مقالات

نحو تحرير مساحاتٍ جديدةٍ للعمل السّياسيّ

خرج الفلسطينيّون من الانتفاضة الثّانية بتضحياتٍ كبيرةٍ وأجسامٍ سياسيّةٍ أَنْهكَتْها ضرباتُ الاحتلال وجمودُ عمليات التّجديد، وبأجيالٍ صاعدةٍ بالغةِ التّسييس والطّموح. رغم أن إعادةَ بناء النظام السّياسيّ الفلسطينيّ، بكافة مكوّناته، كانت الاستحقاقَ الفلسطينيّ الأولَ بعد سنواتٍ من المواجهة، لم يُـباشر الفلسطينيّون في عملية البناء حتى وصل الوضعُ الفلسطينيّ إلى حالة انقسامٍ سياسيٍّ ما بين حركتي “حماس” و”فتح”؛ سيطرت الأولى فيه على قطاع غزّة فيما هيمنت الثّانية على الضّفة الغربيّة.

احتلتْ حالةُ الانقسام الفلسطينيّ ما بين حركتي “حماس” و”فتح” جدولَ أعمال السّياسة الفلسطينيّة خلال العقد الماضي؛ فعناوين مثل إنهاء الانقسام، والوحدة الوطنيّة، والمصالحة، والحوار الوطنيّ وغيرها شغلت الجزءَ الأكبر من العمل والتّنظير السّياسيّ الفلسطينيّ.

وفي موازاة ذلك، أَنْتَجَتْ الانتفاضةُ الثّانية شريحةً سياسيّةً شابةً تكوّنت من مزيجٍ من الكوادر الوسيطة في التّنظيمات الفلسطينيّة، ومجموعات من النشطاء المُنشَغِلين في المجال العامّ والذين عرّفوا أنفسَهم خارج الأطر السّياسيّة التقليديّة، متأثرين بنظرائهم في بلدان الربيع العربيّ. خَرَجَ هؤلاء إلى الشّارع للضغط على القوى السّياسيّة الفلسطينيّة مطالبين بإنهاء الانقسام وإجراء الانتخابات، وغيرها من القضايا والاستحقاقات السّياسيّة. لكن نتيجةً لعوامل عدة، اصطدمت مطالبُ هذه الشّريحة بحائط تعقيدات السّياسة وحسابات القوى. متأثرين مرةً أُخرى بنظرائهم من النشطاء في البلدان العربيّة التي بدأت تشهد حالةً من الجزر السّياسيّ، دَخَلَ هؤلاء النشطاء في حالةٍ من العطالة والبلادة السّياسيّة تجاه مجريات السّياسة في فلسطين.

إعادة التّهديف من جديد، نحو التفاصيل

بقدر ما يكون الانشغالُ بالعناوين الكُبرى مُغرياً، بقدر ما يشكّل عائقاً حقيقيّاً أمام الاشتغال بما هو متاحٌ ومؤثر؛ فالعناوين السّياسيّة الكُبرَى في جوهرها  أكثرُ سلاسةً من العناوين والمساحات الصُّغرى. المطلوب هو التّوجه نحو هذه المساحات الصُّغرى التي تُعدُّ المساحةَ الحقيقيّةَ للعمل السّياسيّ للكادر الوسيط، والعمل على تحريرها سياسيّاً من هيمنة الواقع الراكد، وإعادة بثّ السّياسة فيها.

تنبع أهميةُ العمل في تلك المساحات من الحاجة إلى وقف الاستنزاف والانهيار فيها، في ظلّ حالة الاستعصاء الحاليّة، فالسياسة كما أسلفنا هي مجموعة من البُنى الصُّغرى، والواجب الحالي يتمثّل في إعادة إنتاج هذه البنى وتفعيلها. بالإضافة إلى ذلك، يُمثّل العمل في هذه المساحات معاركَ صغيرةً يُمكِنُ اكتسابُها والمراكمة من خلالها، فالشريحة الشّابة، في ظلّ حالة الركود العامّة، بحاجةٍ إلى معارك وانتصارات، وإن كانت متواضعةً، كي تُعيدَ لها ثقتَها بذاتها وتمنحَها من الأدوات ما يُمكّنها من التحرك والارتقاء.

الحركة الطلابيّة كنموذج عمل

قد يكون من ترف القول التّذكير بأهمية الحركة الطلابيّة وبقيمة ما أضافته وما صدّرته للحياة السّياسيّة الفلسطينيّة من كوادر، لكنّ الدورَ الأهم الذي لَعِبَته الحركةُ الطّلابيّة الفلسطينيّة تَمَثّل في كونها السّاحة المُنتِجَة للفعل السّياسيّ المُجدِّد في حالات الركود والتّراجع. بعد النكبة التي تعرّض لها الشّعب الفلسطينيّ عام 1948 والتي أدّت إلى انهيار البُنى السّياسيّة الفلسطينيّة القائمة آنذاك، كانت الحركة الطّلابيّة الفلسطينيّة أُولَى الأجسام التي استعادت عافيتها، وشكّلت روحُ المبادرة لدى كوادرها النواةَ الصّلبةَ للثورة الفلسطينيّة. لعبت الحركةُ الطلابيّة الدورَ نفسه في الأراضي المحتلة ما قبل الانتفاضة الأولى، وأدّى كوادرها دورَ القادة الميدانيّين للانتفاضة، إذ شكّلت الجامعاتُ السّاحةَ الأولى للاشتباك، كما قامت بالدور نفسه في انتفاضة الأقصى وغيرها من المحطات النضاليّة.

لكن في  السّنوات الأخيرة، عَانت الحركةُ الطلابيّة الفلسطينيّة من تراجعٍ كبيرٍ وحادٍّ في الدور والفعالية، انعَكَسَ على بُناها التي أعياها افتقارُها للتجديد، كما انعكس على دورها ومكانتِها التّمثيليّة، حيث تعيش حالةً من الاغتراب في الوسطين الطُّلابيّ والعامّ، أضعف قدرتَها على الحشد والتأثير. لذلك، فإنّ إعادةَ الفعالية للحركة الطلابيّة وتجديد بناها القائمة، وصولاً للاتفاق على رؤى وتصوّراتٍ تُشكِّلُ برنامج عمل مشترك ما بين قواها، من الممكن أن يُشكّلَ نموذجاً للعمل على ساحاتٍ أخرى كالتّجمعات النقابيّة والشّعبيّة.

في هذا الإطار، من الضّروري إصلاح الاتحاد العامّ لطلبة فلسطين، وإشراك حركتي “حماس” والجهاد الإسلاميّ فيه، وتنظيم انتخاباتٍ دوريّةٍ في كافة أماكن التّواجد الفلسطينيّ، وصولاً لإحياء هذه المؤسسة ودورها التاريخيّ. من الممكن أن يكون هذا الإصلاح نموذجاً لمؤسسات وهيئات المنظمة الأخرى، خاصّةً أن الفلسطينيّين اتفقوا على تمثيلية المنظمة. من جانبٍ آخر، فإنّه طالما استمرت تعقيدات السّياسة في منع تمثيل حركتي الجهاد و “حماس” في المنظمة ومنع إصلاحها على المستوى السّياسيّ العامّ، فإنّه من الممكن أن تكون البُنَى الصُّغرى مقدمةً مهمةً في هذه العملية، وباباً لعمليات بناء الثقة ما بين الأطراف الفلسطينيّة. كما أن النضال من أجل انتخاباتٍ طلابيّةٍ في كافة المؤسسات التعليميّة في الضّفة وغزّة والشّتات قد يكون مقدمةً لوعيٍ انتخابيٍّ عامٍّ.

ختاماً، لا يجب أن تقتصر عملياتُ بناء الشّراكة والثقة والحوار على مستوى سياسيٍّ معيّن، بل يجب أن تطال كافة المستويات والشّرائح، فطبيعة الظرف السّياسيّ المُعقد الذي يعيشه الشّعب الفلسطينيّ من المواجهة الشّاملة والمفتوحة مع الاحتلال، إضافةً إلى حالة الاستعصاء العامّة تجعل من الدعوة إلى إشراك وتفعيل وتحرير كافة المساحات ضرورةً سياسيّةً تتجاوز ترف التّنظير التنموي السّياسيّ.

إنّ قيماً مثل الحوار والهمّ الوطنيّ وقابلية العمل المشترك لا يمكن أن تكون ذات فعالية دون أن تُعمَّق عند المستويات الوسطى والدنيا في بُنَى الفصائل الفلسطينيّة ومؤسسات المجتمع المدنيّ، بالإضافة إلى النشطاء والفاعلين في المجال العامّ.

هناك ضرورةٌ لتوحيد الجهد الشّبابيّ ما بين كوادر الفصائل الفلسطينيّة والنشطاء الآخرين وتوجيهه نحو مجموعة من الأولويات المجدولة، فحجم التحديات يستلزم بالحدّ الأدنى العملَ المشترك. كما أن الدعوة للمواجهات السّياسيّة الصُّغرى لا تعني بأي حال من الأحوال تجاهلَ العناوين السّياسيّة الكُبرى والكفّ عن التعاطي معها، بل العكس تماماً إنّما هي دعوةٌ للنظر إلى هذه القضايا من مقاربات مختلفة تصقلها ممكناتُ الواقع وأدواته.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق