القرار الوطني المستقل والحياد الفلسطيني: هل الأمر ممكناً؟
مدخل:
طرحت “ورقة النقاش” المعدّة من قبل “مجموعة الحوار الفلسطيني” إشكالية القرار الوطني المستقلّ وسياسة الحياد منذ تأسيس منظمة التحرير، كما أفصحت مقدّمة الورقة عن غايتها النبيلة في سبيل خلق إجماع وطني ديمقراطي، وإعادة بناء الإطار الموحّد للحالة الفلسطينية. ومن أجل حوار مثمر. من جهتي أعتقد أنه من الأفضل تحويل تلك الغاية النبيلة إلى أسئلة مثل:
1- كيف يمكن بناء إجماعٍ وطنيّ؟ وهل الإجماع السياسي للفصائل يعادل الإجماع الوطني؟ وهل نجحنا في هذه المهمة؟ وفي أيّ خيارات تحديداً؟
2- ما هي علاقة الإطار الجامع بالأهداف والبرامج؟ والبُنى والهياكل المجتمعية في واقعنا الراهن؟ وعلى مدى تجربتنا المعيشة؟
علماً أنّ أسئلةً أخرى جوهرية، مرتبطة بالنقاش، تفرض نفسها بإلحاح، نظراً لثقلها وتأثيرها العميق في مسار العمل الفلسطيني، أسئلة حول ممارسة العنف المسلح، وأشكاله، ودوره في حياتنا ومستقبلنا؟
ولطالما أن الحالة الفلسطينية الراهنة أقرب إلى الدوامة منها إلى التوازن، فإن النقاش المفتوح على مصراعيه، مسألة مجدية، أكثر من الندب على الحالة المزرية، خاصّةً في ظلّ تقلّب المزاج العام، الذي يصل إلى ذروة الفوران والحماسة، ويعود مسرعاً إلى حالة اليأس والتذمر. وفي هذا التقلّب، لنا أمثلة ليس آخرها معارك الدفاع عن الحرم القدسي، وعن حيّ الشيخ جراح.
وبالعودة إلى ورقة النقاش، وما تطرحه بشكل عام، لا يمكن اعتباره جديداً. إذ إنّ الحالة المأزومة تفرض نفسها على النُّخب الفلسطينية، باستمرار وبشكل دوري، للبحث تحت عنوان “المأزق والحل” حتى تكاد تشكّل “متلازمة” ترافق الأحداث الكبرى في تجربتنا، منذ انتهى أوّل صدام مسلح بين مقاتلي الثورة الفلسطينية والجيش الأردني، وأسفر القتال عن هزيمتنا وخروجنا إلى لبنان. وقد انتعشت أفكار “الثورة البديلة” و”الحركة البديلة” و”الحزب البديل”… وليس آخر هذه الاستجابات دعوة موقع أجراس (وشعاره “من أجل دولة ديمقراطية علمانية”) للحوار، وقد نتج عنها بيانٌ وقّعه مجموعة مثقفين وناشطين في آب 2008 تحت عنوان ” رؤية سياسية فلسطينية جديدة”، واستدرج آراء متنوعة نُشرت على الموقع وعلى صفحات جريدة “النهار” اللبنانية، وانتهى الأمر! بينما يستمرّ النقاش راهناً في أكثر من مركز ومنبر، في الوطن والشتات، ويتخذ المنحى نفسه.
كما يجب الإشارة إلى جهدٍ مهمّ بذله “الفريق الفلسطيني للدراسات الاستراتيجية” الذي أنتج إثر سلسلة من حلقات النقاش تقريراً منهجياً في صيف 2008 تحت عنوان “الخيارات الاستراتيجية الفلسطينية لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي”. وكان التقرير موجّهاً لقيادة السلطة الوطنية في “رام الله” وحركة (حماس) في “غزة”، وتناول بالدرس والتحليل والاستخلاص مختلف جوانب العملية السياسية التفاوضية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
والخلاصة مما تقدم، أن تجربتنا الميدانية تضعنا أمام نتائج بعيدة عن تصوّراتنا المسبقة، ما يدفعنا لرفضها كلياً أو جزئياً، والعودة إلى حضن الانضباط الإيديولوجي (الوطني، والقومي، والشيوعي، والإسلامي) للاعتصام بالحقّ التاريخي بديلاً للسياسة، أو بالهدف الأسمى (الوحدة العربية أو الخلافة الإسلامية) بديلاً لما يجب أن نقوم به راهناً على مسرح السياسة الدولية والإقليمية.
لكن مع عناد الواقع السياسي، ومرور قليلٍ من الوقت، ومن موقع الرفض والمعارضة يبدأ مسار التوافق مع ما رُفِض.
قبل التأسيس وبعده:
تشكّلت حكومة عموم فلسطين بقرار من جامعة الدول العربية في 22 أيلول 1948، وإثر رفض ملك الأردن، عبد الله، القرار اتخذت من قطاع غزة مقرّاً لها، إلا أن الملك فاروق أمر بنقلها إلى القاهرة، واستمرّت إلى عام 1959، حين أصدر الرئيس جمال عبد الناصر مرسوماً يقضي بحلّها.
وفي عام 1964 وبفعل توافق مصري-سعودي صدر قرار القمة العربية بتأسيس منظمة التحرير برئاسة أحمد الشقيري، ولمّا كان رئيس المنظمة يسعى لإصدار قرارات من القمة العربية في الخرطوم تمنع أي دولة عربية من اتخاذ مواقف منفردة في المسألة الفلسطينية، تحرّكت أغلبية أعضاء التنفيذية الموالين للعواصم العربية إلى إقالته، لكنه فضّل هو تقديم استقالته إلى الشعب الفلسطيني في 24/12/1967.
هاتان الواقعتان قبل تأسيس منظمة التحرير وبعدها تحملان دلالة واضحة لا تمكّن أحداً من الحديث عن استقلال القرار أو الحيادية. وتفيدان أيضاً، أن النظام الرسمي العربي، كما تعبّر عنه “جامعة الدول العربية”، يحتاج إلى كيانية فلسطينية وممثلين يؤدّون أدواراً مرسومة وملتزمة بالإجماع الرسمي العربي. إلا أن المسار الجديد للحالة العربية المهزومة في حرب حزيران وللحالة الفلسطينية الصاعدة على إيقاع الكفاح المسلح من دول الطوق، مكَّن حركة فتح، بالتحالف مع المستقلّين في المجلس الوطني المنعقد في القاهرة عام 1969، من قيادة المنظمة بأسلوب ومرونة الرئيس ياسر عرفات، فقد أسّس مدرسة جديدة في العمل السياسي، مكّنته من الاستمرار، في موقعه، حتى لحظة وفاته في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004.
ومن يبحث في تلك الفترة، يدرك أن المشروع الصهيوني حقّق أهدافه على مراحل، في ظلّ غياب مشروع عربي للمواجهة، كما أن الغالبية الفلسطينية، تبنّت الفكرة القومية الناصرية والبعثية، وقسماً آخر تبنّى الوحدة في ظل العرش الهاشمي، بينما الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي يدعوان للخلافة، وأخيراً الحزب الشيوعي الفلسطيني تخلّى عن هويّته والتحق بالحزبين الإسرائيلي والأردني. وهذا ما يؤكّد غياب المشروع الوطني الفلسطيني، فقد سادت نظرة الريبة والشك من تنظيم حركة فتح وأطروحته السياسية، حتى ما بعد هزيمة حزيران وفورة العمل الفدائي. لذا حتى عام 1969، لا يمكن الحديث عن قرارٍ وطني مستقلّ، كما لا يمكن للفلسطينيين بانتماءاتهم تلك لوم الدول العربية على سياساتها، فلطالما كانت هذه السياسات تحظى بولاء قوى سياسية فلسطينية.
الخروج من الشرق الأوسط:
انتقلت أطروحة حركة فتح من الشعار التحريري وإقامة جمهورية ديمقراطية علمانية على أنقاض دولة إسرائيل، إلى تبنّي برنامج النقاط العشر، وهو أوّل مقاربة سياسية في الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر ومن برنامج النقاط العشر يتبلور البرنامج المرحلي الذي يتعامل مع الأرض المحتلة بعد عام 1967، وينشد إقامة سلطة وطنية على أيّ جزء من فلسطين يتم تحريره بالقتال أو المفاوضات.
صاحَبَ هذا المسار السياسي تنافسٌ حادّ على الإمساك بالقرار الفلسطيني من منظمة الصاعقة ومن قوى اليسار الراديكالي، وما بين عامَيْ 1969 و1976 يمكن الإشارة إلى حقيقتين لم يجرِ مراجعتهما بما يكفي للاستخلاص.
الحقيقة الأولى: هي أنّ امتلاك الغالبية الفلسطينية، ممثّلةً بحركة فتح والمستقلين والمنظمات الحليفة، لمشروع وطني فلسطيني يدافع عن استقلاله، لا يلغي أنّ مصر وسوريا بعد حرب تشرين عام 1973 لم يعد لهما حاجة للاستثمار في الحالة الفلسطينية. وكانت مقدمات هذا التحول بدأت مع “مشروع روجز”، ومع تصاعد الصراع المسلح بين الدولة الأردنية والثورة الفلسطينية حتى لحظة الخروج من الأردن، كما صاحبه تصاعد التوتر المسلّح مع الجيش اللبناني، وتالياً مع احزاب اليمين المسيحي وصولاً إلى ما يُعرف بـ “حرب السنتين” في لبنان.
وبهذا يمكن القول إنّ السماح لحرية العمل الوطني الفلسطيني خارج فلسطين مرتبط بتوافقه مع الدولة التي يجري على أرضها، وأما في حالة تباين المصالح فليس للفلسطيني المسيّس (قوى سياسية وحتى أفراد) إلا المنع والقمع، فإن لم ينفعا فالسحق العسكري.
الحقيقة الثانية: إن جدلاً كبيراً رافق التدخل السوري في مطلع نيسان عام 1976 لوقف الحرب الدائرة بين تحالف الثورة والحركة الوطنية من جهة، والقوات اللبنانية من جهة اخرى.
والجدل كان بين من يرى أن التدخل السوري هدفه تصفية الثورة، ومَن يعتقد أنّ الهدف هو تحجيمها، بدليل أنّ التناقضات بين نظام الأسد الأب وإسرائيل لا تسمح بوجود الجيش السوري على أرض الجنوب وصولاً إلى الناقورة ومزارع شبعا، أيْ ما يُعرف بالجبهة الشمالية في إسرائيل، فقد أظهرت الوقائع ان الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي- السوري لدخول لبنان يحصر انتشار الجيش عند مجرى نهر الأولي شمال صيدا. وهكذا، “تمتّعت” الثورة الفلسطينية بمساحة الجنوب حتى عام 1982، وطوّرت قدراتها المستقلّة!! واستمرّت بالاشتباك مع الإسرائيلي حتى لحظة غزو لبنان عام 1982.
لكن عندما أفرج الأرشيف الأمريكي عن وثائقه لتلك الفترة الممتدة لمدة ستّ سنوات من القتال، ظهر أنّ الاتفاق الإسرائيلي الأمريكي السوري بنسخته الاولى كان يقضي بدخول الجيش السوري كامل الأراضي اللبنانية وإغلاق جبهة الجنوب اللبناني. لكن تعديلاً طرأ خلال أيام التنفيذ بناءً على طلب إسرائيلي يريد أن يكتفي الجيش السوري بالعمل شمال خط نهر الأولي. وعندما سأل الأمريكي عن أسباب الطلب الإسرائيلي المستغرَب، أفاد الإسرائيليون بأنّ لهم مصلحة في مواصلة الاشتباك مع منظمة التحرير لفترة لن تطول!
لا شك أنّ تلك الواقعة تستوجب التأمل، والمزيد من البحث والمراجعة، لأن السنوات الستّ التالية لم تكُ “نزهة الخاطر” بكلفتها البشرية والمادية على الفلسطيني “الضيف” الذي يرى لبنان ممرّاً وليس مقرّاً، وعلى اللبناني صاحب وطنه ودولته.
خلال هذه الفترة كانت قيادة فتح متنبّهة لضرورة الحياد والنأي بالنفس عن الصراعات العربية، ولضرورة التمسّك بشعار عدم التدخل في الشأن السيادي العربي، لكن بقيت هذه السياسة نظرية بحتة؛ لأن ممارسة الصراع المسلح مع إسرائيل من دول الطوق هو تدخُّل عميق يمسّ سيادة الدولة، بعلاقته بقرار السلم والحرب. فإذا كانت مصر وسوريا منعتا العمل الفدائي منذ لحظة استغنائهما عنه، فإن الأردن خاض حرباً شرسة لاستعادة سيادة جيشه على أرضه وحدوده، بينما لبنان بخصوصيّته دخل أتون الصراع المنفلت ولم يزل حتى اللحظة رهينة لهذا الصراع. على الرغم من الخروج الفلسطيني عام 1982 بعد حصار بيروت ومعركتها الأثيرة على قلوبنا. فهل يجوز لنا التغنّي بإجادة الاستفادة من التناقضات؟! وهل مسألة القرار المستقل معزولة عمّن يدير دفّة التوازنات في المنطقة؟! وماذا سيكشف لنا الأرشيف لاحقاً؟!!
سنوات التَّيه: 1982-1987
بعد ما صارت لنا رواية “الخروج” البطولي من بيروت، بدأت رواية التَّيه، وساد المزاج الفلسطيني شعورٌ بالمظلومية على الطراز الكربلائي خلال حرب الرئيس حافظ الأسد على المخيّمات في لبنان، بواسطة حركة أمل والمنشقّين عن فتح لاحقاً.
تلك الحرب رفعت مكانة القرار الوطني المستقل إلى مرتبة القداسة، ومن شهد فصول الحرب على المخيّمات، هانت عليه الحروب من بعدها. على الرغم من أنها الحرب التي فشلت في سلب منظمة التحرير آخر رصيد مستقل لها في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه الحرب التي كشفت للقيادة في تونس، ضعف البنية المجتمعية للشرعية الفلسطينية في الشتات، وكذلك هشاشة الإنجازات الدبلوماسية التي تحقّقت عربياً ودولياً، من الاعتراف السياسي بالمنظمة، ما دامت لا تستند في شرعيتها على تمثيل نظام مصلحة اقتصادي-اجتماعي-سياسي للمجتمع الفلسطيني في الوطن، إذ لا يكفي التأييد العام المرتبط بالمناخ السياسي والأداء النضالي لرسوخ الشرعية، وهذه نقطة مفصلية للبحث والنقاش، لدراسة الفرق بين آليات التأييد العام وآليات التمثيل القائم على نظام مصلحة شامل وفهمه.
فلا أعتقد أنّ الشرعية السياسية الثورية في الحالة الفلسطينية تتطابق مع شرعية تمثيل نظام مصلحة وطنية مترابط، خاصّة أنّ غالبية الفصائل الفلسطينية التي استمدّت شرعيّتها من النضال المسلح، لا تكفي قاعدتها المجتمعية (إن امتلكتها) لتأمين استمرارها دون أن تحصل على راعٍ أمنيّ وماليّ خارجي.
وفي هذه الفترة كانت حادثة الاستهانة البروتوكولية التي أغضبت الرئيس عرفات في القمة العربية المنعقدة في عمان في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1987، مؤشّراً قويّاً على تغيير واضح في سلوك الزعماء العرب مع الممثل الشرعي والوحيد الذي اعترفوا به في قمة الرباط عام 1974. لقد بلغ القلق على الشرعية الفلسطينية عند الرئيس عرفات حدّاً جعله يضع صورة “الهنود الحمر” أمام ناظريه ويحذّر الفلسطينيين من مصير مشابه.
انتفاضة الحجارة:
مع بداية الانتفاضة في أوائل كانون الأول من عام 1987، استمرّت الحشود البشرية تتدفق إلى الشوارع والساحات بعفوية تعكس حالة الانفجار الكبير في الضفة وغزة، وسرعان ما تشكّلت آلاف اللجان المحلية وعلى المستويات كافة لمعالجة التحدّيات الجديدة، وخلال شهر من الانفجار الشعبي، صدر البيان الأول عن “القيادة الموحّدة” يحمل تعريفاً يقول “إن القيادة الموحّدة للانتفاضة هي تحالفٌ كفاحيّ عريض خلقته الانتفاضة… والقيادة الموحدة بصيغتها هذه تتبنّى برنامجاً موحداً للانتفاضة يعكس تظلّمات الجماهير الشعبية الواسعة التي تضم الطبقة العاملة والفلاحين والتجار والأطباء والمحامين والمهندسين والمدرسين والموظفين والطلبة وفئات البرجوازية الوطنية المتمسّكة بهدف الاستقلال الوطني…”.
هذا الحدث الجديد في الحالة الفلسطينية ليس له سابقة في تاريخنا المعاصر، إذ وللمرة الأولى تتبلور إرادة مجتمع موحّد في حركة نضالية ومواجهة مع الاحتلال على مساحة الضفة وغزة.
إنها الانتفاضة- الحدث الذي شهد تطابق البرنامج النضالي السياسي مع الحامل الشعبي-المجتمعي. إنه الحدث الذي أعاد تعريف الشرعية الفلسطينية وتعريف القرار المستقل من القاعدة المجتمعية إلى قمة الهرم السياسي… هذه هي الدينامية المجتمعية التي أنتجت نظام مصلحة فلسطينياً، عبّر عنه ذلك التعريف الذي ورد في بيان “القيادة الموحدة”. وهو نظام مصلحة مجتمعي شكّل قاعدة الهرم الثابت للشرعية الفلسطينية، كما وظّف مخزون النضال الوطني في الشتات، فضلاً عن التناغم مع نضال المجتمع الفلسطيني خلف الخط الأخضر.
هذه هي الدينامية التي مكّنت المجلس الوطني في دورته المنعقدة في الجزائر عام 1988 من “إعلان الاستقلال” المستند إلى خيارات إجماع وطني أنتجها الواقع الفلسطيني، إذ للمرة الأولى ينتقل مفهوم الوحدة الوطنية من “وحدة سياسية فصائلية” إلى وحدة قوى مجتمع يقول ماذا يريد، ويعمل من أجل ما يريد، في تجاوز واقعي للإيديولوجيات وشعاراتها وأهدافها.
هكذا تحوّل إطار منظمة التحرير من منتَجٍ للقمة العربية إلى منتَجٍ للمجتمع الفلسطيني حقّاً كانت لحظة الذروة في مسار بدأ من المجلس الوطني في دورة عام 1969.
الحكم الذاتي والدولة:
تجاوز أثر الانتفاضة الحالة الفلسطينية واخترق العقل السياسي الإسرائيلي، فضلاً عن أثرها على الدول الغربية التي استمرّت في تأجيل اعترافها بالحقوق الفلسطينية. فقد استخلص رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين الدرسَ الأهمّ في حياته: إنّ سياسة تكسير العظام فشلت، وإنّ الاعتراف بالحقوق السياسية للفلسطينيين لا يمكن الهروب منه. بالمقابل أدركت قيادة المنظمة وفتح نسبة ميزان القوى في الصراع مع إسرائيل في علاقته بميزان القوى الدولي والإقليمي، واتجهت لإنتاج حلٍّ يترجم ما أدركته.
أما على مستوى الفصائل والنخب عن يسارها ويمينها، فقد أخذتها نشوة الانتفاضة إلى انتعاش المقولات “انتزاع الدولة وإعلانها مباشرة”، وأبعد من ذلك مقولة “فشل كلّ البرامج المرحلية” والتوجه لمواصلة الانتفاضة على أن تشمل الفلسطينيين خلف الخط الأخضر نحو تحرير كامل التراب الفلسطيني”. فضلاً عن أطروحات أخرى أعتقد انها تنتمي إلى الهندسات السياسية الإيديولوجية، وليس إلى سياسة مرتبطة بنظام المصلحة المجتمعي الذي استقبل “اتفاق أوسلو” بطريقة مختلفة عما عبّرت عنه الفصائل المتحفّظة والرافضة له.
ومن يرصد لحظة دخول ياسر عرفات إلى غزة حتى نهاية المرحلة الانتقالية عام 1999، يدرك هذه النتيجة ويفهم هذا السلوك المجتمعي. لكنّ من مهر “اتفاقية أوسلو” بتوقيعه الرسمي قال ما يفيد أن ملامح الغموض في هذا الاتفاق إما أن نحسن استخدامه ليكون “الغموض البناء” ونحصل على الدولة، وإمّا أن نسيء استخدامه ونحصل على الكارثة. أمّا اإسحق رابين فقال إنّ هذا الاتفاق يلزمه خمس عشرة سنة ليهضمه المجتمع الاسرائيلي.
ما يهمّنا في الخلاصة أن فترة الحكم الذاتي الانتقالي فشلت في الوصول إلى خواتيمها الطيّبة، بفعل دينامية الاعتراض الإسرائيلي، وكانت ذروتها مقتل رابين نفسه، ودينامية الاعتراض الفلسطيني وكانت ذروتها العمليات التفجيرية داخل حدود أراضي ٤٨ من أجل “إسقاط اتفاق الخيانة”. وهكذا تصاعد الصراع الداخلي الفلسطيني وتعمّق، وأدّى إلى انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، ليس في الجغرافيا فقط وإنما في السياسة والتواصل المجتمعي. وصار لدينا حكم ذاتي في الضفة الغربية وحكم ذاتي غير معترف به في قطاع غزة، مما حطّم نظام المصلحة الفلسطينية الناشئ وقطع الطريق على تطوّره، ليصبح خيار الدولتين مطروحاً للنقاش مجدّداً. وبالخلاصة يمكن القول إنّ الحالة الفلسطينية الراهنة لا تنتج إلا مزيداً من الهبوط وفقدان القدرة على ممارسة سياسات مستقلّة، أو الحفاظ على إطار جامع ما دامت الخيارات الوطنية لا تحظى بالغالبية المطلقة، كما أن القدرة على حشد التأييد الإقليمي والدولي متدنّية ما دمنا نسعى لربط أهدافنا وحركتنا السياسية بمصالح تتجاوز الحالة الفلسطينية واحتياجات المجتمع الفلسطيني الملحّة وأولويّاته.
ومَن يعتقد أنّ التطور يسير باتجاه واحد صعوداً، يمكن ملاحظة اتجاه الهابط في الحالة الفلسطينية، إذ لا توجد حتميات تصمد وحدها. إنّ الحقّ التاريخي والحقّ السياسي والمشروعية كلّها قابلة للتحوّل ما لم نتدخّل إيجاباً للحفاظ عليها، وليس كما نفعل اليوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.