الحوار الفلسطينيمقالات رأيوجهات نظر

القرار الوطني المستقل والحياد الفلسطيني: بين الحاجة الملحة وصعوبات التطبيق

في إطار عمل مجموعة الحوار الفلسطيني على إطلاق مبادرات حوار حول قضايا فلسطينية ملحة، في سبيل خلق إجماعات وطنية ديمقراطية لا غنى عنها من أجل إعادة بناء الإطار الوطني الديمقراطي الجامع، تطلق المجموعة مبادرة الحوار حول مبدأين عريقين في الفكر السياسي الفلسطيني وهما “القرار الوطني المستقل” و”الحياد الفلسطيني”. فتقدم المجموعة ابتداء ورقة خلفية للحوار، وفي خطوة لاحقة ستعرض المجموعة عدد من الأوراق، بقلم مثقفين وسياسيين، تناقش ورقتها. وستعد المجموعة حلقات حوار حول المبدأين، ستعلن عنها في وقتها. مع العلم أن باب النشر مفتوح، لكل وجهات النظر التي تتوافق مع سياسة النشر في المجموعة.

الورقة الخلفية

نشأت سياسة الحياد الفلسطيني عملياً مع نشوء منظمة التحرير في ندوة جامعة الدول العربية، وبقرار من قمتها عام 1964، فقد كان الراحل أحمد الشقيري، مؤسس المنظمة ورئيسها الأول، ينتمي لعالم الدبلوماسية العربية، عارفاً بحال دولها، محاوراً لحكامها. ولقد كان الشقيري ورفاقه المؤسسون للمنظمة يفكرون بأن تكون بالتدريج دولة للفلسطينيين، وليس فقط ممثلاً لهم، ولهذا مرروا في المؤتمر الفلسطيني الأول قرار إنشاء جيش التحرير الفلسطيني. ولكنهم منذ البداية واجهوا تناقضات كثيرة د

ومن ذلك أثر منع منظمة التحرير من حكم الضفة الغربية وقطاع غزة، بالرغم من أنهما بقيتا حتى عام 1967 تحت حكم عربي؛ حيث كانت الضفة الغربية تحت حكم الأردن وقطاع غزة تحت حكم مصر، ومن ذلك التناقض بين مساعي قيادة المنظمة إنشاء جيش التحرير الفلسطيني وتسليحه على أمل حمايته الضفة والقطاع وتحريره المحتل من فلسطين، وبين قيام كل من الدولتين بالسيطرة على قيادة كتائب جيش التحرير الفلسطيني الذي أسسته المنظمة تحت سيطرتها، ومماطلتهما في تسليحه وتمكينه من وظيفته المخطط لها. وإذا أضفنا سيطرة الحكومة السورية على كتائب جيش التحرير الفلسطيني فيه، ومنازعتها، أسوة بالحكومة في الأردن، منظمة التحرير على قيادة القضية الفلسطينية، علمنا جانباً مهماً من معضلة الاستقلال والحياد الفلسطيني منذ تأسيس المنظمة حتى ساعتنا.

والقصد فيما سبق أن الاستقلال والحياد الفلسطيني اصطدم منذ البداية بمساعي سيطرة دول عربية محيطة بفلسطين على قضيتها، وفي حالات على أرض منها، ما معناه أن منظمة التحرير التي كانت في بداياتها شديدة التمسك باستقلال قرارها وبالحياد وجدت نفسها في صراع مع أطراف عربية على استقلالها، وعلى قيادتها لقضيتها ومؤسساتها، بل أنها خاضت صراعاً مع الأردن على تمثيل الفلسطينيين وقضيتهم. ما أدخلها بتناقضات، كانت كلما حاولت حل ما تعتقده رئيسي منها دخلت في تناقضات جديدة.

ولنا أن نلاحظ أن الصراع من بدايته كان صراعاً بملامح دولتية، والقصد هنا أن المنظمة تصرفت كمشروع دولة وتحرير بما جعلها في أحيان كثيرة في تناقض مع كل الأطراف بما فيهم أشد داعميها الذين أرادوا أن تكون -المنظمة- مشروع تسوية. ونلاحظ أن الضغوط عليها كانت هائلة لدرجة أن قيادتها لم تجرؤ على طرح بناء دولة للفلسطينيين على الجزء غير المحتل من قبل إسرائيل من أرضها، بل أنها قدمت عهوداً على أن لا تطالب بذلك أملاً أن يؤدي ذلك للسماح لها من قبل الأردن ومصر للانطلاق من هناك للنضال من أجل استعادة ما تم احتلاله.  وهو ما فشل فشلاً زريعاً، فلا يمكن لدولة أن تسمح بوجود مسلح خارج سيطرتها على أراض تسيطر عليها، وهي إن فعلت في مرحلة ضعف، أو لمناورات سياسية، فستقاتل لاجتثاث هذا الوجود المسلح ما أن تمتلك عناصر قوة تؤهلها لفعل ذلك، وهذا ما حصل في الأردن بشكل صريح، وما حصل في لبنان وإنْ انقسم اللبنانيين حوله على عادتهم على الانقسام الطائفي حول كل شيء.

وبالرغم من أن قيادة حركة فتح لمنظمة التحرير ثبتت سياسة الحياد، وأكد على سياسة القرار الوطني المستقل، ضمن عناوين السياسة الفلسطينية، إلّا أن كلاهما كانا كالسير على الزجاج في منطقة كثيرة التعرجات، والتي كان معظمها يرتكز جزئياً على الموقف من القضية الفلسطينية لأسباب مبدئية أو استخدامية. وهو ما أدى إلى أن يتدرج تطور وعي القيادة الفلسطينية عبر طريق الآلام الفلسطينية (من الأردن وصولاً إلى لبنان)، إلى أن فهمت كيف يجري في المنطقة تحويل فلسطين لوقود في الصراعات التي تتدرج من الصراع على الحكم مروراً بصراع الطوائف وصولاً لشجارات الحارات.

 وعرف هذا الوعي المتدرج انتكاسات، والكثير من الطرق الالتفافية بما يتناسب مع ظروف الشعب الفلسطيني وشخصية الراحل ياسر عرفات رحمه الله، ولعل أفضل ما فيها في خصوص موضوعنا هو انضمام المنظمة إلى حركة دول عدم الانحياز، في عام 1970 كعضو مراقب، وكعضو كامل منذ 1975، التي تأسست (حسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية والمغتربين في دولة فلسطين، تحت عنوان “فلسطين وحركة عدم الانحياز”) على أساس “تحقيق الاستقلال الوطني والسيادة ووحدة الأراضي وأمن الدول غير المنحازة في كفاحها ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد والفصل والتمييز العنصري وكل أشكال التدخل الأجنبي، والاستعمار، والسيطرة، والهيمنة من جانب القوى الكبرى أو الكتل، وتعزيز التضامن بين شعوب العالم الثالث”.

 ومما عنت به الحركة تجنيب الدول الأعضاء هيمنة طرفي الحرب الباردة آنذاك بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، ومنعهما من تحويل أراضي أي من الدول الأعضاء لميدان صراع بالوكالة. ولنا أن نلاحظ أنه بانتهاء الحرب الباردة تضاعفت أهمية حماية الدول والشعوب من الوقوع ضحايا استغلال الدول الكبرى عالمياً واقليماً في صراعاتها، ومن تحويلها وأوطانها مجال للصراع بالوكالة، ما أدى إلى تدمير دول، وتهجير الملايين، وقتل واعتقال مئات الآلاف.

 وكانت قيادة منظمة التحرير تسير في خضم الصراعات كالبهلوان على حبل رفيع متجنبة الوقوع نتيجة اندفاعات راديكالية لقوى وتيارات راديكالية فلسطينية كانت دائماً -ومازالت- تجيد صناعة حلم بأن يتوافق تحرير فلسطين مع طرف من أطراف الصراع في المنطقة وعليها؛ فتقاتل معه، وتمجده من جهة، وتشيطن أعداءه من جهة أخرى نتيجة مساعي دول للسيطرة على القرار الفلسطيني إن بوسائل سياسية أو عسكرية، وهو ما يفسر تحول حلم الدولة الفلسطينية على أي بقعة من أرض فلسطين إلى حلم الخلاص من حالة الهروب والضغوط وعلى أمل الحصول على قدر من الاستقرار والاستقلالية للنأي بالنفس عن صراعات المنطقة.

لكن الحلم لم يتحقق، فالسماحية التي أعطيت لمنظمة التحرير لإقامة سلطة حكم ذاتي محدود (وهذا اسمها الرسمي في اتفاقية أوسلو) على أرض محدودة، وممزقة بالطرق الالتفافية، لم تتح السير على طريق الدولة الفلسطينية، إنما أدت إلى استبدال منظمة التحرير الفلسطينية بالسلطة الذاتية المحدودة المكبلة باتفاقيات والعلاقات -بما فيها الأمنية- مع الاحتلال، وإلى تشظي الشعب الفلسطيني، كما أتاحت ازدياد الاستيطان أضعافاً مضاعفة في الضفة الغربية. وبمسار موازٍ أدت محاولة حركة حماس في قطاع غزة لقطع طريق الانهيار، والارتهان للاحتلال، والتنسيق الأمني، إلى إنشاء نواة دولة فلسطينية مستقلة ولكن محاصرة حصاراً طويلاً متوحشاً، ودون إمكانيات الدولة، ما رفع من قدرة الاحتلال على الضغط على السكان، وأدى إلى حاجة السلطة في القطاع إلى داعمين إقليميين منخرطين في صراعات المنطقة، وهو ما أدى إلى تكرس انقسام سياسي فلسطيني لا يبدو للآن أن هناك مخرجاً منه. ولنا أن ننظر كيف تُفشل قوى فلسطينية راديكالية ذات علاقات مبالغ فيها مع أطرافٍ إقليمية، في إنشاء جبهة وطنية موحدة.

والنتيجة أن الفلسطينيين يخبطون اليوم معظمهم خبط عشواء، وإن كان لازال هناك ما يشير إلى نضج لدى قطاعات من الشعب الفلسطيني، ولدى قطاع من القيادة الفلسطينية في مواقع قرار مختلفة. ومن ذلك اتخاذ قيادة حركة حماس قراراً بعدم الاستجابة مع العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة الذي أراد فرض معركة في وقت مناسب لـ”إسرائيل”، ومناسب لأطراف إقليمية تناصبها العداء ولكنها تفضل في هذه المرحلة إشغال “إسرائيل” عنها بحرب في قطاع غزة. وقبل ذلك لنا مثال يحتذى في استقرار الرأي الشعبي الفلسطيني في سوريا على الحياد بعد انتقال الصراع لطور الحرب، وإن كان هناك أغلبية شعبية متعاطفة مع الشعب السوري وتعتقد بخصوصية علاقتها به، على الرغم من كل الضغوط التي تعرض لها لتوريطه.

والمثال الثاني يوضح نضجَ وعيٍ شعبيٍ فلسطينيٍ بمركزية استقلال القرار الوطني الفلسطيني، والحياد عن الصراعات العسكرية والتدميرية، وتلك التي تجري بين الدول للهيمنة والغلبة وليس على قضايا عادلة. وهو ما يشكل قاعدة ارتكاز لنخبة وطنية ديمقراطية فلسطينية مطالبة باللقاء، والحوار، وقيادة المواجهة الوطنية الفلسطينية لسياسة الاستخدام والاستتباع التي تنتهجها أطراف الصراع على المنطقة، وتذهب ضحيتها الدول والشعوب الضعيفة في المنطق، وتصويب مسار النضال الوطني الفلسطيني على مرتكز المصلحة الوطنية وعلى أساس سياسة تحالفية تقوم على أساس التحالف الندّي على موضوعات متفق عليها، وتفهم كل طرف لمصالح الطرف الآخر، وعدم التدخل فيما يمس استقلاله وقراره الوطني المستقل وأمنه وحقوق مواطنيه.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق