أنشطة الحوار

الاحتلال في مرمى القضاء الدولي: اتجاهات ومواقف

الاحتلال في مرمى القضاء الدولي: اتجاهات ومواقف

يتناول التقرير صدى قرار المحكمة الجنائية الدولية بجلب رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع السابق. فعلى المستوى الداخلي لكيان الاحتلال، حاول استقصاء تحركات الحكومة والمعارضة في كيفية التعامل مع قرار القضاء الدولي، وفي مستوى أخر، كتناول التعامل الفلسطيني مع القرار، وما إذا يقود لموقف متجانس فيما بين المكونات الفلسطينية. وفي القسم الأخير، عرض التقرير للمواقف الإقليمية، وطريقة موازنتها ما بين الدفع بتطبيق القرار وبين حماية المسار السياسي لوقف إطلاق النار.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تنخرط فيها المحكمة للشأن الفلسطيني، فقد نظرت على عدة ملفات متعلقة بالقضية الفلسطينية منذ توليها الاختصاص القضائي فيها، عقب انضمام فلسطين إلى عضويتها في العام 2015، ومن أبرزها الدعوى التي قدمتها السلطة الفلسطينية بخصوص الجرائم المرتكبة منذ العام 2014. ورغم تلك الجهود التي لم تسفر عن أي نتائج ملموسة عادلة تُعزز من تطبيق القانون الدولي، تشكّل مذكرتا الجنائية الدولية خطوة غير مسبوقة قد تُعيد ترتيب الأولويات القانونية على المستوى الدولي. 

أولاً: الاحتلال وقرار المحكمة الجنائية الدولية

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 22 نوفمبر 2024مذكرتي اعتقال بحق كلٍ من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع السابق يوآف غالنت على خلفية ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وهو ما اُعتبر خطوة مفصلية في تاريخ صراع الفلسطينيين مع المحتل الصهيوني، تجاوزت البعد القانوني لتحمل في طياتها دلالات سياسية وأخلاقية على الساحة الدولية، خاصةً وأنها جاءت تتويجاً لجهودٍ قانونية عديدة امتدت على مدى عقود في أروقة المؤسسات القانونية الدولية.

يكشف قرار المحكمة الجنائية الدولية عن مستوى غير مسبوق من عدم التوازن والتباينات في المواقف الدولية، لأن العديد من الأطراف الأوروبية التي اعتادت على السير خلف الولايات المتحدة لم تكن قادرة على ذلك أو حتى الوقوف في المنطقة الرمادية، وكان عليها احترام قرارات المحكمة، وهو ما جعل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة في مواجهة غير مسبوقة مع النظام الدولي.

ومن جانب آخر، تناولت أقطاب الائتلاف الحاكم والمعارضة الاسرائيلية قرارات المحكمة باعتبارها موجهة للكيان الصهيوني بشكل عام وموقفه من الحرب الجارية، إذ تم وضع القرار ضمن سردية خطاب المظلومية وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.  

يكمن الانقسام الاسرائيلي هنا في سيطرة السلطة التنفيذية على الاجراءات الرسمية والمهنية، وطبيعة الاختصاصات داخل إسرائيل، فمن أهم النقاط التي يتم تناولها اعلامياً هي عدم سماح حكومة نتنياهو للمستشارة القضائية الاسرائيلية بتشكيل لجنة تحقيق موازية لإجراءات المحكمة، فقد كان من شأن هذا الاجراء أن يشكل عاملاً مساعداً للموقف الاسرائيلي، لأن تشكيل لجنة قضائية إسرائيلية موازية كان من شأنه تعطيل أو تأجيل أو حتى الغاء هذا القرار الدولي، باعتبار اسرائيل دولة ديمقراطية ويمكنها أن تستفيد من سمعتها القانونية، لكن تجاهل نتنياهو وحكومته لهذه المسألة والتعامل بعدم الجدية مع المحكمة يوضح هيمنة حكومة نتنياهو على كافة السلطات بما فيها القضائية، وهو ما انعكس على صورة إسرائيل بشكل عام، وليس نتنياهو وغالانت فقط.

لهذا تعتقد صحيفة هآرتس أن مشكلة إسرائيل لا تتمثل حالياً في قدرة نتنياهو وغالانت على السفر بحرية في ظل التزام عدة دول بتنفيذ أوامر الاعتقال، بل تكمن المشكلة في “الأعمال المروعة التي تقوم بها حكومة إسرائيل وجيشها، بحسب وصف المحكمة الجنائية الدولية”. وهي أعمال يقابلها الجمهور الإسرائيلي بـ الا مبالاة.

وتضيف الصحيفة أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية كانوا قد إرتكبوا جرائم حرب مروعة ضد الإسرائيليين، في إشارة الى أحداث السابع من أكتوبر، ورفضت المقاومة في غزة الاستسلام وإطلاق سراح الرهائن الاسرائيليين، وهنا تحاول الصحيفة إظهار عدالة الموقف الاسرائيلي، لكنها تستدرك طبيعة الموقف الجاري، لأنها تعترف أن أحداث السابع من أكتوبر لا تبرر القتل الجماعي والترحيل والتدمير الذي ألحقته إسرائيل بقطاع غزة، وهذا يقود الى أهمية البعد الإنساني والسياسي لقرار الجنائية الدولية، وتأثيره اللاحق على الموقف الاسرائيلي.

بالرغم من رفض الكيان الصهيوني لقرارات الجنائية الدولية، كشفت التحركات الاسرائيلية عن نشاط سياسي لمواجهة القرار القضائي، حيث تؤكد خطوات نتنياهو المتعلقة باجتماعه في 27 نوفمبر 2024 مع السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، بمكتبه في القدس على أهمية تصريحات ليبرمان التي أشرنا إليها أعلاه، والمتعلقة بضرورة اعتماد الحكومة الاسرائيلية على الحليف الأمريكي لمواجهة الجنائية الدولية.

ومن خلال متابعة ردة الفعل الاسرائيلية يمكن ملاحظة مستوى كبير وغير مسبوق من التماسك الداخلي الاسرائيلي حول التفاعل مع قرار المحكمة الجنائية الدولية، فكافة أقطاب المعارضة الاسرائيلية عبرت عن رفضها للقرار، حيث يقول غانتس أن إسرائيل تخوض حرب عادلة وتلتزم بالقانون الدولي ولديها نظامها القضائي المستقل معتبر قرار المحكمة جريمة تاريخية لن تزول على حد وصفه، وهذا ما جاء أيضاَ في تصريحات إسحاق هرتسوغ رئيس الدولة الذي اعتبر قرار المحكمة يوماً مظلماً للعدالة الدولية على حد زعمه.

تظهر ردة الفعل الاسرائيلي على قرار المحكمة الجنائية المراهنة على الدور الأمريكي، وما يمكن لإدارة الجمهوري ترامب اتخاذه من إجراءات لابطال أو إلغاء القرارات بحق القيادات الاسرائيلية، لهذا توضح تصريحات أفيغدور ليبرمان مستوى صعوبة المسألة أمام الدبلوماسية الاسرائيلية، لأنه يعتقد أن التعامل مع المحكمة الجنائية لن يكون ليحقق نجاحاً إلا بتدخل الولايات المتحدة الأمريكية، فالمهمة أمام إسرائيل شبه مستحيلة بدون التدخل الأمريكي.

لا يعني الانتقاد الأمريكي على قرارات المحكمة إلغاءها أو إجبار الأطراف على عدم التطبيق، لأن أي ضغوط أمريكية أو من قبل إدارة ترامب القادمة لا تعني الغاء القرارات، لأن الضغط وفقاً للرأي القانوني يبقى محدود، خاصةً وأننا نتحدث عن برلمانات أوروبية ومواقف دولية مختلفة أعلنت عن تطبيقها لقرارات المحكمة.

وبشكل عام، ثمة شبه إجماع إسرائيلي على إدانة قرار المحكمة، واعتبار قرارات الجنائية الدولية غير شرعية ومساواة بين إسرائيل الدولة الديمقراطية، على حد زعم كافة أقطاب الكيان من السياسيين والعسكريين، والمقاومة الفلسطينية، باعتبارها منظمات إرهابية حسب زعمهم، ولعل الاختلاف الوحيد أو حالة التفكك شبه الوحيدة في هذا السياق تكمن في تصريحات رئيس المعارضة الاسرائيلية يائير لبيد، وبالرغم من الهجوم على قرار المحكمة باعتباره كارثة سياسية وأخلاقية على حد وصفه، ودفاعه عن موقف إسرائيل بشكل عام، إلا أنه وجه نقداً لاذعاً لحكومة نتنياهو معتبراً صدور هكذا قرار بحق إسرائيل عباره عن فشل سياسي يُحسب على الحكومة والائتلاف الحاكم في إسرائيل.

الأثر السياسي لقرار الجنائية الدولية

يكمن الأثر السياسي لقرار الجنائية الدولية في وصول كل من إسرائيل والأطراف اللبنانية الى اتفاق يُنهي الحرب على الجبهة اللبنانية، وسمن القول أن القرار ساعد الأطراف الدولية أو منحها ورقة إضافية للمناورة السياسية، خاصةً وأن حكومة نتنياهو ظلت تستخدم المفاوضات لكسب المزيد الوقت انتظاراً لوصول الرئيس الأمريكي الجديد الى البيت الأبيض، غير أن توقيت صدور قرار الجنائية الدولية شكل ضغطاً إضافياً على حكومة نتنياهو، ودفعها للموافقة على وقف إطلاق النار مع الجانب اللبناني، حيث يظهر الأثر السياسي للقرار في موقف الحكومة الفرنسية، باعتبارها أحد الأطراف الدولية المهمة، المتعلق بإعطاء نتنياهو حصانة وعدم التعامل معه كمجرم أو مطلوب للعدالة الدولية.

وبالرغم من عدم تطبيق فرنسا لقرار الجنائية الدولية، إلا أن تلك الخلفية السياسية التي أدت إلى إعلان فرنسا اعتزامها عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ترتبط ارتباطا وثيقا بمشاركتها في الاتفاق السياسي بين إسرائيل ولبنان، خاصةً وأن وجود فرنسا في الاتفاق كان مرهوناً بموقفها من قرار المحكمة الجنائية الدولية، لكن بشكل عام فإن من شأن قرار المحكمة وما له من تداعيات سياسية وصلت الى حد وقف الحرب على الجبهة اللبنانية أن يعيد الحياة قليلاً الى المؤسسات الدولية ودورها في التأثير السياسي.

ومن ناحية أخرى، فإن تأثير القرار سياسياً من شأنه أن يظهر خلال المرحلة القادمة، خاصةً وأن من شأنه القرار أن يجعل قيادات إسرائيلية أخرى عرضه للملاحقة، خاصةً وأن إسرائيل وحليفها الأمريكي لن يستطيعوا الوقوف أمام المزيد من الاتهامات المستندة على المواد القانونية الجاري تجهيزها ضمن لوائح الاتهام الموجهة ضد إسرائيل، وهذا ما استشعرته القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية مؤخراً، بدأت في إظهار بعض الأبعاد الانسانية لجيشها في غزة في محاولة منها للتخفيف من الانتقادات الدولية، وإعداد مادة تظهر التزامات جيشها الانسانية والاخلاقية، وهذا ما قد يفتح الطريق للمسار الانساني والسياسي على جبهة غزة.

ثانياً: الكفاح القانوني الدولي لـ الفلسطينيين

شكلت المادة الإعلامية التي وثّقها الفلسطينيون حول جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يواصل جيش الاحتلال ارتكابها دوراً رئيسياً كمستندات دعمت التحقيق القانوني للمحكمة الجنائية الدولية. واعتُبرت هذه الوثائق أدلة قاطعة لا غموض فيها على ارتكاب الجرائم المنصوص عليها قانونياً، مما يبرز تكامل الجهود الفلسطينية على المستويين الميداني الصحفي والقانوني الحقوقي في توثيق انتهاكات الاحتلال. 

ورغم هذه الجهود، عانى الفلسطينيون من إحباطٍ مستمر نتيجة غياب العدالة في النظام القانوني الدولي ومؤسساته على مدى عقود، ما عزّز شعوراً عاماً بيأسٍ قانوني وزيادة الشكوك حول وجود عدالة انتقائية تُكّرس افلات الاحتلال من المحاسبة وتدفعه للاستمرار في انتهاكاته المتكررة. ومع ذلك، جاءت مذكرتا الاعتقال الأخيرتان كبصيص أملٍ لاختراقها الحصانة القانونية التي تمتعت بها دولة الاحتلال لسنوات طويلة. 

تمثل الانتقائية الدولية في تطبيق العدالة تحدياً كبيراً للفلسطينيين يعكس ازدواجية المعايير في القضايا الدولية، حيث تُهمَّش القضية الفلسطينية أمام مصالح القوى الكبرى مقارنةً بقضايا أخرى تحظى بدعمهم. ومع ذلك، يبقى الكفاح القانوني الفلسطيني أداة فعّالة لإبقاء القضية حاضرة دولياً، مما يؤكد أهمية التوثيق المستمر لتعزيز المساءلة وكسر حصانة الاحتلال. 

أهمية مذكرات المحكمة الجنائية: 

تمنح مذكرات الجنائية الدولية فرصةً للفلسطينيين لإعادة تقديم سردية قضيتهم بصورةٍ مغايرة عما رُوّج له من قبل إسرائيل وحلفاؤها على مدى السنوات الماضية. ومن هنا تبرز أهمية هذه المذكرات في تسليط الضوء عالمياً – لأول مرة – على أبعادٍ أخرى إنسانية وأخلاقية للقضية، بعيداً عن التصور التقليدي الذي يضعها في إطار خلافٍ سياسي أو نزاعٍ حدودي فقط. كما تتجاوز أهميتها التأثيرَ الآني ضمن أحداث قطاع غزة، ليفتح بأثرٍ رجعي المجال أمام تغيير السرديات التاريخية حول كافة الجرائم التي اُرتكبت في الأراضي المحتلة على مدى السنوات الماضية. 

ومن جانبٍ أخر، باتت دولة الاحتلال إثر مذكرتي الاعتقال في تخبطٍ واضحٍ تجاوز الحصانة الأمريكية والفوقية القانونية اللتان شكلتا أساساً لسرديتها القائمة على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بحيث دفعت جرائمها المتواصلة مؤسسةً دولية لاتخاذ إجراءات قانونية في ظل انتهاك كافة القوانين والأعراف الدولية. وأثار هذا التطور قلقاً واضحاً في “إسرائيل” دفع رئيس وزرائها إلى الإعلان عن نيته الطعن القانوني في المذكرات، خاصةً مع تسرب تقاريرٍ تفيد باحتمال استصدار مذكرات اعتقالٍ سرية لشخصيات إسرائيلية عديدة. 

تفاعل الأطراف الفلسطينية: 

يدرك الفلسطينيون بمختلف أطيافهم أن النظام القانوني الدولي ما زال يعاني من قصور تعيق تنفيذ قرارات مؤسساته، وبالأخص التي تتعلق بمحاسبة “إسرائيل”. وهو ما يعد عاملاً رئيسياً يؤثّر في تشكيل مواقف وآراء الأطراف الفلسطينية تجاه مذكرتي الجنائية الدولية. فمثلاً ترى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني – غير الحكومية – أن مسار محاسبة الاحتلال بإجراءات تنفيذية على أرض الواقع طريقاً طويلاً ومعقداً، ولكنه ليس مستحيلاً، وتؤكد على أن مذكرتا الاعتقال توفر فرصة لتغيير طبيعة الأنظار الدولية للواقع الفلسطيني. 

ويتوافق ذلك مع المستوى الرسمي ممثلاً بـ السلطة الفلسطينية التي أبدت موقفاً أكثر تفاؤلاً بمذكرتي الاعتقال مقارنةً بباقي الأطراف، نظراً لأنها الطرف الرئيسي الذي زجّ ملفات مساءلة الاحتلال إلى أروقة المحكمة الجنائية الدولية منذ العام 2015، ما اعتبرته إنجازاً طال انتظاره، داعيةً كافة الأطراف الدولية إلى تنفيذه. 

ويُلاحظ وجود توافق نظري وإجرائي في تكامل الجهود ما بين السلطة الفلسطينية وعددٍ من مؤسسات المجتمع المدني التي قدّمت هي الأخرى مذكرة للمحكمة الجنائية الدولية تحث مدعيّها العام إلى ادراج الفصل العنصري وجرائم الإبادة إلى ملف التحقيق الذي فُتح بعدما أحالته عددٌ من الدول، في مقدمتهم جنوب أفريقيا خلال نهاية عام 2023. 

وعلى النقيض تماماً من المتفائلين من ممثلي المستوى الرسمي والمجتمع المدني بإمكانية التعويل على مذكرتي الجنائية الدولية لتوسيع نطاق الملاحقة القانونية لـ “إسرائيل” حتى تصل للإجراء التنفيذي ضدتها، لا تبد الفصائل الفلسطينية الأخرى، وعلى رأسها حركة حماس والجهاد الإسلامي، أيَ تفاؤلٍ حول إمكانية تعزيز إجراءات ملموسة على المستوى الدولي؛ لاعتباراتٍ عديدة تتمثل في عدم عضوية إسرائيل وأمريكا  في المحكمة الجنائية وعدم امتلاك مؤسسات القانون الدولي أي قوة تنفيذية، مما يُبقي مهمة التنفيذ متوقفة على سلوك أعضائها، الذين يعد بعضهم حلفاء لـ “إسرائيل”، وهنا تكمن المعضلة الرئيسية التي تعيد الفلسطينيين إلى الفجوة نفسها ما بين القانون الدولي وتطبيقه.  

وبخلاف كافة تصريحات الأطراف الفلسطينية السياسية والفصائلية، أشارت حركة حماس في تصريحها إلى أن اصدار مذكرات الاعتقال جرى تعطيله طيلة العام الماضي بمحاولات من الإدارة الأمريكية التي مارست ضغطاً مستمراً على المحكمة الجنائية الدولية ومدعيّها العام لتعطيل دورها على الرغم من وضوح المادة المقدمة لها. 

وبشكلٍ عام، دفعت مذكرتا الجنائية الدولية الفلسطينيين، وبالأخص مكوناتهم السياسية، إلى نقاش حول مدى واقعية تعزيز الإطار التنفيذي للمساءلة القانونية الدولية ضد الاحتلال، إذ انقسمت الآراء ما بين مؤيد متفائل يراهن على جدوى تلك الجهود في تعزيز الإطار التنفيذي لنتائجها، وأخر مُشكك لا يرى فيها أي جدوى وأنها ستظل في إطارٍ نظري لا يمكن تجاوزه، وأن مذكرتا الاعتقال لم تُصدر إلا كآلية رمزية من شأنها أن تُبعد اتهام ازدواجية المعايير الذي بات يُلاحق كافة المؤسسات الدولية في الآونة الأخيرة. 

وبالرغم من اختلاف الأطراف الفلسطينية في المراهنة على تقييم القرار من الناحية التنفيذية، أجمعت المكونات السياسية والفصائلية على أهمية القرار في تعزيز السردية الفلسطينية دولياً، مع إبداء توافقٍ في الترحيب دون حفاوة، باستثناء السلطة الفلسطينية التي أبدت ترحيباً أكثر حماساً نظراً لانخراطها في هذه الجهود إلى جانب عددٍ من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في متابعة الملف، مجمعين على كونها خطوة هامة ونجاحاً غير مسبوقاً للجهود القانونية الفلسطينية التي استمرت سنوات، ومؤكدين على ضرورة تعزيز القرار على الساحة الدولية لتوسيع الشركاء الدوليين للقضية الفلسطينية.

وبينما ساد على الخطاب السياسي الفلسطيني رسمياً وفصائلياً الترحيب والتفاؤل الحذر بدرجاتٍ متفاوتة بين مكوناتهما، حمل الشارع الفلسطيني، وبالأخص بين النازحين في قطاع غزة، وفق استطلاعات الرأي الأخيرة، في طياته شكوكاً تبلورت على شكل تساؤلاتٍ عديدة حول مدى جدية الإجراءات التنفيذية لهذه المذكرات وإمكانية تأثيرها في تعزيز إيقاف حرب الإبادة الجارية الذي بات يشكل المطلب الشعبي ذا الأولوية في ظل المعاناة والمجاعة التي تفتك بالسكان. 

وعلى أية حال، مثلما واجهت إسرائيل القرار بمحاولات عرقلة مسنودة بتأييد أمريكي، يحاول الفلسطينيون أيضاً ممثلين بالسلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني استثمار قرارات الجنائية الدولية في توسيع الجهود القانونية بهدف تحقيق مكاسب سياسية، حيث دعت السلطة الفلسطينية المجتمع الدولي لتوسيع نطاق المساءلة ليشمل محاسبة شركات داعمة للاستيطان، مع استمرار الضغط على إسرائيل عبر المحافل الدولية لتعزيز الالتزام بالقانون الدولي. 

وفي سياقٍ موازٍ، أعربت مؤسسات المجتمع المدني عن أهمية تعزيز الشراكات الدولية لتحقيق تقدم ملموس في القضية، حيث تحاول تشكيل تحالف دولي من المحامين والحقوقيين الدوليين لدعم الجهود الفلسطينية في المحاكم الدولية بهدف توثيق الانتهاكات الإسرائيلية لتقديم ملفات قانونية شاملة إلى الهيئات القضائية الدولية الأخرى.  

علاوةً على ذلك، تشهد الساحة الفلسطينية جهوداً إضافية لتوسيع دائرة الملاحقة القانونية لتشمل مجالات أخرى قد تطول مقاضاة المسؤولين الإسرائيليين الآخرين في المحاكم الوطنية للدول التي تعتمد نظام الاختصاص القضائي العالمي، خاصةً وأنه بات يشكّل المجال الوحيد للفلسطينيين لتحقيق العدالة وإن كان منقوصاً، وهو ما يحتاجونه في الوقت الحالي، مع تقلص أدوات الضغط والمناورة لهم على كافة المستويات في ظل التغول الإسرائيلي الذي تخطى كل الاعتبارات الإنسانية والقانونية. 

ثالثاً: الموقف الإقليمي وإدانة نتنياهو

مع تكرار تصريحات مسؤولي الاحتلال، منذ بدء العدوان في 8 أكتوبر 2023، حول توجيه الحرب، لم يكن أمام المحكمة الجنائية سوى إصدار قرار بالإدانة. فعلى مدى سير القتال، تكلم المتحدثون باسم الجيش الإسرائيلي عن استهداف المدنيين وقطع المياة وخدمات الحياة الأخرى وصولاً لفرض الحصار والقتل العشوائي.

فقد وضع هذه الممارسات المحكمة أمام حالة واضحة للإبادة الجماعية، لم تقتصر مظاهرها على إحكام الحصار، ولكنها تأكدت بالأدلة مع استشهاد ما يقرب، حسب الإحصاءات، من 50 ألفاً، وهي أرقام ترقى لثبوت أثر التصريحات الإسرائيلية الواجبة الإدانة.

ومع صدور قرار المحكمة الجنائية، تتابعت مواقف العربية بتأييد القرار، وبنفس مستوى التعبير، طالبت باحترام القانون الدولي ومثول المُدانين أمام المحكمة. وفي تماثل خطاب كلٍ من دول الخليج والأردن بالإضافة لإيران أن هناك فرصة مناسبة للعمل الجماعي للضغط على الدول المؤيدة للاحتلال لتسهل مهمة المحكمة، والدفع القانوني لمنع إفلات نتنياهو وجالانت من التحايل على المحكمة بتقديم طعن أو التحريض على القضاة.

تضعنا هذه التطورات أمام أسئلة منها؛ هل يمكن للدول الإقليمية التصرف بشكل جماعي لتنفيذ قرار المحكمة الجنائية؟ من الناحية النظرية، يوضح المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية في مقابلة مع قناة الجزيرة، لويس مورينو أوكامبو، إمكانية أن يؤدي العمل الجماعي لمساندة المحكمة وتحييد الضغوط الواقعة عليها، حيثر يرى أنه يمكن للدول العربية مطالبة الولايات المتحدة بعدم تهديد المحكمة أو تعطيل عملها، والاستناد لقرار المحكمة كنقطة تحول في مسار القضية الفلسطينية.

وعلى الرغم من الجدل حول طرق تنفيذ الحكم، وإلزاميته للدول الأعضاء، فإنه مع صدور قرار الإدانة وجلب رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو) ووزير الدفاع السابق (يؤاف جالانت)، بدت الحاجة لاستكشاف الاتجاهات الإقليمية في التعامل مع قرار المحكمة الجنائية الدولية، باعتباره القرار الأول لإدانة مسؤولين إسرائيليين في النظام الدولي المعاصر، وإمكانية التأثير على مجريات الحرب والشرعية الفلسطينية.

على أية حال، كان هناك ترحيب إقليمي بقرار المحكمة الجنائية، بما يشير لموقف جماعي في فرض قيود على التواصل مع رئيس وزراء الاحتلال. من جهتها، أكدت مصر على تفعيل مبدأ المحاسبة لكل دولة تخرق القانون الدولي أو القانون الدولي الإنساني، كما رأت أن الاستناد للقوة يمثل تهديداً للسلام في الشرق الأوسط، بحيث يمكن القول، أن السياسة المصرية جمعت ما بين الإلزام بتنفيذ قرار الجنائية الدولية والحفاظ على السلام الإقليمي، وأشارت إلى الاعتداءات الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية ولبنان تمثل تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، يوازي السماح بالإفلات من العقاب.

 وخلال أنشطة السياسة الخارجية المصرية، اتضحت أولوية توفير الدعم اللازم للشعب الفلسطيني، وطالبت بوقف سياسات الاحتلال الساعية لتصفية القضية الفلسطينية، وأكدت على دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، والعمل على ضمان الأمن الإقليمي اللازم لبقاء القضية الفلسطينية ضمن الاهتمام الدولي.

وخلال فترة ما بعد صدور قرار الجنائية الدولية، انشغلت مصر، وبالتشاور مع الولايات المتحدة، بترتيب مبادرة لوقف دائم لإطلاق النار، وبحيث تحظى بالضمانات السياسية الكافية لأن تكون محل اعتبار من كل الأطراف. وفي هذا السياق عملت بشكل وثيق مع دولة قطر وبشاور مع تركيا والسعودية. وقد تمت هذه الإجراءات بزيارة وفد أمني مصري لحكومة الاحتلال لأجل مشاورات حول المبادرة.

وعلى مستوى متكامل، تلعب تركيا دوراً مهماً في إسناد حركة المقاومة وتخفيف الضغوط الدولية عليها، بحيث تكون ضمن أي عملية سياسية لاحقة، ما يعد موقفاً بالغ الأهمية، حيث يحول دون انهيار الطرف الفلسطيني.

وفي هذا السياق، كان هناك تركيز على جانبين، يتمثل الأول في دعم قرار المحكمة ووصفه بالتطور غير المسبوق، أما الثاني، حيث ساهم غياب الحوكمة في الاعلام الدولي في ضياع الكثير من شواهد الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. على هذين المستويين، تعمل السياسة التركية في توفير متطلبات الحماية للشرعية والمجتمع الفلسطيني، بحيث يكون تأمين الوضع الدولي للقدس ضمن أولويات العمل مع الدول الإسلامية.

وعلى الرغم من أهمية قرار المحكمة في تطبيق القانون الدولي، لم تقتصر السياسة المصرية والتركية على السعي لجلب نتنياهو للمحاكمة فقط، ولكنهما يعملان على بناء مسار وقف الحرب ودعم الشرعية الفلسطينية، وبحيث يقتصر التواصل السياسي والأمني على الدوائر البعيدة عن رئيس حكومة الاحتلال، فالأولوية المشتركة هي دعم استمرارية الحلول الممكنة لوقف الحرب والانتقال لتنفيذ حل الدولتين.

بطبيعة الحال، يلقى قرار الجنائية الدولية دعماً إقليمياً ومن الدول الإسلامية، فإضعاف حكومة الاحتلال لازم لإدارة الحرب ويحد من قدرتها على المعاندة في المفاوضات. قد تبدو هذه الخلاصة نظرية، ولكنها من الناحية الواقعية توفر فرصة يمكن استغلالها في الضغط على الحكومات الأمريكية والأوروبية، لتكون لها القدرة على وقف الغطرسة الإسرائيلية عن التمادي في هدم مقومات المجتمع الفلسطيني.

على أية حال، يساعد وجود تركيا إلى جانب مصر والسعودية على تشكيل قاطرة سياسية للعالم الإسلامي، يتم فها صياغة السياسة الجماعية، سواء فيما يرتبط بالقضية الفلسطينية أو الشروع في بناء أُطر للأمن الجماعي. يتطلب تداخل المشكلات الإقليمية وتأثيرها المباشر على المصالح الأمنية والدفاعية توسيع نطاق الاتصالات، بحيث يكون تناول الملف الفلسطيني ضمن ملفات أخرى. 

يمكن العمل على دعم قرار المحكمة الجنائية في إطار المحاسبة الجنائية، وتوظيفه لفرض حصار وقيود على، لكنه في ظل التطورات الإقليمية والدولية، تبدو هناك حاجة للتحرك الإقليمي على مسارات متعددة. فعلى الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والاحتلال، يدفع اشتعال الحرب على الأراضي السورية بتعديل أولويات الدول، حيث تواجه تزاحماً في التهديد لأمنها القومي. ولذلك، ترتبط أهمية الدفع باتجاه مُحاكمة نتنياهو بالتضافر بين القوى الفلسطينية والدول الفاعلة على أن تكون المطالب الفلسطينية غير مستبعدة من التناول الإقليمي أو الدولي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق