مؤشر فلسطين

تراجعٌ قسري في الضفة وتحييدٌ مؤقت لغزة

تقديم:

تراجع منحى التصعيد في المشهد الفلسطيني العام خلال الأيام القليلة الماضية إثر وصول الأحداث والمستجدات إلى ذروتها مع اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في 11 مايو الجاري، وما ترتب عليها من انتقادات إقليمية ودولية واسعة، وكذلك ما سبقها من تهديدٍ متبادل مع قطاع غزة، دفع الاحتلال إلى التراجع نسبياً، وعدم إعطاء المزيد من الفرص لتوسيع المواجهة سواءً مع قطاع غزة، أو مدن الضفة الغربية.

ميدانياً

يبدو أن الحديث عن فرص المواجهة بين الاحتلال وقطاع غزة قد تقلص نسبياً، لأن ائتلاف حكومة بنيت-لبيد يستمر في مساعيه لتحييد قطاع غزة، عبر التصريحات التي صدرت عن العديد من القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل، والتي أكدت على أن غزة ليست مسؤولة عن الأحداث والعمليات في مدن الداخل، حتى وصل الأمر في الإعلام إلى التقليل من دور حركة حماس ووصف تهديداتها بمحاولة ركوب موجة الأحداث والعمليات، وليس الوقوف خلفها.

رغم تبني حركة حماس لعملية مستوطنة أرئيل في مدينة سلفيت مطلع مايو الجاري، وما صاحبها من تزايد فرص الحرب أو المواجهة الشاملة بين الاحتلال وقطاع غزة، خاصةً وأن منفذي عملية إلعاد شمال تل أبيب، استخدموا وسائل ذُكرت في خطاب رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار، إلا أن حكومة بنيت تجاوزت عن ذلك واستمرت في معادلة تحييد قطاع غزة، وتقديم التسهيلات إلى قطاع غزة، بما فيها عدم إغلاق معبر بيت حانون أمام عمال القطاع. 

من جانبها تدرك الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة حقيقة هذا الموقف، حتى وإن كانت تستعد للمواجهة إلا أنها لم تصل في استعداداتها لأي هجوم مرتقب إلى أعلى مستوى من الاحتياطات الأمنية، خاصةً خلال الأسبوع الأخير، فتراجع حالة التصعيد الأمني في الداخل المحتل من جهة، والضفة الغربية من جهةٍ أخرى، مع توقف وتيرة العمليات فيهما، قابلها تراجع في حسابات المواجهة مع قطاع غزة، خاصةً وأن حادثة اغتيال الصحفية شرين أبو عاقلة، وما تلاها من تسليطٍ إعلامي طغت على المشهد الأمني، وتراجع الحديث عن اغتيال رئيس حركة حماس في غزة السيد يحيى السنوار.

رغم حرصها على ملاحقة المقاومة في الضفة الغربية، ومحاولة إيقاف سلسلة العمليات الفردية بشتى السبل الممكنة، إلا أن عجز المنظومة الأمنية الإسرائيلية يبدو أكثر وضوحاً في التعامل مع جنازات الشهداء “أبو عاقلة والشريف” التي اصطحبها تشييع من قبل الآلاف من المواطنين؛ لذا يمكن القول إن اقتحام جنازات الشهداء يأتي كبديل عن اقتحام جنين شمال الضفة الغربية، خاصةً وأن الاقتحام الأخير للمدينة تسبب في مقتل ضابط صهيوني وخلّف أعداد من الشهداء والجرحى دون تحقيقٍ للأهداف المرجوة، كما أن التصدي للاقتحامات الإسرائيلية حوّل مدينة جنين إلى نموذج مشابه لقطاع غزة.

من جانب آخر لم ينجح الاحتلال في طمس حقيقة اغتيال الصحفية شرين أبو عاقلة رغم الحديث عن العديد من الروايات، غير أن الضغط على السلطة الفلسطينية التي تمتلك الدليل المادي “رصاصة الاغتيال” يبقى محل قلق فلسطيني، خاصةً وأن السلطة الفلسطينية أغلقت العديد من الملفات التي تدين الاحتلال سابقاً، لاسيما تقرير غولدستون واستشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

سياسياً

لعبت جهود الوساطة المصرية وبدعم أمريكي دوراً مهماً في وقف التصعيد، خصوصاً على ساحة قطاع غزة، وبالتزامن مع الاتصالات المُكثفة، ذكرت مصادر صحفية في 9 مايو أن السلطات المصرية توجه دعوات لطرفي الصراع من أجل بحث العديد من الملفات تفادياً لأي تصعيد مُحتمل، وقد عاد الجانب المصري في 11 مايو إلى التحذير من اغتيال السنوار.

لم تتوقف المساعي المصرية عند تطورات التصعيد الحاصل في الأراضي الفلسطينية، حيث أشارت صحيفة هآرتس العبرية إلى تكليف أمريكي للجانب المصري بمنع التقارب الحمساوي- الروسي، خاصةً وأن العاصمة موسكو كانت قد استضافت وفد حركة حماس في 4 مايو برئاسة السيد موسى أبو مرزوق ولقائه نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي عرض على وفد حماس إمكانية استقبال روسيا لحوار فصائلي فلسطيني، وهو ما أثار قلق إدارة بايدن التي قدمت وعداً للسلطة الفلسطينية قبل أسابيع قليلة بفتح قنصليتها في القدس الشرقية وهو ما ترفضه حكومة بنيت.

كما أن توتر العلاقات الروسية الأمريكية بسبب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، دفع إدارة بايدن إلى منع تقارب كافة الأطراف الفلسطينية من الجانب الروسي، وهذا ما يُفسر مساعيها لتحسين وضع السلطة الفلسطينية، فضلاً عن تركيز الإدارة الامريكية على الصراع في أوكرانيا، وتأجيل المواجهة الصهيونية مع قطاع غزة. 

لهذا واصلت حركة حماس مساعيها للحفاظ على مستوى التصعيد وإبقاء الاحتلال تحت الضغط الأمني، حيث وجه رئيس مكتبها السياسي في 13 مايو دعوة لإلغاء اتفاق أوسلو، ووقف أي تعاون مع دولة الاحتلال، معتقداً أن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة جديدة، وهو بحاجة لقرارات فلسطينية حاسمة من شأنها إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني عبر الالتفاف حول برنامج المقاومة الشاملة في مواجهة الاحتلال.

في سياق آخر عادت أجواء الانتخابات من جديد إلى المشهد الداخلي الفلسطيني، فالتصعيد الحاصل لم يُعيق انتخابات نقابة المحاميين التي جرت في 15 مايو الجاري في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد حصلت حركة فتح على 11 مقعداً من أصل 15، ولم تأتِ نتائج الانتخابات بأي جديد كون حركة فتح تمتلك سيطرة تاريخية على النقابة، حيث اعتبرت بعض الصحف الفلسطينية عدم حصول حركة فتح على كامل المقاعد هو الجديد في هذه الانتخابات، خاصةً وأنها فقدت 3 مقاعد لمصلحة تحالف المعارضة، ومقعداً آخر للمستقلين. 

اقتصادياً

واصلت سلطات الاحتلال حملة التضييق على العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل، ضمن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها المؤسسة الأمنية في إطار مواجهة العمليات الفردية، وعلى إثر ذلك بدأت الشرطة الإسرائيلية باعتقال العمال الذين دخلوا أراضي الداخل بطريقة غير قانونية تمهيداً لترحيلهم.

من جانب آخر، صادق وزير الدفاع بيني غانتس على قرار بمنع عائلات منفذي العمليات من الوصول للداخل المحتل، ولا شك في أن لهذه القرارات انعكاسات اقتصادية مباشرة كونها تمس بصورة مباشرة بواقع أكثر من 80 ألف عامل يعملون هناك بدون تصاريح سارية المفعول.

من ناحية أخرى صادق غانتس على استمرار إغلاق معبر إيرز/ بيت حانون، ومنع مرور العمال من غزة للعمل في الداخل المحتل منذ 6 من مايو/ أيار الجاري، وهو ما يتسبب في تكبد الاقتصاد الغزي خسائر يومية تقدر بمليون دولار.

وبموازاة ذلك أظهر تقرير للبنك الدولي أن نحو 100 ألف فلسطيني دخلوا دائرة الفقر منذ بدء القيود التي صاحبت جائحة كورونا وتحديدا منذ مارس 2020، وما رافقها من تداعيات مباشرة بدخول الاقتصاد الفلسطيني في موجة حادة من الركود وصلت نسبتها إلى 11%، 7% للعام 2020_2021 على التوالي.

ويعزى هذا التضخم إلى زيادة الضغوط الاقتصادية والمالية التي تواجه السلطة الفلسطينية منذ العام 2019، بسبب الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة، وتراجع مساهمة الدول المانحة، إذ أشار تقرير المراقبة الاقتصادية الفلسطينية الصادر عن البنك الدولي أن المالية العامة للسلطة الفلسطينية ما تزال حافلة بالتحديات بسبب التراكم الضخم للمتأخرات لدى الجانب الإسرائيلي التي وصلت إلى 1.5 مليار دولار، وتراجع بند المساعدات الخارجية الذي تراجع من 27% من إجمالي الناتج المحلي في العام 2008 إلى 1.8% في العام 2021.

لهذا أوصى البنك الدولي على هامش اجتماع لجنة الاتصال المخصصة للمانحين للسلطة الفلسطينية (AHLC) في العاصمة البلجيكية- بروكسل في 10 مايو بضرورة إجراء إصلاحات مالية جذرية في موازنات السلطة الفلسطينية لتتلاءم مع واقعها الاقتصادي، وهو ما دفع وزارة المالية في رام الله إلى تقديم مقترح لتعديل قانون ضريبة القيمة المضافة، حيث شمل تعديل بنود أكثر من 200 نقطة في قانون الضريبة المعمول به منذ العام 1994، بهدف رفع كفاءة التحصيل المالي لسد العجز المتراكم في الموازنة منذ سنوات.

فيما لا تزال تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية تلقي بظلالها على الحالة الاقتصادية في الضفة الغربية، بسبب التراجع الكبير في توريد الدقيق والقمح من أوكرانيا وروسيا، وهو ما أدى إلى رفع أسعار الخبز بأكثر من 25%، وتأمل السلطة من أن تنجح المحاولات مع صربيا في توفير احتياجات القمح.

رأي الخبراء

يعتقد الدكتور تيسير محيسن أن حكومة بنيت تعمل على تحييد قطاع غزة عبر إبقاء التسهيلات الاقتصادية، لكن ذلك لا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي يتجاهل غزة، لأن سيناريو المواجهة يبقى وارداً لكن بدرجة أقل، وهذا يتناسب مع استعدادات المقاومة التي لم تصل إلى اللون الأحمر أو مرحلة الخطورة العالية.

أما بالنسبة لواقع الضفة الغربية والقدس، فيعتقد محيسن أن التصعيد نسبي، وأن سبب تراجع حكومة بنيت عن التصعيد قسري وليس مبدئي أو نهائي، أي أن الحكومة الإسرائيلية تأثرت بالضغوط الخارجية، وخصوصاً الأمريكية التي لا ترغب في فتح جبهة صراع جديدة بالموازاة مع الحرب القائمة في أوكرانيا؛ لذا يعتقد محيسن أن تطورات المشهد المُقبلة ستراوح مكانها، أي أن حكومة بنيت ستحاول الحفاظ على تحييد غزة وهدوئها، وفي نفس الوقت ستلاحق مصادر التهديد في الضفة الغربية، أملاً في استعادة الهدوء.

من جانبه يرى الدكتور حسام الدجني أن استمرار العمليات الفردية ناتجة عن سلوك الاحتلال بأشكاله المختلفة، بالتالي كلما ارتفعت وتيرة العنف من الاعتقال والاغتيال والاقتحام للمدن والمسجد الأقصى سوف ترتفع وتيرة العمليات الفردية، وهنا يتفق محيسن والدجني على أن التراجع النسبي من طرف الاحتلال يمكن أن يخفف من وتيرة العمليات الفردية.

من جانب آخر يرى الدجني أن حكومة بنيت تسعى لاسترضاء اليمين الإسرائيلي، وفي نفس الوقت يخشى من منصور عباس والقائمة الموحدة، أي أنه يحاول الحفاظ على التوازن الذي يدعم استمرار الائتلاف دون تفككه، وهذا ما يؤثر على حالة التصعيد الراهنة، مع الحفاظ على عدم تجاوز الخطوط الحمراء، حيث يتفق الدجني ومحيسن على أن الاحتلال لا يسعى إلى تجاوز هذه الخطوط.

يتفق الكاتب والمحلل السياسي رشيد شاهين مع سابقيه في أن ما تم تدوله حول إمكانية تصاعد وتيرة الأحداث نحو اندلاع انتفاضة ثالثة أو مواجهة شاملة، أمر غير وارد في ظل المستجدات الحالية؛ لأن كلاً من حكومة الائتلاف وقطاع غزة غير معنيان بالتصعيد الشامل للاعتبارات سابقة الذكر.

تحليل المؤشر

تشير المستجدات الأخيرة في المشهد الفلسطيني على مختلف جبهاته إلى أن توجهات حكومة بنيت الحالية تجاه الأوضاع الأمنية تتلخص في محاولتها الحفاظ على الوضع الحالي في دائرةٍ ضيقة للمواجهات من خلال التركيز على حصرها في جنين ومخيمها، دون الوصول إلى الانفجار أو اتساع دائرة المواجهة لتشمل أكثر من جبهة، وهذا ما لوحظ بشكلٍ واضح من محاولتها تحييد جبهة قطاع غزة من خلال الحفاظ على استمرارية التسهيلات المقدمة للقطاع مؤخراً من جانبٍ، مع الحفاظ على وضعٍ أمنيٍ مستقر نسبياً في القدس والمسجد الأقصى من جانبٍ أخر.

يرجع توجه الحكومة في الحفاظ على الوضع الأمني في دائرته الضيقة دون السماح بتسارع الأحداث إلى المواجهة المباشرة، خاصةً مع قطاع غزة إلى عاملين اثنين، أولهما؛ التماشي مع الضغوط الإقليمية والدولية التي لا ترغب في مواجهةٍ شاملةٍ في الأراضي المحتلة من شأنها أن تحول دفّة التركيز العالمي من الحرب الروسية الأوكرانية إلى الساحة الفلسطينية، وثانيهما؛ رغبة حكومة الائتلاف في الحفاظ على استمراريتها دون تفككها.

وفي السياق نفسه، أولت حكومة بينت في إدارتها للملف الأمني المستجد إثر العمليات الأخيرة، أهمية للوضع الداخلي في “إسرائيل” سياسياً وأمنياً، فحاولت سياسياً استرضاء اليمين المتطرف عن طريق الحفاظ على خط مواجهة مستمر وإن كان بوتيرةٍ منخفضة نسبياً وذلك حفاظاً على التوازن، فيما عملت على المستوى الأمني وفي خطٍ متوازٍ على إرضاء المجتمع الإسرائيلي، الذي اتهم حكومة الائتلاف بالتقصير الأمني، من خلال تنفيذ سلسلة من الاقتحامات والاعتقالات المتتالية في مناطقٍ متفرقة في الضفة الغربية. 

أخيراً، فإن الضغط الاقتصادي الإسرائيلي عبر التضييق على العمال، سينذر بأزمات معيشية ستظهر نتائجها على المدى القصير والمتوسط في الحالة الاقتصادية في الضفة الغربية، في ضوء عجز السلطة الفلسطينية عن حل هذه الأزمات التي تبدو أكبر من طاقتها أو قدرتها على التخفيف من آثارها في ظل عجز موازنتها المالية إثر استمرار وقف مخصصات السلطة من الاتحاد الأوروبي وحجز الاحتلال جزءاً كبيراً من ضرائب المقاصة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق