فلسطين في نظام المصلحة العربية
انتهت حرب الاستنزاف على ضفتي قناة السويس بعد ألف يوم من المعارك وتوقف إطلاق النار في شهر أغسطس\آب عام 1970 لمدة 90 يوماَ من أجل بدء المفاوضات لتطبيق القرار الأممي 242، حسب مضمون مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز.
بهذا القرار السياسي-العسكري أسقطت القيادة المصرية “اللاءات” الثلاثة لمؤتمر قمة الخرطوم “لاسلام، لا اعتراف، لا مفاوضات”. وبقي شعار “إزالة آثار العدوان” ساري المفعول حتى يومنا هذا.
وفي دلالة هذا الحدث المفصلي، وتتبع اثره المباشر، يمكن تنسيب إنفجار الصراع المسلح بين النظام الأردني وفصائل الثورة الفلسطينية، إلى هدوء الجبهة المصرية أولاً، وإلى نهاية فترة السماح لحرية العمل الفدائي إنطلاقاً من دول المواجهة أو دول الطوق”.
فضلاً عن أسباب متعلقة بسيادة الدولة الأردنية، وعلى الرغم من استمرار الصراع حتى عام 1972 حيث خرجت قوات الثورة من شمال الأردن إلى لبنان بمحاذاة جبهة الجولان المغلقة أصلاً، استمر لبنان المصنف رسمياً دولة مساندة يتحمل وحده عبء وأكلاف المواجهة الفلسطينية – الاسرائيلية حتى عام 1982.
إن أي مراجعة مستقيمة لتلك المرحلة تكشف لنا أولاً الهوة الكبيرة بين الشعارات ذات الصلة بالحق الفلسطيني المعتمدة في الخطاب الرسمي العربي وبين السياسات العملية التي يجري تنفيذها سواء على مستوى السياسات العليا الخاصة بالمسألة الفلسطينية أو على مستوى السياسات الاجتماعية المتعلقة بحياة اللاجئين.
كما تكشف أيضاً فداحة الأوهام عند غالبية الفلسطينين حول منظومة الدعاية الأيديولوجية الموجهة أصلاً لتسخير القضية الفلسطينية في خدمة المصالح الخاصة للدول والاستخدام المستمر لقطاعات واسعة من مجتمعات اللجوء لمصلحة أجندة لا علاقة لهم بها. والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى.
وهنا لا بد من القول أن واجبنا الذاتي يتطلب منا البحث والتقصّي حول أثر الصراعات هذه في الأردن وسوريا ولبنان على مجتمعات اللجوء وعلى علاقتها بقضيتها الأساس ودورها فيها، وعلى علاقتها أيضاً بالدول المضيفة.
والآن إذا كانت الجراحات العميقة قد برّدت ووجدت لها ضماداً ما في الأردن فإنها ما زالت راعفة نازفة في مجتمعات اللجوء في سوريا ولبنان تحت وطأة الحروب والحصار والتهجير الممنهج، الذي يجبر الناس على خيارات ليست من صلب قناعاتهم، ويدفعهم للهجرة بواسطة مراكب الموت، لعل وعسى يستطيعون إنقاذ أطفالهم. لذا لا يكفي الحديث عن الإنجازات ولا يستوي المقال بتمجيد البطولة في المعاركمن دون التوقف أمام الضريبة الكبيرة والنتائج المرة التي تحملتها مجتمعات اللجوء في الأردن وسوريا ولبنان فضلاً عما تحملته المجتمعات المضيفة أيضاً.إن الموضوعية تقتضي الاعتراف بالحقائق والنتائج وضبط الميزان بين حقوقنا وواجباتنا من جهة، وضبط العلاقة أيضاً مع الدول المضيفة ومجتمعاتها ضمن منظور واقعي يراعي المصلحة الوطنية للبلد المضيف ويسمح بالحياة الكريمة والنضال السلمي من أجل مستقبل أفضل، ومن أجل فرصة حقيقية لمجتمعات اللجوء بالمساهمة بالنضال الشامل للشعب الفلسطيني.
إعلان الرياض
يمكن اعتبار “إعلان الرياض” الصادر عن القمة العربية عام 2007 أول مبادرة لتعريف الهوية العربية، وإعادة تعريف العروبة على نحو غير مسبوق في تاريخ الخطاب العربي الرسمي، ولا الخطابات القومية على اختلاف تياراتها السياسية والعقائدية.
وهذا ما يبنيه النص الوارد في الإعلان (… إن العروبة ليست مفهوماً عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحدة، تلعب اللغة العربية دور المعبّر عنها والحافظ لتراثها، وإطار حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والأخلاقية والانسانية…)
بهذا التعريف الجديد لرابطة العروبة تسقط الإدعاءات التي شهدها عالمنا العربي الصادرة عن مراكز قومية تعطي لنفسها حق الوصاية على الأمة العربية وحصر تمثيلها بهذا الزعيم أو ذاك الحزب كما يفتح هذا التعريف الحداثي الباب الواسع لتعزيز الروابط العربية على قاعدة تشاركية تحترم المصلحة الوطنية لكل بلد وتتقدم باتجاه بناء مصالح مشتركة تفيد الشعوب ولا تستخدمها فقط.
إن إعادة تعريف العروبة، يفتح المجال أيضاً لإعادة تعريف الحقوق والواجبات وإعادة بناء العلاقات بين الفلسطينيين والمجتمعات المضيفة لهم عبر مقاربة تضع مكانة الانسان الفرد كأولوية، كما تعتبر التنمية المجتمعية من مختلف جوانبها هي الطريق إلى امتلاك القوة القادرة على المواجهة في هذا العالم الذي تسوده وحشية قلَّ نظيرها في التاريخ البشري.
لقد عانى الانسان الفلسطيني والعربي من التهميش والاستخدام المفرط باسم الشعارات ما جعله يكفر بها، ويبحث عن الخلاص الفردي بعيداً عن الخلاص الوطني الجماعي ومازال أنصار الشعارات يمارسون التخوين بحق كل من يكفر بهم وبسياساتهم الكارثية.
لذا، وبالعودة إلى إشكالية الحالة الفلسطينية في دول الجوار وليس “الطوق” يمكن تسجيل خلاصات أولية للنقاش والبحث في تجربتنا منذ عام 67 حتى اليوم.
في الأردن
شكَّل التباين الحاد في تشخيص المصلحة الوطنية بين الأردن ومنظمة التحرير، نبع التغذية لاستمرار الشرخ الكبير بعد الأحداث الدامية.. إلا أن تحول المواقف التدريجي عند الطرفين سمح بإنتاج “اتفاق عمان” في مطلع عام 1985، لتسوية العلاقات الثنائية وإصلاح ذات البين ضمن مسار جديد تحكمه القوانين المتبعة بين الدول على المستويين الرسمي والشعبي، وتعزيز مسار المصالحة وتجاوز النتائج المرة للصدام السابق.
كما سمح الوضع الجديد لكافة القوى الفلسطينية المعارضة واليسارية منها لاحقاً الاستفادة من القوانين الأردنية الجديدة وإعادة بناء علاقاتها السياسية مع المملكة على قاعدة التسليم بالقانون والنظام العام.
وبهذا اختفت من قاموس السياسة الفلسطينية مقولات ” إسقاط العرش” و ” بناء قواعد ارتكاز” فضلاً عن شعار “عمان هانوي الثورة”.
في لبنان:
قدمت القيادة الفلسطينية ما يعرف الآن “بإعلان فلسطين في لبنان” ، جاء فيه (.. وأياً كان الأمر، فأننا من جانبنا نبادر إلى الاعتذار عن أي ضرر ألحقناه بلبنان العزيز، بوعي أو من غير وعي. وهذا الاعتذار غير مشروط باعتذار مقابل.)
وتضمن الإعلان دعوة لتجاوزالماضي بأخطائه وخطاياه مع إعلان الالتزام الفلسطيني بسيادة لبنان واستقلاله في ظل الشرعية اللبنانية فضلاً عن توكيد خاص برفض التوطين والتهجير والتمسك بالحقوق الأساسية المدنية لمجتمع اللجوء من أجل مواصلة النضال السلمي والديمقراطي ضمن القوانين اللبنانية المرعية الإجراء.
جاء إعلان تلك الوثيقة بعد سلسلة اجراءات تصالحية مع الشرعية اللبنانية ومع كافة الأحزاب والقوى التي شاركنا في قتالها واشتبكنا معها سواء من موقع الدفاع او الهجوم.
لذلك اتخذ المسار التصالحي خطاً تصاعدياً وراسخاً في الحالة اللبنانية ولدى الجمهور المتفاعل معه . لكن ذلك لا يعني أن الغرف السوداء راضية و محايدة كما لا يعني أن الدولة العميقة ليس لها خيارات أخرى على الرغم من الإقرار الرسمي الصريح بأهمية السياسة الفلسطينية التصالحية ودورها في حل الأزمات وتفادي الخيارات الكارثية التي يشهدها لبنان في سياق الصراع الداخلي والإقليمي معاً.
بينما في سوريا:
حتى الآن لا أفق واضح لنهاية الصراع فيها وعليها، كما أن حدة الاستقطاب لا تترك لأحد مساحة ولا تسمح بإنتاج حلول قادرة على تفادي الكارثة التي حلت بمجتمع اللجوء الفلسطيني هناك على الرغم من التنبه المبكر لمخاطر الانخراط في الصراع سواءً من موقع المؤيد أو المعارض للنظام.
لذلك حصدنا خسائر لا حصر لها بشرية ومادية، فضلاً عن الخسائر السياسية.. إنها الحصيلة الأكثر مرارة في حياة الفلسطينيين في سوريا وهي لا تختلف عن فداحة كارثة الشعب السوري نفسه.
أخيراً والموضوع يحتمل مقاربات متنوعة ومطولة لاستخلاص دروسه وتوثيق مساراته خاصة أن إخفاء الأرشيف في بلادنا هو بمثابة محو للحقيقة وحرمان للعقل من تقييم ما يجري في مناخ العنف المفرط السائد في المنطقة بفضل التطرف اليهودي الديني والقومي وتخاذل من يدعي مناصرة الحق والعدالة والديمقراطية عن توجيه مجرد لوم للتطرف الصهيوني، فإننا أمام تحدي كبير لإنجاز حق تقرير المصير، تحدي لا يصلح معه إلا احترام الفرادة الإنسانية ضمن الجماعة، فإن أي جماعة تناضل ولا تحترم أفرادها لن تحصل على ما تريد.