مقالاتمقالات رأيوجهات نظر

قراءة في القرار الوطني الفلسطيني المستقل

منذ نشأة القضية الفلسطينية كمسألة شعب يسعى للحرية والاستقلال، أُسوةً ببقية الشعوب الحرة والمستقلة، واستمراراً بعد نكبة عام 1948، فإن قضية القرار الوطني المستقل نشأت وتطورت كقضية إشكاليّة وملتبسة. فقد كان لدول الطوق دورٌ رئيسي في مجريات تشكُّل هذا القرار، إضافة إلى التنويعات السياسية التي كانت قائمة بين صفوف الشعب الفلسطيني آنذاك؛ ولقد استمرّ هذا الدور العربي بالتأثير حتى بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية في عام 1965. وتداخلَ هذا التأثير مع دخول لاعبين فلسطينيين جدد على الخط، إذ نشأت قوى فلسطينية تستند إلى “إيديولوجيات” جديدة، إضافة إلى “الإيديولوجيات” القائمة. ونقصد على وجه التحديد قوى اليسار الفلسطيني، التي كانت تتبنّى، كما هو معلوم، سياسات تنحاز إلى معسكر المنظومة الاشتراكية، وحلفائها الإقليميين، في مواجهة ما كانت تطلق عليه نعت “الرجعية” والإمبريالية، في إطار الحرب الباردة بينها وبين الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. ترافق هذا مع استمرار ونهوض الاتجاهات الأخرى القومية، والمختلطة الولاء بين الوطني والقومي والإسلامي. وحينذاك، أسهمت الانقسامات العربية، وتشكُّل المحاور العربية المتعارضة، في تغذية الخلافات الفلسطينية _الفلسطينية، بما يطول مستوى القرار الفلسطيني (المستقل)، ونوعيّته، بدرجاتٍ مختلفة تبعاً لتطور الصراع العربي_ الإسرائيلي، والفلسطيني_ الإسرائيلي. ونخصّ هنا جملة الحروب التي خاضتها الدول العربية مع إسرائيل (1948_1967_1973الغزو الإسرائيلي للبنان 1982) وما رافق ذلك من تطورات سياسية تركت تأثيرها على متّخذ القرار الفلسطيني.

أما بالنسبة للنقاش الفلسطيني الداخلي حول الموضوع ذاته، فإن بعض القوى داخل منظمة التحرير الفلسطينية كانت ترى أن الهدف من هذا الشعار يتمثل في مواجهة محاولات الاستحواذ على القرار الفلسطيني وتحديداً من سوريا، وإن كان قليلاً ما جرى التصريح عن اسمها في السجالات آنذاك. في حين أن قوى أخرى كانت ترى أن هناك مبالغة في الإلحاح على القرار الوطني المستقل، لا سيّما أنّ القضية الفلسطينية عند هذه القوى هي بالأساس قضية عربية وفلسطينية، ويدلّلون على ذلك بأنها شكّلت، وتحديداً على مدار سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، المحورَ الأساس لما كان يُدعى التضامن العربي، وأنّ القضية الفلسطينية كانت دوماً العنوان الأول في جدول أعمال القمم العربية، والعنوان الأول في خطاب العديد من الدول العربية. ودلّلوا استناداً لذلك على أن الحلّ الفلسطيني الاسرائيلي للصراع هو شأن عربي وليس شأناً فلسطينياً فقط. إلا أن معظم أصحاب هذا الرأي الفلسطينيين لم يعترضوا على أن يبقى القرار في الشأن الداخلي الفلسطيني من اختصاص المؤسسات الفلسطينية.

وبقي التجاذب بين هذين الرأيين، ما بقيت مؤسسات جامعة فلسطينية معنيّة باتخاذ قرار فلسطيني. وطبعاً دون أن ننسى تأثير القوى الدولية على هذا القرار، ولا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفرّد الولايات المتحدة بالزعامة الدولية وسياساتها التي تلت ذلك، وأبرزها مؤتمر مدريد للسلام (١٩٩٠)، وما تمخض عنه من نتائج على الصعيدين العربي والفلسطيني. وأنتج لاحقاً اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وما جرّه بعد ذلك من آثار استراتيجية على محتوى القضية الفلسطينية ومكنونها، وعلى رمزها الكياني التمثيلي، وما جرّه أيضاً من نتائج على القرار الفلسطيني، الذي بات أسير المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

ومنظمة التحرير الفلسطينية هي المفصل الرئيس في كلّ هذه المسيرة، لأنها المعنية بتمثيلها للفلسطينيين بالقرار الوطني المستقلّ، سواء لجهة محتواه النضالي، أيْ مكوّناته، أو من جهة صيرورة القضية الفلسطينية، وبضمن ذلك القرارات المتوالية في كلّ مرحلة نضالية من مراحلها.  

لقد أدّى التطبيق الإذعاني لاتفاق أوسلو إلى تفكيك لحمة الشعب الفلسطيني، وتغييب مؤسساته، وبالتالي ضياع قراره المستقل. وحصل ذلك في سياقٍ جرى فيه اختصار السلطة الفلسطينية الناتجة عن اتفاق أوسلو، والتي كان يؤمل أن تكون مشروع دولة مستقلة، إلى سلطة تنسيق أمني مع الاحتلال تطبيقاً للنظرة الإسرائيلية إلى هذا الاتفاق؛ وحُصر المسار النضالي للشعب الفلسطيني بالمسار التفاوضي فقط، في ظل افتقاد أيّ دعم عربي ودولي للطرف الفلسطيني؛ مع تبنّي سياسة رعناء  تمثّلت في فكّ الارتباط مع الكتل الكبرى من الفلسطينيين في مناطق ٤٨ والشتات والأردن، ما أدّى إلى تفكّك الشعب الفلسطيني وقضيته، وإفقاد المفاوض الفلسطيني مصادر القوة الرئيسية التي ميّزت النضال الوطني الفلسطيني باعتباره قضية شعب يناضل من أجل حريته واستقلاله على أرضه، بممارسة حقّه الأصيل في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه، والتمسّك بحقّ العودة.

هذا الضياع أسهم فيه الانقسام السياسي للقوى النافذة في كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة. وهو الانقسام الذي نتج من أسباب فلسطينية، وتأثّر بدخول قوى إقليمية جديدة (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) داعمة لأطراف فيه. ولاحقاً دخول كلٍّ من قطر، وتركيا، بسياساتها المرتبطة بأدوارها، وصراعاتها، الإقليمية؛ ولاسيما التنافس بين إيران وتركيا على حدود النفوذ الإقليمي لكلٍّ منهما. وقد كان لخلافات إيران مع الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، حول ملفّها النووي، ودورها الإقليمي، بل ونظامها السياسي، أثره على الوضع الفلسطيني بتناقضاته، فقد استخدمت علاقاتها الفلسطينية كورقة ثمينة في إطار صراعها مع الغرب، للإقرار بمصالحها الاقليمية والنووية.

 إن ما سبق كله أفقد القوى الفلسطينية وحدتها اللازمة لقرار وطني مستقل تمثيلي، فقد وجدت القوى الفلسطينية نفسها ترزح تحت ضغوط شديدة، أفقدتها حرية الحركة والقدرة على اتخاذ القرارات المستجيبة لمصالح الشعب الفلسطيني. وهو توصيف نراه عامّاً يطول كلّ القوى الفلسطينية، سواء تلك التي في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في بقية أماكن التجمّع الفلسطينية.

آفاق وحدود ممكنة لاستقلالية القرار الفلسطيني ومفهوم الحياد

جاءت أحداث الربيع العربي، على مدى عقدٍ مضى، فزادت من تعقيدات الوضع الفلسطيني، لاسيما لجهة القرار الوطني المستقل، إذ انضوت فصائل فلسطينية متعددة في إطار محور الممانعة الممتد من طهران إلى الحشد الشعبي في العراق مروراً بسوريا وحزب الله في لبنان وحلفائه إلى الحوثيين في اليمن. وبدت (حماس) خلال هذه الفترة في علاقة قلقة مع إيران، وإن كانت تعلن بشكل دائم على أنها في محور المقاومة والممانعة. في حين أقامت “السلطة الوطنية الفلسطينية” علاقات جيدة مع النظام السوري، في الوقت الذي حافظت فيه على علاقاتها مع بقية الدول العربية والإقليمية والدول الغربية، وبضمنهم تركيا ودول الخليج التي انخرطت في الصراع مع النظام السوري.

إنّ هذا التشرذم، والانقسام، وافتقاد القرار الفلسطيني الموحد (كشرط لازم ليكون مستقلّاً) نتج عن غياب مؤسسة وطنية جامعة، فقد عُطّلت منظمة التحرير، دون أن يكون هناك دولة مستقلة ولا سلطة وطنية مستقلة. وما زالت سمة الواقع الفلسطيني الرئيسية هي حصار الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية بشكل مباشر؛ ولقطاع غزة بشكل غير مباشر، من خلال استمرار الحصار والسيطرة على المعابر والتحكّم بالمدخلات والمخرجات لكلّ عناصر البقاء من غذاء ودواء ومصادر طاقة، وحرية الحركة؛ والتمييز العنصري بحق الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948، الذي أخذ شكلاً قانونياً مع تطبيق قانون المواطنة ويهودية الدولة؛ فصار المشهد برمّته نظام “أبارتهايد”، بالمعنى الكامل للكلمة.

 أما في الشتات فحدِّث ولا حرج، فقد تُرك الفلسطينيون في الشتات، وافتقدوا المظلّة التي كانت تمثّلهم وشكّلت هويتهم الوطنية، وتُركوا لمصائرهم، ونالتهم نكبات جديدة إضافة إلى نكبتهم الكبرى، ونخصّ بالذكر الفلسطينيين في كلٍّ من العراق، وسوريا، ولبنان، الذين اضطروا للهجرة من جديد إلى مهاجر جديدة، بعد أن طالتهم بشكل مباشر نتائج الصراع فيها.

إن كلّ ما سبق يعيدنا إلى الفكرة والقضية الرئيسة، وهي إعادة الاعتبار لوحدة أهداف النضال الوطني الفلسطيني في كل أماكن وجوده، باعتبارنا شعباً يسعى لدحر الاحتلال، والعودة، وتقرير مصيره على أرضه، والقضاء على نظام ” الأبارتهايد”، وبهذا تتحدد القضية الفلسطينية بمحتواها الوطني الفلسطيني التحرري، وليست كما يسعى العدو لتصويرها باعتبارها صراعاً دينياً، مستغلّاً انتشار ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، التي تبلورت بعد حادثة ١١ أيلول (سبتمبر)، وجرائم منظمة القاعدة، ومن بعدها حركة داعش وأخواتها.

إنّ الإصرار على أن القضية الفلسطينية قضية تحرّر وطني، شرطٌ أساس للحدّ من التدخلات في الشأن الداخلي الفلسطيني. وبالربط بين الحياد والتحرر الوطني سيكون مفهوماً أن القول بـ”عدم الانحياز” يُقصد به الصراع بين الدول، بينما ننحاز إلى الحقوق الأساسية للشعوب، والأفراد، وهو ما يترجم إقامتنا الصلات المباشرة مع التشكيلات والمنظمات والأحزاب والأفراد الذين ينحازون لهذه الحقوق، ويشكلون رافداً لنضالات شعبنا عبر الضغط الذي يمكن أن يمارسوه على حكوماتهم للإقرار بحقوق شعبنا الفلسطيني.

 وبهذا فإن الوصول إلى قرار وطني مستقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوحدة أهداف النضال الوطني، التي على أساسها تتحدّد العلاقة مع الداخل الفلسطيني والخارج العربي والإقليمي والدولي بمدى اقترابه أو ابتعاده عن هذه الأهداف بالمعنى السياسي.

وإنّ وحدة الأهداف النضالية، ووحدة التمثيل، والقرار الوطني المستقل الناتج عنهما، هي الكفيلة بتسيير نضالات شعبنا اليومية ومراكمة إنجازاتها الكفاحية، والحيلولة دون أن تتحول هذه النضالات والتضحيات إلى بذل للدماء لا طائل من ورائه حين لن يسهم، عبر تراكم نضالي، إلى أهداف التحرر وتقرير المصير. أو حين يصبّ -لا سمح الله- في تكريس الانقسام وإشاعة الفوضى والتطرف، وخراب ما تبقّى من الحركة الوطنية الفلسطينية. وهو ما تسعى إسرائيل إليه بكل الوسائل، وعبر مختلف السياسات والإجراءات التي تتخذها، من نمط غضّ الطرف عن انتشار السلاح في مناطق ٤٨ وبعض مناطق الضفة المحتلة، بشكل غير منظم ودون قيادة وهدف مُجَمع عليهم، بينما تضغط على الشعب الفلسطيني بمزيد من الاستيطان، ومصادرة الأراضي، ورفض التفاوض الجدي على أساس حل الدولتين والتسويف عبر طرح بعض العطايا الاقتصادية.  

لا شك أن المطلوب منّا كفلسطينيين، شعبا وقوى وفصائل ومجتمعاً مدنياً وأفراداً، ليس سهلاً، ودونه الكثير من العوائق التي تصطنعها دولة العدو، وبعض الأطراف الخارجية تلبية لمصالحها. ويصبّ فيه عجز قوى فلسطينية عن تجاوز خلافاتها، وافتقادها لبرامج نضالية تنسجم مع الوقائع المستجدة تقنع أوسع نطاق من الفلسطينيين. إلا أنّه لا يوجد خيار لنا سوى استمرار النضال الموحد لكل قوى شعبنا على أسس وطنية ديمقراطية، بما يكفل التفاف كامل شعبنا من حولها وإعادة القوة والزخم لقضيتنا.

  • الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.
الوسوم
اظهر المزيد

سليمان حسني أحمد

كاتب وباحث في الفكر السياسي الفلسطيني، فكرا وممارسة، وفي قضايا اللاجئين الفلسطينيين، وقضايا المجتمع المدني الفلسطيني. وأصدر عدة دراسات، حول البنية التنظيمية لمنظمة التحرير الفلسطينية وافاق اعلان المبادئ (اوسلو) وواقع ومشكلات والدور الوطني للاجئين الفلسطينين، ودراسة محكمة حول موازنات الاونروا والعجز المزمن ودلالاته. الاونروا ومشكلات التعليم الفلسطيني، دراسة عن الكتب التي تناولت القرى المدمرة في فلسطين. ونظم مجموعة ورشات العمل حول الازمات ومشكلات النظام السياسي الفلسطيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق