تداعيات الاستهداف الاسرائيلي لمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني
استغلالاً لحالة التوتر السائدة في عموم الأراضي الفلسطينية، يستخدم الاحتلال الصهيوني كافة أدواته غير المشروعة لضرب صمود الشعب الفلسطيني، ولا يجد أي غضاضة في تجاوز كل القوانين المحلية والعالمية حينما يجعل من المجتمع المدني الفلسطيني هدفاً لآلته العسكرية، حيث تتجلى همجية الاحتلال في قرار وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس الصادر في 22 أكتوبر الماضي الذي يستهدف 7 مؤسسات حقوقية فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة معتبرها منظمات إرهابية، وقد تبع ذلك تصريحاً لوزارة الدفاع الإسرائيلية اعتبرت هذه المنظمات جزءاً من شبكة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
في هذا السياق جاءت اتهامات حكومة يائير لبيد المؤقتة، والتي احتوت على ثلاث اتهامات رئيسية، أولها تلقي المؤسسات الفلسطينية مبالغ مالية ضخمة من دول أوروبية ومؤسسات دولية باستخدام وسائل احتيالية، أما الاتهام الثاني يتمحور حول الدعم الذي تستخدمه المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، أو توظفه في أعمال إرهابية وغسيل الأموال وفقاً للزعم للصهيوني، بينما يشير الاتهام الأخير إلى تحكم قيادة الجبهة الشعبية بهذه المؤسسات الحقوقية وتوظيف نشطاء للقيام بنشاطات إرهابية من خلال هذه المؤسسات.
استهدفت اتهامات الاحتلال مؤسسات (الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان – مؤسسة الحق “القانون من أجل حقوق الإنسان” – مركز بيسان للبحوث والإنماء – اتحاد لجان المرأة – اتحاد لجان العمل الزراعي – مؤسسة لجان العمل الصحي)، وبناءً على تلك الاتهامات اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي في 18 أغسطس 2022 مقرات المنظمات المُشار اليها أعلاه الواقعة في مدينتي رام الله والبيرة، وأغلقت مكاتبها، وهو ما أثار موجة احتجاجات محلية فلسطينية وكذلك إسرائيلية؛ فقد عبرت نحو 45 منظمة حقوقية إسرائيلية عن رفضها لقرار الحكومة الإسرائيلية بحق مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني.
في سياق متصل فشلت إسرائيل في إقناع الرأي العالمي بشأن اتهاماتها الموجهة لهذه المؤسسات، لأن تلك الخطوة لاقت احتجاجات أممية وأوروبية، حيث أعرب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية عن قلقه إزاء ذلك، وطالب الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن تلك الخطوة، وكذلك الأطراف الأوروبية التي أكدت من جانبها مواصلة الدعم لهذه المنظمات بغض النظر عن الاتهامات الإسرائيلية.
إغلاق عسكري دون غطاء قانوني
اعتادت الحكومات الصهيونية المتعاقبة قبل اتخاذ وتنفيذ هكذا قرارات الاعتماد على القضاء عبر إصدار أمراً أو قراراً قضائياً شكلياً، وهو ما تم تجاهله من حكومة لبيد، حيث تؤكد سوزان باور، وهي محاضرة تعمل لدى مؤسسة الحق الحقوقية الفلسطينية المستقلة مركزها رام الله، إن قرار إغلاق تلك المؤسسات كان عسكرياً، ولم يستند لأي قرار قضائي. كما أن هذا القرار العسكري يمنع تلك المؤسسات من ممارسة نشاطاتها من خلال مكاتبها وصفحاتها عبر الانترنت.
وتضيف سوزان، أن رئيس مؤسسة الحق شعوان جبارين تعرض للملاحقة الأمنية الإسرائيلية، وطُلب منه أن يتم تحويل مؤسسته لقاعدة عسكرية إسرائيلية لاستجواب الآخرين من قبل جهاز الشاباك الإسرائيلي، كما طُلب من مدير مؤسسة عن الأطفال-فلسطين التوجه لإحدى المقرات التابعة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ووجهت له تهديدات لأنه يعمل ضمن مؤسسة غير قانونية، وهددته والفريق العامل معه بالاعتقال في حال استئناف عمل المؤسسة.
وفي إطار متصل، يعتقد محامي القانون الدولي جوناثان كتاب أن خطوة الاحتلال الإسرائيلي غير قانونية، وحتى حينما تذهب إلى القضاء بعد تعرض أي مؤسسة مدنية فلسطينية للإغلاق أو الاقتحام فإن تلك الخطوات تكون شكلية، ولا يستطيع حتى المحاميين الاطلاع على حيثيات وإجراءات الدعاوي القانونيةـ كما وتُعطي الحكومة الإسرائيلية صلاحيات واسعة للقيادات العسكرية في المناطق الفلسطينية المختلفة، وهو ما يُمكنهم من اقتحام وإغلاق أي مؤسسة فلسطينية.
لهذا فإن تجاهل الطرق القانونية الشكلية في حالة المؤسسات الحقوقية الفلسطينية يعود إلى محاولة إسرائيل استغلال حالة الطوارئ في الضفة الغربية، خاصةً وأن العديد من مدن الضفة تشهد تصعيداً أمنياً ومواجهات مختلفة منذ نهاية شهر مارس 2022. وهنا تسعى إسرائيل إلى شيطنة الأصوات المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني مستغلة حالة عدم الاستقرار الأمني في الضفة الغربية.
علاقة المؤسسات الحقوقية بالفصائل الفلسطينية
يصعب الفصل بشكل عام بين المؤسسات الفلسطينية العامة والخاصة وأبناء الفصائل على اختلاف انتماءاتهم السياسية، وذلك لأن الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني مؤطر تنظيمياً بحكم الواقع السياسي المُعاش، فكل الفصائل الفلسطينية لها من يمثلها داخل وكالة الغوث “UNRWA” والمؤسسات الدولية والمحلية، ولا يمكن اعتبار الجبهة الشعبية حالة استثنائية كما تزعُم إسرائيل.
يُعرف عن اليسار الفلسطيني اهتمامه الواسع بمنظمات المجتمع المدني، ودائماً ما يتخذ من عضويته الواسعة في هذه المؤسسات ساحة لمزاحمة حركة فتح، خاصةً وأن الأخيرة تسيطر على السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ويمكن القول إن وجود اليسار الفلسطيني داخل تلك المؤسسات قد أعطاها مهنية أفضل وقدرة على الكشف عن فساد مؤسسات السلطة الفلسطينية، لذلك دائماً ما يسود التوتر بين مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات السلطة الفلسطينية الرسمية، وأحياناً ما يتم قراءة هذا التوتر في إطار توتر العلاقات السياسية بين حركة فتح وقوى اليسار الفلسطيني، لاسيما الجبهة الشعبية.
على الجانب الآخر، نستطيع القول إن جزء من دعم واهتمام اليسار الغربي بهذه المؤسسات يعود لقربها من اليسار الفلسطيني، وهذا ما أكده لنا في لقاء سابق أحد قيادات حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية BDS، حينما ربط بين دعم المجتمع المدني الفلسطيني واليسار، وعند سؤاله بشأن هذا الدعم الموجه لليسار الفلسطيني الذي لا يتجاوز تمثيله في السلطة التشريعية الفلسطينية 3% حسب انتخابات 2006، أجاب أن البعد السياسي الأيديولوجي يبقى حاضراً في هذا الدعم بغض النظر عن حجم التمثيل السياسي.
في سياق آخر، يأتي اتهام إسرائيل للجبهة الشعبية بالتوغل في مؤسسات المجتمع المدني في إطار حالة الانفصال التنظيمي بين الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير، فالجبهة الشعبية باتت خارج منظمة التحرير، وتتبنى خلال السنوات الأخيرة برنامج المقاومة بكل قوة ووضوح، وبات لديها جناح عسكري يعمل في غزة وينسق مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهذا ما يحاول الاحتلال استغلاله لشيطنة مؤسسات المجتمع المدني.
لكن عملياً ليس سهلاً معرفة أغلب الشخصيات المحسوبة على الجبهة الشعبية التي لها ارتباطات بمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، لأن فصائل اليسار عموماً قريبة من هذه المؤسسات، واتهام هذه المؤسسات إسرائيلياً بعلاقتها بالجبهة الشعبية يعني تجاهل الوجود الكبير لفصائل اليسار الأخرى التي لا تتبنى برنامج المقاومة والتي تحتفظ بعضويتها في منظمة التحرير.
كما لا ينكر القائمين على مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني علاقتها بالجبهة الشعبية، حيث تؤكد لارا فريدمان رئيس مؤسسة السلام في الشرق الأوسط، إن ثمة علاقة ضعيفة بين مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكنها تنفي وجود أي علاقة لهذه المؤسسات بالإرهاب كما تزعم إسرائيل.
أسباب إسرائيلية غير مُعلنة
أفرزت الضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على السلطة الفلسطينية عدم قدرة على توظيف الأدوات الدبلوماسية، وهو ما جعل من الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية عبئاً على الشعب الفلسطيني، لعجزها المطلق بما في ذلك اللجوء إلى المحاكم الدولية والمؤسسات المعنية بحقوق الانسان.
وتلك الفجوة الواسعة المتمثلة في غياب الحضور الرسمي الفلسطيني عن أروقة المحاكم الدولية باتت جزءاً من اهتمامات المؤسسات الفلسطينية غير الرسمية، حيث تقول سوزان باور أن مؤسستها نظمت عدة حملات ضد قانون حقوق الانسان الإسرائيلي المُعدل عام 2019، وهذا القانون لا يراعي حقوق الفلسطينيين ولا أي قومية من غير اليهود تعيش داخل المدن الإسرائيلية أو في الأراضي الفلسطينية عموماً، وهو ما أكد عليه تقرير مشترك بين مؤسسة الحق والأمم المتحدة، حيث استنتج التقرير أن إسرائيل تمارس التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني.
لقد أسفرت حملة منظمة الحق وغيرها من الحملات المشابهة التي نُظمت خلال الأشهر الماضية من قبل مؤسسات حقوق الانسان الفلسطينية عن فتح المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية تحقيقاً في جرائم إسرائيل في الأراضي المحتلة، حيث تم توجيه اتهامات ضد مسؤولين إسرائيليين سياسيين وعسكريين كبار، لهذا تحاول إسرائيل إسكات هذه المؤسسات عبر إغلاقها بحجة علاقاتها بالإرهاب.
المآلات المحتملة
لا شك في أن غياب مؤسسات حقوقية عن الحياة السياسية والاجتماعية الفلسطينية سيعزز من مستويات الفساد المالي والإداري في المؤسسات الفلسطينية الرسمية على حساب حقوق المواطن الفلسطيني، وفي نفس الوقت هناك انعكاسات قانونية وإنسانية خطيرة لهذا الغياب على المجتمع الفلسطيني الذي يواجه ممارسات الاحتلال.
إن عدم تجريم الأطراف الدولية المختلفة للخطوة الإسرائيلية، والاكتفاء بالتعبير عن القلق من الطبيعي أن يشكل دافعاً لإسرائيل نحو إغلاق المزيد من هذه المؤسسات، خاصةً وأن حالة عدم الاستقرار ماتزال قائمة في الأراضي الفلسطينية، ما يعني أن تلك المؤسسات لديها عمل مُضاعف على المستويات الإنسانية والحقوقية.
وعند مقارنة المواقف الأوروبية بالموقف الأمريكي من الإجراءات الإسرائيلية بحق المنظمات الحقوقية الفلسطينية، سنلاحظ أن الموقف الأوروبي أفضل نسبياً من الأمريكي، فهذا الأخير لم يعترض على الخطوة الإسرائيلية، على عكس الأوروبي الذي وعد بمواصلة دعم هذه المؤسسات مادياً، لكنه لم يُجرم الإجراءات الإسرائيلية بشكل صريح، وهو ما يثير قلق تلك المؤسسات التي تعتمد على التمويل الأوروبي بشكل أساسي. وهنا لا تستبعد تلك المؤسسات تأثر المواقف الأوروبية سلباً تجاهها، لأن إسرائيل باتت تعتبر التمويل الأوروبي دعماً للإرهاب.
ختاماً
لا يُعتبر الاقتحام والاغلاق الإسرائيلي لـ 7 مؤسسات حقوقية فلسطينية حدثاً جديداً، فهنالك العديد من الاحداث والمواقف السابقة، وتلك الاقتحامات والاغلاقات مرتبطة بتطور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث يتزامن هذا السلوك الإسرائيلي مع حالة عدم الاستقرار السائدة في الأراضي الفلسطينية خاصةً وأن المؤسسات الحقوقية الفلسطينية قد لعبت دوراً مهماً في كشف الممارسات الإسرائيلية، وتواصل رصد تلك الممارسات وتقدم تقارير دورية للجهات الدولية المختلفة.
لهذا من الطبيعي أن يأتي الربط الإسرائيلي بين الجبهة الشعبية والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية، وذلك لتبرير موقفها أمام الأطراف الداخلية والدولية، غير أن هذا الاتهام بحاجة إلى تحقيق واسع ومُفصل يستغرق وقتاً طويلاً، الأمر الذي يمنح إسرائيل المزيد من الوقت لإسكات أي أصوات حقوقية تعيق سلوكها القمعي بحق الشعب الفلسطيني.
وتبقى الإشارة إلى غياب أي تحرك دبلوماسي فلسطيني حقيقي رداً على تلك الخطوة الإسرائيلية، وهو ما أشارت إليه الهيئة الدولية “حشد([1])” في تقريرها الصادر بتاريخ 18 أغسطس 2022، ومردّ ذلك أن مؤسسات السلطة الفلسطينية مستفيدة نسبياً من إعاقة عمل هذه المؤسسات، خاصةً وأن الأشهر الأخيرة كانت قد شهدت احتجاجات وتوتر نقابي في الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن أن حركة فتح لا تسيطر على منظمات المجتمع المدني الفلسطيني. كما وشهد العام الماضي 2021 صراعاً قانونياً بين منظمات المجتمع المدني والسلطة الفلسطينية بعد تعديل الأخيرة على القانون الذي ينظم عمل تلك المؤسسات ويحد من حركتها وتمويلها.
[1] الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد): جمعية دعم حقوق الشعب الفلسطيني المشهورة باسم الهيئة الدولية لدعم الشعب الفلسطيني، هي مؤسسة أهلية حقوقية غير ربحية، تأسست في عام 2015، تعمل الهيئة الدولية على حماية حقوق الانسان وحقوق الشعب الفلسطيني وتسعى إلى رفع مستوى الوعي والثقافة بالحقوق الوطنية وحقوق الانسان بين الفلسطينيين، وتجنيد الدعم والتضامن الدولي مع حقوق الشعب الفلسطيني، مستخدمة استراتيجيات وتكتيكات وأدوات الرصد والتوثيق والحماية الوطنية والدولية لحقوق الإنسان.