مقاربات الوحدة الوطنية الفلسطينية وتعزيز الثقة الإقليمية
بالرغم من الشعور بالخذلان من قبل بعض المواقف العربية والإسلامية، علينا ألا نقع في فخ الدعاية “الإسرائيلية” التي تسعى إلى تشتيت المسؤولية عن جرائم الإبادة في غزة، فالقانون الدولي يقرر مسؤولية دولة الاحتلال عن كل ما يتعلق بحياة السكان وحمايتهم، وهي مسؤولية ثابتة ومستقرة في القانون الدولي. كما أثبتت الأحداث منع دخول المسؤولين الدوليين لقطاع غزة، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة وغيره من المسؤولين.
وتأتي مرافعة مندوب الكيان في محكمة العدل الدولية محاولة لتشتيت أهمية مثول “إسرائيل” أمام أعلى هيئة قضاء دولي، فهو لا يسعى لتشتيت الانتباه فقط، بل يعمل على هز الثقة بين الفلسطينيين والبيئة الإقليمية، هذا التصرف لم يكن عبثياً بقدر سعيه لتمكين منطق تخريبي للعلاقات الفلسطينية العربية، اعتمادا على الانطباعات السائدة حول سلوك النظام الرسمي العربي وتخليه عن مساندة غزة بل المشاركة في حصارها، وبالرغم من كل ذلك من المهم الوعي بحقيقة الخطاب الصهيوني ورغبته في إضاعة إمكانية تحقيق العدالة للفلسطينيين من مثوله أمام المحكمة.
فخلال الحرب، توغلت القوات الصهيونية حتّى الحدود مع مصر، لقطع الطريق لدخول أي نوع من المساعدات للمدنيين العزّل في قطاع غزة المحاصرة. كما أنّ معبر رفح ليس المنفذ الوحيد لقطاع غزة، فهناك أربع معابر أخرى تحت المسؤولية الكاملة للكيان الصهيوني، تم إغلاقها بالكامل، لتنفيذ قرار مجلس الحرب بمنع الوقود وقطع المياه والغذاء من الوصول لقطاع غزة.
ومع ذلك من الضروري أن تعمل جميع الأطراف المعنية على دحض ادعاءات “إسرائيل” عملياً، سواء فيما يتعلق بموقف مصر من المعبر أو تصنيف دول عربية لحماس كحركة ‘إرهابية’. والسبيل الأٍقصر لذلك هو التنفيذ الفوري لمقررات القمة الاستثنائية العربية الإسلامية التي اتخذت قراراً بكسر الحصار على غزة ودعم مصر في تحمّل تبعات العدوان الإسرائيلي على القطاع.
الشقّ الآخر الذي لا يقلّ أهمية، وفي ضوء الحرب الشاملة التي يشنها كيان الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني في غرة والضفة والقدس وأراضي 48 وكذلك انطلاقاً من كون معركة “طوفان الأقصى” باتت معركة الكلّ الوطني كما أشار لذلك الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة فإن الرعاية العربية والإسلامية لجهود ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي تعتبر ضرورة وطنية وعربية، سواء فيما يتعلق بإعادة بناء المرجعيات الفلسطينية لضمان أن تكون فصائل المقاومة جزءاً لا يتجزأ من الشرعية الفلسطينية أو في توحيد الرؤية الفلسطينية لإدارة الصراع. وذلك من خلال ربط وقف إطلاق النار بخطة سياسية واضحة متفق عليها من كافة الفرقاء الفلسطينيين على قاعدة مواجهة مشروع حكومة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو رئيس وزراء حكومة الاحتلال والهادفة إلي استكمال النكبة الفلسطينية مسنوداً بتحالف دولي غير معلن لكن يمكن استنتاجه من مئات المعطيات التي تتوفر من تصريحات مسؤولي الكيان وتقارير ميدانية من مسرح الحرب، وكذلك استثمار الزخم الدولي الرسمي والشعبي المتعاطف مع الفلسطينيين باعتبارها فرصة تاريخية لإقامة الدولة الفلسطينية وفقاً للقانون الدولي وعكس النتائج التي يسعى إليها اليمين الصهيوني الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان الاحتلال.
وفي هذا الإطار يجب الانتباه بأن معالجة المأزق الداخلي الفلسطيني ليس أمراً يمكن تأجيله إلى ما بعد الحرب التي لا يبدو أنّ هناك أُفق لإنهائها في المدى المنظور مع إمكانية أن تتخذ أشكالاً جديدة من مرحلة إلى مرحلة أخرى، بل يجب النظر إليها كضرورة من ضرورات إدارة الصراع، وقطع الطريق على مخططات حكومة الحرب الصهيونية وكذلك تقصير الإطار الزمني للحرب، وتطوير الاستجابة الوطنية الشاملة للتعامل مع الارتدادات الإيجابية لما بعد 7 من أكتوبر، على سبيل المثال ما يحصل اليوم من جلب “إسرائيل” للمثول أمام أعلى محكمة دولية بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وما تحمله من مكاسب محتملة تعزز الموقف السياسي والقانوني للفلسطينيين وكذلك تكرّس الرواية الفلسطينية للصراع عالمياً، بموازاة تحسين القدرة الوطنية على امتصاص التداعيات السلبية المحتملة على مستقبل القضية الفلسطينية والأمن الإقليمي.
وهنا تبرز الحاجة أيضًا إلى التفريق بين الأداء البطولي والمشرف للمقاومة وبين طبيعة الحرب وأهدافها الكبرى التي يشنها الكيان، ويعتبرها حرباً وجودية، أطلق عليها اسم ‘حرب الاستقلال الثانية’، أو بتعبير آخر، ‘حرب النكبة الثانية’ بالنسبة للفلسطينيين. أي أنها تهدف إلى طرد السكان ‘التهجير’ ومن ثم الاستيطان. ورغم أن الإعلام يميل إلى رفع التوقعات استنادًا إلى إبداعات المقاومة وبسالة مقاتليها في الميدان، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، إلا أن هذا يُمثل جانباً واحداً من جوهر الصراع. فالجانب الاستراتيجي للعدوان على قطاع غزة يتجاوز التكتيكات العسكرية المباشرة ويتطلب نظرة وتقييمًا أكثر شمولًا، مع الأخذ في الاعتبار تأثير القوى الدولية على موازين القوى في مسرح الحرب الأوسع ونحو مآلاتها النهائية، وهو عامل حاسم في الصراع، خصوصًا بعد أن أصبحت غزة، بحسب تصريحات قادة الاحتلال، ‘قضية دولية’ تتجاوز حتى حسابات الخاصة للكيان. وأن أي تأثير في هذه المعادلات يتطلب وقتًا طويلاً نسبياً وتحالفات إقليمية ودولية،والانخراط في المجهود العسكري لصالح المقاومة، وهو ما كانت تأمله المقاومة الفلسطينية مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، إلا أن الردود الأولية على عمليتها لم تحقق الغرض المطلوب منها حتّى اللحظة، أي تغيير المعادلة السياسية والعسكرية مع دولة الاحتلال وبالأساس مع الرعاة الغربيين للكيان.
ومن هنا، تأتي ضرورة ترجمة النجاحات التكتيكية التي تحققها المقاومة إلى حقائق استراتيجية وسياسية عبر إدخال عناصر جديدة للمعادلة، التي تتمثّل في الاندماج والتكامل بين الشرعية الفلسطينية والقوة التي تحوزها المقاومة الفلسطينية عبر قيادة فلسطينية انتقالية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية البيت المعنوي للفلسطينيين والإطار السياسي والقانوني المعترف بها دولياً إلى حين إجراء انتخابات فلسطينية شاملة.
هذه الخطوة -توحيد المرجعيات والرؤية الفلسطينية- تُعد شرطًا أساسيًا لحشد الدعم الإقليمي والدولي لمطالب الشعب الفلسطيني في تحقيق حريته واستقلاله، سواء عبر المؤسسات الدولية أو من خلال عقد مؤتمر دولي إقليمي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفقًا لكافة القرارات والمواثيق الدولية ذات الصلة، وذلك بمعزل عن شروط الرباعية الدولية. يجدر التذكير بأن المسار الإنساني وجهود إعادة الإعمار ستكون مهمة لا تقل أهمية وخطورة عن الحرب ذاتها. هذه المهمة تتطلب إدارة طوارئ بمرجعية فلسطينية توافقية لمنع فرض وصاية إقليمية أو دولية على قطاع غزة. يتحتم على الفلسطينيين الاستعداد للتعامل مع هذا التحدي الإنساني بروح وطنية مسؤولة، والابتعاد عن الحلول المحلية الضيقة. إن تضافر وترابط هذه المسارات سيجبر العدو وحلفاءه على إعادة النظر في أهداف الحرب المعلنة وغير المعلنة، نظرًا لاختلال حساباتهم وتقديراتهم لمسار الحرب ومآلاتها بشكل لم يتوقعوه.
فقد كان يهدف لطرد أكبر قدر من الفلسطينيين من فلسطين التاريخية لضمان استمرار مشروعه الاستيطاني الاستعماري عقود إلى الأمام وكذلك القضاء كلياً على فكرة الدولة الفلسطينية من خلال تقويض المؤسسات الفلسطينية ونزع الشرعية عنها لإنهاء صفة الجماعة الوطنية عن الفلسطينيين عن طريق وصمهم بالإرهاب أو تغذية عوامل انقسامهم وضرب أي فرصة لبناء توافقات فلسطينية تمكّنهم من تشكيل عنوان سياسي معترف بها إقليمياً وعالمياً، يعبّر عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال ويعكس آمالهم وتطلعاتهم الوطنية في الحرية والاستقلال والعودة.
وفي هذه الأيام، بدأت تتبلور القناعة بأن تعزيز الأمن القومي لدول فاعلة إقليمياً ومؤثرة عالمياً لن يكون ممكناً إلّا عن طريق تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني في إٍقامة دولته المستقلة، فمن جهة لاحتواء الحرب ومنع احتمالات توسعها إلى حرب إٍقليمية حيث لا أحد من كافة القوى الإقليمية الأساسية يريد حرب شاملة في المنطقة، من جهة أخرى تخشى دول المنطقة أن تؤثر تداعيات الحرب بشدّة على أمنها الوطني وخطر انتشار الفوضى في المنطقة.
ومع استمرار الحرب ضدّ الشعب الفلسطيني كمشروع قائم بحدّ ذاته لليمين الصهيوني المتطرف “خطة الحسم”، تزداد احتمالات تهديد الفوضى للاستقرار الإقليمي ويصبح التحرك الإقليمي بشكل جماعي ومنسٍّق أمرّ لا مفرّ منه لوقف الحرب ومنع توسعها كما يرغب بنيامين نتنياهو لأسبابه الخاصة والذي يخوض ما يشبه المعركة الصفرية مع الشعب الفلسطيني، ربّما رأينا بعض ملامحه في تحرّك اللجنة السباعية المنبثقة عن القمّة الاستثنائية العربية والإسلامية في الرياض للتحرّك من أجل وقف العدوان على قطاع غزة لكنه يظلّ نطاق تأثيره على مجريات الحرب دون المستوى المطلوب.
ولذلك، يمكن للشعب الفلسطيني والقوى الإقليمية المساندة، بمجرد فرض إيقاف الحرب وإفشال مخططات الإبادة والتهجير، العمل على بناء الثقة في مستقبل الشعب الفلسطيني ومع الجوار الإقليمي توطيداً وتأكيداً على تفوقه على مشروع الكيان، بما يسمح بتقرير مصيره وتحقيق أهدافه الوطنية في الحرية والاستقلال وبما يعزز من فرص بناء نظام إقليمي مستقر وناهض يعبّر عن إرادة وتطلعات دول وشعوب المنطقة.