التباس مفهومَيْ “استقلالية القرار” و”الحياد” في الحالة الفلسطينية
إشكالية استقلالية القرار الوطني وعلاقة فلسطين والفلسطينيين بمحيطهم، أو ما يُسمّى بأبعاد القضية الفلسطينية: القومية والإسلامية والدولية، ليست بالشيء المُستجدّ، فبسبب خصوصية نشأة القضية الفلسطينية في خضمّ النضال المشترك للشعوب العربية، في مواجهة الحكم العثماني، وبعده الاستعمار البريطاني والفرنسي، والارتباطات التي فرضتها الإيديولوجيا القومية ووجود القدس في فلسطين، فإن الحفاظ على استقلالية القرار الوطني والوقوف موقف الحياد، في الصراعات والخلافات عربياً ودولياً، كان معضلة، وله قصة تبدأ منذ تأسيس منظمة التحرير بل وفيما قبل ذلك.
كان مبدأ/شعار استقلالية القرار الوطني الذي رفعته منظمة التحرير بداية ظهورها متزامناً مع تبنّي سياسة (عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية) لا يعبّران عن رغبة في الفصل بين الشعب الفلسطيني ومحيطه العربي والإسلامي وحتى الدولي، بل هو نتيجة تجربة من المعاناة مع أنظمة عربية وإسلامية كانت تعارض الوجود الوطني الفلسطيني المستقل خوفاً على كيانها السياسي كما هو الحال مع الأردن، وأخرى تعارضه لأنها كانت ترغب في احتوائه باسم القومية والوحدة العربية، كما هو الحال مع سوريا والحركات القومية، وحتى بعد الاعتراف الرسمي بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيّاً للشعب الفلسطيني، في قمّة الرباط 1974، استمرّت محاولات احتواء المنظمة أو إضعافها أو خلق بديلٍ عنها، فحالةٌ وطنية ثورية مستقلّة كانت تزعج وتحرج الأنظمة الملكية اليمينية، كما كانت تحرج الأنظمة التي كانت ترفع شعارات القومية والثورية، فكلها كانت تخشى أن تنتقلَ الحالة الثورية الفلسطينية إلى شعوبها، كما كانت تخشى أن تورّطها الثورة الفلسطينية في حروب ومواجهات مع إسرائيل وأمريكا.
كان مبدأ / شعار استقلالية القرار، بالرغم من ضرورته المُلحّة للفلسطينيين، صعب المنال وتكتنف تطبيقه كثيرٌ من التحدّيات، لأسبابٍ تاريخية وإيديولوجية كما سبق ذكره، وكذلك بسبب الشتات الفلسطيني ووجود ملايين الفلسطينيين في الدول العربية، ومن هنا ارتبطت القضية الفلسطينية ارتباطاً وثيقاً بمحيطها العربي، وتداخَلَ ما هو وطنيّ فلسطيني مع ما هو قوميّ عربي، وكيف لا يكون ذلك وقد خاضت دول عربية حروباً مع إسرائيل، وجرت انقلابات عسكرية أو ثورات باسم فلسطين، بل إن الفكر القومي العربي منذ تأسيسه في منتصف القرن العشرين تعامل مع القضية الفلسطينية كقضيّة مركزية للأمّة جمعاء، كما أن منظمة التحرير الفلسطينية في بداية تأسيسها منتصف ستينيات القرن الماضي نشأت في أحضان القمم العربية، وبقرارٍ رسميّ عربي، قبل أن تتحرّر من الوصاية الرسمية العربية جزئياً بعد هزيمة حزيران 1967.
ولا نبالغ إن قلنا بأن المشروع الوطني الفلسطيني عند تأسيسه، وكما عبّر عنه ميثاق منظمة التحرير الأول (1964) لم يكن مشروعاً وطنياً خالصاً، بل كان مزيجاً من عدّة مشاريع: المشروع الوطني، والمشروع القومي العربي، والمشروع الإسلامي، والمشروع التحرّري العالمي، والهدف الذي وُضِع في ميثاق المنظمة وكما عبّرت عنه أدبيات فصائل المقاومة آنذاك، تحرير كلّ فلسطين وعودة اللاجئين، كان يرتكز على وجود هذه الأبعاد والتحالفات، وكانت أدبيات الثورة الفلسطينية تقول إنّ الفلسطينيين طليعة الأمة العربية في معركة التحرير، ولم تقُل إنّهم وحدهم سيحرّرون فلسطين، فكيف يمكن الحفاظ على استقلالية القرار والمنظمةُ تراهن على الأمة العربية لتحرير فلسطين؟!
كان للفلسطينيين تجاربُ مريرة مع الحروب والصراعات الدولية والإقليمية والعربية، فبالرغم من أنهم لم يصلوا بعد إلى الدولة المستقلّة وما زالوا خاضعين للاحتلال، إلا أنهم يجدون أنفسهم في موقف حرج كلما اندلع صراع دولي أو إقليمي أو حرب أهلية في بلد عربي، إذ تضغط عليهم دولٌ وكيانات متحاربة ليتخذوا موقفاً مناصراً لها، ممّا يعني معاداة الطرف الثاني من الصراع، الأمر الذي يُعرِّض الفلسطينيين لعقوباتٍ هم في غنى عنها.
ومن هنا فإن مبدأ/ شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية والوقوف موقف الحياد في النزاعات العربية الذي تبنّته منظمة التحرير لم يصمد كثيراً، وحتى حين كانت تقف موقف الحياد، كانت تدفع ثمن حيادها.
فمثلاً، عندما كانت الخلافات حادّة بين سوريا والعراق خلال سبعينيات القرن الماضي، وقفت منظمة التحرير الفلسطينية موقفاً محايداً، ومع ذلك شكّلت سوريا منظمة تابعة لها (منظمة الصاعقة)، وشكّل العراق منظمة تابعة له (جبهة التحرير العربية)، وفُرِضت كلٌّ منهما على منظمة التحرير، بمعنى أن هذه الدول هي التي تدخلت بالشأن الفلسطيني وأثّرت على استقلالية القرار الوطني ووحدانية التمثيل.
في حرب الخليج الثانية 1990 اتُّهمت المنظمة بمناصرة العراق، فحوصِرت مالياً وقُطع التواصل معها وخصوصاً من دول الخليج، وهو الحصار الذي عجَّل بذهاب المنظمة نحو التسوية السلمية وتوقيع اتفاق أوسلو، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من القضية الفلسطينية التي كان يُراد شطبها.
خلال الخلافات الأخيرة بين دول الخليج، حاولت القيادة الفلسطينية الوقوف موقفاً محايداً بين المحور الذي تقوده قطر، والآخر الذي تقوده السعودية والإمارات، إلا أن حيادها لم يمنع أن تقوم قطر بدعم حركة حماس ومساندة انقلابها ضد السلطة، ولم يمنع الإمارات من مساندة محمد دحلان الذي يقود انشقاقاً وتمرّداً على حركة فتح والرئيس (أبو مازن).
وبالنسبة لموضوع الحياد في الصراعات الدولية، كانت منظمة التحرير منذ تأسيسها حتى نهاية الحرب الباردة تساند دوماً المعسكر الاشتراكي، وتعلن موقفاً معارضاً للغرب، وهو موقف مقبول، لأن الغرب حليف لإسرائيل والمعسكر الاشتراكي كان حليفاً للفلسطينيين ولحركات التحرّر في العالم، إلا أنه ومنذ انهيار المعسكر الاشتراكي وبداية عملية التسوية السياسية برعاية أمريكية، في مؤتمر مدريد 1991 وأوسلو 1993، ثم قيام السلطة الوطنية، والمنظمةُ تحاول الوقوف موقفاً محايداً من أيّ صراعات أو خلافات دولية.
مع الحرب الحالية في أوكرانيا، وهي حرب عالمية حتى وإن كانت ساحتها العسكرية المباشرة حتى الآن مقتصرة على أوكرانيا، يواجه الفلسطينيون موقفاً لا يُحسدون عليه. صحيح أن مواقف روسيا تجاه الفلسطينيين أفضل من مواقف الدول الغربية، وللروس فضلٌ على الفلسطينيين يعود لزمن الاتحاد السوفيتي، وأن الفيتو الروسي في مجلس الأمن كان في كثير من المواقف مفيداً للفلسطينيين، وصحيح أن مواقف أوكرانيا رئيساً وحكومةً معادية للفلسطينيين ومتحيّزة كثيراً للكيان الصهيوني، ولكن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي، والسلطة الوطنية ليست منظمة التحرير الفلسطينية.
كلّ ذلك، إضافةً إلى الوضع الاقتصادي الصعب للفلسطينيين وحاجتهم كنظام سياسي أو أفراد للدعم العربي والإسلامي، جعل من الصعب إعمال وتفعيل شعار استقلالية القرار أو الوقوف موقفاً محايداً من الصراعات والخلافات الداخلية. وإن كان الرئيس الراحل (أبو عمّار) استطاع بما يملك من كاريزما وتجربة نضالية الحفاظ نسبياً على استقلالية القرار واتخاذ موقف الحياد تجاه الخلافات العربية العربية- بالرغم من تجربته المريرة أثناء حرب الخليج الثانية واتهامه بالتحيز للعراق- إلا أن الرئيس (أبو مازن) يواجه تحدّيات في الالتزام بهذين الشعارين، فكثيرٌ من الأنظمة العربية غير راضية عن نهجه وعن السلطة الوطنية برمّتها، ولكن لأسباب غير التي كانت في زمن (أبو عمّار).
مسؤولية فلسطينية عن تراجع استقلالية القرار وخرق مبدأ الحياد
إن كانت بعض الأنظمة والجماعات العربية والاسلامية تتحمّل مسؤولية عمّا أصاب الحالة الفلسطينية من انهيار، وعن تدخّلها بالشأن الفلسطيني من خلال تأسيس تنظيمات فلسطينية تابعة لها وتوظيف المال السياسي لتعزيز فصيل فلسطيني على حساب الفصائل الأخرى، بل وعلى حساب وحدة التمثيل الفلسطيني، إضافةً إلى دورها في صناعة الانقسام مؤخراً، إلا أن أحزاباً فلسطينية تتحمّل أيضاً مسؤولية عن تجاوز المبدأين السابقين، ونتساءل في هذا السياق: ماذا يعني إعلان (حماس) و(الجهاد الإسلامي) أنهما جزء من محور المقاومة؟ فبالرغم من القول بأن محور المقاومة موجّه ضدّ إسرائيل، إلا أنه في الوقت نفسه يشكّل اصطفاف دول عربية وإسلامية ضد دول عربية وإسلامية أخرى. يُضاف إلى ذلك اعتماد سلطة منظمة التحرير على دعم وتمويل خارجي عربي ودولي، ومن المعروف أن الدول المانحة والداعمة لا تقدّم المال دون ثمن، والثمن يكون على حساب استقلالية القرار الوطني.
استعادة استقلالية القرار والحياد تجاه صراعات المنطقة
هناك عالمٌ عربيّ وعالمي يتغيّر، وهي متغيّرات باتت محلّ اهتمام، ولها الأولوية على القضايا القومية الكبرى ومنها القضية الفلسطينية، ومع اعتقادنا بأن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تقفان وراء ما تعرّضت له الأمة العربية من انهيارات في العقود الأخيرة، وخصوصاً خلال ما يسمّى (الربيع العربي)، إلا أن هذا لا يعني تجاهل ظهور أولويات محلية أو قطرية لكلّ دولة عربية، ومخاطر من دول الجوار أو ذات طبيعة اقتصادية، الأمر الذي يتطلب رؤية جديدة لعلاقة فلسطين بمحيطها العربي، حتى مع موجة التطبيع الأخيرة التي قد تمتدّ إلى دولٍ أخرى، فإن الأمر يحتاج إلى مقاربة جديدة للبعد القومي لفلسطين، لا تقطع مع الدول المطبّعة، بل تحاول الاستفادة من هذا المتغيّر، دون التوقف عن تبيان الخطر الذي يمثّله الكيان الصهيوني على الأمة العربية وأهدافه الخبيثة من وراء التطبيع مع الدول العربية.
ما آلت إليه الأمور فلسطينياً، وخصوصاً حالة الضعف والترهّل التي تمرّ بها منظمة التحرير، ووجود أطراف أخرى وتحديداً حركة (حماس) تنافسها على التمثيل الفلسطيني، واستمرار الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسساتي وترسّخه دون قدرة فلسطينية على تجاوزه، واستمرار الخلافات البينية العربية، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، كلّ ذلك يحتاج إلى إعادة تعريف مفهوم استقلالية القرار الفلسطيني بما يؤكّد أهمّيّته، لأن هناك مخططات لتجاوز منظمة التحرير والسلطة وكل الحالة الوطنية لصالح بدائل أخرى كالأردن أو حركة حماس، أيضاً يحتاج الأمر إلى إعادة تعريف مبدأ الحياد أو (عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية)، وتصويب العلاقات الفلسطينية مع العالمين العربي والاسلامي رسمياً وشعبياً ، ونعتقد أن نقطة الانطلاق تبدأ من إنهاء الانقسام السياسي على أقل تقدير، وتشكيل جبهة وطنية لا تقتصر على الأحزاب الحالية المأزومة، بل تضمّ وتمثّل الكلّ الفلسطيني في الداخل والخارج .
Ibrahemibrach1@gmail.com
الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.