مقالات بحثية

تعاقب القيادات في الحركة الوطنية الفلسطينية من الهيئة العليا إلى منظمة التحرير الثالثة

بالرغم من انطلاق النضال ضد المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين منذ قرن تقريباً، إلا أن الحديث عن قيادة فلسطينية بالمعنى الرسمي والمؤسساتي لم يكن ممكناً إلا مع تأسيس منظمة التحرير كقيادة رسمية ممثلة للشعب الفلسطيني بمدينة القدس في منتصف ستينيات القرن الماضي. وهذا لا ينفي أن ثمّة من القيادات والشخصيات قبل ذلك قادت لواء النضال والصراع ضد المشروع الصهيوني عبر هيئات عدة حملت مسميات مختلفة مثل الهيئة العليا وحكومة عموم فلسطين وتحت لواء كل من عبد القادر الحسيني وعز الدين القسام والمفتي أمين الحسيني.

يعود ذلك سياسة مدروسة دشّنها الانتداب البريطاني والقاضية بعدم السماح ببناء شرعية ممثلة للفلسطينيين سواء عبر حكومات أو هيئات وطنية منتخبة في فلسطين، كما كان الحال في كل البلدان التي كانت تقبع تحت انتداب المحتل مثل مصر والسودان والعراق، علماً أن –فكرة الانتداب (الاحتلال) حسب قرار عصبة  الأمم المتحدة [1]كان يفترض أن تساعد تلك الدول على نيل الاستقلال، غير أن التعاطي مع فلسطين بدا مختلفاً من جهة بريطانيا لارتباطه بوعد بلفور وتسهيل زرع “إسرائيل” وفق العبارة الشهيرة الخادعة والحركية “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”.

بداية مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين:

في الإطار الوطني؛ غلب الطابع الشخصي أو الفردي على التصدي السياسي والعسكري للمشروع الصهيوني مع اتضاح طابعه الاستعماري وتدفق الهجرة اليهودية بعيداً عن الزيارة الدينية التقليدية وإقامة تجمعات يهودية صغيرة ومتفرقة دون مشاكل أو عراقيل من الدولة العثمانية أو الفلسطينيين أنفسهم، وهذا ما يتضح من انتشار الجاليات والأحياء اليهودية في معظم الحواضر والمدن العربية والإسلامية بشكلٍ عام، وذلك نتيجة التسامح الديني والعرقي المعهود للمسلمين والعرب بفلسطين والمنطقة من جهة، وتفهمهم الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا من جهةٍ أخرى. في هذا السياق، وحسب الترتيب الزمني يمكن الحديث أولاً عن الصمود الشعبي، من خلال الانخراط مع الجيش العثماني للدفاع عن القدس وفلسطين بالعقد الأول من القرن الماضي خلال الحرب العالمية الأولى. أما بالنسبة للقيادة الأولى على المستوى الشعبي الجهادي فقد ظهرت وتبلورت في شخصية قائد معركة القسطل عبد القادر الحسيني -نهاية عشرينيات القرن الماضي- الذي قاد أول مقاومة شعبية مسلحة منظمة ضد الكتائب والعصابات اليهودية والاحتلال البريطاني بشكل عام مع اتضاح النوايا الاستعمارية والتواطؤ بين الغزاة الصهاينة وجيش الاحتلال.

بعد ذلك بسنوات قليلة قاد الشهيد عز الدين القسام ثورة فلسطينية وعربية كبرى بإضراب طويل استمر ثلاث سنوات، وكان للتفاصيل التي أحاطت حياة القسام عاملاً قوياً ل تزعمه القيادة الشعبية ضد الاحتلال الإنجليزي آنذاك، نظراً لأنه شكّل رواية أو ملحمة بحد ذاته كونه سوري جاء من بلاد الشام عندما كانت موحدة بعقلها الجمعي شعبياً وجماهيرياً، حتى بوجود الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي فيها؛ فقاتلهم في سوريا ثم في فلسطين حتى الشهادة في أحراش يعبد بمحافظة جنين التي اكتسبت الإرث النضالي والثوري التاريخي منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.

وأما بالنسبة لمرحلة الأربعينيات يمكن الحديث عن المفتي الحاج أمين الحسيني، الذي قاد المواجهة والجهاد بأبعادها المختلفة السياسية والإعلامية والميدانية، بدعمٍ من الدول العربية ليوسع بذلك إطار المواجهة لتشمل عمقها العربي، ويسهم في ترسيخ سبل الدعم المختلفة فلسطينياً وعربياً [2]، كما ويمكن عبره الحديث عن أول نواة لقيادة فلسطينية رسمية أو شبه رسمية، استطاعت نسج علاقات دولية من خلال تأسيس العديد من مكاتب التمثيل في مناطق مختلفة حول العالم  في ظل علاقات واتصالات قادها المفتي مع دول داعمة للفلسطينيين وقضيتهم العادلة.

جامعة الدول العربية والتمثيل الفلسطيني:

مع تنامي المخاطر المترتبة على سياسات الانتداب البريطاني في تكثيف الهجرة الصهيونية إلى فلسطين واستصدار قرارات تقسيم لصالح اليهود على حساب العرب، بدأت الأصوات في أكثر من بلدٍ عربي تعلو داعيةً إلى ضرورة التدخل في فلسطين لمنع سياسات بريطانيا الهادفة إلى تمرير فكرة إقامة وطن قومي لليهود؛ الأمر الذي انعكس على ميثاق جامعة الدول العربية التي شهد مؤتمرها التحضيري بالإسكندرية في العام 1945 حضور ممثل فلسطين موسى العلمي واستعراضه الوضع العام في فلسطين، وترتب على ذلك احتواء الميثاق ملحقين؛ أحدهما خاص بالقضية الفلسطينية [3].  

وبناءً عليه يكون موسى العلمي من أولى القيادات الفلسطينية التي سعت إلى تمثيل القضية الفلسطينية في سياق العمق العربي، من خلال دعوة الدول العربية إلى تقديم الدعم بشتى السبل إلى الفلسطينيين. وفي هذا السياق قدّم العلمي مقترحين؛ الأول يدعو إلى ضرورة تأسيس صندوق قومي عربي يهدف إلى إنقاذ أراضي فلسطين من المنظمات الصهيونية، والثاني تركّز على مسألة نشر الرواية الفلسطينية ونقلها إلى الرأي العالمي لإفشاء افتراءات الرواية الصهيونية التي لاقت صيتها في الأرجاء الغربية آنذاك [4].

وفي هذا السياق، سعى العلمي إلى تأسيس مكاتب إعلامية عربية في القدس ولندن وواشنطن بتمويلٍ من الحكومة العراقية، إلا أن حملة المعارضة التي نظمتها الهيئة العربية العليا تسببت في إغلاقها وتوقف الدعم عنها في العام 1947. وبرغم ذلك يكون العلمي قد حاول في وقتٍ مبكر لفت الأنظار إلى أهمية الترويج الإعلامي للقضية أمام الرأي العالمي، متخطياً جميع القيادات على المستويين الوطني والعربي، وهو ما تسعى إليه القيادة الفلسطينية الحالية لكن دون جدوى تذكر لعدم توفر الوسائل المواتية مع عامل التأخر الزمني مقارنةً بالدعاية الصهيونية [5].

الهيئة العربية العليا لفلسطين وحكومة عموم فلسطين:

 تشكلت كل من الهيئة العربية وحكومة عموم فلسطين ضمن إطارٍ واحد حيث تعد الثانية تطوراً مرحلياً للهيئة التي تشكلت عام 1946 بموجب قرار من جامعة الدول العربية، وتولى رئاستها الحاج أمين الحسيني [6] وبالرغم مما تملكانه الهيئة والحكومة من التمثيل الشعبي محلياً والرسمي عربياً، إلا أنهما لم يتمكنا من توظيف هذا النجاح الأولي على أرض الواقع، بسبب ما عانته الحكومة من الوصاية المصرية من جهة، وانعدام الدعم المالي العربي من جهةٍ أخرى، الأمر الذي أفقدها التمثيل الوطني[7]، مما انعكس سلبا على قدرتها على فرض نفسها وتخطي الأزمات الإقليمية، ومن ثمّ توالت الأحداث التي تجاوزتها مع تداعيات النكبة عام 1948 وسعي الشعب الفلسطيني لقيادة شابة وتنظيم نفسه بعيداً عن الوجوه والشخصيات التي فشلت -حتى مع نواياها الطيبة- في منع النكبة الأولى، وبذلك تكون تجربة الهيئة وحكومة عموم فلسطين قد مهدتا من ناحية التمثيل على المستويين الإقليمي والدولي لظهور منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد.

أول قيادة فلسطينية رسمية ومؤسساتية

نشأت منظمة التحرير الفلسطينية في منتصف ستينيات القرن الماضي كبديل لحكومة عموم فلسطين مكونةً أول تجربة قيادية فلسطينية بالمعنى الرسمي المؤسساتي المنظّم والجامع، وعلى الرغم من معارضة قيادة الهيئة العربية العليا ممثلةً بـ الحسيني تأسيس المنظمة، إلا أن الظرف الفلسطيني العام حينها كان مواتياً لذلك، خاصةً مع تراجع دور الهيئة وعزلة قيادتها، ما ولّد حاجة وطنية لملء الفراغ القيادي والتمثيلي للشعب الفلسطيني[8].

مع انعقاد المجلس الوطني التمثيلي -المؤتمر العربي الأول-، المعبر عن المزاج أو التنوع الفلسطيني آنذاك دون إقصاء، والذي اختار بدوره رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة أحمد الشقيري بالمؤتمر المنعقد بالعاصمة القدس الخاضعة آنذاك للوصاية الأردنية في مايو/ أيار 1964.

ويعد هذا المؤتمر أو المجلس الوطني ولا شك جامعاً ومعبراً عن المزاج الشعبي السياسي العام بالشارع الفلسطيني بكافة أطيافه وأماكن تواجده المختلفة، وهنا ثمة ملاحظات ونقاط عديدة لا بد من التوقف عندها فيما يخص هذا المستجد التاريخي الذي سيشكل أهم المحطات الرئيسية والفارقة في حركة النضال الفلسطيني فيما بعد، بما أننا نتحدث عن أول قيادة فلسطينية رسمية بالمعنى الدقيق للمصطلح:

– الحاجة الماسّة إلى قيادة فلسطينية بعد استيعاب النكبة الأولى 1948، وصمود الشعب الفلسطيني بالداخل والشتات في مواجهتها بمساعدة من الدول العربية في معظمها. ثمة ضرورة حقيقية إلى جسمٍ سياسي فلسطيني لعدم إبقاء أو طبع القضية بالطابع الإنساني فقط لقيادة الشعب الفلسطيني في مواجهة إسرائيل بعد تأسيسها. خصوصاً مع إنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بقرار دولي ما سمح في المراحل المبكرة من قيامها طغيان الطابع الإنساني جوهر القضية الفلسطينية المتمثل ببعده السياسي والحقوقي.

– قاد أحمد الشقيري اللجنة التنفيذية للمنظمة التي ضمّت عضويات شابة عكست مدى التنوع والمزاج السياسي والشعبي الفلسطيني كما وضعت النواة للمؤسسات مثل المجلس الوطني والصندوق القومي وجيش التحرير ومكاتب التمثيل بالعالم العربي [9]

بداية الكفاح المسلح لمنظمة التحرير الأولى:

لم تبدأ منظمة التحرير الفلسطينية بالمشاركة في الكفاح المسلح مع سيطرة التنظيمات الفدائية عليها كما قد يتصوره البعض، وإنّما كانت البداية فور تأسيسها قبل خمس سنوات من تلك اللحظة، حيث شكّل تأسيسها في منتصف الستينيات نقطة انطلاق حقيقية للكفاح المسلح في إطار هيكلي منظم تطور لاحقاً نحو صيغة جيش التحرير الفلسطيني [10]. واتسمت هذه الفترة ببناء هيكلية عسكرية تكمّل الجانب المدني والديمقراطي للمنظمة. بُني التنظيم العسكري في قطاع غزة، الذي كان تحت وصاية مصر، في البداية، وأسس جيش قوات التحرير الشعبي “الفدائيين” لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال في الأراضي التي تم احتلالها عام 1948[11]. وبعد الهزيمة في النكبة الثانية عام 1967 واحتلال كامل فلسطين، قادت هذه المنظمة الجهود المقاومة، وخاصةً في قطاع غزة، حتى أطلق عليها التسمية الشعبية والجماهيرية “قوات الفدائيين”[12].

في ضوء ما سبق، يتضح أن تجربة قوات التحرير الشعبي والتي يمكن اعتبارها امتدادا لتجربة مجموعات المقاومة الأولى بقيادة ضابط الاستخبارات المصري “مصطفى حافظ” في غزة، كانت حملت في طياتها أهمية استثنائية، تحديداً فيما يخص رفد فصائل العمل الوطني التي هيمنت على منظمة التحرير بالخبرات بعد أن كانت ترفع لواء الكفاح المسلح قبل أن تكتمل تجربتها العسكرية، لكنها ومع احتكاك كوادرها بقوات التحرير الشعبي أو قوات الفدائيين ونجاحها في استقطابها بعض قادة وكوادر قوات التحرير الشعبي الذين درس بعضهم في كليات عسكرية وحربية في أكثر من قطر عربي سواء في مصر أو سوريا أو الجزائر، الأمر الذي منح هذه التنظيمات خبرات وتجارب مكنتهم من قيادة لواء المقاومة بغزة في السنوات الأولى للاحتلال التي أنهاها الجنرال أرئيل شارون قائد المنطقة الجنوبية بجيش الاحتلال بجرائم حرب موصوفة ضد المقاومين خاصةً و الغزيين بشكل عام والتي للأسف لم تأخذ حقها أيضاً من الاهتمام في الأوساط البحث والسياسية الفلسطينية.

العامل الديمقراطي والمؤسساتي وشخصية الشقيري:

إضافة لتجربة التأسيس والقيادة التوافقية للمنظمة تحضر شخصية الشقيري التي لم تنل ما تستحقه من اهتمام وتقدير على المستوى المحلي والإقليمي، كونه رجل وطني فلسطيني قومي عروبي، فبدلاً من دعمه تعمدت القيادة العربية وعلى رأسها مصر تهميشه وتصعيد قيادة فلسطينية جديدة تمثلت بـ الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي مُهدت له الطريق بخطواتٍ عمليّة وتنظيميّة للدخول تحت مظلة منظمة التحرير، ما أسفر عن تحويل الميثاق من إطاره القومي إلى الوطني، وبذلك أصبحت القضية ضمن اختصاص الفلسطينيين وملقاة على عاتقهم دون غيرهم. فتولّد نظرياً أول مبرر ل تخلي العرب عن القضية، ناهيك عن تبعات إقصاء العنوان “القومي” في عن الميثاق الفلسطيني.

وإلى جانب ذلك، يجب الانتباه للخلفية المدنية والديمقراطية للشقيري واستخلاصه الدروس والعبر السياسية والمؤسساتية بنزاهة وشجاعة بعد النكبة الثانية بالعام 1967،  – و هو ما لم يفعله نظراؤه من القادة العرب المسؤولين عن النكبة-. ودخل ياسر عرفات ممثلاً بـحركة فتح في موقف معارض لتوجهات قيادة الشقيري على نهج العمل التنظيمي للمنظمة، خاصةً بعد أن أبدت رغبتها بالانضمام شريطة أن تكون الثورة المسلحة شعاراً لهذا التكتل الجديد [13]، وهو ما رفضه الشقيري، الأمر الذي قوبل بتكتلٍ تنظيمي ترأسته حركة فتح مراسلةً عدد من القادة العرب [14] ومشكلةً جبهة ضغط من داخل المنظمة أسفرت عن استقالة الشقيري، وتدريجياً إلى أن سيطرة حركة فتح على قيادتها عام 1969 [15].

وفسر الشقيري السبب الرئيسي لاستقالته وانسحابه من المنظمة أنه يكمن في موقفه المعارض لتوجه القادة العرب في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر القمة العربى بالخرطوم عام 1967 إثر هزيمة النكسة [16]. ومن خلال الاستقالة واعتزال العمل السياسي يكون الشقيري قد ترك القيادة إلى جيل قيادي جديد من التنظيمات والفصائل “الفدائيين” في تصرف غير مسبوق، وهو ما لم تفهمه وتعيه جيداً هذه الأخيرة، فلم ترحل أو تعتزل بعدما وصلت إلى نهاية طريقها مثلما فعل الشقيري، وإن أُجبر على تقديم الاستقالة بضغطٍ من القيادة العربية التي كانت تسعى إلى تصعيد قيادة جديدة تمثلت بـ ياسر عرفات.

منظمة التحرير الثانية “الوطن المعنوي للفلسطينيين” 1969:

جرى تسليم المنظمة إلى الجيل الشاب المتمثل بالفدائيين في الإطار الفصائلي بقيادة ياسر عرفات، الذي اتبع أسلوباً يتباين مع الشقيري، خاصةً فيما يتعلق بالثورة المسلحة التي ارتبط مسار المنظمة بها إثر سيطرة فصيل فتح عليها.، حيث تكوّنت شخصيته قبل انقلاب 1952، وتمدده بالعالم العربي، كما تأثر شخصياً بالحراك والتفاعل السياسي والإعلامي والديمقراطي بمختلف التيارات العربية الحزبية والفكرية.

 وعلى الرغم من شخصية عرفات التي ارتبطت بالعمل الثوري، إلا أنه كان أقرب ما يكون إلى ثقافة وفلسطة النظام الرسمي العربي، تجلّى ذلك على مستوى الشكل والمضمون في إعادة بناء المنظومة الرسمية الفلسطينية.

ثمة دليل وبرهان واضح على شخصية ياسر عرفات يتمثل بعلاقاته المضطربة مع نظام جمال عبد الناصر رغم الدعم المصري له للتفرد بالقيادة الفلسطينية، وكونه مصري الهوى، إلا أن ذلك لم يمنع وجود بعض الاضطرابات معه و مع الأنظمة الانقلابية والعسكرية في سوريا والعراق وليبيا، والتي استخدمت ضده تنظيمات فلسطينية متعددة مثل بندقية للإيجار مثل جماعة أبو نضال وأحياناً فصائل أخرى مرتبطة بأحزاب وأنظمة عربية مثل حزب البعث في العراق وسوريا بينما كانت علاقاته وثيقة أكثر مع دول الخليج وتحديداً مع المملكة العربية السعودية حيث أدرك أبو عمار أهميتها السياسية والمالية وابتعادها عن التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي والتنظيمي بشكل فظ خشن.

مع ذلك وبسبب حس القيادة والزعامة وإدراكه للمسؤولية الملقاة على عاتقه، وضرورة تقديم ما ينفع الناس والفلسطينيين، حرص عرفات على فعل ذلك بشكل توافقي قدر الإمكان دون إقصاء داخل فتح والمنظمة بشكل عام وحتى لو أراد كما فعل في رام الله بعد ذلك لم يكن بإمكانه تأسيس سلطة استبدادية كاملة وإنما ناعمة -نموذج الأردن والمغرب – مع العجز عن احتكار السلاح والمال والإعلام، بتعدد التنظيمات وداعميهم السياسيين ومصادر دخلهم المالي والعسكري.

ولكن في كل الأحوال لم يكن المشهد الفلسطيني بالتأكيد أمام نمطٍ ديموقراطي في القيادة، إنما التزم بنمطٍ استبدادي مخفّف معتمداً على القيادة العسكرية، والتي رسّخها فيما بعد بإدارة مدنية بموجب اتفاق أوسلو، والتي اتخذت طابع الأنظمة العربية القائمة.

بناءً عليه، باتت منظمة التحرير الثانية بقيادة عرفات على شاكلة نمط الحكم في الأنظمة العربية متجهةً مع مرور الوقت نحو الاستبداد والتفرد بالسلطة غير أن خصوصية الواقع الفلسطيني شعبياً وفصائلياً فرض عليها اللجوء إلى ذلك بالقوة الناعمة.

أبرز سمات التطور المرحلي للحقبة الثانية من منظمة التحرير:

على مستوى التطور المرحلي لمنظمة التحرير الثانية، فيمكن التطرق إلى أهم المحطات التي مرت بها مثل معركة الكرامة التي خاضتها الفصائل حتى قبل تسلمها قيادة المنظمة بشكل رسمي ولكنها كانت قيادة معنوية أو غير رسمية آنذاك، ومن ثم الصدام مع النظام بالأردن والانتقال إلى لبنان، والانخراط الكارثي بالحرب الأهلية هناك 1975، وقبل ذلك بفترة وجيزة كان البرنامج المرحلي النقاط العشر 1974[17] الذي كان من أهم المحطات السياسية بحقبة المنظمة الثانية قبل الخروج من بيروت  1982 والانتفاضة الأولى -1987-التي كانت بمثابة تنفس اصطناعي لها ثم اتفاق أوسلو 1993 الذى أنهى نظرياً أو اكلينيكيا الحقبة كلها.

وبالرجوع إلى الخلف لتقييم محطات تلك الحقبة على مستوى الإجماع الفصائلي نجد أن قيادتها لم تستطع الوصول إلى الاجماع الشامل لأغلب الفصائل الفلسطينية وقيادتها، وهو ما اتضح من محطات الخلاف بينها وبين عدد من الفصائل الفلسطينية التي عزفت عن دعم قيادة المنظمة بتعليق الانضمام إلى مظلتها تارةً، والتكتل في إطار تحالفات وجبهات معارضة تارةً أخرى. لكن يمكن الجزم بأن قيادة المنظمة تمكنت من إدارة الوضع العام بمعزل عن التأثر بتلك المحطات الخلافية، ومكّنها من ذلك السطوة العسكرية التي كانت تتمتع بها، إلى جانب الشرعية الوطنية والإقليمية التي كانت تقف سداً منيعاً أمام فعالية وإمكانية نجاح جبهات المعارضة وتلك التحالفات، وبالرغم من ذلك كانت هناك العديد من المحاولات للعديد من دول العالم والإقليم للتوفيق بين قيادة المنظمة وأحزاب التحالف المعارض للوصول إلى التوافق التام. وفي هذه الحقبة وقبل الانزلاق إلى حقبة اتفاق أوسلو، يمكن القول أن الملمح الأساسي ظل التوافق قدر الإمكان وحتى الإجماع داخل المنظمة مع تفادي تعميق الخلاف والالتفاف حول مكانة الكفاح المسلح وتشكيل ما عُرف باسم غرفة العمليات المشتركة “اللجنة العسكرية” التي ضمت مختلف الأجنحة العسكرية للفصائل المنضوية تحت لواء المنظمة، وهي تجسيد لمبدأ اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم والشعور بإمكانية تحقيق ما عجزت عن تحقيقه أنظمة الدول العربية الكبرى بعد النكبة الثانية 1967 خاصةً وأن نتائج معركة الكرامة جاءت عقبها مباشرة.

لا يمكن الجدال في حقيقة تقديم تضحيات كبيرة مع الاصطدام المبكر والدامي بالنظام الأردني وتبني فكرة إجبار الأنظمة للاشتباك مع إسرائيل لكن بدأت التشققات باكراً جداً مع مشروع النقاط العشر، البرنامج المرحلي 1974 الذي يمثل نواة أوسلو والسلطة الفلسطينية فيما بعد والانخراط في الحرب الأهلية اللبنانية الذي أساء للقضية الفلسطينية وعدالتها.

نهاية منظمة التحرير الثانية ووصولها إلى نهاية الطريق:

أنهى الخروج من لبنان نظرياً قيادة منظمة التحرير الثانية ببعدها الفدائي العسكري وتحوّلها إلى العمل السياسي، ليصبح وصول منظمة ياسر عرفات إلى نهاية الطريق كما المنظمة في حقبة الشقيري مسألة وقت فقط ويتحقق ذلك عملياً مع اتفاق أوسلو 1993، ومن ثم الانتفاضة الثانية 2000 وعودة عرفات لتغطية الكفاح المسلح الذي لم تكن بنية السلطة والتزاماتها والظروف المحيطة مهيأة له سياسياً وعسكرياً ما أدى إلى اغتياله وإزاحته من المشهد السياسي.

 بناءً عليه؛ مثّل اتفاق أوسلو في الحقيقة إعلاناً سياسياً رسمياً عن نهاية المنظمة الثانية مثلما عرفناها بعدما تنازلت عن روحها مقابل الاعتراف بجسدها. كما عبر الاتفاق من جهة أخرى عن تمسك القيادة بالسلطة، ورفض التنازل عنها، بنوع شبيه بما فعل الشقيري نهاية ستينيات القرن الماضي لكن مع تباين في المنطلقات واختلاف في الظروف والنتائج المتوخاة.

منظمة التحرير الثالثة التي لم تر النور بعد:

هيأ فشل أوسلو ثم اندلاع الانتفاضة الثانية الذي عبّر عن انفجار الشعب الفلسطيني ضدّ نتائج أوسلو كما توقع القيادي الفتحاوي المؤسس خالد الحسن- ثمّ بعد ذلك اغتيال ياسر عرفات فرصة أخرى ممكنة لتصحيح أوضاع المنظمة، وهي بمثابة فرصة ضائعة أخرى بعد إجهاض الانتقال السلس والديمقراطي إلى منظمة التحرير الثالثة، وتسليمها لقيادة الداخل – حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني-  التي فاوضت في مدريد وواشنطن بشكل أفضل بكثير مما فعل أبو عمار في أوسلو، وكانت بالتأكيد مؤهلة أكثر لتسلم وإدارة السلطة بشكل ديمقراطي ومؤسساتي وناجح وتحقيق الانتقال إلى منظمة التحرير الثالثة.

ومع رحيل الرئيس ياسر عرفات وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية فازت في الأخيرة حركة حماس، لم ينجح الفلسطينيون في الاستفادة من هذه الظروف إذ لم يدرك الرئيس محمود عباس حقيقة أنه في مرحلة انتقالية بأحسن الأحوال وكان يجب ان يضمن تسليم السلطة للجيل الشاب بتياراته المختلفة بعملية ديمقراطية شفافة ونزيهة  تؤسس لمرحلة منظمة التحرير الثالثة التي كان من المفترض أن تقود النضال والصراع بشكل مختلف وتوافقي وفق برنامج سياسي ومؤسساتي وضعت نواة له في وثيقة الأسرى بمختلف توجهاتهم في العام 2005 والتي تحولت فيما بعد إلى وثيقة الوفاق الوطني بالمعنى الحرفي للكلمة.

وفي هذا السياق يجب الانتباه كذلك إلى العامل الإسرائيلي حيث سعت الدولة العبرية لمنع هذا الانتقال كلما لاحت في الأُفق فرصة لتبلور قيادة قوية وممثلة وجامعة للشعب الفلسطيني عبر قيامها بما تشبه الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، كما حصل مع الشهداء القادة ياسر عرفات وأحمد ياسين وأبو علي مصطفى وعبد العزيز الرنتيسي واعتقال مروان البرغوثي بعد العجز عن إبادة الشعب الفلسطيني بالمعنى الفيزيائي أو البشري بشكل عام.

الأمر الذي مهّد الطريق إلى الانقسام السياسي والجغرافي بين فتح وحماس في الضفة وغزة في العام 2007 نتاجاً للمعطيات السابقة مجتمعة كلها وتحديداً التهرب من مبدأ تداول السلطة والتسليم بفشل مسار سياسي مرتبط بانتهاء مفاعيل اتفاق أوسلو وعملية التسوية بشكلها الحديث خلال العقود الثلاثة الماضية.

إضافةً إلى ذلك كان هناك ثمة أمل بالتغيير بعد الانتفاضات العربية في العام 2011 وتداعياتها الإيجابية على فلسطين لجهة فتح آفاق لمسار ديمقراطي في المنطقة العربية ، بما يفسح المجال للقوي الشعبية التعبير عن إرادة التضامن والالتفاف حول مركزية القضية الفلسطينية. إلا أن الأمر لم يدم طويلاً حتّى تحولت إلى ما يشبه الحروب الأهلية والانقسامات والانقلابات. ما أعاد القضية الفلسطينية والمنطقة العربية  عقود للوراء من الانقلابات العسكرية والفشل في مسارات التنمية وإدارة الدولة و التي أورثنا النكبات والاستبداد عربياً وفلسطينياً.

خلاصة:

ختاماً يمكن الاشارة بتركيز واختصار إلى إرث الجيل القيادي لمنظمة التحرير الأولى خلال فترة التأسيس الذي عمل بجدّ في إطار مبدأ التوافق والعمل الديموقراطي الجماعي ونجح في وضع نواة الكفاح المسلح بينما تمثل إرث الجيل الثاني بجعلها -أي المنظمة- الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني وتكريس الطابع السياسي للقضية ووضعها على الأجندة الإقليمية وحتى الدولية لسنوات وعقود طويلة، إلى أن انزلقت إلى مرحلة اتفاق أوسلو ورفض الاعتراف بالوقائع الجديدة بما فيها ضرورة التنحي لإفساح الطريق أمام أجيال ودماء جديدة.

بينما تبدو القيادة  الفلسطينية الحالية مترهلة منتحلة الصفة وغير مدركة للتحديات والمهام  الملقاة على عاتقها وكيفية مواجهتها وهروبها المنهجي من مسؤوليتها تحديدا بناء أسس الشراكة الوطنية  أو إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة، ما أدّى الى المشهد الراهن رغم التضحيات الجسام، حيث لم يكن الوضع الفلسطيني أسوأ مما هو عليه اليوم، رغم الصمود الاسطوري والتضحيات الجسام والبطولات التي يسطرها الشعب الفلسطيني ليس في الداخل فقط وإنما بالشتات أيضاً مع الذاكرة العصية على الكسر وعدم نسيان الأجيال التالية للقضية وحقها الكامل في  العودة إلى أرض الآباء والأجداد في فلسطين، لكن يبقى الأمل قائماً شرط توفّر الارادة السياسية لمواجهة أغلب هذه التحدّيات والتغلب عليها بالعقل الجمعي الفلسطيني، مع ضرورة رفع مستوى الوعي  بأن لا انتصار دون الانتقال لمنظمة التحرير الثالثة بقيادة وطنية ديمقراطية منتخبة شابة نقية خالية من الاستبداد والفساد ومعبرة عن المزاج الشعبي الفلسطيني الراهن بالداخل والشتات بكل أطيافه وتعبيراته السياسية والاجتماعية والدينية.


[1] بشير شريف، فلسطين بين القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، عمان: دار البداية، 2011، ص 55.

[2] الغريب، عصام، الحاج محمد أمين الحسيني ودوره في الحركة الوطنية الفلسطينية 1897-1974، بيروت: فريق مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2014، ص332.

[3] جامعة الدول العربية، الجزيرة نت، 05.01.2011،

[4] موسى العلمي، الموسوعة التفاعلية للقشية الفلسطينية، https://2u.pw/pKrws0t

[5] وبالرغم من تصدر بعض القيادات الفلسطينية المشهد بكل توافق آنذاك، إلا أن العلاقة بينهم لم تخلُ من بعض الخلافات السياسية على وجهات النظر، والتي انعكست سلباً على سير النشاط الوطني، ومنها ما وقع ما بين موسى العلمي وأحمد حلمي عبد الباقي، الذي كان يرأس “لجنة صندوق الأمة”، وبعد أن أسس الأول “جمعية المشروع الانشائي العربي”، عرض عبد الباقي عليه توحيد كلا المؤسستين، إلا أن العلمي رفض الاقتراح، مما انعكس على أنشطة انقاذ الأراضي العربية من الاستيطان الصهيوني. ينظر: موسى العلمي، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، https://2u.pw/pKrws0t

[6] الغريب، عصام، الحاج محمد أمين الحسيني ودوره في الحركة الوطنية الفلسطينية 1897-1974، بيروت: فريق مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2014، ص332.

[7] جبهات المعارضة ضد منظمة التحرير بين الماضي والحاضر، هيئة التحرير، مجموعة الحوار الفلسطيني، https://paldg.co/?p=1657

[8] جبهات المعارضة ضد منظمة التحرير بين الماضي والحاضر، هيئة التحرير، مجموعة الحوار الفلسطيني، https://paldg.co/?p=1657

[9] عبد الله عيّاش، جيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية ودورهما في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي 1964 – 1973، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات، ص 80-82.

[10] يوسف فخر الدين وهمام الخطيب، جيش التحرير الفلسطيني في الحرب السورية، المركز السوري للأبحاث، 2018، ص10.

11] عليان عليان، منظمة التحرير الفلسطينية من كيانية التحرير إلى استراتيجية التسوية والاعتراف بـ “إسرائيل” 1964-1989، ص101.

[12] يزيد صايغ، جيش التحرير الفلسطيني: تحديات مرحلة التكوين 1964 – 1967، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 35، 1998، ص 481.

[13] كوبان، هيلينا، المنظمة تحت المهجر، لندن: منشورات هاي لايت، 1984، ص62.

[14] لعب نظام جمال عبد الناصر دوراً بارزاً في توجيه الآراء المضادة لنهج الشقيري في إدارته للمنظمة، ففي الوقت الذي لم تنشر فيه القاهرة في مجلاتها الرسمية بيانات الشقيري، سمحت بنشر بيانات مضادة للشقيري ومطالبةً باستقالته، وعلى رأسها بيان حركة فتح، وجبهة الرفض المكونة من ثمانية أعضاء من اللجنة التنفيذية. ينظر: فرج، عصام الدين، منظمة التحرير الفلسطينية 1964-1993، مصر: مركز المحروسة للبحوث والتدريب والمعلومات، 1998، ص26؛ ياسين، عبد القادر، أربعون عاماً من حياة منظمة التحرير الفلسطينية، المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات، 2006، ص233.

[15] ابراش، إبراهيم، البعد القومي للقضية الفلسطينية: فلسطين بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987، ص216. 

[16] ينظر: غزاوي، زهير، المؤسسة الدينية الإسلامية والكيان الصهيوني: نظرة إلى فتوى ابن باز بجواز الصلح، مركز الغدير للدراسات والنشر، 1996، ص179؛ النجار، سليم، مرافئ الذاكرة: حوارات مع بهجت أبو غريبة، الأردن: دار المأمون للنشر، 2011، ص77. 

[17] تضمن برنامج النقاط العشر المعلن عنه في إطار المشروع السياسي المرحلي تغيير عدة ثوابت كان متفقٌ عليها بإجماعٍ فصائليٍ شامل، ومن أهمها، تغيير بند المقاومة المسلحة من صيغتها الأحادية كحل رئيسيٍ ووحيد للصراع إلى شموليته كافة الوسائل الممكنة وتوظيفها لصياغة حلٍ مرحلي، الأمر الذي صنف على أنه قبول مبدئي بالحلول السلمية، مما تسبب في تشكل جبهة الرفض الفلسطينية ضد هذا المسار. ينظر: حواتمة، نايف، وعبد الكريم، قيس، البرنامج المرحلي 1973-1974، شركة التقدم العربي، الدار الوطنية الجديدة، ص69.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق