قضايا خاصة

مقتل نزار بنات، قراءة في الجريمة والتداعيات

أعلنت السلطة الفلسطينية عبر بيان لمحافظ الخليل، فجر يوم الخميس 24 يونيو عن وفاة المعارض السياسي، والمرشح السابق للانتخابات التشريعية نزار بنات، بعيد ساعات من عملية اعتقاله، لتنفجر بعدها موجة الإدانات الدولية، عدا عن غضب شعبي وفصائلي عبرت عنه بيانات الفصائل الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك منصات التواصل الاجتماعي، وأخيراً الاحتجاجات الميدانية في عدد من مناطق الضفة الغربية.

مثّلت الاحتجاجات الشعبية في بعض مناطق الضفة الغربية على وفاة نزار بنات، حالة غير مسبوقة في مناطق الضفة الغربية الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، فيما بدا من حالة النقد للسلطة الفلسطينية أن الغضب الشعبي منها لم يكن وليد لحظة الإعلان عن وفاة بنات.

خلال السنوات الماضية حظي نزار بنات بحضور قوي ومؤثر على منصات التواصل الاجتماعي، بسبب مقاطع الفيديو التي كان ينشرها عبر حساباته ويتحدث فيها عن مجمل الأوضاع والمستجدات على الساحة الفلسطينية، فيما كان للسلطة الفلسطينية نصيب وافر من الانتقادات في تعليقاته على الشأن العام، بسبب سياساتها الداخلية خاصة واستمرار الفساد وكذلك شكل علاقتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ومواصلة التنسيق الأمني.

احتجاجات برسم السخط الشعبي على السلطة

وبعيداً عن موقف القوى والفصائل في الأراضي الفلسطينية من الحادثة؛ فإن جملة من التراكمات سبقت الغضب الشعبي الذي تفجر عقب وفاة بنات، وتوج بالتظاهرات الغاضبة التي نادت برحيل الرئيس محمود عباس، وإسقاط السلطة الفلسطينية، وهي مطالب تتجاوز في سقفها بكل تأكيد الغضب الآني لحادثة ليست الأولى تاريخ السلطة الفلسطينية لوفاة معتقل سياسي في سجونها، إذ شهدت السنة الأخيرة جملة من التحديات التي فشلت قيادة السلطة الفلسطينية في التعامل معها؛ وأبرزها:

١. تأجيل الانتخابات الفلسطينية.
 أعلن رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس، في نهاية إبريل الماضي، عن تأجيل الانتخابات العامة في الأراضي الفلسطينية إلى أجل غير مسمى بذريعة رفض الاحتلال الإسرائيلي إجراءها في القدس، ليقضي الإعلان على آمال عريضة للفلسطينيين بالتغيير وإنهاء الانقسام المستمر منذ 14 عام. 

رغم ما بدا أن الطريق للانتخابات الفلسطينية كان أكثر جدية من أي و قت مضى، خاصة مع فتح باب الترشح للانتخابات وإعلان القوائم الانتخابية، فقد شكك قطاع واسع من المراقبين في حينه بإمكانية إجراءها فعلياً، خاصة مع استفحال الخلافات داخل حركة فتح، واستطلاعات الرأي التي تشير إلى هزيمة كبيرة للقائمة الرسمية للحركة، عدا عن تدني حظوظ الرئيس أبو مازن في الفوز أمام منافسه المحتمل مروان البرغوثي.

يمكن القول أن الإعلان عن تأجيل الانتخابات قاد إلى غضب مركب في الشارع الفلسطيني، إذ أن حالة السخط في الشارع لم تكن بسبب إرجاءها فحسب، بل لتحجج السلطة بعدم موافقة الاحتلال الإسرائيلي على إجراء الانتخابات في مدينة القدس، ورفض السلطة في المقابل كافة الدعوات الفصائلية والشعبية لتحويل الانتخابات في المدينة إلى معركة سياسية ودبلوماسية مع الإسرائيليين، وهو ما عزز شكوك الشارع في أن إرجاء الانتخابات جاء لحسابات ضيقة تخص السيد محمود عباس وتياره داخل حركة فتح.

وجاءت وفاة بنات، لتعيد بصورة أو بأخرى إلى الأذهان فرصة الانتخابات الضائعة، حيث كان نائب رئيس أحد القوائم الانتخابية (قائمة الحرية والكرامة)، ليقضي بعد أقل من شهرين على تأجيلها.

٢. معركة القدس وغزة.

تزامن إلغاء الانتخابات العامة بذريعة القدس، مع تصاعد الأحداث في القدس بدأت مع التهديدات بإخلاء عدد من المنازل في حي الشيخ جراح لصالح الجمعيات الاستيطانية، وصولاً إلى هبة باب العمود، فيما سجّل على السلطة الفلسطينية موقف باهت لم يرتق لأهمية الحدث في المدينة، فضلاً عن عدم الاستثمار السياسي لانتفاضة المقدسيين  لإلزام الاحتلال بالتوقف عن اعتداءاته أو حتى ضمان إجراء الانتخابات داخل المدينة، فيما برزت المقاومة وحماس بشكل واضح بعد هتافات المقدسيين لها، وأخيراً دخول غزة على خط المواجهة.

ومع تصاعد المواجهة في قطاع غزة؛ غاب أي موقف قوي للسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، مقابل حضور واضح وقوي لحركة حماس وظهورها كحامي للمقدسات والمسجد الأقصى، فيما تعرضت السلطة لانتقادات كبيرة لازدواجيتها في التعامل مع ملف العدوان على غزة، ففي حين تمسكت بمرور عملية إعادة إعمار غزة عن طريقها فإنه لم يزر أي مسؤول بارز فيها قطاع غزة خلال أيام العدوان والأيام التي تلته.

أثرت معركة سيف القدس وما سبقها من أحداث في حي الشيخ جراح على شعبية السلطة الفلسطينية ومن خلفها حركة فتح بصورة بالغة، عبرت عنه استطلاعات الرأي التي أظهرت ارتفاع كبير في شعبية حماس واستحقاقها تمثيل الشعب الفلسطيني عن فتح، إضافة إلى مطالبة غالبية الشارع بإجراء انتخابات عامة في الأراضي الفلسطينية.

٣. فضيحة صفقة لقاحات كورونا.

كانت فضيحة صفقة تبادل اللقاحات آخر قضايا الرأي العام التي سبقت الإعلان عن وفاة نزار بنات، والتي تعرضت فيها السلطة الفلسطينية لانتقادات شديدة شعبياً بعد الكشف عن الصفقة تتضمن تحويل “إسرائيل” بموجبها حوالي مليون جرعة “ستنتهي صلاحيتها قريبا” إلى السلطة، على أن تتلقى في المقابل “إسرائيل” الشحنة القادمة من جرعات اللقاح التي خصصتها شركة فايزر للسلطة الفلسطينية.

مع دعوات تشكيل لجان تحقيق في تفاصيل الصفقة والمسؤولين عن إبرامها، كان نزار بنات يسجل آخر مقاطع الفيديو في حياته، حيث هاجم فيها السلطة الفلسطينية وخاصة رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية والنائب العام في الضفة الغربية أكرم الخطيب، على خلفية صفقة اللقاحات.

كيف تعاملت السلطة وحركة فتح مع الحدث.

بدا أن تعامل السلطة الفلسطينية مع الحدث قد شابه الكثير من الاشكالات ؛ بدأت بإعلان رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية عن تشكيل لجنة تحقيق في ظروف وفاة نزار بنات، غير أن الإعلان لم يرق إلى مستوى الحدث، حيث بدأ نشطاء في الخروج إلى الشارع احتجاجاً وغضباً على وفاة بنات، فيما تعرضت لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة لانتقادات حادة خاصة بعد انسحاب الأطراف الممثلة لعائلة بنات وكذلك الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ورفض السلطة الفلسطينية الاستجابة لمطالب تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في الحادثة.

ومع بدء خروج الاحتجاجات الشعبية إلى الشارع، وتصاعد الدعوات للتظاهر خاصة في مدينة رام الله، بدأت قوات الأمن الفلسطيني التعامل بشكل عنيف مع المحتجين، حيث سجلت عشرات الاعتداءات على المتظاهرين والصحافيين خلال تغطيتهم للحدث، وهو ما زاد من حدة الانتقادات الداخلية والدولية الموجهة للسلطة الفلسطينية، فيما بلغت ذروة الغضب من الأجهزة الأمنية عندما تم نشر صور خاصة على الانترنت لمحتجات تمت مصادرة هواتفهن من قبل العناصر الأمنية المشاركة قمع التظاهرات.

اتسم سلوك حركة فتح في “مواجهة” الأزمة بالارتباك، ففي حين لم تصدر تصريحات رسمية عن الحركة في بداية الأزمة، فقد قلّل عدد كبير من نشطاء الحركة على منصات التواصل الاجتماعي من خطورة الحدث، عبر التأكيد على وصفه بالحدث الفردي وغير المقصود، مع استحضار مقارنات مع حوادث أخرى مشابهة وقعت في قطاع غزة.

مع تصاعد موجة الاحتجاجات بدأ سلوك فتح يتخذ نهجاً أكثر عدوانية تجاه الحراك، عبر ربطه بحركة حماس، والتشكيك في أهدافه باعتباره مؤامرة تستهدف إسقاط السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وهو ما أنتج لاحقاً تدخل فتح بصورة أكثر وضوحاً لمحاربة الحراك عبر خروج المسيرات المؤيدة للرئيس محمود عباس من جهة، ثم إغلاق مسلحين من الحركة مداخل رام الله لمنع المشاركة في مظاهرة منددة بالسلطة الفلسطينية دعت لها بعض القوى المدنية يوم السبت 3 يوليو، من جهة أخرى.

سيناريوهات الأزمة.

أولًا انتهاء الحراك.

سجّلت الأيام الثلاثة الأولى التي أعقبت وفاة نزار بنات، ذروة الغضب من السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس، عززه استخدام الأجهزة الأمنية القوة المفرطة لفض التظاهرات المنددة بوفاة بنات، غير أن الأيام التي تلت الحادثة قد شهدت تغييراً في تكتيكات قوى الأمن في التعامل مع المتظاهرين، حيث سمحت بخروج المسيرات الاحتجاجية التي بدأت تفقد قوتها لاحقاً، وهو السلوك الذي جاء استجابة للانتقادات الداخلية والخارجية لعمليات القمع الأمني، فيما يمكن اعتباره أيضاً نتاج قراءة واقعية تشير إلى إمكانية تكفل عامل الوقت بإنهاء وتفكيك موجة الغضب الشعبي، وموت حراك الشارع ذاتياً، دون الحاجة للتدخل العنيف الذي قد يعيد المشهد إلى المربع الأول.

مع استمرار الدعم الفتحاوي للسلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس؛ بدا أن الحراك في الشارع قد فشل في تشديد الضغط على السلطة، خاصة مع اقتصار التظاهرات على مدينتي الخليل ورام الله، وبعض الاحتجاجات في مدينة القدس، وهو ما سهّل على السلطة التعامل مع الموقف عدا عن احتمالية تغيير رؤيتها لتلك الاحتجاجات واعتبارها لم تعد تمثل تهديداً يقوض سطرتها على الضفة الغربية.

يمكن اعتبار أن السيناريو المذكور هو الأوفر حظاً، خاصة إذا ما نجحت عملية احتواء الحراك بصورة نهائية قبل أن تقدم السلطة الفلسطينية على تقديم أي تنازلات للمحتجين.

ثانياً تراجع السلطة خطوات للخلف.

مع استمرار الخروج المتقطع للمظاهرات، وإصرار المحتجين على مطالبهم بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة ومحاسبة كافة المتورطين في وفاة نزار بنات، فقد تجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام تقديم بعض التنازلات كالاستجابة لمطالب تشكيل لجنة تحقيق مستقلة.

غير أن قبول السلطة بهذه الخطوة، قد ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة لها، أهمها أنها ستضطر للتضحية برؤوس كبيرة في المؤسسة الأمنية، قد تكون ذات ثقل تنظيمي داخل فتح، عدا عن ثقلها العشائري، ما يفتح الباب أمام حالات تمرد قد تسبب المزيد من إضعاف قبضة السلطة على المشهد الميداني في الضفة الغربية.

يمكن اعتبار أن فرص تقديم السلطة أي تنازلات، في ظل المعطيات الحالية، أمر غير وارد الحدوث، كون أن أضراره عليها أكبر من منافعه.

ثالثًا تغيرات في المشهد السياسي الفلسطيني.

رغم كون وفاة نزار بنات سبباً مباشراً في الاحتجاجات، إلا أن حالة الغضب من السلطة الفلسطينية وتراجع شعبيتها، خاصة بعد إلغاء الانتخابات، ساهمت في تأجيج الشارع، فيما برزت المطالب المطالبة بإسقاط النظام ورحيل محمود عباس، كتعبير واضح على حجم الحنق من السلطة الفلسطينية.

ومع استمرار الحراك في الشارع، والانتقادات الدولية، قد يجد الرئيس محمود عباس نفسه أمام العودة إلى الاستحقاق الانتخابي من جديد، عبر إصدار مراسيم بمواعيد جديدة للانتخابات العامة، ما سيمثل انتصاراً كبيراً للشارع الفلسطيني، وللمطالبين بمحاسبة المسؤولين عن وفاة نزار بنات الذي كان حتى وقت قريب أبرز المرشحين للانتخابات التشريعية التي ألغاها الرئيس محمود عباس.

لا يحظى هذا الخيار بحظوظ كبيرة، إذ لا زال الحراك الشعبي تحت السيطرة، كما أن المحتجين في الشارع لم يحملوا أية مطالب تتعلق بالانتخابات العامة.

خاتمة.

أسهمت وفاة نزار بنات في تعزيز حالة الغضب من السلطة الفلسطينية وكذلك حركة فتح بصورة أو بأخرى، فيما بدا أن الرأي العام لم يعد يشكل ثقل يحرك أولويات القيادة الفلسطينية التي باتت تدرك تضاؤل رصيدها الشعبي.

ومع عدم وجود ضغوط دولية على السلطة الفلسطينية لتغيير سياساتها تجاه الفلسطينيين أو دفعها للذهاب بشكل جاد نحو انتخابات عامة، فإن حادثة وفاة نزار بنات وما تلاها من ردات فعل، لن تعدو أن تكون مجرد حدث عارض في تاريخ نظام سياسي فلسطيني لا يختلف كثيرًا عن مجموع الأنظمة العربية التي تحكم المنطقة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق