تصورات حول السياسة الأمريكية بعد فوز ترامب
يأتي فوز ترامب في سياق حالة من عدم اليقين في السياسات العالمية والمحلية، وتشكل الحرب والصراع أهم ملامحها. ويحاول التقرير التالي عرض وجهات النظر حول احتمالات السياسة الأمريكية في المرحلة المقبلة. ويشير القسم الأول لحالة انتظار من الأطراف الفلسطينية حتى تتضح الملامح الأولية للإدارة الأمريكية. أما القسم الثاني، فيعرض للمواقف في كيان الاحتلال، الحكومة والمعارضة للمرحلة القادمة في السياسة الأمريكية. فيما يحاول القسم الثالث تقديم فوز ترامب في سياق المواقف الإقليمية من الحرب الدائرة في غزة ولبنان، ودعم الشرعية الفلسطينية، والمفاضلة ما بين خياري؛ استمرار الحرب وبناء السلام.
أولاً: موقف الأطراف الفلسطينية من فوز دونالد ترامب
منذ فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية، سادت الأوساط الفلسطينية، بمختلف أماكن تواجدها ومستوياتها الرسمية أو الحزبية، حالةٌ من الترقب الشديد تجاه السياسات المرتقبة لإدارته الثانية تجاه القضية الفلسطينية بمختلف ملفاتها، وبالأخص حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال في قطاع غزة بدعمٍ كامل من إدارة بايدن. وعلى الرغم من المؤشّر السلبي المُستنبط من الدعم غير المسبوق من قبل إدارة ترامب خلال ولايته الأولى لـ “إسرائيل”، ينتاب العديد من الأطراف الفلسطينية شعور بالحذر والترقب من سياساته المحتملة خلال إدارته الثانية، مع آمالٍ متواضعة لدى البعض في الوفاء بوعوده الانتخابية التي قدّمها للجاليات العربية والمسلمة الأمريكية قُبيل الانتخابات، بخصوص جديته في وقف الحرب بشكلٍ مباشر فور وصوله للبيت الأبيض. وفي هذه الورقة، سيتم رصد المواقف المتباينة للأطراف الفلسطينية بمختلف توجهاتها إزاء فوز ترامب بالانتخابات وتوقعاتهم لسياساتها المستقبلية تجاه القضية الفلسطينية وحرب غزة الحالية.
موقف الأطراف الفلسطينية
لدى صناع القرار السياسي الفلسطيني – بمختلف توجهاتهم – تجربة طويلة مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة وسياساتهم الداعمة عادةً لـ “إسرائيل” على حساب القضية الفلسطينية وملفاتها، وتتجلى هذه التجربة خلال إدارة ترامب في ولايته الأولى التي شهدت قرارات تقنين العديد من الملفات غير المشروعة أممياً ودولياً مثل الاعتراف بضم الجولان و بـ القدس كعاصمة موحدة لـ “إسرائيل”، عدا عن إغلاق مكتب منظمة التحرير وتقليص الدعم الأمريكي لـ السلطة الفلسطينية، وأخيراً اطلاق ما عُرفت بـ “صفقة القرن” التي تمحورت حول تصفية القضية الفلسطينية من خلال مسار التطبيع مع الدول العربية.
ولذلك، لم تُبد القيادة الفلسطينية – ممثلةً بالسلطة ومنظمة التحرير – بُعيد فوز ترامب أيَ تفاؤلٍ فعلي تجاه المقاربات المستقبلية لإدارته الجديدة، فعلى الرغم من تهنئة محمود عباس ترامب بفوزه وتصريح عدد من قيادات السلطة حول أن موقفهم من الإدارة الجديدة مرهون بسياساتها تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، تشير مواقف السلطة في الآونة الأخيرة إلى عدم تأملها بأي تغييرٍ على مستوى النهج الأمريكي الداعم لـ إجراءات “إسرائيل” الساعية إلى تفتيت الترابط الجغرافي والديموغرافي للشعب الفلسطيني.
وبشكل عام، يُظهر الموقف الرسمي الفلسطيني تماسكاً واضحاً ومستمراً تجاه التعاطي مع حلول الإدارات الأمريكية بخصوص القضية الفلسطينية بشكلٍ عام، وبالأخص منذ قرارات إدارة ترامب السابقة ومروراً بسياسات إدارة بايدن الحالية. لذا ترى قيادة السلطة الفلسطينية أن الإدارات الأمريكية بشقيّها الديمقراطي والجمهوري لا تتباين في سياساتها القائمة على دعم “إسرائيل” اللامتناه عملياً والاكتفاء بدعم إعلامي لحل الدولتين، وهو ما تسبب لسنوات بتعطيل محادثات السلام وتمادي “إسرائيل” بتوسيع الاستيطان على حساب المكون الجغرافي الفلسطيني في الضفة الغربية.
أما على صعيد الفصائل الفلسطينية، لا سيّما حركة حماس، فتتبنى موقفاً حذراً تجاه سياسات إدارة ترامب القادمة بشأن القضية الفلسطينية، خاصةً وأنه أبدى تأييداً علنياً للسياسة الإسرائيلية تجاه استمرارية الحرب بهدف القضاء على حماس، وهذا ما أشار إليه ترامب فور فوزه بتأكيده على اتباع سياسة صارمة ضد مؤيدي حماس في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، عدا عن هوية الشخصيات التي كشف عنها ترامب، والمعروفة بتأييدها المتشدد لاستمرارية الحرب في قطاع غزة ولبنان. وبالتالي لا تتأمل الفصائل الفلسطينية في إمكانية أي تعاطي إيجابي من قبل إدارة ترامب الثانية مع حقوق الشعب الفلسطيني. بل على العكس ترى في إدارة ترامب الجديدة مزيداً من الدعم لسياسات “إسرائيل” استغلالاً للوضع الإقليمي والدولي الموات لإجراءات التصفية والضم لأراضٍ فلسطينية أخرى بهدف توسعة دولة الاحتلال التي كثيراً ما انتقد ترامب صغر مساحتها في إشارةٍ إلى ضرورة توسعتها.
وعلى مستوى الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد انقسم بين متشائم لا يرى في إدارة ترامب الجديدة أي مؤشرات لأي تغييرٍ متوقع على السياسة الأمريكية الداعمة لـ “إسرائيل” وسياساتها، وأخر حذر بتفاؤلٍ خافت لمقاربةٍ مغايرة قد يسلكها ترامب في إدارته للحرب الدائرة والملف الفلسطيني عموماً، من خلال صفقة شاملة في المنطقة، مستندين في ذلك على سجل ترامب الخالي من تورطه في دعم أي حروب في المنطقة مكتفياً بالصفقات الاقتصادية وعلى وعوده الانتخابية بإنهاء حروب المنطقة التي دعمتها إدارة بايدن.
ولكن سرعان ما تبدد هذا التفاؤل الخافت لدى الشريحة الأخرى، بمجرد تكشّف هوية المرشحين لتولي مناصب إدارة ترامب، حيث عكست خلفيتهم الصهيونية المتطرفة وآرائهم المسبقة عن القضية الفلسطينية والمناهضة لحل الدولتين ورفضهم وقف إطلاق النار في غزة طبيعةَ السياسات المستقبلية لإدارة ترامب.
وفي هذا السياق، باتت التوقعات تشير إلى أن إدارة ترامب قد تزيد من وتيرة الدعم العسكري والسياسي لـ “إسرائيل”، وبالأخص في سياق تعزيز إجراءاتها الاستيطانية في الضفة وتكثيف العمليات العسكرية لتسريع إنهاء الحرب في قطاع غزة لصالح “إسرائيل”، مما يثير مخاوف الفلسطينيين حول استمرارية وتيرة الإجراءات العملياتية المتطرفة تجاه قطاع غزة لحسم الحرب، مستغلين الغطاء الأمريكي الذي يمنع أي عقوبات دولية.
على أية حال، تتلاقى الأطراف الفلسطينية، بمختلف توجهاتها وأطيافها، على تبني موقفٍ سلبي إزاء السياسات المتوقعة لأي إدارة أمريكية جديدة، مستندةً إلى تجربتها الطويلة مع الإدارات الأمريكية السابقة. ويظل الموقف الفلسطيني من إدارة ترامب الثانية سلبياً في مجمله، مستدلاً على سجل ولايته الأولى ودوره في تطبيع “اتفاقيات أبراهام”، إضافةً إلى أن التعيينات الجديدة لأعضاء إدارة ترامب من المتطرفين في دعم سياسات اليمين المتطرف في “إسرائيل” تثير قلق الفصائل من إعادة تفعيل سياسات أكثر تطرفاً بالملفات ذات الصلة.
قد يُشكل مسار تكوين تحالف دولي السبيل الأمثل، وهو ما يدفع الموقف الرسمي الفلسطيني إلى إعادة الحسابات لصياغة توجه يدعم أي خطواتٍ إقليمية لتوحيد الصف الفلسطيني والارتباط مع تحالف دولي من شأنه مواجهة أي مشاريع تصفية.
لا تُبدي المواقف الفلسطينية ارتياحاً تجاه المؤشرات الأولية لفوز ترامب، ولذلك، تبدو في حالة ترقب لظهور الشكل النهائي للإدارة الجديدة دون تبني موقفاً استباقياً، قد يؤثر على الخيارات في المستقبل.
ثانياً: فوز ترامب ورد الفعل في إسرائيل
بين التفاؤل الرسمي بقدوم الجمهوري ترامب الى سدة الحكم، والخوف من تصفية الديمقراطي جو بايدن لحساباته مع نتنياهو وحكومته، علق الكثير من الكُتاب والصحف الاسرائيلية المحسوبين على القوى السياسة المختلفة.
فقوى اليسار وبعض أطياف المعارضة الداعية لعودة الاستقرار، وإستعادة الكيان لعلاقاته الطبيعية مع القوى الاقليمية والعالمية، طالبوا ترامب بعدم دعم نتنياهو وحكومته الساعية للقضاء على الكيان على حد وصفهم.
بينما إنقسم اليمين الديني والقوي القومية داخلياً وخارجياً، فغالبية قوى اليمين عبرت عن تفاؤلها بقدوم ترامب، بينما أبدى اليمين الاسرائيلي الذي يعيش في الولايات المتحدة تخوفه من ترامب الذي يؤمن بقوة الولايات المتحدة من الداخل، معتبرين ذلك على حساب إسرائيل.
يقول ناداف تمير (الدبلوماسي الاسرائيلي السابق)، أن إصرار ترامب على أن تكون أمريكا عظمى يأتي على حساب إسرائيل والأطراف الأوروبية التي تخشى من علاقات ترامب بروسيا، وإمكانية تحرك هذه الأخيرة على حساب إسرائيل في الشرق الأوسط، معتقداً أن دعم ترامب لإسرائيل سيكون بشأن اليوم التالي للحرب، لكن على النقيض من ذلك فإن سياسات ترامب البعيدة لا تصب في مصلحة إسرائيل والعالم الغربي عموماً.
تطلعات نتنياهو
استبق رئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية باقالة وزير دفاعه يؤاف غالنت، وهو ما اعتبرته الكثير من الأوساط السياسية في إسرائيل استجابة لانتقاد ترامب لغالانت، خاصةً وأن هذا الأخير كان يُعتبر واحداً من أهم القنوات الدبلوماسية الاسرائيلية التي تتواصل مع إدارة بايدن، بالتالي هو شخص غير مقبول بالنسبة لترامب الذي وصفه بالخاسر قبل أيام قليلة على الانتخابات الأمريكية، لهذا حاول نتنياهو من جانبه أن يحسن من موقفه أو علاقته مع الادارة الأمريكية الجديدة قبل وصولها، خاصةً وأنه كان حريصاً على تهنئة ترامب بالفوز للتخلص من غضب الأخير الذي انتقد نتنياهو في العام 2020 بسبب تقديمه التهنئة للديمقراطي بايدن.
وخلافاً لدعم ترامب اللامحدود للاحتلال، فإن نتنياهو لا يتطلع فقط للدعم السياسي والعسكري والمالي الأمريكي فحسب، بل يدرك طبيعة المزاج السياسي لدى الجمهوريين وترامب على وجه الخصوص، فهذا الأخير لا يهتم بالتحولات الداخلية وطبيعة الخلافات القانونية الداخلية التي تعمل لخدمة بقاء نتنياهو في الحكم. ولعل من أبرز الإشكاليات التي واجهت نتنياهو مع إدارة بايدن، هي تخوف الديمقراطيين الدائم من التشريعات الاسرائيلية الداخلية التي تدعم شخصية نتنياهو، وهيمنة السلطة التنفيذية على حساب المؤسسات الأخرى، كالتشريعية والقضاء.
وقد عبر الديمقراطيون كثيراً عن رفض هيمنة نتنياهو واليمين الديني على السلطة السياسية في إسرائيل، وهذا غير وارد في حسابات ترامب الذي لا يهتم بهذه القضايا من الأساس، مما يشجع نتنياهو على إصدار الكثير من القرارات والتحركات التي تعزز من وجودة في السلطة، ومنح اليمين الديني الكثير من النفوذ، وهو ما ظهر جلياً في إعفاء الحراديم المتدينين من الخدمة العسكرية، وهذا يعزز من حالة الانقسام السياسي داخل الكيان الصهيوني.
وهذا ما قد يخلق أزمات جديدة داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، لأن الاعباء المتزايدة على الجيش قد تدفع الكثير من الضباط للاستقالة، وهو ما يحدث تدريجياً خلال أكثر من عام من الحرب على غزة، علاوة على تزايد فرص الاحتجاجات العلنية داخل المؤسسة العسكرية في إسرائيل، خاصةً وأن نتنياهو يرفض كل الحلول الدبلوماسية على جبهات غزة ولبنان.
في سياق متصل أشارت إستطلاعات الرأي التي جاءت بعد التعديلات التي أجراها نتنياهو على حكومته، وكذلك إعفاءه للحراديم من التجنيد الى تراجع شعبية الائتلاف الحكومي لصالح المعارضة، حيث حصلت الأخيرة على 60 مقعداً مقابل 50 مقعد للائتلاف الحاكم، و10 مقاعد للأحزاب العربية، وهو ما يُعطي مؤشراً على اتساع الفجوة أو تعزيز عوامل التفكك الداخلي.
تخوفات المعارضة
هناك اعتقاد لدى اليمين الديني في إسرائيل بأن وجود ترامب يمثل فرصة تاريخية للسيطرة على الضفة الغربية، وتوسيع الكيان الصهيوني، وهذا ما يظهر في تعيينات ترامب على مستوى وزير خارجيته وسفيره لدى إسرائيل، وكذلك مستشاره للأمن القومي.
هذا التوجه لا يُريح اليسار والكثير من أقطاب المعارضة الاسرائيلية، لأنهم يعتقدون أن ترامب وفريقه لن يكونوا أفضل من بايدن، فتعيينات هذا الأخير تتم على أساس الخبرة السياسية، بينما تأتي تعيينات ترامب وفقاً للبعد الشخصي والمصلحي وإرتباط هؤلاء الاشخاص عاطفياً بإسرائيل.
تعتبر صحيفة معاريف أن هذه الشخصيات لن تكون مفيدة حتى لليمين في إسرائيل، لأن ترامب شخص فاشي ومتقلب ولا يملك المعرفة، كما يكمن تخوف المعارضة الاسرائيلية في إمتلاك ترامب للسلطة التشريعية، وهذا على عكس ولايته الأولى، وهو ما قد يسيئ الى صورة أمريكا حتى في أوساط حلفائها.
وبالتالي سيكون لذلك ارتدادات سلبية على إسرائيل من وجهة نظر المعارضة الاسرائيلية، وهذا ما عبر عنه بشكل أكثر وضوحاً داني أيالون، سفير اسرائيل السابق في واشنطن، مطالباً اليمين في اسرائيل بعدم الفرح كثيراً، لأن ترامب صاحب مبدأ الصفقات فقط سوف يهتم بالعلاقة مع السعودية، وسيحرص على توسيع اتفاقيات أبراهام عبر إدخال السعودية ودول أخرى مقابل دولة فلسطينية، معتقداً أن موضوع ضم الأراضي لن يتم بفضل ترامب.
من جانبها ألمحت آنا براسكي محررة شؤون الشرق الأوسط في صحيفة معاريف الاسرائيلية لهذا الأمر، حيث تعتقد أن التطبيع مع السعودية مُقدم على خطة الضم الاسرائيلية التي تزامن ظهورها اسرائيليا مع فوز ترامب، فهذا الأخير مهتم بتعزيز التحالف مع السعودية للضغط على إيران، وهو ما تتفهمه الرياض التي أطلقت مؤخراً التحالف الدولي لاقامة الدولة الفلسطينية باعتبار ذلك خطوة عملية على التفاهم مع إدارة ترامب.
تُشير هذه المقدمات لوجود تخوف داخلي إسرائيلي، يرجع في مجمله لدعم ترامب لخطوات نتنياهو وأقطاب اليمين الديني الساعي الى الهيمنة على مؤسسات الكيان الصيهيوني على حساب قوى المعارضة، وهذا ما يستغله نتنياهو جيداً من خلال إجراء بعض التعديلات الوزارية الجوهرية التي تعزز من إئتلاف اليمين، وتجعله قادراً على إقرار القوانين والتشريعات التي تعزز من حكمه ووجوده في السلطة بغض النظر عن حجم الأزمات التي تمر بها اسرائيل.
من ناحية أخرى فإن ثمة تخوف شبه مشترك بين أقطاب السلطة والمعارضة بشأن سياسة ترامب الاقليمية، فهو يُبدي دعمه لاسرائيل، ويقدم وعوداً بالتخلص من التهديدات القادمة من غزة ولبنان وإيران وغيرها، لكن حرصة على إتمام الصفقة أو توسيع اتفاقيات أبراهام يهدد تطلعات اليمين الرامية لحسم الصراع بشكل نهائي مع الشعب الفلسطيني، خاصةً وأن حالة الضعف التي تبدو عليها القوى الفلسطينية السياسية والمقاومة تبدو مواتيه بالنسبة للاقليم الذي يتطلع لاستغلال هذه الفرصة بالتعاون مع ترامب للوصول لاتفاق سياسي يمكن أن يقدم للجانب الفلسطيني شيئاً من حقوقه.
ثالثاً: انتخاب ترامب والأوضاع الإقليمية
تشكل اتجاهات خطاب دونالد ترامب الانتخابي الحالي ومقارنته بالحملة السابقة أو فترة حُكمه (2016 – 2020) مدخلاً لاستكشاف ملامح السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، وخصوصاً ما يتعلق بالتأثير المتبادل الإدارة الأمريكية من جهة، والأطراف الإقليمية من جهة أخرى.
وكظروف الدعاية الانتخابية، سارت حملة ترامب في مباراة لدعم كيان الاحتلال، وأكدت على أولوية أمنه، ما يعكس استقرار الخطاب على نفس القناعات من أوضاع الشرق الأوسط، سواء على جانب الاحتلال أو المنطقة العربية ودول الجوار. يتسق هذا المظهر مع القواسم المشتركة بين الإدارات المختلفة، حيث تشابهت في أغلب سياستها في قضايا الشرق الأوسط.
وفق الدعاية الانتخابية، تراوحت أولويات السياسة الخارجية والأمن القومي ما بين التركيز على القوة الأمريكية الداخلية والاهتمام بالاقتصاد والأمن الداخلي والهجرة. وباعتبار تجانس الإدارة الأمريكية، لا تبدو الفروق بين الاتجاهين جوهرية. فيستند ترامب على فريق متوافق حول السياسات المحافظة داخلياً وتقوية أمريكا في الخارج. لم تكن هذه الإمكانيات قائمة في الفترة الرئاسية الأولى، حيث واجه الكثير من القيود والتعقيدات في إرساء علاقات إيجابية مع روسيا والتنسيق معها في سوريا.
ترتبط تطلعات ترامب لخفض الصراعات الدولية على أميرين؛ مراجعة استراتيجية الأمن القومي (أكتوبر 2022) والتي كانت أكثر ميلاً للحديث عن المواجهة والتهديد بالحرب ضد روسيا والصين، وأيضاً، اتجاهات الإدارة الجديدة في إعادة تقديم مبادرة السلام (2020).
على مستوى الشرق الأوسط، تتوزع التوجهات الأمريكية ما بين وجود مساحات مشتركة بين الولايات المتحدة وكلٍ من مصر، السعودية وتركيا، حيث تقوم سياسة ترامب على تصنيفها عوامل استقرار، فيما تتذبذب مواقفه تجاه إيران، حيث تقع ما بين الضغط والحصار أو الحرب. على أية حال، من المحتمل أن يقود هذا الاختلاف إلى اعادة طرح مشاريع الأمن الإقليمي مرة أخرى، ومحورها دمج كيان الاحتلال في شبكة العلاقات الإقليمية.
حتى الآن، لا تبدو ملامح السياسة الأمريكية واضحة في التعامل مع المشكلات الدولية الكبرى. فعلى الرغم من العلاقات الودية بين الرئيسين؛ ترامب وبوتين، فإن إيقاف الحرب في أوكرانيا، صار جزءً من مسألة الأمن الأوروبي، سوف يحتاج لتوافقات بين الاتحاد الأوربي، الولايات المتحدة وروسيا على الترتيبات الأمنية والدفاعية.
الواقع
حتى وقت استلام ترامب السلطة، تكون المنطقة في اتجاهين يتمثل الأول في انعكاس استمرار الحرب المدمرة على قطاع غزة وجنوب لبنان في إنتاج دوائر من الاضطراب الإقليمي، لا يقتصر على تدمير العمران والتهجير القسري، بل يؤدي لتوتر العلاقات بين الدول في الإقليم بسبب العجز عن وقف إطلاق النار، وتسارع أجواء الحرب الإقليمية نتيجة مساهمة الكثير من العوامل، ومنها السياسة الأمريكية، في صناعة البيئة المضطربة.
وبعد عام من الحرب، يتبنى محور المقاومة مساري؛ الاستمرار في المعارك وفتح باب للتفاوض على وقف إطلاق النار. في وقت سابق، أعلن حزب الله عن قبوله التفاوض لوقف الحرب، وهو ما يتسق مع تصريحات إيرانية لقبول الحوار مع الولايات المتحدة. ورغم وجود هذه البدائل، بقيت المواقف متأرجحة ما بين الاتفاق على وقف إطلاق النار والتهديد بتوسيع الحرب.
على مدى عام، قطعت المقاومة وإيران شوطاً طويلاً في الحرب، لكنها لم تضع يجها على هدف مُحدد من الاستمرار، وخصوصاً مع تحول المعارك من حرب هجومية إلى دفاعية عن الذات. ويمثل اشتعال المعارك على الجبهة اللبنانية وتبادل إطلاق الصواريخ بين الاحتلال وإيران، واحداً من أشكال رد الفعل على العدوان الإسرائيلي أكثر منه إسناداً للمقاومة في غزة، وبالتالي، فإنه مع غياب هدف واضح للحرب، سوف تتجه هذه الجبهات للبحث عن وقف النار أو توسيع مشاركة الميليشيات المسلحة كبديل لفشل التوصل لوقف الحرب.
أما الاتجاه الثاني؛ حيث يتبلور اتجاه إٌقليمي ودولي لتهيئة المناخ للتسوية السلمية للقضية الفلسطينية ووقف الحرب في لبنان. وخلال شهور مضت، تعمل مصر وتركي والسعودية على دعم الشرعية الفلسطينية والتوجه نحو تنفيذ حل الدولتين ودعم ولاية السلطة على قطاع غزة. تعمل الدول الثلاثة، ومن خلال اللجنة السباعية الإسلامية، على بناء تحالف دولي لمساندة المطالب الفلسطينية، وتمكنت من عقد اجتماعه الأول في نهاية أكتوبر الماضي.
تتبن الدول الثلاثة سياسة مشتركة لمنع انفراط سلطة الحكم الذاتي واحتواء التوتر الإقليمي، ومن جهتها، اتخذت تركيا مساراً لدعم السلطة الفلسطينية عبر عقد اتفاقيات تجارية مباشرة دون المرور بالاحتلال، ومثل هذه الاتفاقيات يدعم وضع الفلسطينيين ككيان للحكم الذاتي، كما يحول دون الإطاحة بالمجتمع الفلسطيني. كما تعمل السعودية على توفير الدعم المالي للسلطة وتعويض توقف منظمة غوث اللاجئين. فيما تقوم مصر برعاية المصالحة ودعم بقاء حركة حماس طرفاً في المفاوضات.
بعد شهرين، سوف تواجه الولايات المتحدة واقعاً إقليمياً، تكون فيه قوة غزة غائبة عن التأثير الإقليمي، فيما لا تشهد العلاقات الإقليمية أي تغيرٍ ملموس، فلم يزل وضع إيران بعيداً عن المشاورات الإقليمية وتفضل التعامل من خلال الجماعات المسلحة. ومع غياب أطروحات جديدة في حملة ترامب، سوف تتجه السياسة الأمريكية للتمحور حول تأمين الاحتلال والبحث عن صيغ لدمجه إقليمياً، لكن نجاحه يتوقف على المفاضلة ما بين تطلعات تحالف تنفيذ حل الدولتين وبين الحد من تهديد الجماعات المسلحة للأمن الإقليمي.