أنشطة الحوارالحوار الفلسطينيمقالاتمقالات رأيوجهات نظر

الحياد الفلسطيني والقرار الوطني المستقل

الحيادُ صفةٌ عزيزةٌ، وقد أضحت سياسةً نادرة، وهي إيجابيةٌ بالقطع، وحسنةُ النتائج في الغالب، تحمي وتقي، وتنقذ وتنجي، وهي سلوكٌ صعب، يتناقض مع الفطرة، ويتعارض مع طبائع الإنسان، الذي هو بطبيعته متدخلٌ حشور، يحب أن يدس أنفه في كل مكان، ويحشر نفسه فيما لا يعنيه، ويتنطع لما لا يقوى عليه، ويتصدر لما ليس له، ويتدخل في شؤون الآخرين دون أن يسألوه المساعدة، أو يطلبوا منه العون، رغم أن الحياد خُلق، وعدم التدخل في شؤون الآخرين فضيلة، إلا أن الإنسان عدوٌ لكثيرٍ من الفضائل.

لكن قد لا يملك الإنسان أحياناً حرية القرار، ولا خيار الحياد، فيضطر أن يكون طرفاً مع حليفه، أو عضداً لمن يخاف منه، وسنداً لمن لا يتفق معه، فينحاز في موقفه، ويعلن وقوفه وتضامنه، وتأييده ومساندته للبغي الظالم، أو للمعتدي الغاشم، فيفقد النصير وينقلب على الصديق، ويصادق العدو ويتفق مع الغريم، وهذا أمرٌ لا يقوم به إلا الضعفاء الجبناء، الذين يخشون سطوة القوي وعقاب القادر، أو الجهلاء السفهاء، الذين يتهورون ولا يعقلون، والذين يفتقرون إلى الحكمة وتنقصهم الخبرة والتجربة.

وقد لا يستطيع الإنسان لظروفٍ ما الاحتفاظ بصفة الحياد، والتمسك بسياسة النأي بالنفس، وإن كانت هي السياسة الذهبية والحكمة الأبدية، فلا يُسمح له بأن يبقى بعيداً، يشاهد ويتابع ولا يتدخل ولا يتأثر، بل قد يُجر أحياناً رغماً عن أنفه، ويجبر على الانغماس والتدخل بغير إرادةٍ منه ورغبة، فلا ينفعه تمنعه، ولا تجدي معه سياسة النأي بالنفس التي يعتمدها ويحرص عليها، مخافة أن يتهم أو أن يشمله العقاب، أو يحل عليه الغضب وبه السخط، وينزل بساحته البلاء، وقد سبق جورج بوش الابن في حربه على ما يسمى بـــ”الارهاب” بهذا المعنى فقال “من ليس معنا فهو ضدنا”، وهو ما يجعل الحياد قراراً صعباً لا يقوى عليه الجميع، ولا يستطيع الالتزام به الكل، ولا يقوى على تحمل تبعاته سوى الأقوياء. 

ومع ذلك فإن على الفلسطينيين رغم ضعفهم أن يكونوا دوماً على الحياد فيما يتعلق بالشؤون الداخلية للدول، العربية والإسلامية وغيرها، فلا يتدخلوا في شؤون أي دولة، ولا يكونوا جزءاً من أي معادلة داخلية، أو تركيبةٍ طائفية، ولا يشتركوا في لعبة التجاذب السياسي، ولا يساهموا في حملةٍ، ولا يشاركوا في حربٍ، ولا ينظموا إلى تحالفٍ، ولا يكونوا عوناً للأنظمة على شعوبها، ولا عيوناً لهم على مواطنيهم، ولا ينخرطوا في صفوف الشعب، متظاهرين أو مقاتلين، ضد الأنظمة والحكام، وإن كان ظلمهم بادياً، وجورهم عالياً، إلا أن هذا لا يبرر لهم أن يصطفوا، أو يبيح لهم أن يشتركوا في المعارك الداخلية، لصالحِ فريقٍ ضد آخر، وإنما عليهم أن ينأوا بأنفسهم حقاً، ويبتعدوا فعلاً، ويكونوا على الحياد التام، وألا يقبلوا أن يكونوا في ميزان أحد، أو ورقةً في يد أي فريق، مهما كانت المغريات أو العواقب. 

لكن صفحات التاريخ تخبرنا أن أسوأ ما عانت منه القضية الفلسطينية فعلياً على مدى عقودٍ عشرة من الزمن، هو فقدان السيادة الوطنية على الأرض، وغياب الاستقلالية الحرة في القرار، وشتات القيادة بين الجار القريب والحليف البعيد، وبين الصديق الوفي والشقيق المشاكس، وبين الناصح الصادق وصاحب الرأي المخادع، والتخبط الأعمى بين الحسابات الوطنية والمصالح الإقليمية، وبين المنافع الخاصة والمكتسبات العامة، وضياع البوصلة بين حياد الوطن والشعب وبين الانحياز الأعمى المريض الذي أضر بالقضية والوطن، وسبب للشعب نكساتٍ وخسائر مؤلمة ما زال يدفعها حتى اليوم من استقراره وقوت أبنائه.

يعيب البعض على الفلسطينيين حيادهم، ويطالبونهم بأن يكونوا موضوعيين ومنطقيين، وأن يكونوا عرباً مخلصين، فلا يتناقضون مع هويتهم، ولا ينقلبون على قوميتهم، وألا ينأوا بأنفسهم وبفلسطين وأهلها عن قضايا العرب المحقة، التي تعبر عنها شعوبها، أو يدافع عنها قادتها، ويرون أن قضاياهم عادلة وصريحة، ومعلومٌ فيها المصالح الوطنية والقومية العربية، ومكشوفٌ فيها التآمر والارتباط، والعمالة والارتهان. فتراهم يقفون حائرين أمام الحرب الدائرة في اليمن، فبعض العرب يطالبهم بتأييد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، ويحضهم على إدانة الحوثيين والوقوف ضدهم، والتشكيك فيهم واتهامهم، وغيرهم يريد من الفلسطينيين عكس ذلك. وآخرون يطالبونهم بأن يكون لهم موقف إزاء ما تتعرض البلاد العربية من عمليات انتهاكٍ سافرةٍ لسيادتها، واعتداءاتٍ على أرضها وسرقة لخيراتها وثرواتها، ويعتبرون أن الصمت إزاء عمليات التدخل الأجنبية في بلادنا العربية، وعدم إدانتنا لها أو اعتراضنا عليها، إنما هو تواطؤ وخيانة، وتفريطٌ وتنازلٌ، ويعلو صوت هذا الفريق متهماً الفلسطينيين بالتحالف مع أعدائهم، والتعاون مع خصومهم، والولاء للفرس تارةً وللترك تارةً أخرى، ولقطر أحايين أخرى كثيرة.

ويرى آخرون أننا ناكرون للجميل، ولا نحفظ الفضل ولا نشكر أصحاب السبق، وأننا لسناء أوفياء ولا مخلصين، وأننا لم نقدر تضحيات الشعوب العربية التي قدمت إلى جانب الدعم المادي، تضحياتٍ كبيرة في الأرواح، وأخرى أثرت على حياة مواطنيهم ورخائهم. بالمقابل هناك من يصف الحياد الفلسطيني بالتخاذل والجبن، ويطالبهم بأن يكونوا شجعاناً صريحين، صادقين ومنصفين، وإنسانيين عقلانيين، فينصفون اليمنيين، ويصفون الحرب عليهم بأنها حربٌ ظالمة، وأنها عدوانٌ سافرٌ، تستهدف الأطفال والنساء وسائر الشعب اليمني. ويطالبونهم بأن يكون لهم موقف مما يتعرض له الشعب البحريني، الذي يعاني من محنةٍ كبيرةٍ وحربٍ قذرةٍ يشنها نظامه على فئاتٍ من شعبه، وأن يقولوا بأن الانقلاب العسكري في السودان قد نفذته قوىً متحالفة مع إسرائيل ومتعاونة معها.

أمام هذا التنازع المقيت، ومحاولات الجذب غير الشريفة، ومساعي الاصطفاف غير الحكيمة، تقفز إلى الأذهان وتستدعي من الذاكرة، أحداث أيلول الأسود في الأردن، والحرب الأهلية في لبنان، واجتياح العراق للكويت، والاصطفاف الرسمي الفلسطيني مع طرفٍ ضد آخر، بعيداً عن الحياد الأسلم، مما كبد الفلسطينيين خسائر حقيقية، ما زال الشعب يدفع ثمن مواقف قيادته حتى اليوم.   لذا أرى أنه لزاماً على الفلسطينيين، الذين لن يتمكنوا من إرضاء أحد بموقفهم، أن يقفوا على الحياد، وألا ينحازوا مع فريقٍ ضد الآخر، وأن يحافظوا على سياسة النأي بالنفس عن الصراعات العربية، ذلك أن أحداً في حال أعلن الفلسطينيون انحيازهم، لن يغفر لهم موقفهم، أو يقبل عذرهم، ويقتنع برأيهم، فكل فريقٍ يريدهم معه ولجانبه، وإلا فإنه سيكون عليهم وضدهم إن خالفوه وأيدوا غيره.

الفلسطينيون ليسوا كغيرهم من الشعوب العربية، فلا دولة لهم ولا كيان، ولا حكومة تجمعهم، ولا نظام ينسق مواقفهم، وإنما أكثرهم شتاتٌ مبعثر، وضيوفٌ لاجئون، يقيمون في بلاد اللجوء، ويتوزعون في الفيافي والقفار، يحملون بطاقة اللاجئ البيضاء، فلا يتمتعون بموجبها بأي ميزة كالتي يتمتع بها المواطنون، وإن كانوا يعيشون في بعض الدول العربية بكرامةٍ ويلقون فيها حسن معاملة، لخلقٍ في إخوانهم، ولقوانين تحسن إليهم، وتتسع لهم ولا تضيق عليهم، فإنهم في بلادٍ عربية أخرى يعانون ويضهدون، ويحرمون ويعاقبون، فلا سماحة خلقٍ تتسع لهم، ولا قوانين إنسانية تستوعبهم، ولا أمن عامٍ يرأف بهم، أو ييسر دخولهم وإقامتهم. إزاء هذا الواقع فإن على كل الأطراف المتنازعة، أن تراعي أن الفلسطينيين يدفعون ثمن القتال، ويعانون في مناطقهم ربما أكثر مما يعاني غيرهم، وكثيرٌ منهم قد قتل، وآلافٌ منهم قد شردوا، تاركين بيوتهم ومتاعهم نهباً للصوص، الذين عاثوا في بيوتهم فساداً، وقد كان حرياً بكل الأطراف، أن يجنبوا المخيمات وسكانها ويلات القتال، وأن ينأوا بقذائفهم بعيداً عنها.

وإلا فأين يذهب الفلسطينيون المشردون، وقد أضرت بهم الأحداث كثيراً، فتركيا لا تقبل بهم دون تأشيرةٍ، وهي لا تمنحها بسهولةٍ، ومصر لا ترحب بهم وتضيق عليهم وتطالب برحيلهم، ولبنان يخاف منهم ويحاول التقليل من أعداهم، والأردن يرفض استقبالهم، ويستبقيهم على الحدود والبوابات، والعراق الذي أذاقهم من العذاب ألواناً لا يحبون اللجوء، وقد رحل منه كل إخوانهم، وبقية الدول العربية لا ترحب ولا تسمح ولا تستقبل، ووطنهم لا يسعهم، وعدوهم لا يسمح لهم. يجب على جميع الأطراف أن يقبلوا بالحياد الفلسطيني، وأن يرحبوا به ويشيدوا بحكمته، وألا يطالبوا الفلسطينيين بأي موقفٍ مؤيدٍ أو معارض، مساندٍ أو ممانع، فنحن لا نستطيع أن نساهم بشئ، إذ لا طائرات عندنا ولا دبابات، ولا سفن لدينا ولا بوارج حربية تحت تصرفنا، فلا نتورط بأعمال عسكرية، ولا نتدخل برأي.

ولا نكون مع فريقٍ ضد آخر، وإن كان لنا رأي وموقف فإننا نحتفظ به لأنفسنا، ولا نوظفه مع أحدٍ ضد آخر، فقد علمتنا الأزمات القديمة أن خلافات العرب تزول، والحقد على الفلسطينيين يدوم ولا يزول، ونحن أضعف من أن نحتمل المزيد من الضرائب، أو أن ندفع ثمن المواقف، ونؤدي عاقبة القرارات السياسية. وينبغي على القيادة الفلسطينية، وقادة الأحزاب والقوى والفصائل، أن يكونوا حذرين في مواقفهم، وحكماء في سياساتهم، وعقلاء في تصريحاتهم، فلا يتهوروا ولا يتورطوا، ولا يتنطعوا ولا يتطوعوا، ولا يقحموا أنفسهم ولا يزجوا قضيتهم فيما لا يحمد ولا يرجى من خاتمته الخير، فلا يعلنوا موقفاً يحسب عليهم، ويسجل في صحيفة شعبهم، ويجعل منهم طرفاً في المعركة، وفريقاً في القتال.

بل إن التجارب السابقة تدعوهم إلى التفكر والتدبر، والتعقل والتبصر، فلا يوردوا شعبهم موارد الهلاك، ولا يساهموا في تشتيته أكثر، ولا يكونوا سبباً في فرقتهم وضياعهم، إذ يكفينا ما وجدنا في الكويت والعراق، ومن قبل في الأردن ولبنان، ومن بعد في مصر وسوريا. الورقة الفلسطينية حساسةٌ جداً، فلا ينبغي اللعب بها، أو توظيفها أو استغلالها، أو استخدامها في غير مكانها، واهدارها في غير موقعها، فمكانها الصحيح هو في فلسطين، في مواجهة العدو الصهيوني، وقتاله ومقارعته بكل السبل الممكنة، فهذا هو ميدان الفلسطينيين، وساحة جهادهم، وإن كنا نقدر أن شعوب أمتنا العربية لم يقصروا معنا، ولم يتأخروا يوماً عن نصرة قضيتنا، ومساندة شعبنا، فقد قاتلوا إلى جانبنا، واستشهدوا من أجل قضيتنا، وسجنوا لمقاومتهم، ومنهم من كان رمزاً لمقاومتنا، واسماً لكتائبنا، وهو سوريٌ جاء إلى فلسطين مقاتلاً، وعلى أرضها استشهد.

نحن الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، نعلن بصوتٍ واحد، وبلسانٍ بينٍ واضح، أننا لسنا مع فريقٍ ضد آخر، ولن نكون أداةً في يد أحد، ولا نقبل أن نكون بندقيةً مأجورةً لأي فريق، فلا نقاتل أحداً، ولا نقف في خندقٍ ضد آخر، وإن كانت لنا أمانينا، ووجهات نظرنا، فإننا نحتفظ بها لأنفسنا، ولا يعيبنا صمتنا، ولا يخزينا رقادنا، فهذه المعركة ينبغي أن نكون في منأى عنها، لئلا يحاسب شعبنا، ويعاقب أبناؤه، وتدفع الأجيال ضريبة تدخله، وعاقبة انحيازه، فلنتجنب التدخل والانجرار، حتى تبقى بيارقنا مرفوعة، وصفحاتنا ناصعة، ونواصينا عالية، وقراراتنا مستقلة.

الوسوم
اظهر المزيد

د. مصظفى اللداوي

د. مصطفى يوسف اللداوي، ممثل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" السابق في كلٍ من سوريا ولبنان، وأحد مؤسسي مؤسسة القدس الدولية وأول مديرٍ عامٍ لها، وعضو قسم العلاقات العربية والإسلامية في حركة حماس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق