
تحديات ترامب والخيارات الحاسمة للفلسطينيين
تحديات ترامب
في ضوء تصريحات ترامب التصعيدية، التي لا يمكن اعتبارها عشوائية، بل يجب النظر إليها على أنها مدروسة ومحسوبة بدقة، خصوصًا في هذه المرحلة التي يبلغ فيها القلق على مصير غزة أعلى مستوياته. يأتي ذلك في ظل ما يشبه الحرب النفسية التي يتعاقب وزراء في حكومة الاحتلال على ممارستها، من خلال التهديد بالعودة إلى الحرب بعد إتمام صفقة تبادل الأسرى بين “إسرائيل” وحركة حماس”.
يسعى ترامب، عبر تصريحاته المتكررة حول نقل سكان غزة إلى مصر والأردن، إلى وضع جميع الأطراف، سواء الفلسطينيين أو دول المنطقة، في موقف حرج، بحيث يؤدي أي تراجع من قبل هذه الأطراف إلى تحقيق مكاسب مباشرة لإسرائيل.
في هذا السياق، تتخلى واشنطن جزئيًا عن إدارة المشهد لصالح تل أبيب، مما يتيح للأخيرة تحقيق مكاسب إقليمية واستكمال أهداف حربها العدوانية على الفلسطينيين بوسائل أخرى.
في ظل هذه التطورات، يواجه الفلسطينيون خيارات حاسمة وشديدة التناقض ، تجلّت معالمه بوضوح بعد وقف إطلاق النار، مما وضع القضية الفلسطينية أمام مسارين رئيسيين:
إمّا الحفاظ على الوجود الفلسطيني وضمان وحدة الشعب الفلسطيني وهي أسمى أهداف أي حركة تحرر وطني وصون هويته الوطنية وحماية كينونته السياسية، من خلال مبادرة فلسطينية تفرض قيام الدولة الفلسطينية ضمن مسار ركيزته الوحدة الوطنية الفلسطينية، تجسّده وحدة المؤسسات والقرار الوطني الفلسطيني، بالتوازي مع الاحتماء والاندماج في الإطار الإقليمي، لمواجهة مشاريع التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
أو الانزلاق – لاقدّر الله – نحو مسارات متعددة للتصفية، حيث لن تتوقف مشاريع التصفية عند حدّ معين، بل قد تمتد إلى إعادة الدفع بالطموح الفلسطيني للانعتاق من الاحتلال نحو مسارات تتناقض مع جوهر المشروع الوطني الفلسطيني، مما يؤدي إلى مزيد من التمزق والعدمية السياسية، ويفقد القضية الفلسطينية عمقها التاريخي والحضاري، لتتحوّل في النهاية إلى عبء على الأمن الإقليمي والسلام العالمي، بدلًا من كونها قضية تحرر وطني قائمة على الحقوق التاريخية والمواثيق الدولية.
تتبلور هذه الخيارات الحاسمة مع انكشاف الوجه الحقيقي للسياسات الإسرائيلية، التي تحظى بغطاء أمريكي كامل، مما يجعلها تهديدًا مباشرًا للسلم والأمن الدوليين، فضلًا عن تجاوزها كل قواعد النظام الدولي التي أُرست منذ الحرب العالمية الثانية.
لقد حاول اليمين الصهيوني استغلال أحداث 7 أكتوبر لبناء سردية جديدة مفادها عدم إمكانية الحل مع الفلسطينيين، مستندًا إلى نظرية الحسم، التي تم إقرارها في بعض المؤسسات الإسرائيلية منذ عام 2018، بدفع من قوى اليمين الصهيوني المتطرف و بتواطؤ كامل من حكومة نتنياهو. تقوم هذه النظرية على مبدأ عدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني كجماعة وطنية لها حقوق سياسية، واعتبار أن الخيارات المتاحة تتراوح بين الإبادة أو التهجير، في إطار الحفاظ على “نقاء الدولة اليهودية” داخل حدود فلسطين التاريخية.
وعلى الوجه المقابل، كان هناك إصرار من قوى إقليمية ودولية، حتى من تلك التي لا تتماشى رؤيتها مع المقاومة الفلسطينية، على تقديم سردية مضادة، تؤكد أن هذه الأحداث لم تأتِ من فراغ، بل تعكس حتمية إيجاد حل نهائي للصراع، يقوم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومن هنا، تدرك منظومة الإبادة الجماعية أن استمرار الفلسطينيين في الصمود على أرضهم، رغم ما تعرضوا له من جرائم حرب، إبادة جماعية، تطهير عرقي، وعقوبات جماعية وتجويع، يعني إفشال المشروع الإسرائيلي بالكامل.
على مدى تاريخية القضية الفلسطينية، تأخرت النخب السياسية عن إدراك مقتضيات الواضع، بما فوت فرصاً كثيرة، وفي الوقت الحالي، نحن أمام قَدَرٍ جديد، إذا أمكن تجاوز هذه المحنة، التي تتكشف أبعادها بشكل أكبر بعد اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت، إلى جانب توفر رافعة إقليمية صلبة تصرّ على مواقفها ومدركة للمخاطر المحدقة بالمنطقة، فإن ذلك سيمثل تحولًا جذريًا في مصير القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة. هذا التحول بات جليًا من خلال التسارع في التنسيق الإقليمي، وتجاوز الخلافات البينية، خاصة بعد انحسار الاستقطاب القائم على الموقف من إيران، وكذلك إعادة تقييم المواقف من الربيع العربي، مما يشير إلى مرحلة جديدة من العمل السياسي والاستراتيجي في المنطقة.
من المتوقع أن يفرض التحول حلولًا قائمة على الاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية، التي قد لا تتطلب بالضرورة اتفاقًا مع “إسرائيل” في هذه المرحلة، حيث يسيطر اليمين الصهيوني على مفاصل القرار فيها. ومع ذلك، سيظل ملف الأمن الإسرائيلي معلقًا بيد الفلسطينيين، الذين سيفرضون في النهاية شروطهم في أي تسوية نهائية، والتي لن تكون إلا بانتزاع حقوقهم الثابتة والمشروعة.
ما يميز هذه المرحلة أن الطريق باتت مُمهدة ليحصل الفلسطينيون على مركز قانوني أفضل، حيث يصبح التفاوض مع دولة فلسطينية قائمة أمرًا لا يمكن تجاهله، إذا نجحت الرافعة الإقليمية في دعم هذا المسار. وتظهر مؤشرات قوية على هذه التوجهات من خلال التحالف الدولي الذي يضم ما يقارب 100 دولة، بما فيها الاتحاد الأوروبي، والذي أعلن بوضوح أن هدفه هو حلّ الصراع وفق صيغة “حل الدولتين”، كما نصت عليه المبادئ والقوانين الدولية. ولكن على أرض الواقع، يعني ذلك فرض قيام الدولة الفلسطينية، حتى لو لم تكتمل شروط الاعتراف بها بالكامل بعد.
وعلى الرغم من أن الفلسطينيين لا يسيطرون بالكامل على الأرض التي تُدار حاليًا من قبل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ومن قبل حكومة حماس في غزة، بفعل الاحتلال، الاستيطان، والتهويد في القدس، كما يمكن إسقاط هذا الأمر على غزة عبر التدمير واستمرار أشكال الحرب بأساليب أخرى، إلا أنهم لا يزالون يحافظون على وجودهم الديموغرافي، والاعتراف الدولي، إلى جانب استعدادهم للنضال بكل الوسائل الممكنة، والتضحيات اللازمة لتحقيق التحرر الكامل من الاحتلال.
تبقى نقطة الضعف الكبرى في الموقف الفلسطيني هي الانقسام السياسي، واستمرار محاولات الفصل الجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية، مما يعيق تجانس وتماسك المؤسسات السياسية والنظام السياسي الفلسطيني، رغم كل الاتفاقات التي نصّت بوضوح على وحدة الموقف والقرار والمؤسسات الفلسطينية. ولكن حتى الآن، لم تُترجم هذه الجهود عمليًا، وهو ما يهدد كل الصمود الذي أظهره الفلسطينيون، ويبدد التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني، كما يُضعف الدعم الإقليمي، ويفوّت الفرصة لاستثمار اللحظة الدولية الراهنة، التي يمكن أن تُعزز الحق الفلسطيني على المستوى السياسي والدبلوماسي.
إلى جانب ذلك، تلعب التحولات الإقليمية دورًا محوريًا في هذا المشهد. فالدول العربية لم تعد كما كانت خلال النكبة الفلسطينية، مهما اختلفت التقييمات حول مواقفها. فهي اليوم دول مستقرة سياسيًا وأمنيًا، نتيجة عوامل داخلية بالأساس وليست مستوردة من الخارج. كما أن بعضها أصبح قوة اقتصادية وعسكرية مؤثرة على الساحة العالمية.
يضاف إلى ذلك، أن العديد من الدول باتت ترى نفسها متضررة من الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين ومن السياسات الأمريكية الداعمة للمخططات والعدوان الإسرائيلي، ضمن رؤية واشنطن التي تهدف إلى فرض هيمنة عالمية غير مستحقة مقارنة بواقعها الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي.
هذه الدول، بما فيها تلك التي كانت تُصنَّف ضمن “محور الاعتدال العربي”، أصبحت تمتلك مصلحة مباشرة في المناورة وعدم الرضوخ للرغبة الأمريكية، التي تلحق ضررًا مباشرًا بأمنها واستقرارها. وبالتالي، باتت تسعى إلى خلق مسارات جديدة لا تعتمد كليًا على واشنطن، بل تقوم على تنويع تحالفاتها، وخاصة تعزيز التعاون الإقليمي فيما بينها، لمنع تل أبيب وواشنطن من تحقيق أهدافهما في المنطقة على حساب المصالح العربية.
هذه الدول أدركت أنها باتت محور التنافس على قيادة النظام الدولي لعقود قادمة، فالمنطقة العربية تحتضن موارد الطاقة الأساسية، وتُعدّ مركزًا للممرات التجارية العالمية، إضافة إلى دورها الحاسم في موازنة القوى الدولية المتنافسة.
إذن، نحن أمام تحولات عالمية كبرى، لم تتضح مآلاتها بعد، لكنها تحمل فرصًا كبيرة للفلسطينيين، إلى جانب مخاطر ضخمة على الشعوب المضطهدة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، الذي تعرض لأبشع المجازر في التاريخ الحديث. الفلسطينيون لا ينتظرون أن يُنظر إليهم فقط كضحايا، بل كأمة قاومت بشجاعة وتشبثت بحقوقها رغم وحشية الاحتلال.
ما يتبقى، هو أن تكون النخب الفلسطينية على مستوى صمود شعبها، من خلال تجاوز الانقسامات والخلافات الداخلية، والعمل على ترتيب البيت الفلسطيني، وتوحيد المؤسسات التمثيلية والقرار السياسي، إضافة إلى استيعاب المتغيرات الإقليمية، والتفاعل مع التحولات الدولية. كما يتطلب الأمر الخروج من مربع ردّ الفعل إلى المبادرة والفعل، من خلال إدارة مسارات متعددة وبناء تحالفات استراتيجية تضمن فرض العامل الفلسطيني في أي ترتيبات إقليمية أو دولية، سواء المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو بالمنطقة ككل، وصولًا إلى تحقيق الطموحات الوطنية الفلسطينية وترجمتها إلى إنجازات ملموسة على الأرض.