أوراق سياسية

تقرير الحالة الفلسطينيّة: التحوّلات المبتورة

المادة بين أيديكم هي جزءٌ من مسعى لتثبيت إصدارِ تقريرٍ دوريٍّ مكثفٍ يلخّص أهم التغيّرات في الحالة الفلسطينيّة. يشملُ هذا التقريرُ استعراضاً لأهمّ المهدِّدات المحيقة بالفلسطينيّين، وسلوك أطراف المشهد الفلسطينيّ في مواجهة هذه التّهديدات، وقراءة تطوّر عوامل المناعة الوطنيّة أو تراجعها، ودورها في رفع أو خفض القدرة الفلسطينيّة العامّة على مجابهة هذه التّحديات.

في هذه النسخة يعرض التقرير لتطوّرات الجهد الدوليّ والإقليميّ الرامي لتصفية الحقوق الفلسطينيّة، والمسارات الأساسيّة لهذا المسعى، ومن ثمّ ينتقل لتناول سلوك الجهة الفلسطينيّة الرسميّة، وما يُنْتِجه الشّارعُ الفلسطينيّ من حراكٍ وطنيٍّ، وتفاعلاتٍ بين القوى المختلفة فيه، والمآلات المحتملة لهذا الحراك.

 

المحور الأول: البعد الخارجيّ: قتل السّياسة وتلزيم الأدوار

يستفيد الاحتلال من العامل الخارجيّ والضعف الفلسطينيّ الداخليّ في إدامة سيطرته على الحالة الفلسطينيّة، باتجاه يحرم الفلسطينيّين من تطوير سياساتٍ جماعيّةٍ مضادّةٍ للاحتلال، ويقلِّص مساحةَ ودور القوى والمركبات الفلسطينيّة لصالح أطراف تتنافس على لعب أدوارٍ إداريّةٍ محليّةٍ لا تُزعِجُ الاحتلال.

تتضح ملامح السّلوك الخارجيّ الموّجه نحو الفلسطينيّين باعتباره سعياً مستمراً لسلب قدرتهم على تقرير مصيرهم أو مسارات عملهم السّياسيّ. في ضوء حالة التّراجع في القدرة والمناعة الفلسطينيّة عموماً، تتجه السّياسات الإقليمية والدوليّة لفرض مجموعة من الحدود للعمل السياسيّ في فلسطين، كجزءٍ من أدوات تسييرها للمشهد الفلسطينيّ بالاتجاه المرغوب فيه، والذي يتجه عموماً نحو تصفية الحقوق الفلسطينيّة الجماعيّة، وبهذا الاتجاه يمكن تتبع المسارات التالية:

أمن الاحتلال أولاً:

هناك سياقٌ دوليٌّ يُرَكِّزُ على أمن الاحتلال كمُسلّمةٍ يُحْظَرُ تجاوزُها، وأولويةٍ تتجاوز الحقوق الوطنيّة أو الفرديّة للفلسطينيّين، وهو ما عبّرت عنه حتى تلك التقارير الدوليّة التي أدانت جرائم الاحتلال، أو حتى الجهود الدوليّة المقدّمَة تحت عنوان تخفيف المعاناة الإنسانيّة في قطاع غزّة. في تلك السّياقات، تمّ التركيز على التهدئة ومنع ردّ الفعل الفلسطينيّ على الحصار المميت، وهو أمر عبّر عنه بوضوح نيكولا ميلادينوف، مبعوث الأمم المتحدة، في وصفه لمساعيه وللجهد الدوليّ تجاه قطاع غزّة.

أمن الاحتلال ثانياً، ضرورة إقليمية و إطار للحلّ

قادت الإدارةُ الأميركيّة جُهْداً مُمَنْهَجاً لاستدخال دولة الاحتلال كجزءٍ من أي ترتيبات لمعالجة الهواجس الأمنيّة للنظم العربيّة، وجرى العمل أميركياً وبدرجةٍ كبيرةٍ من التعاون الأوروبيّ على تضمين هواجس الاحتلال ومتطلباته الأمنيّة في أي مقاربة لشؤون المنطقة، وهو ما عكسه بوضوح مؤتمر وارسو الأخير، وكذلك طروحات الإدارة الأميركية حول”ناتو شرق أوسطيّ”.

في تلك الأُطر جرى العمل على إذابة أي فوارق في تشخيص التّهديدات المفترضة لأمن دول المنطقة، واعتبار دولة الاحتلال شريكاً حتميّاً للدول العربيّة في معالجة هذه الهواجس المُصطنعة. تم التركيب سياسيّاً على ذلك باتجاه فتح آفاق لنسج علاقاتٍ بين مجموعة من النظم العربيّة وبين دولة الاحتلال، وتطوير هذه العلاقات لتتحول لرؤية مشتركة لمستقبل المنطقة، باتت تثمر مسعى إقليمياً عربيّاً واضحاً لتصفية القضية الفلسطينيّة في سياق “حلّ إقليميّ” يُفرَض على الفلسطينيّين بضغطٍ عربيٍّ وجهودٍ دوليّةٍ.

حجب عن السياسة

في انعكاسٍ مباشرٍ للسياسات الدوليّة في المنطقة، بات التعاملُ مع الأطراف الفلسطينيّة بما فيها كلّ من السّلطة الفلسطينيّة، وحركة “حماس” التي تُسيطر على قطاع غزّة، كإداراتٍ محليّةٍ؛ عليها العمل على إدارة عمليات السّيطرة على السّكان، ومعالجة احتياجاتهم الحيويّة بإشراف من المجتمع الدوليّ، دون ممارسةِ سيادةٍ حقيقيّةٍ على الحيّز الجغرافيّ الذي يعيشون فيه. يتوازى ذلك مع حرمان هذه الإدارات من ممارسة الفعل السّياسيّ المُتَعلِق بالقضايا الكُبرى التي يجري الصّراع مع دولة الاحتلال بخصوصها، وتدريجياً يجري تضييق التّحديد القائم أصلاً لبنود صرفها لموازنتها.

وفقاً لهذا الإطار السّياسيّ المفروض دوليّاً، يتم التعامل مع السّلطة الفلسطينيّة بمقدار التزامها بهذا الدور والمفهوم، فيتم تقويض أيّ دور سياسيّ لها، وتحويل منظومة سيطرتها على السّكان في الضّفة الغربيّة، أو بمعنى أدقّ سيطرتها الجزئيّة في مناطق “أ”، إلى إدارات محليّة متناهية الصغر تعمل كملحقٍ وظيفيٍّ للإدارة المدنيّة التابعة للاحتلال[note]يُعرِّف مكتب التنسيق والارتباط الذي يعتبر جزءاً من إدارة الاحتلال للضفة الغربيّة عن ذاته بوصفه مسؤولاً عن تيسير حياة السّكان وأنشطتهم الاقتصاديّة دون أدنى اعتبار ولو شكلي لوجود السّلطة الفلسطينيّة. http://www.cogat.mod.gov.il/ar/Judea_and_Samaria/Pages/RamallahCLA.aspx [/note]

أما حركة “حماس”، فيتم التعامل جزئياً معها ومع منظومة سيطرتها على قطاع غزّة عن طريق فرض المزيد من الضغوط والعقوبات لإلزامها بهذا الدور، ودفعها للضغط على بقية الفصائل في غزّة بهذا الاتجاه، مع مواصلة السّعي الدوليّ لمنع انفجار الوضع أو تحوّله نحو مواجهةٍ شاملةٍ. هذا الدور يمثّل نيكولا ميلادينوف وفريقه أحد وجوهِهِ، فيما تبرز له وجوهٌ عربيّةٌ و إقليميّة عدّة.

تصفية قضايا الوضع النهائيّ

عملت الولايات المتحدة، كقائدٍ للسلوكِ الدوليّ والإقليميّ تجاه الملف الفلسطينيّ، على تصفية قضايا الوضع النهائيّ، بواسطة قرارات ومواقف تتخذها، على غرار ذلك القرار الخاصّ بنقل السّفارة الأميركية للقدس، أو السّعي لتصفية أعمال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ومحاولة تقليص التعريف الرسميّ لعديد اللاجئين الفلسطينيّين.

يتواكب ذلك مع توفيرها الغطاء الكامل لسلوك دولة الاحتلال في فرض الحقائق على الأرض، وهو ما عملت الأسرةُ الدوليّة ودولٌ عربيّةٌ على كبح ردّ الفعل الفلسطينيّ أو ردود فعل الجمهور العربيّ عليه. تتوافق مع ذلك طبيعةُ خطّة السّلام الأميركية التي قدّم ملامحها العامّة جاريد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس الأميركي، والتي أكدّ فيها على تغييب تفاصيل الحلّ السياسيّ، لحساب مقولات عامّة حول بعض الحقوق الفرديّة، وفرص الاستثمار الاقتصاديّ التي سيُتِيحها هذا الحلّ لدول المنطقة، وهو ما يتقارب مع ما يطرحه بنيامين نتنياهو بهذا الشّأن.

تعزيز التنافس

عملت الجهات الدوليّة و أطرافٌ إقليميّةٌ متعددة، على تغذية نوع من التنافس بين الفرقاء الفلسطينيّين، السّلطة الفلسطينيّة وحركة “حماس”، وذلك على نحو أسهم في تضخيم مخاوف الطرفين. مثلاً، تعزّزت مخاوف السّلطة الفلسطينيّة بعد إدخال المنحة القطريّة لقطاع غزّة من إمكانية تحوّل “حماس” أو جهات تابعة لها في القطاع كمتلقي للمنح الدوليّة بديلاً عن السّلطة الفلسطينيّة التي لطالما احتكرت هذه الميّزة. هذا إلى جانب ما أثارته دعوةُ موسكو لقيادة حركة “حماس” إلى زيارة خاصّة من مخاوف، وهو ما استهجنته السّلطة الفلسطينيّة في حينه وعملت على منعه.

المحور الثاني: السّلوك الرسميّ.. البقاء لأجل البقاء

تعاملت السّلطةُ الفلسطينيّةُ مع التطوّرات الجارية في المشهد الفلسطينيّ باعتبارها تهديداً لوجودها ودورها السّياسيّ، معبرةً عن ذلك بوضوح في تصريحات مسؤوليها، التي ركّزت على التحذير من محاولة استبدال منظمة التحرير، بموازاة تحذيراتها من مسعى لإقامة دولة في غزّة، متهمةً خصومَها السّياسيين، وأبرزهم حركة “حماس”، بالتساوق مع هذا المخطط.

عزّز هذه المخاوف لدى السّلطة الفلسطينيّة سعي المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ من خلال جملة من البيانات والمراسلات للجهات الدوليّة للطعن في شرعية الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، بجانب بوادر أخرى أظهرتها حركة “حماس” بهذا الاتجاه. إثر ذلك، تتواصل إجراءات السّلطة الفلسطينيّة ضدّ قطاع غزّة، في إطار رؤيتها لما يجري كصراع على تمثيل الفلسطينيّين تسعى لحسمه لمصلحتها، معتبرةً أن ذلك هو سياق التصدي لـ”صفقة القرن”، وهذا ما قاد لجملة من المسارات التي باتت ناظمة لمعظم سلوكيات السّلطة الفلسطينيّة سياسياً في هذه المرحلة:

تبريد مع الاحتلال

سعت السّلطة الفلسطينيّة إلى عزل الحالة الميدانيّة في الضّفة الغربيّة عن حالة الصّدام السّياسيّ بينها وبين الاحتلال فيما يتعلق بالقضايا الكُبرى. في ضوء ذلك، تتابعت اللقاءات التنسيقيّة بين المعنيين في السّلطة و نظرائهم لدى الاحتلال، فيما لم تصدر منها أي ردود فعل تُذكر تجاه الاقتحامات الإسرائيليّة المكثفة لمراكز المدن خصوصاً في محافظة رام الله. كما واصلت السّلطةُ التأكيدَ على التزامها بالاستقرار الأمنيّ، ذلك في ضوء مخاوفها من أن أيّ انهيارٍ للبيئة الأمنيّة سيكون مدخلاً لتقويض وجودها.

في مسارٍ متصلٍ أظهرت السّلطةُ الفلسطينيّة انفتاحاً جزئيّاً تجاه العودة للمفاوضات مع دولة الاحتلال، في ما بدا كخطوةٍ لاحتواء الرؤية الأميركيّة لإملاء حلّ على الفلسطينيّين بضغطٍ عربيٍّ في هذه المرحلة.

تصعيد العقوبات

تواصلت إجراءاتُ قطع رواتب الموظفين في قطاع غزّة دون تفسير رسميّ لهذه الإجراءات من قبل السّلطة الفلسطينيّة، وذلك بعد وعودات سابقة قدّمها أعضاءٌ من اللجنة المركزيّة لحركة “فتح” بإجراءات إيجابيّة تجاه الموظفين في غزّة. بحسب تقديراتٍ تداولتها وسائلُ الإعلام، بَلَغَ عددُ الموّظفين المقطوعة رواتبهم في الموجة الأخيرة حوالي 5 آلاف موظف. في هذا السياق يمكن ملاحظة انسحاب الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينيّة من معابر قطاع غزّة بعد إشارتهم لتضييقات تعرضوا لها من الجهات الأمنيّة التابعة لحركة “حماس”، وهو ما بدا كاتجاه لدى السّلطة للانسحاب من كل ما يتعلق بقطاع غزّة، وإبقاء الرهان على العقوبات كأداة لإخضاع حركة “حماس” سياسيّاً، أكثر من كونها أداة لاستعادة السّيطرة على قطاع غزّة بواسطة هذا السّلوك الانسحابيّ.

تصعيد ميدانيّ

في موازاة التصعيد السّياسيّ والرسميّ من السّلطة الفلسطينيّة تجاه خصومها، صعدت السّلطة أيضاً من إجراءاتها الأمنيّة ضدّ هؤلاء الخصوم في الضفة الغربيّة، فشهدت الشهور الأخيرة واحدةً من أكبر موجات الاعتقال السياسيّ لعناصر حركة “حماس” في الضّفة، بجانب قمع عدد من الفعاليات التي نفذتها. كما حاولت حركة “فتح” والسّلطة الفلسطينيّة نقل الضغط الميدانيّ لملعب حركة “حماس” في قطاع غزّة، مستفيدةً من قرار السلطات الأمنية التابعة للأخيرة بمنع مهرجان انطلاقة حركة “فتح”.

 

المحور الثالث: الحراك الوطني.. جديد لم يولد

الارتباك الكبير في سلوك المؤسسة الرسميّة الفلسطينيّة، وعجزها عن مواجهة الضغط الإسرائيليّ المسلّط على الجمهور الفلسطينيّ، كان مُحفزاً لجملة من التفاعلات على مستوى الحراك الجماهيريّ و الفصائليّ، لعل أبرزها كان مسيرات العودة في قطاع غزّة، وسلسلة المواجهات التي خاضها المقدسيون في مواجهة اعتداءات سلطات الاحتلال والسّعي المتسارع لتحقيق اختراق في ملف المسجد الأقصى، هذا إلى جانب سلسلةٍ من العمليات الفدائيّة في الضّفة الغربيّة بدت أكثر تنظيماً وتخطيطاً مما اعتيد عليه في السّنوات الأخيرة. هذا المشهد الميداني جرت في خلفيته جملةٌ من التطورات السّياسيّة والانزياحات على مستوى المشهد السّياسيّ الفلسطينيّ، نُجملها كالتالي:

1- بوادر تكوّن كتلة فصائليّة:

الصورة التي خرجت بها مسيرات العودة، ومن بعدها الإعلان عن “غرفة العمليات المشتركة” للأذرع العسكرية للفصائل الفلسطينيّة، تؤكد التقديرات حول وجود حالة من التقارب بين مجموعة من الفصائل الفلسطينيّة التي تتبنى خيارَ المقاومة المُسلحة، وتزايد التنسيق بينها في مجالات مختلفة على خلفية اصطفافها ضدّ مشروع التسوية.

لكن التطوّر اللافت في هذا الجانب كان في انضمام فصائل أقرب تاريخيّاً لقيادة السّلطة الفلسطينيّة إلى خانة المعارضين، باتخاذها لمواقف أكثر نقديّة لتفرد الرئاسة الفلسطينيّة، وفي مقاطعة بعضها للدورة الأخيرة للمجلس الوطنيّ، بجانب مقاطعتها جميعاً في وقت لاحق لدورات المجلس المركزيّ لمنظمة التّحرير الفلسطينيّة. يُضاف إلى ذلك تصاعد النبرة الاحتجاجيّة التي تقدِّمها هذه الفصائل في نقدها لأداء القيادة الفلسطينيّة الرسميّة، واتهامها لها بالتفرد، واحتكار المؤسسات الوطنيّة، والموقف النقديّ الحادّ الذي أبدته معظم المكوّنات السّياسيّة ضدّ العقوبات المفروضة على قطاع غزّة.

2- تقارب في السّياسة وارتباك في التأطير:

حالة التقارب السّياسيّ سابقة الذكر لم تجد تعبيرات كبيرة عنها، إذ لم يتم الإعلان عن تحالف أو إطار جامع لهذه الفصائل، ورغم تزايد الملفات التي تتشارك هذه القوى الموقف منها فيمكن الحديث أن نقاط التنسيق المُعلَنة بينها لم تتجاوز اللجنة المنظمة لمسيرات العودة، وغرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة، وهو ما بدا كارتباكٍ في تحديد طبيعة الوجهة السّياسيّة المُقبلة لمكوّنات الحالة الفصائليّة، وعجزٍ عن حسم طبيعة الأدوار التي تستطيع وترغب هذه القوى في حملها.

3- جمود الحالة التنظيمية:

تصاحب أي حراك جماهيريّ ضخم، رهاناتٌ كبيرةٌ على إحداثه تحولاتٍ في البُنى التنظيميّة التقليديّة، والخطاب السّياسيّ، وعلى إمكانية تظهيره لقيادات جديدة تنظيمياً وسياسياً تكون أقرب للجمهور والميدان، ولكن الزخم الكبير لمسيرات العودة، لم يفلح في إحداث هذه التحولات.

على عكس البدايات المُبشِّرة التي أظهرت اتساع حيز المشاركة والانخراط في أدوار متقدمة في هذه المسيرات من قبل الشباب الفلسطينيّين والفتيات الفلسطينيّات، ومن خارج البُنى التقليديّة للتركيبة القياديّة في المجتمع والفصائل، فإنّ قدرة الأوعية التنظيميّة على استيعاب هذه المشاركة كانت محدودةً جداً، بل طادرة في كثير من الأحيان للعديد من الشّبان المتحمسين والفاعلين وطنيّاً في سياق مسيرات العودة.

4- الغرق في المحليّ و غياب الاستراتيجية المُلهِمة:

رغم اتساع القاعدة الشعبيّة لفصائل العمل الوطنيّ، والزخم الجماهيريّ المؤيد لخطواتها الوحدوية الخاصة بإدارة الاشتباك مع الاحتلال، لا زال مجموع هذه الفصائل يتصرف بكثير من الارتباك تجاه الأدوار الوطنيّة المنوطة به، فلم تتقدم هذه الفصائل بأي مقاربة استراتيجية تتعلق بنظرتها لمستقبل الفلسطينيّين، وسبل انتصارهم في الصراع مع الاحتلال. كما أنها لا زالت تتلكأ في تظهير موقف من قضايا تتجاوز حيز تحركها التقليديّ والغارق في محليته، على نحو أظهر هذه الفصائل والمكونات كحالةٍ غزيّةٍ عاجزةٍ عن معالجة الهموم الوطنيّة الكُبرى.

5- أوهام في الاقتصاد السياسيّ:

خلال هذا العام كشفت الأزماتُ الماليّةُ المتتالية التي تضرب المؤسسات والفصائل الفلسطينيّة حجمَ الخلل في تشخيص المرحلة لدى هذه البنى القيادية الفلسطينيّة. على نحو متتابع تعاملت هذه البنى القيادية مع أزماتها الماليّة كما لو كانت طارئاً سياسيّاً ينتهي بانقضاء أسبابه الظاهرة، دون اعتبار لوجود شحٍّ حقيقيٍّ في الموارد الماليّة الفلسطينيّة، وارتفاع كبير في فاتورة نفقات التشغيل السّياسيّ غير المحسوب، وتضخم الأجهزة البيروقراطيّة لهذه المؤسسات السياسيّة.

الأمر ذاته ينطبق على ملف الحصار الإسرائيلي لقطاع غزّة، الذي تتنكر معظم القوى الفلسطينيّة لحقيقة إصرار الاحتلال ومعظم الجهات الإقليميّة والدوليّة على إدامته، دون دراسة جديّة لإمكانيات التعامل مع أعباء الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة المترتبة على التضييق الماليّ المتفاقم في تأثيراته على معظم القوى الفلسطينيّة.

 

خلاصة

تبدو البُنى التقليديّة الفلسطينيّة، وفي مقدمتها القيادة الرسميّة، مترنحةً أمام الضغط الدوليّ والإقليميّ الكبير، ذلك في ظلّ عجزٍ من فصائل العمل الوطنيّ عن التحول لبديلٍ تحرريٍّ، يُقدِّم استراتيجيةً ملهمةً يقود بها الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ. فيما تبدو النخب الفلسطينيّة أقرب ما تكون للتخبط بين الاستنكاف عن العمل الوطنيّ، أو الموالاة للتوّجهات القياديّة الموجودة. أما البدائل الأكثر جذريّةً والأنشط ميدانيّاً والمتمثلة في الحراكات الشبابيّة والاجتماعيّة، فهي ما زالت عاجزةً عن تشكيل حالةٍ ضاغطةٍ على البيئة الفصائليّة باتجاه القيام بدورها الملائم.

إنّ استعادة الجماهير الفلسطينيّة لقدرتها على التحرك الواسع لشهور طويلة، من شأنها أن تشكّل فرصةً حقيقيّةً للفلسطينيّين، إذا ما ترافقت مع تبني استراتيجيّةٍ تُلبي الطموحات الجماهيريّة على امتداد نقاط الوجود الفلسطينيّ، وتسمح بإطلاق طاقة هذه الجماهير في استنزاف الاحتلال.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق