التمهيد:
النضال الفلسطيني هو أحد أكثر الصراعات المؤثرة في التوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، فهي فاعلة ومؤثرة في النزاعات الإقليمية والتكتلات الديمغرافية واستقرار الأنظمة السياسية في المنطقة؛ وبناءً عليه، تسعى الكتلة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى إنهاء هذا الصراع بصورة مرحلية، من خلال التأثير على الأنظمة السياسية المتواجدة في المنطقة واستخدامها لهذه الغاية، وقد بدأ هذا المسار بطرد منظمة التحرير من لبنان عقب الحرب الأهلية اللبنانية، وقبل ذلك من الأردن عقب حرب الكرامة، ومن ثم اندفعت واشنطن إلى احتواء دول الطوق عقب هذه المرحلة من خلال اتفاقيات السلام مع مصر والأردن؛ تمهيداً للضغط على الفلسطينيين وتحديد مسارهم السياسي الذي تقوده نيابة عنهم منظمة التحرير ممثلة بالسلطة الفلسطينية، واستمرت محاولاتها بتعزيز هذا المسار مع سقوط الأنظمة القومية إثر الحروب الأمريكية المتواصلة في المنطقة، بذريعة الحرب على الإرهاب مثل نظام الرئيس صدام حسين ونظام العقيد القذافي، بصفتها أكثر الأنظمة التي رفعت لواء القضية الفلسطينية في إطار مواجهة الضغوط الغربية وتعزيز شرعيتها الداخلية.
تصفية المنظمات العربية والإسلامية:
كان الربيع العربي أحد اهم التحولات والمسارات الإقليمية المؤثرة في الملف الفلسطيني بما خلفه من نتائج على صعيد تقويض أسس النظام السياسي العربي بصفة عامة، باستثناء دول الخليج العربي، علاوةً على ما أفضت به الثورات المضادة للربيع العربي من بيئةٍ خصبةٍ لاستقبال عوامل الفوضى من خلال تنظيماتٍ تكفيرية مثل داعش، وانفصالية مثل المليشيات الكردية في العراق وسوريا وغيرها، مما حوّل المنطقة إلى فوضى عارمة وظفتها قوى دولية وإقليمية لتحقيق مصالحها، وفي مقدمتها دولة الاحتلال “إسرائيل”، حيث كان مسعاها يهدف إلى تحقيق ثلاثة أمور، أولها؛ القضاء على التكتلات الديمغرافية السنية في محيط فلسطين بصفتها الحاضنة الأبرز للوجود الفلسطيني[1]، وثانيها؛ القضاء على الفلسطينيين في الشتات مثل استهداف مخيمات اللاجئين في سوريا والعراق، أما ثالثها؛ القضاء على النظام السياسي العربي الأمر الذي أدّى إلى بروز المنظومة الخليجية كبديلٍ محتمل [2] والمرتبطة في معظمها بالحماية الأمنية الأمريكية كأحد أهم مقومات استقرارها وبقائها.
عقب صعود الإسلاميين في عدد من الدول العربية وتبنيهم مواقف واضحة تجاه القضية الفلسطينية، دعمت الولايات المتحدة وإسرائيل ثورات مضادة من خلال انقلابات دموية وناعمة لاحقتهم وأنهت مشاريعهم السياسية والتنموية في بداياتها من المنطقة، سواء من خلال استهدافهم المباشر في الأردن ومصر والمغرب وتونس وليبيا، أو من خلال دعم وتصعيد قوى وتيارات معارضة مدعومة بصورةٍ أو بأخرى من المنظومة الخليجية.
وكذلك همّشت مكانة جامعة الدول العربية وحُصر دورها في بيانات صحفية، كما قُلّص دور منظمة مؤتمر العالم الإسلامي بسبب الصراع على النفوذ بين الدول الخليجية -على رأسها السعودية- وتركيا وإيران وباكستان وماليزيا [3]، وكذا الحال بالنسبة لرابطة العالم الإسلامي التي تحولت فيما بعد برئاسة محمد العيسى إلى مرجعية لدعم مشاريع أنسنة الصراع “اليهودي” مع العالم الإسلامي، ونظّمت ورعت لقاءات بين معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذي يقوده دينس روس وغيره من جنرالات الجيش الإسرائيلي والمتقاعدين العسكرين من دولة الاحتلال ونخب دينية وفكرية؛ بهدف توحيد الخطاب الفكري والديني وتهميش الفكر الرافض للهيمنة الغربية والمساند لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الصهيوني. [4]
الخطاب الإعلامي وتهميش القضية الفلسطينية:
منذ عام 2014 أي عقب حرب الفرقان في قطاع غزة اتخذت وسائل إعلام محسوبة على المملكة العربية السعودية ومعها الإمارات منحى عام، يقضي بعدم إعطاء أولوية للملف الفلسطيني من خلال عدم تناول أخباره على وسائل الإعلام الرسمية والشعبية، وتفادي الإدلاء بأي تصريحات من شأنها دعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، والاكتفاء بترديد خطابٍ رسمي يتعلق بتبني مبادرة الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز والمعروفة بمبادرة “السلام العربية” ، وبالتوازي مع ذلك بدأت سلسلة هجمات منظمة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل بعض المشاهير المحسوبين على كلا الدولتين تشوّه صورة الفلسطيني وتتّهمه ببيع أرضه، مقابل التركيز على التطور التقني والطبي في “إسرائيل” باعتبارها نموذجاً نهضوياً يمكن الاقتداء به والاستفادة منه.
كما وصل الأمر إلى اختلاق سردية الفلسطيني الذي يخدم في الجيش الإسرائيلي ” الدروز”، والذي هرب إلى أوروبا واكتفى بالاستمتاع برغد العيش هناك، ناهيك عن الاتهامات حول فساد القيادة الفلسطينية وسرقتها لأموال المساعدات الخليجية، وغيرها من محاولات التشويه الممنهج الذي أدارته حسابات معروفة ومحسوبة على جهات نافذة في دول الخليج العربي، حتى أصبحت هذه القضية ملف إشغالٍ وإلهاءٍ للرأي العام وزيادة الفجوة بين الشعوب واستحضار التطبيع بصفته مسار محتوم للشعوب الخليجية؛ من أجل نهضتها وتطورها مقابل خسارتها الفادحة طوال العقود الماضية باستنزاف أموالها في دعم الفلسطينيين الذين اتهمتهم بنكران الجميل [5].
وبالإضافة إلى ذلك، تطرقت التغطية الإعلامية لبعض الدول الخليجية إلى تبني مواقف وتوجهات مضادة لحركات المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، من خلال محاولة تكوين صورة نمطية سلبية تهدف إلى تشويه صورة الفكر المقاوم و شيطنته لتوجيه الرأي العام الخليجي،[6] وذلك بالتركيز على علاقة حركة حماس بإيران التي يُنظر لها على أنها تشكل تهديداً أمنياً على دول الخليج العربي، في انسجامٍ مع السردية الأمريكية والاسرائيلية التي تسعى إلى شيطنة المقاومة الفلسطينية وتشويه صورة مقاوميها [7]؛ مستفيدين في ذلك من أخطاءٍ ارتكبتها بعض القوى فلسطينية في تعبيراتها عن طبيعة علاقتها بإيران.
كانت بعض الخطوات التي قادت إلى حملات التشويه من جهة وتهميش القضية الفلسطينية من جهة أخرى عبر منظومتها الإعلامية متماشية مع مظاهر التحول في المواقف الرسمية الداعمة للقضية تاريخياً، خصوصاً من قيادة المملكة العربية السعودية، فمثلاً؛ نُقلت تصريحات عن ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان أثناء لقاءه بالمجتمع اليهودي الأمريكي، أشار في مضمونها إلى أن القضية الفلسطينية ليست من أولى القضايا التي تشغل بال السعوديين، مما دل على مؤشرات التحول في التوجهات والمواقف الرسمية السعودية تجاه القضية الفلسطينية بالتزامن مع مساعي التطبيع في المنطقة.[8]
التجاهل الدبلوماسي:
انعكس الخطاب الدبلوماسي الفلسطيني المنقسم بين الضفة وغزة، وغياب وحدة الصف سلباً على الحضور الفلسطيني في أروقة الدبلوماسية الخليجية بصورة كبيرة جداً، وأحياناً أصبح الملف استثماراً مربحاً ركزت عليه كلاً من قطر والإمارات؛ مع تصاعد خلافاتهما وتباين أدوارهما اتجاه الربيع العربي، في حين مالت السعودية إلى الانسحاب من دورها التاريخي الداعم للفلسطينيين، من خلال التراجع في تقديم الدعم لهم على الصعيدين الدبلوماسي والمالي [9]، وتجنبت حتى تكرار محاولات احتواء خلافاتهم أسوة بمحاولاتها في الملف اللبناني ناهيك عن دورها السابق في اتفاق مكّة بين حماس وفتح نتج عنها أول حكومة وحدة فلسطينية، بل ذهبت إلى ما يشبه حالة القطيعة بالملف الفلسطيني من خلال عدم استقبال الدبلوماسيين الفلسطينيين خلال السنوات الماضية، ووصل الأمر لتجاهل الخطابات الرسمية الصادرة عن الخارجية الفلسطينية وعدم الرد عليها من قبل نظيرتها السعودية، وهي إشارة إلى رفض المملكة التعامل مع الرئيس محمود عباس.
وفي المقابل، اتجهت دولة الإمارات إلى تبني مشروع محمد دحلان “التيار الإصلاحي الديمقراطي في حركة فتح” ووفرت له دعماً سخياً، ليكون حاضراً في المستقبل السياسي الفلسطيني، بينما ركزت قطر على دعم حكومة حماس في قطاع غزة في إطار تبنّيها دعم ما يسمّى قوى “الإسلام السياسي” في المنطقة كأحد أوراقها الرئيسية في سياستها الخارجية لمناكفة دول المقاطعة “الحصار” العربية، وفي مقدمتهم السعودية والإمارات، كما توفر هذه السياسة لها ورقة قوية لضبط علاقتها مع الإدارة الأمريكية و”إسرائيل”؛ حيث يمثل حضور “الإسلام السياسي” ملفاً استخبارياً هاماً في علاقة الدوحة بالإدارة الأمريكية، فهي من خلال ذلك استطاعت لعب أدوار وساطة بين تل أبيب وحركة حماس في الملفات الإنسانية ومسائل التهدئة، وكذلك فعلت الأمر نفسه خلال المفاوضات الأمريكية مع طالبان، وبناءً عليه، يمكن القول إنّ سياسة بعض البلدان الخليجية سعت إلي توظيف الملف الفلسطيني كورقة للحفاظ على أدوارها الاستراتيجي في المنطقة.
المتغيرات الدولية ومحفزات التطبيع:
شهدت منطقة الشرق الأوسط منذ الربيع العربي متغيرات أثارت قلق الكيان الصهيوني سواء ما تتعرض له دول الطوق من متغيرات سياسية وضغط اجتماعي قد يولد انفجارات ثورية بصورة مفاجئة، مثل الصراع الداخلي بين العاهل الأردني الملك عبد الله وشقيقه الأمير حمزة، أو الضغط الذي يتعرض له المجتمع التونسي بفعل الانقلاب السياسي وزيادة الضغط الاقتصادي، بالإضافة إلى المتغيرات الطارئة على الساحة الدولية التي تزايدت بفعل الصراع الصيني الأمريكي والهجوم الروسي الأخير على أوكرانيا.
يعد الغطاء الذي توفره القوى الدولية عامل رئيس من عوامل بقاء وصمود دولة الاحتلال، لكن الاضطرابات والمتغيرات السياسية المستجدة على الساحة الإقليمية في الآونة الأخيرة، جعلتها تتقلب بين أمواج السياسة الدولية تبحث عن إعادة صياغة حساباتها في المنطقة بمساعدةٍ أمريكية، من خلال دمجها على مختلف المستويات بالمحيط العربي عبر آلة التطبيع، وإظهار تأثيرها في الصراع الإيراني مع الخليج، وهي عملية استثمرتها الدولة العبرية بصورة كبيرة في زيادة التعاون الأمني الرسمي وغير الرسمي مع المنظومة الخليجية برعاية أمريكية؛ ففي أواخر عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تم نقل الجيش الإسرائيلي من تبعية القيادة المركزية الأمريكية في أوروبا إلى الأسطول الخامس المتمركز في البحرين، وتلى ذلك تعيين مكتب اتصال للبحرية الإسرائيلية في البحرين بصورة دائمة [10]، وهذا القرار يعني إمكانية مشاركة الجيش الإسرائيلي في جميع الأنشطة العسكرية التي تقوم بها واشنطن بالشراكة مع الجيوش الخليجية.
بالإضافة إلى ذلك سعت واشنطن إلى تطبيق ما أسماه الملك عبد الله الثاني قبل أيام بــ” ناتو الشرق الأوسط”، ـ عقبات سياسية و بنيوية تجعل منه مشروعاً غير قابل للتحقق في المدى المتوسط ـ وهو مشروع درع صاروخي تسعى الدولة العبرية بدعم أمريكي إلى تنفيذه في الخليج والأردن ومصر بذريعة ردع إيران، في محاولةٍ منها لزيادة عملية الاختراق العسكري لأهم المضائق البحرية العالمية مثل مضيق هرمز ومضيق باب المندب وقناة السويس، وقد جاءت زيارة بايدن للسعودية في شهر يونيو الجاري تأكيداً على ذلك، من خلال مذكرة التعاون المشترك بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، تحت ما عُرف ب”إعلان القدس” للشراكة الاستراتيجية، التي أكدت إحدى بنودها على ضرورة توسيع دائرة التطبيع لتشمل دمج دولة الاحتلال على رأس شراكة استراتيجية أمنية مع دول المنطقة.
بالإضافة إلى هذا المسار، هناك سعيٌ لأنسنة العلاقات الخليجية الإسرائيلية من خلال المشاركة في الألعاب الرياضية عبر استغلال الفعاليات الدولية، وكذلك التنسيق المشترك مع منظمات خليجية غالبيتها في البحرين والإمارات لتشكل غطاء لجزء كبير من نشاطها في عملية التطبيع، والتي تندفع إليها الدولة العبرية لاعتبارين، هما؛ دور دول الخليج العربي في الاقتصاد العالمي، وكيفية استغلال الشركات الإسرائيلية لقدرات موارد دول الخليح المالية والنفطية، وثانياً محاولة اختراق البيئة السياسية والأمنية والاجتماعية لبلدان الخليج العربي أكثر من كونها تعزز أمن هذه البلدان أمام “التهديدات الإيرانية”، علماً أن كثير من هذه الشركات يديرها ضباط استخبارات وعسكريين متقاعدين وبعضها -وفقاً لخبراء- ربّما تعمل كواجهات لجهاز الموساد الصهيوني.
الشعوبية الخليجية وتهميش قياداتها:
كان العمل الدعوي رائداً في الخليج، وخصوصاً السعودية، حيث يقوم على رموز وأشخاص لهم باعهم في الدعوة والعلوم الشرعية من خلال مئات المؤسسات، التي كانت تتبنى فلسطين كأحد أهم مشاريعها التنظيرية، وكان ينعكس ذلك بصورة أو بأخرى على حضور فلسطين في الهوية الفكرية والتربوية لدى المواطن السعودي والخليجي، لكن منذ 5 سنوات بدأ تراجعٌ ملموسٌ يطرأ على مكانة هذا الخطاب في المجتمع، من خلال تقليص حضور هذه الهوية الفكرية واقصاء المعبّرين عنها سواء في الخطاب الرافض للتطبيع أو عبر مؤسسات العمل الخيري العاملة لأجل فلسطين ، بهدف توجيه الرأي العام باتجاه مسارٍ آخر دعا إلى أنسنة الخطاب الديني وتقييد الخطاب المعادي للوجود اليهودي والصهيوني في فلسطين ومنطقة .
كما تلت ذلك حملة ممنهجة استهدفت منع التبرع خارج المملكة، والتركيز على منصات حكومية، مما كان له أثاراً سلبية في تخوف المتبرعين من الإقبال على التبرع لمشاريع مرتبطة بالإسلاميين أو بالملف الفلسطيني.[11]
شركات التشغيل والتغلغل الصهيوني:
أحد الثغرات المهمة التي تتسلل “إسرائيل” من خلالها للدول الخليجية هو اعتماد دول الخليج عامةً، على شركات التشغيل الأجنبية لإدارة قطاعات الدولة، سواء في الشؤون المدنية والأمنية والاقتصادية، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإن شركة “فينيل آربيا” التي تدرب الحرس الوطني في السعودية هي إحدى شركات نورثروب جرومان الأمريكية، لذلك ستسمح اتفاقيات التطبيع لتمكينٍ قطاع الأعمال ذو الارتباطات الوثيقة بدولة الاحتلال من العمل في قطاعات حساسة مثل الأمن والاقتصاد والرأي العام، سواء عبر التعاون الاقتصادي أو من خلال مسار الأنسنة الذي تدعمه بقوة توجهات غير رسمية في السعودية تحت عناوين مثل الانفتاح على الغرب من خلال البرامج الثقافية ومهرجانات الموسيقى والرياضة وغيرها، علاوةً على ذلك استقبلت كلاً من السعودية والإمارات العشرات من رجال الأعمال بعضهم يحمل الجنسية “الاسرائيلية”؛ بغرض البحث عن منفذٍ للوجود فيها.[12]=
الضمانات الأمريكية والهشاشة الخليجية:
هناك محددات للمسار السياسي الخليجي مرتبطة بالضمانات الأمنية الأمريكية، والمطّلع على المقاربات السياسية التي تحاول هذه الدول استحداثها في المنطقة يتيقن أنها لن تستطيع الخروج عن المسار الأمريكي لعدة أسباب، منها؛ أن الوجود الأمني والعسكري الأمريكي يشكل حضوره نسبة 90% من ركائز الأمن القومي في منطقة الخليج،[13] كما أن التسلح والعتاد والقدرة على التدخل، هو حق حصري للإدارة الأمريكية، بالإضافة إلى التواجد في الشركات الحكومية مثل آرامكو وسابك وغيرها، والربط المالي بين تلك الدول والولايات المتحدة، علاوةً على عدم قدرة الصين أو روسيا أن تشكّل بديل شامل ومتكامل للحضور الأمريكي في المنطقة، ووجود ازدواجية في التعاطي مع ملفات مثل الملف الإيراني وملف الطاقة والتسليح، لذلك مستقبل أغلب بلدان الخليج يشبه إلى حد كبير وضع كلّاً من الأردن والعراق ، فهو مرتبط بوجود الإدارة الأمريكية ودعمها سواء على صعيد الدولة أو نظام الحكم.
ختاماً:
يمكن الرهان على المستوى الشعبي في إبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في المجتمعات الخليجية، لاسيّما في المجتمع السعودي الذي يغلب عليه الهوية الدينية والقبلية التي جعلته مصقولاً بشخصيته الإسلامية، لذلك دائماً ما نجد مبادرات فردية تظهرها صفحات التواصل الاجتماعي، تؤكد تمسك المجتمع بهويته الإسلامية، رغم محاولات تشويهها وتغيير وعي جيل بأكمله، وهو أمر ينطبق على الإمارات وقطر والكويت والبحرين، أمّا على المستوى السياسي فإن المؤثرات واحدة؛ فالمحرك الأساسي للقرارات السياسية المتعلقة ب”إسرائيل” هو البحث عن الرضا الأمريكي عن صانع القرار، بجانب عدم الاصطدام بالقيم والمعتقدات والخطاب الوطني العام، فمثلاً؛ تلجم البيئةُ الديمقراطية الحكومةَ في الكويت، والتي جعلت الرأي العام أكثر وعياً وأكثر قدرة على التأثير في السياسة الخارجية للبلاد، بالإضافة إلى نضج التجربة الكويتية السياسية بعكس جيرانها.
أما بالنسبة لعُمان؛ فيبقى سقفها محكوم بالموقف البريطاني بموجب اتفاقيات الحماية، لكنها تظل أكثر عزلة في مواقفها عن الخليج لخصوصية التركيبة العقدية والدينية وعلاقتها القوية بإيران والصدام التاريخي مع الإمارات، وكلها عوامل مؤثرة في تحديد سلوكها السياسي بالنسبة للقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى قوة الإرادة الشعبية الرافضة للعلاقة مع الدولة العبرية، لاسيّما موقف الشيخ أحمد الخليلي الذي يحظى بشعبية جارفة داخل السلطنة وخارجها.
المستقبل بالنسبة لأدوار دول الخليج على صعيدِ احتضان القضية الفلسطينية غير مبشّر على المدى المنظور ؛ فكل ما يجري على الأرض من وقائع تؤكد أن هناك تيار يحضر بقوة في مستويات متعددة، بما فيها المستويات الرسمية، يرى أن المصلحة تكمن في اسقاط الملفِ الفلسطيني من الحسابات السياسية لبلدان الخليج العربي مع الولايات المتحدة الامريكية، أو في التعاطى مع القضية الفلسطينية كورقة سياسية يمكن المساومة بها.
وما لم ينجح الفلسطينيون في تغيير معادلات الصراع مع دولة الاحتلال وإعادة بناء شرعياتهم وترميم مؤسساتهم، فإن المسار الحالي يقود إلى طريقٍ واحد هو تقويض المكانة المعنوية والتاريخية للقضية الفلسطينية خليجياً، ورفض التعامل مع العناوين السياسية للشعب الفلسطيني ممثلة بالسلطة الفلسطينية أو حركة حماس في هذه المرحلة على الأقل في ظل حالة الانقسام الفلسطيني، وكذلك انحسار مفاعيل الفعل النضالي الفلسطيني في مواجهة برامج الاحتلال، وفي ضوء الحقائق التي يفرضها الإحتلال على الأرض، مع امكانية استمرار بعض اشكال الدعم المادي الهادفة إلى تحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين.
بالنسبة للسعودية؛ فعلى الرغم من التحول الواضح في بعض التوجهات والمواقف الرسمية تجاه ملفات القضية الفلسطينية تظل مسألة تطبيع العلاقات بشكلٍ كامل مع دولة الاحتلال مسألة بعيدة الاحتمال على المدى القريب والمتوسط؛ فأغلب التصريحات الرسمية وأبرزها الصادرة عن وزارة الخارجية السعودية المتكررة التي تشير إلى أن التطبيع لا يمكن دون حلٍ عادل للقضية الفلسطينية، لكنّ ذلك لا يمنع من قيام السعودية بخطواتٍ عمليةٍ مدروسةٍ في إطار مناورة الضغوط الأمريكية لإثبات حسن نيتها بشأن ملف التطبيع المفروض أمريكياً، وهو ما بدأ يظهر جلياً من خلال القرار السعودي بفتح المجال الجوي أمام الخطوط الإسرائيلية المتجهة شرقاً رغم أن القرار لم يذكر “إسرائيل” صراحةً، وبناءً عليه؛ من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة تزايداً في المحادثات الأمنية والاستخباراتية بين الطرفين بوساطة ورعاية أمريكية، والتي بدأت تلوح في الأفق مؤخراً، خاصةً في ظل المستجدات التي يشهدها ملف “التهديد الإيراني” الذي يمثّل مساحة عمل محتملة لكلا الطرفين.
لذلك يتعين على القوى السياسية الفلسطينية المسارعة للاستفادة من الانتشار الفلسطيني في الشتات لاستنهاض خطاب الوطني موحد يؤكد عمق انتماءه العربي والإسلامي، وعدم الانجرار وراء الاستفزازات التي تزيد الشرخ مع المجتمعات الخليجية، والابتعاد عن الصور النمطية السلبية التي تؤطر أنظمة الخليج العربي ضمن المعسكر المضاد لحركات التحرر في العالم العربي، وإحياء أفكار عملية عن العمل الجماعي باتجاه التشبيك مع العناوين الرائدة والمقبولة في المجتمعات الخليجية، والعمل على تحسين شروط العمل من أجل فلسطين في هذه البيئات مع مراعاة التفاوت في معاييرها القانونية والسياسية، والصيانة المستمرة للعلاقات الفلسطينية والخليجية على المستويات الرسمية والشعبية خصوصاً، إذ أن مواقف هذه الشعوب ستمثل الضمانة لعدم الذهاب بعيداً في تمكين الدبلوماسية الصهيونية وأنشطتها الاستخباراتية من التغلغل في نسيج منظومة التعاون الخليجي، وبما يحصّن مواقف أنظمتها أمام الضغوط التي تتعرض لها أمريكياً في ضوء تنامي مخاوفها من توسع النفوذ الإيراني. والأهم استعادة أدوارها المفيدة للقضية الفلسطينية.
[1] تعزز “إسرائيل” هذه السياسة بتعاونٍ أمريكي متكامل، من خلال زرع بذور الفتنة وترسيخ عوامل الفرقة الطائفية في البلدان العربية المجاورة لها؛ وذلك لتعميق الخلافات الطائفية والعرقية، ما يؤدي إلى تشتيت المشاريع القومية والدينية التوحودية للدول العربية من جهة، ويضرب الاستقرار السياسي الإقليمي من جهةٍ أخرى، ما يصب في مصلحة المقاربة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة القائمة على تعزيز الشرق الأوسطي الذي يضم إسرائيل في منظومته. ينظر: الأهداف القومية الإسرائيلية واستراتيجيات تنفيذها، الجزيرة، 03.10.2004، https://2u.pw/wwlFN
[2] وفي إطار هذا التوجه الاستراتيجي القائم على تغيير ميزان القوى في المنطقة لصالح المنظومة الخليجية تسعى الإدارات الأمريكية المتعاقبة في الآونة الأخيرة إلى تقوية المنظومة العسكرية والأمنية لدول الخليج، وذلك من خلال تزويدها بأحدث التقنيات الدفاعية والهجومية –وإن ظلت دون المأمول- مقارنة بما تملكه الولايات المتحدة من تقنيات دفاعية اختصت بها جيشها دون غيره. ينظر: فوراين أفيرز، السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بالية وخطيرة، الجريدة، 12.02.2021، https://www.aljarida.com/articles/1615476567603622700/
[3] “التعاون الإسلامي”.. هكذا عطّل التنافس السعودي الإيران ثاني أكبر منظمة دولية، نون بوست، 10.02.2020، https://www.noonpost.com/content/35911
[4] من أهمهم؛ العميد السابق أساف أوريون، ومايكل هيرتسوغ، وغيرهم الكثير، وتكمن مهمة المعهد الرئيسي في صنع السياسات خدمة للمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. ينظر: معهد واشنطن يسيطر على ملفات سياسة ترامب بالشرق الأوسط، الجزيرة، 17.05.2019، https://2u.pw/xN67J
[5] حميد، سالم، دعم خليجي سخي لفلسطين يقابل بالنكران، العرب، 03.12.2018، https://2u.pw/xDOhs
[6] وافي، أمين وأبو هين، مرج الزهور، مكونات وأبعاد صورة حركة حماس في الصحف الخليجية، 5.08.2021، https://studies.aljazeera.net/ar/article/5088
[7] في إطار هذا التوجه المتماهي مع الأجندة الصهيونية الأمريكية ما زالت تجري السعودية عشرات المحاكمات ضد أعضاء من حركة حماس بتهمة “الانتماء إلى تنظيمٍ إرهابي في إشارة إلى حركة حماس، وجمع الأموال”، في إشارةٍ إلى دعم النضال الفلسطيني وقضيته. ينظر: وكالة الأناضول: السعودية.. بدء محاكمة فلسطينيين وأردنيين لانتمائهم لـ”حماس”، 08.03.2020، https://2u.pw/fsTES
[8] ياسين، بلال، مفاجأتا هندرسون عن ابن سلمان: رصاصة القاضي ورأيه بفلسطين، عربي 21، 27.05.2018، https://2u.pw/MPd71
[9] سياسة بوست: السعودية تتوقف عن دعم السلطة الفلسطينية ماليًّا: أسباب سياسية أم أزمة اقتصادية؟، 10.11.2016، https://www.sasapost.com/saudi-arabia-stop-supporting-the-palestinian-authority-financially/
[10] الجزيرة: البحرين تؤكد تعيين ضابط إسرائيلي بالمملكة في إطار ترتيبات متعلقة بتحالف دولي، 12.02.2022، https://2u.pw/06XAm
[11] الأخبار: النظام السعودي يمنع التّبرع للشعب الفلسطيني ومقاومته، 14.05.2021، https://al-akhbar.com/Arab_Island/305979
[12] الحرة: تقرير: السعودية استقبلت رجال أعمال إسرائيليين لبحث فرص الاستثمار، 30.05.2022، https://2u.pw/9RX0e
[13] ينظر: علي، سليم، التواجد العسكري الامريكي في الخليج العربي (الدوافع الرئيسة)، مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد، 2010، https://jcis.uobaghdad.edu.iq/index.php/politics/article/view/202