعب الفلسطيني معنيّاً بالذهاب مجدّداً إلى الحوار، بقدر ما يحتاج الآن إلى المواجهة الجدّية مع الاحتلال، وهذا ما يُفسّر حرص الفصائل الفلسطينية على دعم موقف السلطة الفلسطينية وتوجّهها نحو تفعيل آخر أوراقها الممثلة في الخطوات الدبلوماسية التي تُدين الاحتلال في المؤسّسات الدولية.

في هذا الإطار أظهرت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير شيئاً من الجدّية على مستوى مواجهة العداء الذي تُظهره حكومة نتنياهو الجديدة، فبعد اجتماع القيادة الفلسطينية “اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية” في ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وبعد أسبوع من الاجتماع، أُعلِن في ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) عن تشكيل اللجنة الوطنية للتحرك على المستوى الدولي، وقد ضمّت عدداً من قيادات حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، برئاسة رئيس السلطة محمود عباس.

كما أعلنت الخارجية الفلسطينية عن تشكيل فريق دبلوماسي وقانوني لمتابعة الطلب الفلسطيني لدى محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وأشارت خطابات رئيس السلطة الفلسطينية الماضية إلى خطوات قد تتخذها السلطة الفلسطينية في الفترة المقبلة، منها التوجّه إلى الأمم المتحدة لإحياء ذكرى النكبة في شهر أيار (مايو) المقبل، وهي خطوة رغم رمزيتها إلا أن السلطة الفلسطينية لم تقْدِم عليها من قبل.

وبالعودة إلى استدعاء خطاب المصالحة والحوار الوطني لمواجهة الاحتلال، ردّت السلطة الفلسطينية على مجازر الاحتلال في جنين، الخميس ٢٦يناير، بالدعوة لحوار وطني شامل، واعتبرت التنسيق الأمني مع حكومة الاحتلال غير قائم، مع التوجّه بشكل عاجل لإضافة ملفّ مجزرة جنين إلى الملفّات التي قُدِّمت سابقاً.

ختاماً، تدرك السلطة الفلسطينية أنّ أيّ خطوات تتخذها باتجاه المؤسسات الدولية سوف تُقابَل بضغط إسرائيلي مقابل على السلطة الفلسطينية، هذا الأمر وحراك السلطة الفلسطينية الدولي يوفّران للسلطة وقيادة حركة فتح مادة مهمّة للتعبئة يمكن من خلالها التحرك وطنياً من جانب، ومن جانبٍ آخر، المناورة مع حكومة الاحتلال عبر استدعاء خطاب المصالحة والحوار الوطني. 

الوسوم
اظهر المزيد

إياد جبر

كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق