غير مصنف

اتفاق وقف إطلاق النار على ضوء المؤثرات الخارجية والداخلية

دخل اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين حركة حماس ودولة الاحتلال، بوساطة قطرية ومصرية، حيز التنفيذ يوم الأحد الموافق 19 يناير 2025. يتضمن الاتفاق مرحلة أولى تشمل انسحاب جيش الاحتلال من المناطق المأهولة إلى المناطق العازلة، إضافة إلى تنفيذ عملية تبادل الأسرى وفق مراحل محددة مسبقًا. كما تتضمن هذه المرحلة استمرار المحادثات بشأن المرحلتين الثانية والثالثة، تمهيدًا للوصول إلى اتفاق نهائي مستدام. في هذا السياق، تسعى هذه الورقة إلى استعراض مواقف الأطراف الفلسطينية تجاه اتفاق وقف إطلاق النار، ورؤيتها لمدى قدرتها على تحويل مخرجاته إلى مسار استراتيجي.

يتناول التقرير مجريات الاتفاق على المستويات ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، مشيرًا إلى دور المواقف الإقليمية والدولية في اقتراح صيغ متتابعة. وقد لوحظ وجود تقارب إقليمي يمكن أن يشكل أرضية داعمة للمطالب الفلسطينية. كما يتناول وجهات النظر الإسرائيلية حول الاتفاق وجوانب تقييم الحرب. وفي قسم آخر، يحاول التقرير تحليل تفاعل الأطراف الفلسطينية مع نتائج المفاوضات الحالية، وإمكانية بناء مسار استراتيجي للاستفادة من وقف إطلاق النار.

أولاً: الوساطة ومسار الوصول إلى اتفاق التبادل

على مدار 15 شهرًا، سعى الوسيطان، قطر ومصر، لتمكين المسار التفاوضي لوقف الحرب، مما أكسب هذا المسار أهمية كبيرة. وتتابعت المقترحات إلى أن وصلت إلى صيغة الاتفاق الأخيرة في 15 يناير 2025، التي تمثل تمهيدًا لترتيب الأوضاع في قطاع غزة والأراضي المحتلة. تشير هذه التطورات إلى توسيع الفرصة لترتيب علاقات جديدة بين الدول، وتقارب أولويات التهديد والمصالح. ويقوم هذا التقارب بشكل أساسي على أرضية التناسق الإقليمي، حيث تلعب تركيا والسعودية ومصر دورًا رئيسيًا في رسم ملامح الأمن والسلم والمصالح الثنائية.

المحتوى العام للاتفاق

كانت السمة الأساسية في جميع مقترحات وقف الحرب هي وضع خطة تبدأ بتبادل الأسرى وتنتهي بترتيبات وقف إطلاق النار. أضفى ذلك طابعًا ديناميكيًا على الاجتماعات المتتالية بين العواصم المختلفة مثل القاهرة وباريس والدوحة، مما ساهم في تقييد المساومات التي قد تحدث تحت ظروف جديدة.

جاء الاتفاق نتيجة سلسلة اجتماعات بين الوسطاء والطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، واعتمد على اتفاقات سابقة، مثل اتفاق 27 مايو 2024 لتبادل الرهائن والمسجونين واستعادة الهدوء المستدام، بالإضافة إلى مشاورات أغسطس 2024.

كان الاتفاق يركز على بناء حلول تدريجية للتعامل مع وضع ما بعد وقف القتال، مع تجنب الخلاف حول إدارة القطاع وإبقائه تحت الإدارة الفلسطينية. ظهر ذلك في بندين رئيسيين: انسحاب قوات الاحتلال من القطاع وإعادة انتشارها على بعد 700 متر من حدود القطاع، والسماح بحرية حركة الفلسطينيين من الجنوب إلى الشمال دون تفتيش، مع شمول الإغاثة كافة مناطق القطاع.

كان الاتفاق واضحًا بشأن استمرار دور الوسطاء للإشراف على تنفيذ الالتزامات المتبادلة، مثل تبادل الأسرى، والانسحاب التدريجي لقوات الاحتلال في محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، وفق جدول زمني محدد. كما شملت الترتيبات فتح معبر رفح مع بدء تطبيق الاتفاق، لنقل الجرحى والبضائع وتسهيل انتقال الأفراد، بما ينهي القيود المفروضة على حركة المسافرين والبضائع.

أعطى الاتفاق مساحة للانتقال من مرحلة الإغاثة إلى إعادة الإعمار، مما يعكس مرونة التفاوض وصياغة الاتفاق في توفير بيئة آمنة لحياة المجتمع الفلسطيني. ولهذا، جاءت دعوة مصر لعقد مؤتمر دولي لإعمار غزة مكملةً لمسار الدعم السياسي والعمراني للدولة الفلسطينية، وخطوة ضرورية لاستعادة حيوية المجتمع الفلسطيني.

مواقف ما بعد التوقيع

بعد إعلان الاتفاق، صدرت عدة بيانات كشفت عن محتوى مشترك، حيث تشابهت بيانات وزارات خارجية كلٍّ من مصر، تركيا، والسعودية في التأكيد على ضرورة تنفيذ الاتفاق دون تأخير، مع اعتباره بدايةً لعملية سياسية تهدف إلى تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه، إقامة دولته على حدود 1967، وإنهاء دورات النزاع بشكل نهائي. كما اعتُبر خطوة ثمينة نحو تحقيق العدالة الإنسانية. يتضح هنا التكامل بين مواقف الدول، حيث تشكّلت عوامل مشتركة لخلق ساحة تضامن واسعة حول النضال الفلسطيني، مع العمل على احتواء الخلافات الفصائلية تحت مظلة من التعاون الجماعي الإقليمي.

هذا التوافق مهد الطريق لحدوث اتصالات ثنائية بين وزيري خارجية مصر وقطر، حيث توافق الطرفان على الالتزام بتنفيذ مراحل الاتفاق المختلفة ودعمه دوليًا وإقليميًا. كما اتفقا على التأكيد، في بيان مشترك صدر في 17 يناير 2025، على أهمية التنفيذ الفوري للاتفاق، حقن دماء الفلسطينيين، تأمين نفاذ المساعدات الإنسانية إلى كامل قطاع غزة، والتمهيد لإقامة الدولة الفلسطينية. وتضمنت الاتصالات أيضًا بحث قضايا أخرى، مثل الأمن في سوريا واستقرارها السياسي.

كان لافتًا أيضًا ظهور رغبة إيران في عدم الابتعاد عن المشهد الجاري، حيث جرى اتصال بين وزيري خارجية إيران ومصر في 16 يناير. أكدت إيران خلاله على دعم وقف إطلاق النار، وضرورة الإسراع بتنفيذ بنود الاتفاق، مع التركيز على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية بشكل مستدام. كما شددت على أهمية دور المجتمع الدولي في إعادة الإعمار، تأهيل البنية التحتية، واستعادة الأمن للشعب الفلسطيني.

كشفت هذه المواقف عن مدى التضامن حول الاتفاق النهائي، وهو ما ظهر في الاتصالات التي أجرتها وزارات الخارجية في دول المنطقة، خصوصًا مصر، قطر، تركيا، والسعودية. شكلت هذه الجهود شبكة تضامن دولي تهدف إلى استعادة مفاوضات السلام، مع تجاوز فكرة الاكتفاء بدعم مراحل الاتفاق. وتمثل هذه النقطة أهمية كبيرة في تعزيز أرضية مشتركة لدعم الخطوات المستقبلية لحل القضية الفلسطينية.

تعكس هذه المواقف تطورًا كبيرًا في العلاقات الإقليمية، حيث بدت آثارها واضحة من خلال الاستجابة الجماعية للمساهمة في وضع مسارات جديدة للقضية الفلسطينية. خلال السنوات الماضية، تشكلت حلقات متماسكة لمناقشة مستقبل الفلسطينيين، مما ساهم في تعزيز الاعتراف بحقوقهم في إقامة دولتهم والحد من تعنت الاحتلال في شروط وقف إطلاق النار.

يمكن ملاحظة مساحة كبيرة من التوافق على اضطلاع مصر وقطر بدور الوساطة دون منافسة إقليمية. فقد جاء الموقف السعودي داعمًا عبر فرض شروط على الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، في حين أسندت تركيا الدور المصري في تقديم المساعدات الإغاثية والدعم السياسي لوقف الحرب.

خلال فترة الاجتماعات، شهدت العلاقات الثنائية والجماعية بين مصر وقطر تطورًا ملحوظًا. مع توقيع الاتفاق، وضح استقرار هذه العلاقات، مما ساهم في استمرار الوساطة ودعم مطالب الطرف الفلسطيني. لم تنشغل الدولتان بالتنافس حول مكان انعقاد الاجتماعات أو التصريح بنتائجها، بل ركزتا على تشكيل هيئة تفاوض قوية موازية للولايات المتحدة وإسرائيل. وقد ظهر هذا بوضوح في المراحل المختلفة، حيث أصبحت الدولتان مركزًا لاستقبال الدعم السياسي من أطراف أخرى لم تكن حاضرة في الجلسات.

المواقف الأمريكية والأوروبية

على مستوى آخر، كانت السياقات الدولية المصاحبة لمراحل الاتفاق تهدف إلى احتواء الصراع ومنع اندلاعه مجددًا، تجنبًا لما قد يؤدي إلى حرب إقليمية شاملة. ويُعد هذا المسار مخالفًا للدوافع التي سبقت اندلاع الحرب بين المقاومة والاحتلال في أكتوبر 2023. فبعد محاولات نتنياهو توسيع نطاق الحرب إلى لبنان ومع تصاعد الانفلات الأمني في سوريا، سارعت الولايات المتحدة وأوروبا إلى اتخاذ خطوات لوقف الحرب في لبنان، مما أسهم في تمكينه من اختيار رئيس الدولة ورئيس الوزراء، وبالتالي سد فجوة حكومية استمرت لما يقرب من عامين. في الوقت ذاته، لم يكن هناك اعتراض واضح على انهيار نظام بشار الأسد، مع الإقرار بوجود المعارضة كبديل مؤقت عن النظام السابق.

بوجه عام، كانت المواقف الأوروبية والأمريكية مفتوحة تجاه وقف الحرب. فقد ساهمت زيارات المسؤولين المستمرة إلى دول المنطقة في إنضاج الظروف المواتية للتوصل إلى الاتفاق النهائي ودعمه سياسيًا، ولو بالحد الأدنى. يشير إلى ذلك تكثيف جولات وزير الخارجية الأمريكي (أنطوني بلينكن) بالإضافة إلى وزراء خارجية بريطانيا، ألمانيا، وفرنسا، فضلًا عن ازدياد عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية.

ثانيًا: القراءة الإسرائيلية لوقف إطلاق النار في غزة

بالنظر إلى أهداف الاحتلال الصهيوني من الحرب على غزة، والخطط التي أعلنتها حكومة نتنياهو، مثل “خطة الجنرالات”، “الأصابع الخمس”، و”المحاور الأمنية والعسكرية في قطاع غزة”، يمكن مقارنة هذه الخطط بنتائج التفاوض مع حركة حماس والتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير 2025.

علاوة على ذلك، يظهر ملامح الفشل  في إيجاد بديل محلّى/إدارة إقليمية ودولية لحكم حركة حماس في غزة بدون التفاهم مع حركة حماس . يتضح أن حرب الإبادة، التي استمرت لما يقرب من 500 يوم وخلفت دمارًا هائلًا وخسائر بشرية غير مسبوقة، كانت تهدف إلى ممارسة أقصى درجات الضغط على المقاومة ومحاولة إجبارها على الاستسلام. كما هدفت إلى تغيير صورة الهزيمة التي فرضتها المقاومة على حكومة نتنياهو في 7 أكتوبر، من خلال إجبارها على التراجع والتنازل عن ورقة الأسرى.

في الوقت ذاته، حرص الاحتلال على تعميق الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما ظهر جليًا في خطاب نتنياهو خلال الأشهر الأولى من الحرب، حين أعلن رفضه لوجود حركة فتح أو حماس في قطاع غزة.

إدارة غزة من دون حماس

كان القضاء على حكم حركة حماس في قطاع غزة من بين الأهداف المعلنة للاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة. ومع ذلك، فإن عدم تحقيق هذا الهدف دفع العديد من التحليلات إلى اعتباره مؤشرًا على نجاح المقاومة الفلسطينية، وفشل حكومة بنيامين نتنياهو في إيجاد بديل محلي لحكم حماس. وقد شملت محاولات الاحتلال التواصل مع العائلات الغزية، بالإضافة إلى المقترح المصري الذي تم طرحه تحت عنوان “لجنة الإسناد المجتمعي”، لكنه لم يُكلل بالنجاح بسبب عجز الفصائل الفلسطينية عن ترجمته إلى واقع ملموس. كما برزت فكرة الاستعانة بشركات أمنية دولية، التي أثارت اهتمام الإعلام الإسرائيلي خلال الأشهر الأخيرة من الحرب.

إلى جانب ذلك، وجهت وسائل الإعلام الإسرائيلية والمعارضة، بالإضافة إلى المؤسسة الأمنية وكثير من الجنرالات المتقاعدين في الجيش الإسرائيلي، انتقادات واسعة لنتنياهو، مشيرة إلى فشله في تحقيق السيطرة الفعلية على قطاع غزة أو إيجاد بديل عن حكم حركة حماس. هذا الفشل، الذي انعكس على صورة نتنياهو في الساحة الإعلامية والسياسية، أُضيف بطبيعة الحال إلى رصيد المقاومة الفلسطينية، التي نجحت في الحفاظ على الوضع القائم ومنعت الاحتلال من فرض بديل لحكمها.

مع ذلك، فإن تقييم هذه القراءة لمجريات الحرب وما ارتبط بها من خطط إسرائيلية، قد لا يكون دقيقًا تمامًا. إذ أن الحكومات الإسرائيلية غالبًا ما تتجنب الإفصاح الواضح عن أهدافها الاستراتيجية الحقيقية. في هذا السياق، تشير حنان شتاينهارت، في مقالها المنشور في صحيفة جيروزاليم بوست بتاريخ 5 مايو 2024، بعنوان “حماس ستبقى في السلطة”, إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية يفضل استمرار حكم حماس في غزة. وتضيف شتاينهارت أن بقاء حماس في السلطة يخدم استراتيجية إسرائيلية لتجنب التعامل مع بدائل سياسية قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية في حكم القطاع، خصوصًا في ظل تزايد الدعوات الدولية، بما في ذلك من الإدارة الأمريكية الحالية، لإنشاء دولة فلسطينية تشمل قطاع غزة والضفة الغربية.

مخاوف إسرائيلية بشأن بدائل الحكم في غزة

لم تتوقف الأطراف الإسرائيلية المختلفة عن طرح الخيارات البديلة في غزة. وخلال الأشهر الأخيرة من الحرب، قدمت القناة الـ12 الإسرائيلية دراسة بعنوان “خيار دولي لحل أزمة غزة”. تناولت الدراسة محاولة الوصول إلى نتائج هذا الخيار وانعكاساته على مجريات الصراع، وخلصت إلى نتيجة مفادها أنه لن يكون ممكنًا، في مرحلة ما بعد حماس، تجاهل القضية الفلسطينية وما يحيطها من مطالب دولية. هذا الأمر يمثل تهديدًا خطيرًا لحكومة نتنياهو وحلفائه المتدينين، لأنه يهدد استقرار الائتلاف الحاكم ويترك تداعيات سياسية عميقة على الصراع. وأشارت الدراسة إلى أن بقاء الانقسام الفلسطيني يُعتبر الخيار الأمثل لإسرائيل.

تجلت نتائج اتفاق وقف إطلاق النار عبر مراحل متعددة، بدءًا بتبادل الأسرى، مما أكد حرص الحكومة الإسرائيلية على إضعاف المقاومة في غزة دون السعي لإيجاد بديل عنها. وجاء الخطاب الإعلامي للائتلاف الحاكم بعد توقيع الاتفاق ليخفف من الشعور بالهزيمة، خاصةً وأن وقف إطلاق النار يُلقي بظلاله على مستقبل هذا الائتلاف. وفي المقابل، تبنت المعارضة الإسرائيلية خطابًا يفضّل استمرار الحرب، بعكس موقفها السابق الذي كان يدعو إلى التوصل لاتفاق تهدئة يغلق ملف الأسرى.

رغم تحذيرات جدعون ساعر، وزير خارجية الاحتلال، من بقاء حكم حماس في غزة بعد ساعات قليلة من موافقة حكومته على اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن سلوك الجيش الإسرائيلي، الموجه من ائتلاف نتنياهو الحاكم، لم يعكس أي نية حقيقية لتحقيق ذلك على الأرض. وفي حديثه للإعلام، قارن ساعر بين غزة اليوم وغزة بعد قرار فك الارتباط عام 2005، مشيرًا إلى تفكيك إسرائيل لمستوطناتها وانسحاب جيشها من القطاع آنذاك. كان الهدف من هذا الخطاب التخفيف من الشعور السلبي السائد في الأوساط الشعبية والسياسية الإسرائيلية.

يتضح أن هناك رؤية عامة في إسرائيل، ليست مهتمة بمصير من يحكم قطاع غزة بقدر ما تهدف إلى منع أي محاولة لإقامة دولة فلسطينية. هذه الرؤية تتجاوز حدود اليمين الإسرائيلي الديني، حيث تتبنى إسرائيل بشكل عام سياسة تقوم على تثبيت الانقسام الفلسطيني وتعزيزه.

وفي سياق منفصل، لم تُبدِ الحكومة الإسرائيلية أي مرونة بشأن تنفيذ قرارها الخاص بمنع وكالة الأونروا من العمل في الأراضي المحتلة الخاضعة لسيطرتها العسكرية والمدنية. يشكل هذا القرار عائقًا حقيقيًا يزيد من تعقيد التعامل مع الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة. كما يُعطل تثبيت مخرجات اتفاق وقف إطلاق النار كمسار استراتيجي مستدام.

ذلك لأن الأونروا لا تُقدم فقط خدمات إغاثية وتعليمية وصحية واسعة النطاق في أماكن تواجد اللاجئين الفلسطينيين، بل تُعد أيضًا ركيزة أساسية لدعم أي مسار استراتيجي على المستوى السياسي. فهي المؤسسة الأممية الوحيدة التي تُشرف على ملف اللاجئين الفلسطينيين، مما يجعل دورها ضروريًا في أي خطة تسعى إلى تحقيق حل الدولتين.

ثالثاً: الفلسطينيون واتفاق الهدنة والمسار الاستراتيجي

بوجه عام، أبدت الفصائل الفلسطينية ارتياحًا واسعًا تجاه تفاهمات الاتفاق الذي توصلت إليه حركة حماس، خاصةً أنه جاء بعد وصول المحادثات إلى طريق مسدود نتيجة التعنت الإسرائيلي، الذي سعى إلى إطالة أمد الحرب عبر توسيع العمليات العسكرية الميدانية، مما أعاق نجاح المفاوضات في مرات عديدة للتوصل إلى تهدئة.

ورغم تقسيم آلية تنفيذ شروط الاتفاق إلى ثلاث مراحل، تأمل حركتا حماس والجهاد الإسلامي، خلال محادثات المرحلة الثانية، في تقليص المرحلتين المتبقيتين إلى مرحلة ثانية ونهائية. وقد أعرب وزير خارجية قطر عن سعي الوسطاء إلى جعل المرحلة المقبلة خطوة نهائية لتحقيق اتفاق مستدام.

من جانبها، أبدت الفصائل الفلسطينية استعدادها الكامل للمشاركة في ترتيبات إدارة المرحلة المقبلة، سواء في إطار التوافق الفصائلي في القاهرة، الذي أفرز تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي، أو ضمن سياق اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يجري تنفيذ مرحلته الأولى حاليًا.

حتى الآن، لم تتبلور تصورات واضحة لدى الأطراف الفلسطينية بشأن كيفية تحويل مخرجات الاتفاق الحالي إلى مسار استراتيجي مستدام. يُتوقع أن تتضح ملامح هذه التصورات خلال الأسابيع القليلة المقبلة، مع استكمال التفاهمات الفصائلية في القاهرة، وتنفيذ مراحل اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى، بما يمهد لوقف نهائي للحرب. هذا التطور قد يمنح الأطراف الفلسطينية فرصة لترتيب أولوياتها في إدارة المرحلة المقبلة.

ورغم التحديات القائمة، يمكن استشراف طبيعة المرحلة المقبلة من خلال رؤى الأطراف الفلسطينية، لا سيما الفصائلية منها. تتجه هذه الرؤى نحو تجاوز الأزمة السياسية المتعلقة بإدارة قطاع غزة، في إطار تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي، التي يُتوقع أن تُعنى بالشؤون الإدارية والإنسانية للقطاع. ومن شأن ذلك أن يُمكّن الأطراف الفلسطينية من وضع استراتيجية طويلة المدى لتعزيز الاستقرار الداخلي وإرساء قواعد سياسية وإدارية تقود نحو مسار استراتيجي مستدام، يوازن بين التحديات الميدانية والاحتياجات الإنسانية المتزايدة.

قراءة الفصائل لإدارة المرحلة

تُدرك الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، أهمية تنسيق الجهود مع الأطراف الإقليمية والدولية لتجاوز تداعيات المرحلة الحالية على مختلف المستويات. يشمل ذلك إحداث تحول سياسي شامل يضم جميع المكونات الفلسطينية لإدارة المشهد الحالي، بما يساهم في تسريع عملية إعادة الإعمار وتخفيف الأزمة الإنسانية في القطاع.

من جهة أخرى، قد تسعى حركة حماس إلى الإبقاء على إدارة الشؤون الأمنية في القطاع تحت إشرافها المباشر لفترة وجيزة، نظرًا للحاجة الملحة للتعامل مع التداعيات الأمنية الناتجة عن حرب الإبادة التي استمرت خمسة عشر شهرًا.

تحديات التحول نحو المسار الاستراتيجي

يمثل استكمال المرحلتين المتبقيتين من اتفاق وقف إطلاق النار تحديًا كبيرًا أمام حركة حماس، لا سيما في ظل غياب ضمانات إسرائيلية ملزمة تمنعها من استئناف العمليات العسكرية في حال تعثرت محادثات المرحلة الثانية. قد تستخدم إسرائيل هذا الوضع كورقة ضغط على المفاوض الفلسطيني لتقديم تنازلات، مثل تفكيك القدرات العسكرية والأمنية لحماس، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.

علاوة على ذلك، لا تزال العديد من الملفات الخلافية تشكل عائقًا أمام التوصل إلى صيغة نهائية للاتفاق. ومن أبرز هذه الملفات قضية تضمين قياديين من بعض الفصائل الفلسطينية في اتفاق تبادل الأسرى، وهو ما ترفضه إسرائيل رفضًا قاطعًا. بالإضافة إلى ذلك، تبرز قضايا تتعلق بالبقاء العسكري الإسرائيلي في محوري فيلادلفيا ونتساريم، وطبيعة الواقع الأمني والعسكري في قطاع غزة.

يتطلب تجاوز هذه التحديات تقديم صيغ تفاوضية تعزز من فرص الإتمام النهائي للاتفاق، بما يضمن منع استئناف الحرب أو استمرار الاحتلال في هذه المحاور الحيوية.

آفاق وقف الحرب

يتوقف تحويل صفقة وقف إطلاق النار إلى مسار سياسي استراتيجي مستدام على مدى الاستجابة الفعالة والمرنة التي ستبديها الأطراف الفلسطينية في التعامل مع معطيات الوضع الحالي. كما يعتمد هذا التحول على عدة عوامل رئيسية، أبرزها تشكيل حكومة وفاق وطني تضم كافة المكونات السياسية والشعبية الفلسطينية، بما في ذلك حركتا فتح وحماس. من شأن هذا التوافق تعزيز المسار الوحدوي، والدفع نحو محادثات سلام تفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية، مستفيدةً من الدعم الإقليمي والدولي لإعادة تفعيل مسار حل الدولتين.

إضافة إلى ذلك، تشكّل وتيرة إعادة الإعمار وسرعة ترميم تداعيات الأزمة الإنسانية لسكان القطاع عاملًا أساسيًا في إمكانية تحويل الاتفاق الحالي إلى مكتسبات استراتيجية. يمكن لهذه المكتسبات أن تسهم في تعزيز الاستقرار الداخلي في القطاع على كافة المستويات، وتدفع الفلسطينيين نحو توافق وطني يشكّل مظلة لاستئناف مسار سياسي مدعوم إقليميًا ودوليًا.

ورغم تعدد المؤشرات التي تعكس رغبة إسرائيلية واضحة في مواصلة العمليات العسكرية في قطاع غزة بعد انتهاء المرحلة الأولى، كما ظهر في تصريحات إسرائيلية تؤكد على الإصرار في تحقيق كافة أهداف الحرب، إلا أن تطورات المشهد قد تدفع نحو مسار مغاير. من المرجح أن تشهد الأيام المقبلة تطورات تعزز التوجه نحو استمرارية إتمام الاتفاق الجاري، دون استبعاد سيناريوهات أخرى، مثل تجميد الوضع الإنساني عبر إطالة أمد التفاوض كوسيلة ضغط لاستكمال أهداف الحرب، مع تنفيذ خروقات محدودة لا تؤدي إلى انهيار اتفاق وقف إطلاق النار.

تبدو إسرائيل، بدرجة أولى، في مسار يصعب التراجع عنه، خاصة مع المشاهد التي رافقت أولى عمليات المقاومة لتسليم أسرى الاحتلال، والتي كشفت عن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية خلال الحرب. هذا الفشل قد يدفع إسرائيل إلى إعادة النظر في استراتيجيتها، مستبدلةً توجه الاستمرار في الحرب بالسعي إلى تفاهم نهائي يُحيّد قدرة حماس العسكرية، مقابل انسحاب إسرائيلي من محاور قطاع غزة، بما يضمن عدم وجود تهديد مستقبلي.

في حال استمرت حكومة الاحتلال في مسار تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، فقد تتجه إلى اتخاذ إجراءات تبطئ عملية إعادة الإعمار، مستغلةً سيطرتها على الحدود. هذا النهج قد يهدف إلى إبقاء حركة حماس منشغلةً بإدارة تداعيات الحرب على المستويين الإنساني والعمراني، مما يخرجها من دائرة الصراع لفترة طويلة. في المقابل، يتوجب على المكونات الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، العمل على تثبيت مكتسبات سياسية إلى جانب الإنجازات الميدانية، بما يدفع نحو مسار استراتيجي مستدام.

كما يعتمد نجاح وقف الحرب على تقارب المواقف الإقليمية، مع الالتزام بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الفصائل والمكونات الفلسطينية. هذا التقارب، الذي أعطى الأولوية لوقف الحرب، يمكن أن يسهم لاحقًا في ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني. ستشكل هذه الملامح محددًا رئيسيًا في حماية وإسناد الملف الفلسطيني تحت مظلة من الشراكة الإقليمية، مما يتيح تقريب مواقف الفلسطينيين.

إن التناسق بين مواقف مصر، تركيا، والسعودية، يضع الفلسطينيين أمام خيارات متقاربة، تفتح لهم آفاقًا جديدة لتعزيز تمثيلهم في المشهد السياسي، ودفع جهودهم نحو تحقيق استقرار داخلي ومكتسبات مستدامة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق