تداعيات اغتيال هنية والتحدّيات الحرجة
لم تكن عملية اغتيال القائد الوطني الكبير إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، مجرد عملية عسكرية أو استخباراتية متقنة بل كانت مركبة في أهدافها التي تنطوي على استهداف جهود إنهاء الحرب، والأمن الإقليمي، واعاقة تنفيذ بنود اتفاق المصالحة الفلسطينية الموقع في بكين؛ كما تستهدف الاستقرار الداخلي في حركة حماس. وكل ذلك يتطلب قراءة معمقة، بعيداً عن الاندفاعة النفسية الدفاعية، غير العقلانية، التي قللت من تداعيات الحدث في إطار الصراع المحتدم بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني.
يمكن النظر إلى ما جرى باعتباره امتداداً للجهد العسكري الإسرائيلي الذي يسعى لتحقيق ما يسميه رئيس الوزراء العدو نتنياهو “النصر المطلق”، والذي يشمل عدة مستويات: المستوى التكتيكي، والذي يهدف إلى شل قدرات حماس السياسية في الداخل والخارج ، ما يضعف روابطها الخارجية وتماسكها التنظيمي، وأيضاً، يقوض قدرتها على الهجوم، العملياتي الذي يتضمن تفكيك بنية حماس العسكرية والسياسية، والمستوى الاستراتيجي الذي يهدف إلى فرض ترتيبات أمنية شاملة على الفلسطينيين. وهو ما يندرج في النتائج التي يتوخّاها نتنياهو من الحرب، والتي يسعى لأن تؤدي في محصلتها النهائية إلى منع قيام الدولة الفلسطينية. ومما يفعله للوصول لهذه النتيجة فصل قطاع غزة عن المشروع الوطني، استكمالاً للفصل الجغرافي والسياسي الذي استمر لأكثر من 17 عاماً منذ الانقسام الفلسطيني إثر الاشتباك المسلح بين حركتي حماس وفتح في عام 2007.
من هنا، يمكن فهم أن عملية الاغتيال لم تستهدف إسماعيل هنية لدوره العسكري أو السياسي بقدر ما تعلقت بوجوده، حيث يجسد وحدة حركة حماس في الداخل والخارج ويحظى بقبول واسع داخل الحركة. كما أنه يمثل رمزية سياسية عالية كونه رئيس وزراء سابق حظيت حكومته في حينها بثقة كبيرة في المجلس التشريعي الفلسطيني.
انطلاقاً من ذلك رأت دوائر الاحتلال الأمنية والاستخبارية أن بقاء هنية في منصبه يمثل تهديداً لاستراتيجية الحرب الإسرائيلية التي تهدف إلى تفكيك حماس بعد الضربات التي وُجهت لجناحها العسكري. وهكذا يمكن القول إن الحسابات الإسرائيلية في اغتيال هنية لم تكن تتعلق فقط بالانتقام من حماس أو تحييد دوره السياسي أو العسكري، وإنما باستهداف وجوده الذي بات تجسيد لوحدة حماس الداخلية وعنوان سياسي أساسي للفلسطينيين. هذه السياسة الانتقائية للاغتيالات، في الداخل والخارج، تفاقم من التحديات التي تواجه حركة حماس في إدارة أوضاعها الداخلية المعقدة، في ظل تباين الجغرافية السياسية التي تمتد عليها الحركة في غزة، الضفة الغربية، الشتات، والدول الأخرى. حيث كل من هذه الجهات لها واقع قانوني وأمني وسياسي مختلف، مما يجعل إدارة الوضع أكثر تعقيداً صعوبة.
في هذا السياق، يمكن استنتاج بوضوح أن “إسرائيل” حسمت موقفها برفض التوصل إلى أي اتفاق مع حركة حماس، مما يتيح استمرار الحرب وتصاعدها، خصوصاً بعد اغتيال الشخصية الرئيسية ضمن صفوف الحركة في إدارة ملف التفاوض. بعد محاولات عدّة لدفع حماس نحو الانسحاب من التفاوض.
والحال أن اغتيال إسماعيل هنية، والإعلان بغض النظر عن مصداقيته عن اغتيال مزيد من قادة حماس العسكريين والأمنيين، بما فيهم محمد الضيف القائد العام لكتائب القسام، يأتي كجزء من استراتيجية تهدف إلى تقويض أي إمكانية لإبرام صفقة توقف الحرب. وهذا يعني أن الحرب ستتواصل وتتفاقم، مع احتمال تحولها إلى مواجهة إقليمية، وهو ما يعكس رفضاً أمريكياً ضمنياً لما تم الحديث عنه من اعتماد القيادة الإيرانية الجديدة، مع الرئيس مسعود بازشكيان، بالليونة مع الغرب أو ما يطلق عليها الإيرانيون “المرونة البطولية”. والذي تردد أنه أظهر اهتماماً بإصلاح علاقة بلاده مع الغرب، سعياً لتجنب حرب استنزاف أو مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة.
لكن الأخطر في هذا السيناريو هو أنه يشير بأن الحرب الإقليمية الشاملة، التي تحاول إيران تجنبها حتى الآن، تطلبها بشدّة حكومة نتنياهو بغطاء من واشنطن، ما سيضع الفلسطينيين تحت ضغوط خطيرة. ومع وضوح أن “إسرائيل” لن تسعى لاتفاق لوقف إطلاق النار أو هدنة مؤقتة مع حركة حماس، فإن المخاطر الإنسانية في قطاع غزة ستتضاعف، وقد تمتد تداعيات الحرب الإقليمية المخططة إلى الضفة الغربية، حيث يهدف الاحتلال إلى خلق حالة من الانهيار والفوضى من خلال الحصار الاقتصادي وأدواته الأمنية المختلفة.
وفيما يتعلق بجهود المصالحة، يمكن القول إن اغتيال إسماعيل هنية يهدف أيضا إلى عرقلة تنفيذ اتفاق بكين، حيث لعب الشهيد القائد اسماعيل هنية دورًا حاسمًا في توحيد موقف حركة حماس خلف الاتفاق، مؤكدًا على الالتزام القوي بمضمونه وفقاً لمقربين منه. ومع انشغال حماس بترتيب أوضاعها الداخلية، قد تتأثر قدرتها على المضي قدمًا في تنفيذ بنود الاتفاق.
وهو ما يعزز معرفتنا السابقة بأن تعطيل اتفاقات المصالحة لطالما عد هدفًا مركزيًا للسياسة الإسرائيلية، إذ سعت، وتسعى، إسرائيل إلى منع الفلسطينيين من إعادة بناء نظامهم السياسي والحفاظ على شرعية مؤسساتهم. وهو شرط ضروري في مسار إقامة الدولة الفلسطينية التي تسعى “إسرائيل” إلى تقويضها.
تجلى هذا التوجه الإسرائيلي بوضوح عندما صوت الكنيست بأغلبية على رفض السماح بقيام دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، بالتزامن مع قرار محكمة العدل الدولية التي أصدرت فتوى بعدم شرعية احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلة في الرابع من حزيران عام 1967.
ومن الواضح أن اسرائيل تسعى لتقويض هذا القرار التاريخي، والذي يحتاج لحكمة فلسطينية في استثماره وتوظيفه ويتعذّر ذلك بدون توحيد المرجعيات الفلسطينية وضمان وحدة التمثيل الفلسطيني، وهو ما تحاول إسرائيل ضربه من خلال تعزيز الانقسامات الفلسطينية واستدامتها، والدفع نحو فراغ سياسي في الضفة الغربية وأمني في غزة، لإعادة تشكيل الواقع بما يتناسب مع رؤيتها الأمنية السياسية.
ورغم أن الجو العام الفلسطيني لطالما ابدى في ظروف مشابهة الكثير من الحذر، والتركيز على وحدته، إلا أنه من المفيد دعوة بعضنا البعض للتوحد والحذر. وعلى صعيد حركة حماس الدعوة لعدم تأخير ملء الفراغ الناجم عن غياب رئيس مكتبها السياسي لحركة حماس القائد الوطني الكبير اسماعيل هنية، حتى لا يفتح الباب أمام مخاطر أزمة قيادة داخل الحركة. وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على قدرتها على تنفيذ بنود اتفاق بكين، خاصة فيما يتعلق بتشكيل حكومة التوافق الوطني أو الإطار القيادي المؤقت. وهو الاتفاق الذي أن نفذ سيحبط محاولات الاحتلال لفرض بدائل في غزة أو إحداث فراغ سياسي في حال غياب الرئيس محمود عباس.
ومع الاعتراف بالصعوبات المحتملة في التوافق على بديل لهنية، الذي كان يمثل نقطة توازن بين مختلف مراكز القوة داخل حركة حماس سواء بسبب التعقيدات الأمنية التي فرضه العدوان أولأسباب لائحية حيث كانت اسرائيل اغتالت نائبه الشيخ صالح العاروي، إلا أن الحركة معروفة بمرونتها وبنيتها المؤسساتية القوية التي تمكنها من تجاوز هذه التحديات .
ومع ذلك، يبقى التحدي الرئيسي هو منع أي تدخلات خارجية ذات أجندات سلبية تجاه الحركة. هنا تكمن أهمية وجود حلفاء وأصدقاء لحركة حماس، يمكنهم المساهمة في توفير بيئة مناسبة للانتقال السلس في قيادة الحركة، وعزل التدخلات الضارة.
كذلك يمكن للقوى الحريصة على الشعب الفلسطيني وتحقيق تطلعاته الوطنية أن تساعد في امتصاص، واحتواء، الضغوط التي تُمارس على الفلسطينيين لإعاقة تنفيذ بنود اتفاق بكين الذي يعزز الوحدة الفلسطينية، ويقوي موقف الفلسطينيين أمام محاولات “إسرائيلية”، والمدعومة من قوى إقليمية ودولية، لإضعافهم وإخراجهم من دائرة التأثير.
ويبقى الأمل بنجاح حماس في التوافق على بديل لإسماعيل هنية حيث من المعلوم أن لدى حماس صنف من القادة ذوي الخبرة والرمزية والذين يتمتّعون بشبكة علاقات عربية وإقليمية وحتّى دولية ، كما من الضروري أن تسارع السلطة الفلسطينية في تشكيل حكومة توافق وطني بالتشاور مع الكل الوطني وفي مقدّمتهم حركة حماس، كون هذه الخطوات ستعزز من الموقف الفلسطيني، وتحبط المخططات الإسرائيلية الرامية إلى ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية. وما رأيناه في تشييع جثمان إسماعيل هنية يظهر الكثير من المؤشرات الإيجابية في الساحة الفلسطينية، التي يمكن البناء عليها لإعادة ترتيب الوضع الداخلي، وإسقاط الذرائع الإسرائيلية.
والأمل أن يشكل التضامن الإقليمي مع مطالب الفلسطينيين، والاهتمام الدولي، فرصة مهمة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني الوطنية وترجمة تضحياتهم إلى نتائج سياسية تقرّب الفلسطينيين حقهم في تقرير المصيرمن حلم إقامة الدولة بما يخدم الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم بأسره.