لقاءات أنقرة و اجتماعات الأمناء العامين.. ضرورة وطنية وحاجة حزبية
برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان احتضنت العاصمة أنقرة اجتماعاً خاصاً جمع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس برئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وهو اللقاء الأول لقيادة الفصيلين بعد لقاءات الجزائر في أغسطس من العام الماضي.
في هذا السياق كشفت مصادر أن عباس قدم لهنية رؤية سياسية سوف تُطرح في مؤتمر “العلمين” المنعقد في نهاية يوليو، إذ تعتمد رؤيته على الاعتراف بالشرعية الدولية، وضرورة انضواء الجميع تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وضرورة الالتزام ب”المقاومة السلمية”، مع رفض الطلب الفوري للإفراج عن المعتقلين، أو حتى ربط قضيتهم باجتماع الأمناء العامين في مصر.
على الجانب الأخر تمسك إسماعيل هنية بمقاومة الاحتلال في الضفة الغربية مؤكداً أن حركته ليست معنية بمهاجمة السلطة أو الإطاحة بها، كما عبر عن رفضه الاعتراف بالاحتلال، وهو ما يعكس رفض حركة حماس الالتزامات منظمة التحرير الخاصة بالاعتراف بإسرائيل.
لقاء أنقرة اختبار لاجتماع الأمناء العامين
على الرغم من الإشارات الإيجابية التي حملها اللقاء بين حركة فتح وحماس في العاصمة التركية أنقرة، فإن اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في مصر واجه مجموعة من التحديات الداخلية؛ كان أبرزها تعليق حركة الجهاد الإسلامي مشاركتها في الاجتماع، بسبب قضية المعتقلين السياسيين، وهو مطلب وطني عام حظي بتأييد غالبية الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حماس، وكانت أصدرت ثمانية فصائل فلسطينية، بعضها تنضوي تحت منظمة التحرير، بياناً مشتركاً حول ضرورة إنهاء أجهزة أمن السلطة الفلسطينية لملف الاعتقال السياسي في الضفة الغربية، مقابل تنصّل السلطة الفلسطينية وحركة فتح من هذه القضية، وإصرارها على التمييز بين قضية المصالحة وتحديات المواجهة الحكومة الصهيونية المتطرفة، وقضايا المعتلقين السياسيين، مؤكدين أنهما قضيتان منفصلتان وأنهم على استعداد لمناقشة هذه الأخيرة في اجتماع الأمناء العامين، وليس كشرط مسبق لمشاركة الفصائل.
هذا المشهد أدى إلى غياب حركة الجهاد الإسلامي وفصائل أخرى عن الاجتماع؛ لكن حركة الجهاد الإسلامي قدمت تأكيدًا على احترامها لنتائج الاجتماع، ما يترك الباب مفتوحًا لإعادة النظر في قرار المقاطعة، كما أفاد به خالد البطش، قائد الحركة في قطاع غزة.
يشير المراقبون أن غياب حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والصاعقة عن الاجتماع قد يعرقل الجهود المبذولة لتحقيق تفاهمات طويلة الأجل على الصعيد الفلسطيني، فيما يعتبر بعض المحللين أن سلوك الجهاد الإسلامي والفصائل المتحالفة معها تهدف إلى تشكيل قطب ثالث في السياسة الفلسطينية؛ إذ أن غياب هذه الفصائل عن اجتماع وطني بسبب مطلب رئيسي وهو قضية السجناء السياسيين لا يعتبر سبباً مقنعاً من وجهة نظر البعض، خاصة أن قضية الاعتقال السياسي عمرها من عمر السلطة الفلسطينية ذاتها، وكما أن بعض هذه الفصائل التي قاطعت، قد سبقت حركة حماس في الترحيب بالاجتماع.
استنتاج عام
يبدو أن مواقف الفصائل التي أعلنت مقاطعة الاجتماع بسبب قضية المعتقلين السياسيين بعد التأكيد على حضور الاجتماع لم تكن مقنعة بالنسبة للعديد من المراقبين؛ حيث يعتقد البعض أن الفصائل تحاول الضغط على حماس أكثر من الضغط على أبو مازن للإفراج عن المعتقلين السياسيين، مما يثير تساؤلات حول الأهداف والدوافع التي تقف خلف هذا السلوك. بالنظر إلى أنّ الإعلان عن قرار المقاطعة جرى مباشرة بعد الاجتماع الذي جمع الرئيس محمود عباس واسماعيل هنية تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة.
تثير هذه التقلبات السياسية التساؤلات حول دوافع هذه الفصائل والأهداف التي تتوخاها، وهي تشير إلى التعقيدات المستمرة في المشهد السياسي الفلسطيني؛ وستكشف الفترة القادمة ما إذا كانت هذه التكتيكات ستنجح في تحقيق أهدافها أم ستترك الوضع السياسي الفلسطيني أكثر تعقيدًا واضطرابا في ظروف استثنائية على مستوى التحديات التي تواجه الفلسطينيين بكل فصائلهم وتوجهاتهم مما يحتّم إيجاد آليات للعمل المشترك لمواجهة هذه التحديات على المستوى الوطني.
التكيف الفلسطيني مع استراتيجية الانقسام الاسرائيلية
بمرور الوقت، استنفذ “الانقسام” أهدافه “الإسرائيلية”، ولم يعدّ كافياً لتعطيل الحالة الفلسطينية وفق رؤية الاحتلال، فقد باتت حركة حماس في قطاع غزة قادرة على استغلال الوضع الراهن لصالح برنامجها المقاوم بالتوازي مع بنائها مؤسسات وطنية تعزز شرعيتها المحلية بمعزل عن الشرط “الإسرائيلي”، مع مواصلة محاولاتها تحسين الأوضاع المعيشية لسكان القطاع نسبياً.
من جهة أخرى، تقترب السلطة الفلسطينية من إقناع أطراف دولية وإقليمية بأنها على الطريق الصحيح لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية العتيدة في الضفة الغربية، على الرغم من أن اقتصادها معتمد بشكل كبير على ما تسمح به “إسرائيل”، بالإضافة إلى بعض المنح الدولية المحدودة. ورغم تقاعسها عن القيام بدورها الأساسي في المواجهة الدبلوماسية مع الاحتلال، وربط وجودها بمواصلة سياسة التنسيق الأمني، إلا أنها لا تزال تحتفظ ب الكيانية الفلسطينية، والحيلولة دون إقصاء الفلسطينيين من المعادلة الإقليمية والدولية من خلال التزامها بالمعايير الدولية والقانون الدولي.
لقد دفع هذا الوضع الاحتلال إلى إدراك تكلفة الاستمرار في إدارة الانقسام وإعادة تقييم جدواها، حيث شكّلت قدرة حماس وفتح على التحكم في الوضع في غزة والضفة والحفاظ على برامجها تحديًا كبيرًا أمام استراتيجيته استدامة الانقسام، هذا ما جعله يسعى لتطوير استراتيجيته بحيث يجرّ الفلسطينيين إلى متوالية الاستنزاف غير المسيطر عليه، بهدف تدمير الإرادة الفلسطينية المركزية، سواء كانت باسم السلطة/المنظمة أو حركة حماس. وعلى هذا الأساس عمل ولا يزال على إضعاف الثقة بهما لمصلحة عوامل فوضوية وغير مسيطر عليها فلسطينياً.
فرص بناء استراتيجية وطنية شاملة
رغم صعوبة الحديث عن أي تقدم فتحاوي حمساوي بعد لقاء أنقرة، خاصةً وأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس لا يزال يتبنى نهجًا فرديًا في القرار الفلسطيني، ما يصعب الوصول إلى تفاهم حول أسس الشراكة الوطنية، إلا أن إنجاز تفاهم بين قطبي السياسة الفلسطينية يشارك فيها الكل الوطني، من دون ضرورة تقديم تنازلات جوهرية في البرامج السياسية، يعتبر ضرورة وطنية في هذه المرحلة الحساسة، وهذا ما يتطلب مهارة سياسية من المؤكد أن الفلسطينيين يتقنونها، بهدف رفع تكلفة الانقسام السياسي والجغرافي على الاحتلال وخفض أضراره على القضية الفلسطينية بطريقةٍ ما.
ويمثل اجتماع الأمناء للفصائل الفلسطينية، الذي عقد في ٣٠ يوليو في مدينة العلمين المصرية، فرصة لإنجاز خطّة وطنية شاملة خصوصاً أن هذا الاجتماع يتجاوز الحدود النمطية للقاءات السابقة، حيث تبدو الفرص أكثر واقعية للوصول إلى توافقات بنّاءة، وذلك رغم الرؤية المتشائمة التي تغلف اللقاء، وهناك بعض العوامل التي تساهم في تحسين بيئة العمل الوطني المشترك:
أولاً، توجد تحديات مشتركة لقطبي المعادلة الفلسطينية- فتح وحماس- والتي تجعل التوافق ليس ضرورة وطنية فحسب، بل مصلحة حزبية أيضا، إذ يشترك كل من حماس وفتح في العديد من القضايا الملحة التي تتطلب التعاون والتفاهم.
ثانياً، التغيرات التي طرأت على المناخ الإقليمي الذي كان في السابق كأحد المصادر التي تغذّي الانقسام، حيث يوجد في الوقت الحاضر توجه نحو دعم توحيد الموقف الفلسطيني وإنهاء الانقسام، وذلك لأن الانقسام أصبح عقبة أمام تفعيل الأدوار الإقليمية من خلال القضية الفلسطينية.
ثالثاً، تبدو الأطراف الأساسية ملتزمة بنهج أكثر واقعية في التعامل مع السياسة، الأمر الذي يدفعهم لإيجاد نقطة تلاقٍ تتجنب المساس بشكل جوهري بقضايا الخلاف الأساسي ولا تتطلب تنازلات لا يمكن تحملها.
على الرغم صعوبة التعويل على هذه اللقاءات التي تكررت عدة مرات دون أن تصل إلى نتيجة، فإن التحديات المشتركة من الضروري أن تحمل الطرفين إلى إدارة الوضع الفلسطيني بطريقة تقوّض مخططات الاحتلال في تدمير العناوين السياسية الفلسطينية والشرعية الفلسطينية مع ضمان حماية المكتسبات الوطنية التي تحققت بالرغم من المسارات السياسية المتعارضة، وكذلك إحباط مساعي الاحتلال الدفع نحو الفوضى في المناطق التي تقع تحت سيطرتهما. هذا يتطلب العمل على استراتيجية مضادة للاحتلال، تتيح للجميع المشاركة فيها دون إقصاء لأي مكون فاعل في الساحة الفلسطينية ووفقاً لقدراته وإمكاناته، مما يتطلب التوافق على قيادة عليا مؤقتة من الجانبين ودعوة جميع القوى الفلسطينية للمشاركة والانضمام سواء من فصائل أو قوى مجتمع مدني أو شخصيات مستقلة، إلى أن يتم الاتفاق على إجراءات بناء الثقة وكذلك الإطار الزمني لاستعادة المسار الديمقراطي القائم على الانتخابات الشاملة في الداخل والخارج ولكافة المؤسسات الفلسطينية رئاسية وتشريعية ومجلس وطني.