مقالاتمقالات رأيوجهات نظر

فلسطين: حياد السياسة واستقلال القرار!

للوهلة الأولى يبدو أن العنوان يتضمّن مسألتين ليستا مترابطتين، بينما يمكن للتأمل في الموضوع أن يفضي إلى أن كلّاً من الحياد السياسي واستقلال القرار السياسي هما مكوّنان لشيءٍ واحد، إلى أنه في سياق عملية مؤسساتية متكاملة يشكّل كل منهما داعما للآخر ، و مقدمة   له، ؛ وخصوصا في حالة شديدة الالتباس كالحالة الفلسطينية، التي ارتبطت قضيتها منذ اللحظة الأولى ببعدها العربي، ولأن العرب حاربوا عن فلسطين كما حاربوا عن عواصمهم، بينما هناك فلسطينيون يريدون الاستقلال التام عن القرار العربي.                                                                

مع أزمة الاقليم التي استجدّت خلال العقد الأخير، بدا الأمر أكثر تعقيداً من منظور قضية لطالما حرص أصحابها على أن تكون عابرة للحساسيات، فقد وجد الفلسطينيون قضيّتهم في مركز الصراعات، والاصطفافات، والمحاور، وبدت رغبتهم في النأي بقضيتهم عن الأضرار الناتجة عن هذا الصراع كرغبة السائر في المطر في ألّا يُبلّ، أو كما يقال في الدراج الفلسطيني: أن يسير على لوح الزجاج المتشقّق دون أن ينكسر.

منذ نشوء الثورة الفلسطينية المعاصرة، أو النظام السياسي الفلسطيني، إذا جازت تسميته، نشأ ابناً شرعياً للنظام العربي الرسمي، فقد وُلد من رحم الجامعة العربية، وهذا كان بداية الالتباس في موضوع استقلال القرار. ففي عصر هيمنة الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر بدا أن إيجاد معادلة الاستقلال أمر شديد التعقيد، سواء لاختيار الجامعة العربية المحامي أحمد الشقيري لقيادة المنظمة، قبل أن تقودها الفصائل الفلسطينية، وقبل أن تنشأ معارك تضعها على الخارطة السياسية وتحْيي تطلّعات تمايز الهوية والقرار.

لا يفيد سرد التاريخ سوى للاتكاء على مفرداته للتطلّع إلى المستقبل، وخصوصاً عندما يشهد الراهن هذا القدر من فقدان التوازن والتداخلات الإقليمية والمحاور التي تطلّ برأسها في الغرفة الفلسطينية المغلقة، أو التي كان ينبغي أن تكون كذلك. كما ناضل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية التاريخي، يبدو سؤال القرار المستقل سؤال الضرورة الوطنية، وهو لا ينفصل كثيراً عن موقع القضية الفلسطينية وموقفها ممّا يعصف بالعالم وخصوصا في إقليمه/ رحمه العربي الذي شاءت فرادة تجربتها أن يبقى الحبل السري لذلك الرحم الذي أنجبها متصلاً، سواء شاءت ذلك لحظة الولادة، أو بسبب التاريخ أو قدر الجغرافيا.

سار الفلسطيني تحت المطر، وعلى لوح الزجاج، وكانت لحظة التعبير الأبرز عن سياسته عندما كانت طائرة الزعيم التاريخي للفلسطينيين هي الوحيدة التي تقلع من مطار بغداد وتحطّ في مطار طهران في ذروة أمطار القنابل بينهما. ولا داعي للاستطراد في سرديات تاريخية لوصف التوازن الصعب في هذه السياسة الذي اقتضته الضرورة، وكيف جرى الإخلال به بعد عقود، فوصل الوضع إلى حيث بات لكل الأطراف المتصارعة على المنطقة مربط عنزة في فلسطين، بهدف جرّها إلى معاركه، أو بهدف التأثير على قرارها لتُفقِدها بعض حيادها أو كلّه، وتفقدها قرارها الذي استمرّ لعقود ببوصلة تحسب للقدس فقط بميزان بائع الذهب بعيداً عن رغبات الاّخرين ونزواتهم وحروبهم.

علينا أن نعترف أن القرار الوطني المستقلّ ليس مسألة منفصلة عن مكوّنات وممكنات يقف عليها، وتلك المكوّنات تشكل عناصر القوة التي يتم إشهارها في وجه الآخرين. والتي يمكن تعريفها بالقوة الناعمة، التي كانت أبرز ممكنات القوة الفلسطينية، والتي كانت تشكّل حائط الصدّ أمام التدخلات الخارجية. وعلينا أن نعترف أن الانهيار الذي حدث للقوة الناعمة الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، وشكّل النموذج الذي قدّمه الفلسطيني، وأن الأداء الاداري والسياسي المتعثر أحدث تآكلاً هائلاً بممكنات القوة تلك. وهو ما تكثّف أكثر بعد الصراع الداخلي بين القوى الفلسطينية، التي تناحرت، فانتهى بها الأمر إلى كيانين استكملا حالة الصراع، وذهبا أكثر نحو محاور بعيدة، كلٌّ في اتجاه أفقدَ الحالة الفلسطينية لا حيادَها التاريخي فحسب، بل فتح أيضاً شهيّة الاّخرين لاستخدامها في لحظات غرِق الإقليم بجملة صراعات واصطفافات. حتى بدا أن القرار المستقل، الذي قاتل الفلسطينيون من أجله، تبخّر في لحظة صراع فلسطيني.

هناك فرقٌ بين أن تحافظ القضية الفلسطينية على طهرانيّتها، فيتقرّب منها الجميع للحصول على شرعية، وأن تفقد القضية بريقها وتتحوّل إلى جهازٍ سياسيّ مطلوب صوته وسط تحالفات واصطفافات باتت المشهد الأكثر طغياناً في السنوات الأخيرة، في صراع أطراف انقسمت إلى محاور، واستخدمت كلّ ما لديها من أوراق قوة اقتصادية وسياسية وإعلامية، ووجدت في القضية الفلسطينية مادة يمكنها استخدامها. وبالنتيجة بدا الحاضر الفلسطيني لا يشبه سابقه، حين كان له حضوره الطاغي فوق الجميع وقراره المستقل.

في البداية شاء النظام الرسمي العربي أن تظلّ منظمة التحرير مؤسّسة خاضعة كلّيّاً، ونترك في مقالنا البحث فيما كان ذلك في مصلحة الفلسطينيين أم لا، ولكن جاءت هزيمة عام 1967 فأضعفت من هيمنة العرب على المنظمة، ثم جاءت معركة الكرامة كأول تجربة للفلسطيني في الحرب مع إسرائيل، فصنعت تغيّراً هائلاً في بنى القوى السياسية الفلسطينية الوليدة، وأبرزها حركة فتح التي باتت تستقبل دعم مئات الآلاف وتأييدهم، وعلى صعيد العلاقة مع النظام العربي المنهزم قبلها بعامين، واتّسع الحديث عن استقلال القرار الوطني الفلسطيني بلا تلعثم. وقد شهدت السنوات الخمس التي تلت معركة الكرامة تجسيداً لهذا التوجّه، وتمثَّل في الخطاب الفلسطيني المتفرّد في الأمم المتحدة عام 1974. ثم بعده بعام أُقرّت تسمية منظمة التحرير الفلسطينية ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وفي حالة استقلال تام لقرارها، وتراجع الدور العربي إلى موضع الدور مساند، وانتقل الصراع مع انتقال المنظمة إلى بيروت، وبدأت معارك القرار المستقل مع النظام السوري الذي أراد الهيمنة على النظام الفلسطيني، وتجسّد استقلال القرار مرة أخرى في حرب بيروت التاريخية.

وفي تلك المرحلة لم يكن أحدٌ يتحدث عن الحياد الفلسطيني، لأنه متحقّق تلقائياً في ظلّ وهج الثورة وصعودها وإنجازاتها، ولم يكن أحد يجرؤ على أن يطلب منها موقفاً، لثلاثة أسباب:

الأول: وجود شخصية تاريخية برمزية ياسر عرفات.

الثاني: وهج الثورة كان أكبر من حروب الاّخرين وخلافاتهم.

الثالث: تماسك الثورة في مؤسسة واحدة، هي منظمة التحرير الفلسطينية، تعبّر عن الموقف الموحد، الذي لم يكن يسمح بالخروج عن ما يتم التفاهم عليه. وحتى في ظل صناعة جناحي البعث في العراق وسوريا منظمات فلسطينية تابعة لهما، ظلّ الحياد هو السمة الأبرز للنظام السياسي الفلسطيني.

واستقلال القرار هو مدخل طبيعي للحياد، فحين يصبح القرار مستقلاً من الطبيعي أن تُتّخذ المواقف بعيداً عن مصالح الاّخرين ونزاعاتهم. والمقصود بالحياد الفلسطيني تجنُّب اتخاذ مواقف من أطراف متصارعة لصالح أي طرف فيها، لأنّ القضية الفلسطينية لا تحتمل خسارة أي طرف باستثناء الذين يقفون ضدها. وقد تجسّد ذلك لعقود طويلة قبل أن يحدث الزلزال الكبير الذي يعيشه الإقليم في العقد الأخير، ولسوء حظ الفلسطينيين أنه قد ترافق مع حالة صراع فلسطيني_ فلسطيني، وانقسامهم، وضعف قضيتهم، وحاجتهم المالية، وارتباطاتهم الخارجية المتنوعة، وغياب الموقف الموحّد.

ولقد كانت منظمة التحرير قد اتُّهمت بالخروج عن حيادها عندما قام العراق بغزو الكويت، وكان الثمن غالياً، ومنه طرد 600 ألف فلسطيني، وهو ما كرّس في الوعي السياسي الفلسطيني وعبّر عنه مزيداً من الإصرار على الحياد. وجاء مطلع القرن، فانقسم النظام العربي إلى محورين، بتسميتَيْ: “الممانعة”، و”الاعتدال”، وهو ما وجد صداه في الداخل الفلسطيني؛ فوقفت حركتا (حماس) و(الجهاد) مع محور الممانعة، وحركة (فتح) مع محور الاعتدال. ثم جاء الاضطراب في عشرية الإقليم السوداء على وضعٍ فلسطيني متشظٍّ، فانحازت (حماس) بشدّة إلى موجة التغيير، التي أُطلق عليها اسم “الربيع العربي” في كل من تونس، ومصر، وسوريا، وليبيا، واليمن، فيما حافظت المنظمة على قدرٍ من التوازن، قبل أن ينجرّ كلاهما ليؤيد الحرب الخليجية على اليمن. وهكذا غرقت الحالة الفلسطينية في الإقليم وصراعاته، ما زاد من أزمتها، وزاد من غرقها غيابُ وحدة الموقف. ويمكن أن نأخذ تأييد حركتي (فتح) و(حماس) لعاصفة الحزم، كنموذج على الخروج عن الحياد وفقدان الفلسطيني لقراره المستقل.

صحيح أن هناك عدّة عوامل لا يمكن أن تشملها هذه الورقة، لكن يمكن اختصارها بأن المناخات العامة كانت تُفضي إلى الوضع الذي نصفه، وأن الانهيار الذي حدث للحالة الفلسطينية والتغيّر الذي حدث للنظام السياسي الفلسطيني، من ثورة إلى حكم، أو حكمين، وحاجتهما إلى العلاقات الخارجية والمال لإنجاح التجربة، كلّ ذلك أضعف من القرار الفلسطيني. وأن مشهد الصراع الدامي بين الفلسطينيين تسبّب في انطفاء وهج القضية، وتسبّب في إلحاق الضرر بطهرانيتها؛ ونقف الآن متسائلين عن القرار الفلسطيني المستقل، باحثين عن استقلاله من جديد، في ظل استمرار توزّع الفلسطينيين على محاور تبدو للحظة أنها متناقضة، فقد جرفت في طريقها حياداً كان السمة البارزة، والضرورة الوطنية، للقضية.

على الأشياء أن تترابط لتشكل الفكرة، وهذه معادلة السياسة. وعلينا في النهاية أن نمدّ السلسلة المكتملة ونربط أطرافها حتى نخرج بالخلاصة. ولأن الحياد أيضاً يتكئ على ممكنات أولها هو القرار المستقل، ولأن القرار المستقل يحتاج إلى ممثل حقيقي، فإنه تلقّى ضرراً كبيراً نتيجة الانقسام بين أكبر كتلتين فلسطينيتين جاءتا بالانتخابات، وتوقف العملية الانتخابية بعد ذلك، ما خدش شرعية الممثل للشعب. ولأن الحياد دوماً يكون بقرار موحّد داخلياً، فإن التشظّي في الحالة الفلسطينية أدّى إلى توزّع مكوناتها على المحاور، ففقدت حيادها، فحين فقدت الوحدة المؤسساتية الفلسطينية، فقدت مكوّناتُها قدرتها على الحياد. ولتستعيده، ليكون القرار موحّداً، يجب أن يصبح النظام السياسي في مؤسسة واحدة منتخبة تمثل الشعب، حينئذٍ سيتمكّن الممثل من إقرار الحياد الفلسطيني بما هو مصلحة وطنية عليا، وحينئذٍ يمكن فرض القرار المستقل.

علينا أن نعترف أن الانقسام بين الفلسطينيين أطاح بالكثير من هويّتهم السياسية، وبما تقتضيه مصلحتهم الوطنية. ووسط دوامة الانقسام، راحت أطرافه تبحث عن ممكنات قوة خارجية في مواجهة الأخ اللدود، فوجدت نفسها سقطت في تحالفات واصطفافات، وانزلقت إلى مواقف خارج مصلحتها وخارج إرادتها أحياناً. وهو ما وضّح أن المشكلة تبدأ من الداخل، هكذا حال السياسة؛ فالشعوب التي تتحارب داخلياً، تفتح شهيّة الأخرين للتدخل بشؤونها، ويسهل سحبها إلى مواقف لا ناقة لها فيها ولا جمل، وبذا يصبح الحياد أمراً مستحيلاً، والقرار المستقل يصبح أكثر استحالة.

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.

الوسوم
اظهر المزيد

أكرم عطاالله

أكرم عطاالله كاتب وصحفي فلسطيني كاتب مقال في صحيفة الأيام ويكتب في العديد من الصحف والمجلات ومحلل سياسي في وسائل الاعلام التلفزيونية،مقيم في لندن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق